معنى الطبيعة في البحث العلمي
١
إذا استثنينا العلوم الاستنباطية كالمنطق والرياضة، جاز لنا أن نقول على وجه التعميم إن المعطيات الحسية في أي علم آخر لا بد أن تكون هي بداية الطريق؛ فنحن في العلوم التجريبية كلها، لا نبني على فروض ومُسَلَّمات كما هي الحال في الرياضة مثلًا، بل نُصَوِّر الواقع بأحكامنا، ولا سبيل إلى إدراك الواقع إلا بالحواس.
قد يُعترض بأن كل إدراك حسي هو في حقيقة أمره خبرة خاصة؛ فإذا نظر شخصان إلى بقعة خضراء، فإن اللون الأخضر عند أولهما هو ما انطبعت به حاسته، وهو عند ثانيهما انطباع حسي آخر، وقد لا يكون الانطباع الحسي عند الأول متطابقًا تطابقًا دقيقًا مع الانطباع الحسي عند الثاني؛ فمن أين لنا — إذن — هذه الخبرة المشتركة التي نجعلها موضوعًا للعلم الطبيعي؟
لكل إدراك حسي جانبًا: هيكل أو إطار، قِوامه العلاقات المكانية والعلاقات الزمانية بين أجزاء الشيء المدرَك، ثم مضمون أو فحوى، قوامه ما تنطبق به حاسة الشخص المدرك، فاللون الأخضر — مثلًا — هيكله هو الموجات الضوئية ذات الطول المعين، تتأثر بها عين الرائي فيرى لونًا أخضر؛ وأما فحواه فهو اللون الأخضر كما يدركه الرائي؛ وواضح أن الرائي في هذه الحالة لا يرى موجات ذات طول معروف، بل يرى اخضرارًا.
ومحال على شخص أن ينقل مضمون إدراكه الحسي إلى شخص آخر، وليس هو بالشيء الضروري الذي لا مندوحة لنا عنه، لأن الإنسان يستطيع أن يعبر عن كل ما يريد التعبير عنه، دون حاجة منه إلى نقل مضمون إدراكه الحسي إلى الآخرين؛ وليس في هذا القول جديد يدعو إلى العجب، فرجل الشارع يعلم أنه يستحيل أن ينقل إلى سواه ما يحسه هو من «خوف» أو «ألم»، وكل ما في مستطاعه هو أن ينطق بكلمات، وبالطبع ليست الكلمات المنطوقة (أو المكتوبة) هي في ذاتها «خوفًا» أو «ألمًا»، لكنها ربما أثارت عند سامعها (أو قارئها) خوفًا أو ألمًا شبيهًا بما أحسه الشخص الأول، غير أنه سيكون — على كل حال — خوفًا آخر أو ألمًا آخر، خاصًّا بالشخص الثاني، كما كان الخوف أو الألم في الحالة الأولى خاصًّا بالشخص الأول.
قل هذا في «مضمون» الإدراك، مهما يكن نوع الإدراك، مرئيًّا كان أو مسموعًا أو ملموسًا أو مدركًا بأية حاسة أخرى غير العين والأذن وسطح الجلد؛ فاللون الأخضر — مثلًا — كما أراه بعيني ليس هو ما أنقله لك حين أحدثك عن «الأخضر»، لأن ما رأيته أنا ذاتيٌّ خاص، ونقله إليك ضرب من المحال؛ وكذلك الصوت كما أسمعه والشيء كما ألمسه وهكذا — وإذن «فمضمون» الإدراكات الحسية يستحيل أن يكون موضوعًا للبحث العلمي، لأن أي قول تقوله أنت عن شعورك الخاص بالخوف أو الألم، أو عن إحساسك الخاص باللون أو بالصوت، ليس من الممكن على سواك أن يحققه صدقًا أو كذبًا؛ وبالتالي ليس هو بالقضية عند المنطق.
إذن فلسنا نقصد إلى «مضمون» الإدراك الحسي، إذا ما كنا بصدد وصف علمي لظاهرة مُحَسَّة من ظواهر الطبيعة، إنما المراد عندئذٍ هو «هيكل» الإدراك الحسي، أو إطاره — والهيكل لا يكون خاصًّا ذاتيًّا، بل يكون عامًّا موضوعيًّا، لأنه — كما قلنا — هو العلاقات المكانية والزمانية بين أجزاء الظاهرة التي نريد وصفها؛ والعلاقات لا يكون فيها اختلاف بين شخص وآخر.
فقد أرى ورقة بيضاء على منضدة صفراء، وقد يجوز أن يكون مضمون إدراكي للون الورقة ولون المنضدة مختلفًا عن مضمون إدراكك أنت لهما، لكننا يستحيل أن نختلف على العلاقة المكانية بين الورقة والمنضدة ما دمنا نقف منهما موقفًا واحدًا؛ يستحيل أن أرى أنا الورقة على المنضدة، وتراها أنت تحت المنضدة، وقل ذلك في كل العلاقات المكانية مثل، إلى يمين، إلى يسار، شمالي، جنوبي وهكذا وقل ذلك أيضًا في العلاقات الزمانية، مثل قبل، وبعد؛ ومن ثم يمكن الاشتراك بيننا على الجوانب العلاقية من الظواهر التي نبحثها.
لهذا كان جانب العلاقات هو موضوع العلوم، فليس موضوع علم الحرارة — مثلًا — هو كيفية إحساس الفرد بلسعة الأجسام الحارة، فذلك «مضمون» إدراكي لا سبيل إلى اشتراك أكثر من فرد واحد في إدراكه وتحقيقه، بل موضوع علم الحرارة هو الموجات المعينة التي يمكن قياسها وبناء معادلات رياضية خاصة بها، وهكذا، والموجات الحرارية وقياسها علاقات بين نقط معينة، مكانية أو زمانية، فطول الموجة مسافة بين نقطتين، وسرعة الانتقال فترة بين لحظتين وهكذا، كذلك ليس موضوع الكهرباء ما يصيب أعيننا من لمعات أضوائها، أو ما تحسه جلودنا وأجسامنا من هزة عند لمس جسم مكهرب، لأن هذه كلها «مضمونات» ذاتية لا شأن للعلم بها، بل موضوع علم الكهرباء أبعاد وقياس ومعادلات، كلها خاصة بالعلاقات بين أجزاء معينة من الظاهرة، وليس موضوع علم الصوت وقع الأنغام في آذاننا، بل موضوعه هو أيضًا قياس الأبعاد وضبط العلاقات، مما قد يشترك فيه كل من تهيأت له فرصة المشاهدة والتقدير الكمي لما يشاهد.
لو سألت عالِمًا طبيعيًّا عن الجاذبية، قدم لك معادلات رياضية تصف سرعة سقوط الجسم؛ فإن قلت له: لكن هذه أرقام وأنا أريد أن تصف لي طبيعة الجاذبية في ذاتها، أريدك أن تصف لي الطبيعة الباطنية لهذه الظواهر، لأن المعادلات التي تقدمها لي الآن، إنما تصف ظواهرها دون جوهرها، إن قلت ذلك أصَمَّ العالِم أذنيه عما تقول، لأنك إذا أردت «مضمون» الجاذبية فَأَلْقِ بنفسك من النافذة كي تشعر شعورًا ذاتيًّا بها كيف تكون، فإن كتبت لك النجاة بعدئذٍ، فلن يأبه العلم لخبرتك هذه في قليل أو كثير، لأنها «مضمون» ذاتي خاص بك، لا سبيل إلى نقله إلى سواك كي يشترك معك في تحقيق الصدق لما تقول. فليس «مضمون» الإدراك معرفة، وإنما المعرفة هي الهياكل الفارغة التي تصور علاقات الظواهر، بعد إسقاط فحواها الحسي؛ والتمييز بين ما هو «باطني» وما هو «ظاهري» في طبائع الأشياء عند العلم، تمييز لا معنى له، لا لأنه صعب عسير، بل لأن مجرد الكلام عما هو «باطني» من الظاهرة يخرج الكلام عن كونه كلامًا مقبولًا عند المنطق.
العلاقات الزمانية والمكانية للظواهر الطبيعية هي الجانب المشترك بين الناس، وهي التي نعنيها حين نقول إن البحث العلمي يتناول ما هو موضوعي فقط دون ما هو ذاتي خاص.
هذه نقطة نحب إبرازها واضحة في ذهن القارئ لأهميتها في منهج التفكير، فكثيرًا ما ترى الفلسفة المثالية والعلم يتعارضان في هذا: فبينما العلم يدلنا بتجاربه أن العالم مكون من صنوف مختلفة من الكائنات، فألوان مختلفة وأصوات مختلفة ودرجات مختلفة من الحرارة، وكائنات حية مختلفة … إلخ، إلخ، ترى الفلسفة المثالية تنتهي بك أحيانًا إلى أن كل هذه الأشياء التي تبدو مختلفة هي في الحقيقة متشابهة وأن ما بينها من اختلاف إن هو إلا نتيجة نجمت عن إدراكنا لها بالحواس، ولو أدركناها بالعقل لرأينا كيف تندمج في عالم واحد متشابه. وتطبيقًا لقاعدتنا المنهجية، نرى أن من يدرك الاختلاف بين الأشياء أصدق ممن لا يدركها ويرى الأشياء متشابهة، فافرض مثلًا أن رجلين نظرا إلى سائل، فرآه أحدهما عنصرًا متشابه الأجزاء، ورآه الثاني محتويًا على مكروبات وأعلاق مادية صغيرة وغيرها؛ فأي الرجلين يكون أصدق؟ لا شك أنه هذا الذي رأى أوجه الاختلاف بين أجزاء الشيء المدرَك؛ ومن ثم كان تسليمنا تسليمًا لا نتردد لحظة في صحته، بما تعيننا الآلات العلمية على إدراكه مما يتعذر على حواسنا المجردة أن تدركه، فلو نظرت بعيني المجردة إلى القمر ورأيته سطحًا مصقولًا مستويًا، ثم نظرت إليه بالمنظار المقرب ورأيت اختلافًا شديدًا بين أجزاء سطحه، من جبال عالية إلى وديان منخفضة، آمنت على الفور بأن إدراكي في الحالة الثانية أصدق من إدراكي في الحالة الأولى.
وعن هذه النقطة المنهجية تتفرع نقطة غاية في الأهمية، وهي ما يزعمه لنا بعض الأفراد من أنهم يرون ظواهر في الطبيعة لا نراها نحن، فيزعمون لنا — مثلًا — أنهم يرون أشباحًا عالقة في الهواء، أو فتحات مضيئة في السماء، وما إلى ذلك مما نسمعه متناقلًا على ألسنة السذج وأشباههم، فماذا نحن قائلون لأمثال هؤلاء؟ أليست قاعدتنا التي أسلفناها تقضي بقبول ما يقولونه لنا، ما داموا يرون اختلافًا لم نستطع نحن أن نراه؟ وكثيرًا ما يكون هؤلاء صادقين في زعمهم، فالمحموم قد لا يكون كاذبًا حين يؤكد لك أنه يرى عصافير خَضْرًا سابحة في هواء الغرفة، والمخمور قد يكون صادقًا حين يقول إنه يرى كذا أو يسمع كيت، مما لا يراه أو يسمعه السليم المعافى.
ها هنا يستحيل علينا أن نقول للذي يزعم إنه يرى شيئًا أو يسمع صوتًا، لا: بل أنت لا ترى ولا تسمع، يستحيل علينا أن نقول ذلك، لأنها خبرته الذاتية الخاصة التي لا يشاركه فيها إنسان آخر، كالذي يقول إنه يحس ألمًا في ضرسه، فهو وحده صاحب الحق في تقرير ذلك، فطالما يحصر هؤلاء الزاعمون أنفسهم في حدود خبراتهم من رؤية وسمع وما إليهما، فلا شأن لنا بهم، ولا شأن للعلم بما يزعمون، أما إذا استدلوا نتائج من خبراتهم هذه، عندئذٍ يحق للآخرين أن يروا هل يمكن لحواسهم أن تدرك تلك النتائج، فإن أدركوها، كانت مزاعم هؤلاء مقبولة، وإن كانت النتائج هي نفسها بدورها مزاعم لا يمكن للآخرين إدراكها، صَمَمنا آذاننا عما يقولون من أوله إلى آخره.
فافرض مثلًا أن شخصًا يدعى أن له حاسة سادسة يستطيع بها أن يدرك ما لا يقوى على إدراكه الآخرون بحواسهم الخمس المعروفة، عندئذٍ نطالبه بوصف النتائج التي تترتب على إدراكه ذاك، بشرط أن تكون النتائج مما يدخل في نطاق حواسنا الخمسة؛ أما إذا زعم أن كل النتائج المترتبة على إدراكه، هي أيضًا مما يدركه هو بحاسته السادسة، وبالتالي يستحيل على سواه أن يتحقق من صدق ما يقول، كان كلامه كله في نظر المنطق فارغًا خاليًا من المعنى، لأنه فَقَدَ شرط الكلام، وهو أن يكون ممكن التحقيق عند السامع.
٢
لئن كان العلم يعني بالعلاقات الكائنة بين أجزاء الظواهر، فهو بالتالي لا يعني — إذا أراد أن يتقدم — إلا بالمقادير الكمية وحدها في الأعم الأغلب؛ لأن العلاقات الكائنة بين أجزاء الظاهرة هي الجانب الذي يمكن قياسه قياسًا كَميًّا، فلا يعود بعد ذلك اختلاف بين المشاهدين إلا بمقدار ما يختلفون على ضبط القياس وطريقته.
إذا رأيت «علمًا» ما، قد أدار بحثه حول أفكار توصف ولا تقاس، فاعلم أنه ليس علمًا بالمعنى الذي نريده، واعلم كذلك أن القرون ستظل تنقضي قرنًا في إثر قرن، دون أن يتقدم ذلك العلم «الكيفي» خطوة واحدة إلى أمام؛ «فعلم» الأخلاق — مثلًا — الذي يبحث في أفكار مثل «الخير» و«الواجب» وما إلى ذلك؛ و«علم» الجمال الذي يبحث في «الجميل» و«القبيح»، وغيرهما من العلوم الإنسانية إذا جعلت بحثها أفكارًا «كيفية» كهذه، ستظل «كلامًا» يقال وتملأ به صفحات الكتب، وتضيع فيه أعمار الناس سدى؛ ولن يكون هنالك فرق بين ما كتبه اليونان الأقدمون وما يكتبه المحدثون المعاصرون، من حيث التقدم أو التأخر؛ والأمل الوحيد في أن يصبح «العلم» علمًا، مرهون بالتماس طريقة تُقاس بها الأفكار الرئيسية التي يتناولها العلم المعين بالبحث، فإذا لم يكن ذلك في حدود المستطاع، لم يكن «العلم» المزعوم علمًا إلا على سبيل المجاز.
فماذا نقصد بالكَمِّ؟ وماذا نعني بالقياس الكمِّي؟
المقدار الامتدادي يصف مكانًا أو زمانًا أو سُلَّمًا متدرجًا من شيء ما، كمجموعة ألوان متدرجة، أو مجموعة أصوات متدرجة لأن كل هذه امتدادات تقع بين طرفين، فالجزء من أجزاء المكان كمية امتدادية نحددها بأطرافها، كأن نحدد خَطًّا مستقيمًا — مثلًا — بأنه واقع بين نقطتي أ، ب؛ والفترة من فترات الزمان كمية امتدادية نحددها بطرفيها، كأن نحدد الفترة الواقعة بين الحربين الأخيرتين بقولنا إنها تقع بين عامي ١٩١٨–١٩٣٩م؛ والتدرج اللوني أو التدرج الصوتي يمكن كذلك أن نحدده بطرفيه الأدنى والأقصى، فقد يكون أمامنا سلسلة من أصباغ خضراء، تختلف درجة اخضرارها اختلافًا متدرجًا، فتبدأ عند درجة معينة من الاخضرار وتنتهي عند درجة معينة، وكذلك قل في سلسلة من أصوات تتدرج ارتفاعًا أو انخفاضًا؛ فمثل هذه السلسلة المتدرجة شبيهة — في كونها تشمل كل الدرجات الكيفية الواقعة بين نهايتين — بخط مستقيم يحتوي على جميع النقط الواقعة بين طرفين، أو بفترة زمنية معينة تشمل كل اللحظات الواقعة بين طرفين.
- (أ)
إذا قسم إلى أجزاء، كان كل جزء فيه مقدارًا امتداديًّا كذلك؛ فأقسام الخط المستقيم هي نفسها خطوط؛ وأقسام الفترة الزمنية هي نفسها فترات زمنية، وأي جزء من سُلَّم متدرج في اللون أو في الصوت، يكون هو نفسه سُلَّمًا متدرجًا.
- (ب)
سابق منطقيًّا على أجزائه، ومن هنا يتميز المقدار الامتدادي من الفئة ذات الأفراد التي يحصرها العدُّ؛ فليس الخط مكونًا من نقط بمعنى أن النقط وجدت أولًا ثم رتبت فكان منها خط؛ وليست الفترة الزمنية مكونة من لحظات بمعنى أن اللحظات وجدت أولًا ثم صُفَّتْ فكانت فترة متصلة؛ بل الخط أو الفترة توجد أولًا، ثم يمكن تقسيمها نظريًّا — لا عمليًّا — إلى نقط أو لحظات — أما الفئة ذات الأفراد، فأفرادها توجد أولًا ثم من وجودها وتجمعها تتكون الفئة.
- (جـ)
في حالة الامتداد المكاني، نلاحظ أن كل جزء من أجزاء المكان ذي الثلاثة الأبعاد، يكون هو أيضًا ذا أبعاد ثلاثة؛ وأجزاء المكان ذي البعدين تكون ذات بعدين؛ وأجزاء البعد الواحد تكون ذات بُعد واحد. هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد أن الفاصل الذي يحدُّ الجزأين المتجاورين من الأجزاء ذات الثالثة الأبعاد، يكون ذا بعدين؛ والفاصل الذي يحد الجزأين المتجاورين من ذوات البعدين يكون ذا بعْد واحد؛ والفاصل الذي يحد الجزأين المتجاورين من امتداد ذي بعْد واحد (أي الخط) يكون معدوم الأبعاد (وهو النقطة).
قياس المقادير الكمية
مهما يكن نوع المقدار الكمي الذي نريد قياسه — مكانًا أو زمانًا أو لونًا أو صوتًا أو غيرها — فلا بد من مقارنة شيئين متجانسين من حيث الكمية المراد قياسها، أحدهما بالآخر، كأن يكونا طولَيْن أو ثُقْلَين أو زَمَنَيْن … إلخ فنتخذ أحد الشيئين معيارًا للآخر، فَطولٌ نقيس به طولًا آخر، وثقل نقيس به ثقلًا آخر، وهكذا؛ فإذا قسنا شيئًا بشيء من جنسه، كأن نقيس طولًا معينًا بطول آخر كالمتر أو الياردة، حصلنا على عدد يحدد النسبة بين الشيئين، ويكون هذا العدد هو قيمة المقدار الكمي الذي نقيسه، وإذن فالمقدار الكمي ويكون هذا العدد هو قيمة المقدار الكمي الذي نقيسه، وإذن فالمقدار الكمي — كائنًا ما كان — عبارة عن النسبة بين شيئين، فإذا قلنا — مثلًا — إن هذا الخبر وزنه أُقَّتان، كان معنى قولنا هذا: إن هناك مقدارًا من الخبز ومقدارًا من الحديد (نقصد المثقال الذي نزن به) بحيث تكون النسبة بينهما هي ٢: ١؛ وإذا قلنا: إن هذه القطعة من القماش طولها أربعة أمتار، كان معنى قولنا هو: إن هناك طولًا من القماش وطولًا من الخشب أو المعدن (نقصد المتر) بحيث تكون النسبة بينهما هي ٤: ١.
وطريقة إيجاد التساوي بين الوحدات، تختلف باختلاف نوع المقدار الكمي؛ وفيما يلي خلاصة موجزة للطرق المختلفة في إخراج التساوي بين الوحدات التي تكون من نوع واحد.
(أ) قياس المكان
- (١)
فحين نضع جسمًا (كالمتر) على جسم آخر (كقطعة من قماش) ونرى أن الجسمين متطابقان عند الطرفين؛ كان الجسمان متساويين في الطول.
- (٢)
وحين نضع جسمًا (كمسطح من الورق) على جسم آخر (كسطح منضدة) ونرى أن الجسمين متطابقان عند الجوانب كلها، كانا لجسمان متساويين في المساحة.
- (٣)
وحين نضع جسمًا (كإناء معين) حول جسم آخر (كسائل مثلًا) ونرى أن السطح الخارجي للسائل والسطح الداخلي للإناء متطابقان، كان الجسمان متساويين في الحجم.
ومن ذلك ترى أنه سواء كان الشيء المراد قياسه طولًا، أو مساحة، أو حجمًا فطريقة القياس واحدة من حيث المبدأ، والمبدأ هو وضع جسم على جسم بحيث تتطابق الأطراف، فيكون بينها تساوٍ.
وغني عن البيان، أنه لو تطابق جسم معين — طولًا كان أو مساحة أو حجمًا — مع عدة أجسام أخرى، كانت هذه الأجسام الأخرى كلها متساوية، ما دامت كلها قد تساوت مع شيء بعينه. ومن ثم اصطلحنا على شيء معين (كالمتر أو الياردة) لنقيس به كافة الأطوال، وعلى شيء معين (كالمتر المربع أو الياردة المربعة) لنقيس به كافة المساحات؛ وعلى شيء معين (كالرطل الذي نكيل به السوائل) لنقيس به كافة السوائل، وهكذا.
وها هنا تنشأ مشكلة منطقية، وهي أننا إذا أردنا أن نتخذ شيئًا معينًا ليكون معيارًا نقيس به الأشياء التي من نوعه (طولًا أو مساحة أو حجمًا) فلا بد أن يظل ذلك الشيء المعياريِّ ثابت المقدار، وإلا فلو تغير مقداره اليوم عن أمس، كان ما نقيسه به اليوم ليس متطابقًا مع ما قسناه به أمس، لكن أنَّى لنا هذا الثبات في المعيار، مع أن أي جسم كائنًا ما كانت مادته، لا بد أن يتغير بعض الشيء مع عوامل الجو مثلًا، فيقصرَ قليلًا أو كثيرًا مع برودة الجو، ويطول قليلًا أو كثيرًا مع حرارته؟ لو أن معياره هو المتر مثلًا، ولو كان هذا المتر مصنوعًا من معدن فهو بغير شك أطول في الصيف منه في الشتاء، وإذن فقطعة القماش التي قلنا في الصيف إنها تساوي مترًا، أطول من قطعة القماش التي سنقول في الشتاء إنها تساوي مترًا. وهكذا قل في سائر المعايير.
ولا مندوحة للإنسان — إزاء هذا — عن القناعة بأدق مقياس ممكن، وحسبه في الحكم على دقة أداة القياس أن يرى أن النتائج التي يصل إليها بها لا تؤدي إلى تناقض في استخراج القوانين الطبيعية.
ونعرض المشكلة نفسها بعبارة أخرى لنزيدها وضوحًا، فنقول: إنه لا بد لضبط المقياس في مختلف الظروف، أن يكون معيارنا ثابتًا؛ لكن كيف نعرف إن كان المعيار (كالمتر مثلًا) قد ثبت على طوله أو قد تغيَّر؟ لا سبيل في ذلك إلا أن نقيسه هو نفسه بمعيار آخر؛ غير أن المعيار الآخر نفسه معرض لمثل التغير الذي طرأ على المعيار الأول، ولا مبرر مطلقًا يجيز لنا أن نضبط معيارًا بمعيار. وإذن فاليقين هنا محال؛ وطبيعة الموقف تقتضي أن يكون الترجيح هو وحده مبرر الصدق، ولن نَمَلَّ من تكرار هذه الحقيقة: وهي أن اليقين لا يكون إلا في العلوم التحليلية كالمنطق والرياضة، وأما العلوم الطبيعية التي تتألف من قضايا إخبارية، فلا تنشد مثل ذلك اليقين الرياضي، وإنما نكتفي بالاحتمال المرجَّح، ومن أكبر غلطات «العقليين المثاليين» أن يجعلوا المعرفة الإنسانية كلها من نوع واحد، فينشدوا اليقين الرياضي فيها جميعًا على حد سواء، والتفرقة بين القضية التكرارية اليقينية التي لا تقول شيئًا جديدًا، والقضية الإخبارية الاحتمالية التي تنبئ بجديد، هي من أهم أركان المذهب الوضعي المنطقي.
نعود فنقول إن الأساس الأول في عملية القياس المكاني، هو استخراج التساوي بين الوحدات؛ وإن التساوي في أنواع الامتدادات المكانية كلها (الطول والمساحة والحجم) يقوم على مبدأ واحد، هو تطابق الأطراف بين جسمين يكون أحدهما معيارًا والآخر هو الشيء المراد قياسه، ونضيف هنا هذه الحقيقة الهامة، وهي أن إدراك التساوي بين شيئين متطابقي الأطراف يستحيل بغير الحسِّ المباشر، فلا بد لأن ترى بعينيك، أو تلمس بيديك، لتعلم أن الجسمين متطابقان فتحكم كذلك بأنهما متساويان؛ وإذا كان القياس وضبطه هو — كما قلنا سابقًا — صميم المنهج العلمي الصحيح، فالحواس التي بغيرها يستحيل إدراك التساوي في عملية القياس، لا بد أن تكون هي أساس المعرفة العلمية. الأساس الذي لا منصرف عنه ولا محيص.
(ب) قياس الزمن
المبدأ المتبع في قياس الزمن، هو نفسه المبدأ المتبع في قياس الأبعاد المكانية، وهو أن الشيئين إذا تطابقا عند الأطراف كانا متساويين، غير أن التطابق — في حالة الأبعاد المكانية — كان بين جسمين ثابتين، وأما ها هنا — في حالة البعد الزمني — فالتطابق يكون بين أجسام متحركة، فكلنا يعلم كيف يقاس الزمن بالساعة، وما الساعة إلا جهاز ركَّبنا أجزاءه على نحو يجعل جسمًا متحركًا (وهو عقرب الساعة) يسير مسافة مكانية معينة، فإن سار مسافة أخرى متطابقة الطرفين مع المسافة الأولى، قلنا إن هاتين فترتان من الزمن متساويتان.
بعبارة أخرى، إن التساوي في الزمن معناه أن يتحرك في الطبيعة المادية جسمان متحاذيان (أو جسم واحد مرتين) بحيث يبدأ الجسمان حركتهما من نقطة معينة ويساير أحدهما الآخر ثم ينتهيان عند نقطة معينة، وقد يكون الجسمان المتحركان من ظواهر الطبيعة نفسها كالأجرام السماوية، أو من صنعنا نحن كالساعات المعروفة، وفي العادة نلجأ إلى الأولى في حالة الفترات الزمنية الطويلة، وإلى الثانية في حالة الفترات الزمنية القصيرة، على أننا نحاول أن نجعل الثانية تطابق شيئًا من الأولى، كأن نجعل حركة عقرب الساعة متمشية على نحو ما مع حركة الأرض.
على أن الأساس الأول في كلتا الحالتين هو الإدراك الحسي المباشر — كما هي الحال في قياس الأبعاد المكانية — فلا بد بادئ ذي بدءٍ أن يركن الإنسان إلى حسِّه المباشر ليعلم أن هذه الحركة المعينة منتظمة، بمعنى أن الجسم المتحرك يقطع المسافة نفسها على صورة واحدة عدة مرات؛ والحاسة التي نحتكم بها هنا قد تكون الأذن أحيانًا، فلها القدرة على تمييز الإيقاع المنتظم من الأصوات غير المنتظمة؛ فأصغ — مثلًا — إلى دقات الساعة، أو إلى حركة القطار، أو إلى نغمات الموسيقى التوقيعية، تدرك إدراكًا مباشرًا إن كان الإيقاع في كل حالة من هذه الحالات منتظمًا أو غير منتظم. بعبارة أوضح: إن التساوي بين وحدتين زمنيتين متوقف أساسًا على إدراكنا الحسي المباشر؛ وما دمنا قد حددنا التساوي، فقد وضعنا الأساس لعملية القياس كلها.
(ﺟ) قياس المقادير الكيفية
الصوت واللون والحرارة وما إليها، أشياء ندركها بحواسنا إدراكًا كيفيًّا، فنعرف مثلًا أن هذا اللون يختلف عن ذلك اللون من ألوان الطيف بمجرد النظر.
لكن قيام البحث العلمي على هذه الأشياء — وغيرها — محال بغير طريقة للقياس الكمي؛ والمبدأ الذي اتبعناه في قياس المكان وقياس الزمن مستحيل هنا. أعني مبدأ مطابقة جسمين أحدهما على الآخر، فإن تطابقت الأطراف كانا متساويين؛ إذ ليس في مستطاعي أن أضع لونين كالأحمر والأصفر، على لونين آخرين كالأخضر والأزرق، لأرى هل الفرق في درجة اللمعان بين اللونين الأولين يساوي الفرق بين اللونين الآخرين أو يزيد أو ينقص.
نعم إن الحس المباشر بالأصوات والألوان وما إليها، يمكننا من الحكم بأن صوتًا أعلى أو أخفض من صوت، وأن لونًا أكثر أو أقل بريقًا من لون آخر؛ لكن «أكثر» و«أقل» وما إليهما من كلمات دالة على مقارنة المقادير الكمية بعضها ببعض، لا بد أن ترتد في النهاية إلى فكرة «التساوي» وإلا ظللنا في دائرة الكيف لا نكاد نعدوها أي لا بد من معرفة طريقة تدلني على أن صوتًا يساوي في الارتفاع صوتًا آخر، وأن لونًا يساوي في اللمعان لونًا آخر؛ ومن التساوي بين وحدتين يمكن إجراء شتى حالات القياس بعد ذلك.
لهذا تلجأ العلوم إلى قياس أشياء طبيعية مصاحبة لإدراكاتنا الكيفية؛ فنقيس الصوت بطول الموجات الهوائية التي تُحدثها، ونقيس اللون بطول الموجات الضوئية التي تُحدثها، وهكذا. نعم إن الإنسان لا يدرك «موجات هوائية» إنما يدرك صوتًا، ولا يدرك «موجات ضوئية»، إنما يدرك لونًا، لكن إدراك الإنسان للصوت واللون شخصي ذاتي، وإذن فلا شأن للعلم به، ولا مندوحة لنا عن قياس هذه المصاحِبات الطبيعية لأنها مشتركة عامة ممكنة القياس.
مفارقات القياس
رأيت مما أسلفناه، أن قياس المقدار الكمي، كائنًا ما كان نوعه، يرتد في النهاية إلى معيار مكاني؛ فبأشياء مكانية نقيس الأبعاد المكانية نفسها: طولًا ومساحة وحجمًا، وبأشياء مكانية نقيس الأبعاد الزمانية، وبأشياء مكانية أيضًا نقيس الصفات الكيفية الحسية كالصوت واللون وما إليهما.
بعبارة أخرى، إن المقاييس المستعملة في ضبط المقادير الكمية، سواء في العلوم أو في الحياة اليومية، هي في صميمها مقاييس تقيس الجوانب الهندسية من الأشياء، أو ما يتفرع عنها. وإذا قلنا الجوانب الهندسية للشيء، فإنما نعني أبعاده المكانية والزمنية، على اعتبار أن الزمن بُعْدٌ رابع يضاف إلى الأبعاد المكانية الثلاثة المعروفة فلا غرابة أن تجد معظم المقاييس لا تخرج عن كونها قراءات أطوال على معيار معين؛ فتقرأ وزن الشيء بما يشير إليه مؤشر على لوحة ذات أرقام، وكذلك تقرأ درجة الحرارة، وكذلك تقرأ الزمن، وتقرأ الضغط، والكهرباء، والسرعة، والكتلة وما إلى ذلك كله.
وأيسر القراءات المعيارية هي حين يكون المعيار والشيء المقاس متساويين، لأن تطابق الأطراف — كما أسلفنا — يدرك إدراكًا حسيًّا مباشرًا؛ والمشكلة في الضبط الكمي، هي حين يكون الشيء المراد قياسه أكثر أو أقل من المعيار الذي اخترناه واصطلحنا عليه، ونريد أن نعرف كم مرة ينطبق المعيار على أجزاء الشيء المراد قياسه — إن كان الشيء أكبر من المعيار — وما نسبة الشيء إلى المعيار — إن كان المعيار أكبر من الشيء — والكثرة العظمى من الحالات التي تعترضنا في مجال القياس، هي حالات لا يتساوى فيها الشيء المراد قياسه والمعيار.
العادة الجارية في معظم الحالات، هي أن نجعل المعيار أصغر من الشيء المراد قياسه، فنقيس طول الغرفة — مثلًا — بالمتر، لنقول إن طولها كذا مترًا؛ فإن صَغر الشيء المراد قياسه، قَلَّلْنا المعيار، ليظل أصغر من الشيء المراد قياسه، فنجعله بوصة أو سنتيمترًا أو مليمترًا وهكذا، لنرى كم يكون تكرار الوحدة المعيارية على أجزاء الشيء، وهنا تحدث المفارقات في القياس الكمي.
ذلك لأنه من أندر النوادر أن تظلَّ تُكَرِّر الوحدة المعيارية على الشيء المراد قياسه، بحيث تنتهي إلى مطابقة بين طرف الشيء وبين طرف الوحدة المعيارية؛ وفي الكثرة الغالبة الساحقة من الحالات، يكون الموقف هو أن مقدار الشيء المقاس يقع بين طرفي الوحدة المعيارية الأخيرة؛ أي إنك إذا كنت تقيس بالسنتيمتر، كان قياس الشيء كذا من السنتيمترات وجزءًا من السنتيمتر؛ أو بالمليمترات كان قياس الشيء كذا من المليمترات وجزءًا من المليمتر. فمهما صَغَّرْتَ الوحدة المعيارية التي تقيس بها، ستجد أن القياس يقع في بعض الطريق بالنسبة للوحدة الأخيرة، بحيث يتعذر أو يستحيل الضبط برقم محدد حاسم. نعم نستطيع أن نقَلِّل من مدى التفاوت بتصغير الوحدة المعيارية، لكن إزالة مصدر هذا التفاوت إزالة تامة، يجعل التطابق تامًّا بين طرف الوحدة المعيارية الأخيرة وطرف الشيء المقاس، يوشك أن يكون محالًا.
ولو أردت تشبيهًا يُقَرِّب الأمر إلى ذهنك، فافرض أنك تقيس طول الغرفة بخطوتك، فلن تجد قياسها عددًا مختومًا من الخطوات، بل يكاد يتحتم أن يكون كذا خطوة مضافًا إليها جزء من خطوة؛ أو قل إن قياس الغرفة دائمًا يكون أكثر من «ن» من الخطوات وأقل من «ن + أ» من الخطوات. أكثر من ٩ خطوات وأقل من عشرة، أو أكثر من ٨ خطوات وأقل من ٩ وهكذا.
وعلى أساس هذا التشبيه نفسه، تراهم أحيانًا يستخدمون كلمة «خطوة» في لغة المقاييس، ويعنون بها الوحدة المعيارية كائنة ما كانت؛ فإذا كانت «الخطوة» هي الحد الأدنى الذي يمكن ملاحظته وحسابه، فمقياس الشيء الذي نقيسه، يقع بين عددين متتاليين من «الخطوات»؛ ويمكن تصغير «الخطوة» فبدل الياردة نجعلها بوصة أو ١ / ١٠ من البوصة، أو ١ / ١٠٠ من البوصة، فيقل تبعًا لذلك مقدار الكسر الذي يضاف إلى عدد «الخطوات» في النهاية، لكنه لا يزول؛ وإذا خيِّلَ إلينا أن القياس في حالة معينة جاء مطابقًا لعدد مختوم من الخطوات بلا زيادة، كنا على الأرجح مخطئين، ولو استعملنا مقياسًا آخر أصغر في خطواته وأدق، ظهر الفراق واضحًا.
إن الضبط التام في تحديد نسبة شيء إلى شيء، لا يكون إلا في الهندسة النظرية؛ فقد أعلم نظريًّا كم نسبة طول هذا الخط إلى ذلك، لكنني حين أريد القياس فعلًا بأداة للقياس حقيقية، يكون ذلك الضبط التام محالًا أو قريبًا من المحال. لا بل إن الضبط التام محال حتى من الوجهة النظرية في بعض الحالات؛ فيستحيل مثلًا أن تجد الرقم الدقيق الذي يصوِّر نسبة وتر المربع إلى أحد أضلاعه، نعم قد تستطيع حصر النسبة في كسر يقع بين حد أدنى وحد أقصى، لكن الحد الحاسم مستحيل حسابه حتى من الوجهة الرياضية النظرية البحت.
مشكلة العلوم الإنسانية
على أن هذا الذي أسلفناه، من ضرورة تحويل الكيف إلى كم في التفكير العلمي، قد يكون يسيرًا في العلوم الطبيعية، عسيرًا في العلوم الإنسانية، كعلمي النفس والاجتماع، بَلْه العلوم المعيارية كعلمي الأخلاق والجمال.
قد يكون يسيرًا أن نقيس الحرارة والصوت والضوء والكهرباء وما إلى ذلك من موضوعات العلوم الطبيعية، لكن كيف السبيل إلى قياس كمي مضبوط. للديمقراطية والدولة والشعور والإرادة والخير والواجب والجمال؟ بهذا قد يعترض أولئك الذين لا يرون أن تكون العلوم كلها في منهج البحث سواءً.
ويحتج اللاطبيعيون تأييدًا لوجهة نظرهم، — فضلًا عن استنادهم إلى حرية إرادة الإنسان — بأن العلوم الطبيعية قد أمكنا بلوغ الدقة في قوانينها لسهولة إجراء التجارب في موضوعاتها، أما إجراء التجارب في الإنسان وشئونه فأمر عسير أحيانًا، مستحيل في معظم الأحيان؛ وبينما ترى القوانين الطبيعية منطبقة بغض النظر عن اختلاف الزمان والمكان، ترى «القوانين» الإنسانية مقيدة دائمًا بظروف مكانية زمانية خاصة، فقد تعمم القول الصحيح الذي يَصْدُق على طبقة معينة من الناس في عصر معين من عصور التاريخ، لكنك تراه لا يَصْدُقُ على غير تلك الطبقة ولا في غير ذلك العصر؛ هذا إلى أن «القوانين» الإنسانية ليست موضوعية خالصة، كما هي الحال في العلوم الطبيعية؛ إذ يتعذر أو قل يستحيل على الباحث في الشئون الإنسانية أن يتجرد من أهوائه الذاتية، كما يسهل عليه أن يفعل إزاء الجوامد من حديد وصخر وهواء؛ فما دمت قد جعلت الإنسان — فردًا كان أو مجتمعًا — موضوع بحثك، فقد فتحت رأسك لعوامل «القِيَم» الأخلاقية والجمالية وما إليها، وسواء أردت أو لم تُرِد، ستراك متأثرًا بمحيطك الاجتماعي وثقافتك وتقاليد قومك؛ أضف إلى ذلك كله، أن العلوم الطبيعية قد اكتسبت دقتها من الصورة الرياضية التي اصطبغت بها قوانينها؛ لأن قياس مقاديرها الكمية شيء ميسور، وليست الظواهر النفسية والاجتماعية مما يخضع لهذا الضبط الكمي؛ وبالتالي ليست تلك الظواهر الإنسانية مما يمكن تصويره بالمعادلات الرياضية الدقيقة؛ مما دعا فريقًا من اللاطبيعيين أنفسهم أن يقولوا بأن مجرد تعميم القول في صيغة القوانين العلمية مستحيل في العلوم الإنسانية، لكثرة ما يتعرض له كل موضوع من حالات شاذة. دع عنك أن تطالب هذه القوانين بالدقة التي تراها في العلوم الطبيعية.
هذا ما يقوله اللاطبيعيون في منهج العلوم الإنسانية، ولسنا في هذا الكتاب بعلماء في النفس أو الاجتماع أو غيرهما من شئون الإنسان، حتى نقول إن ما يقولونه صواب أو خطأ، فهم أدرى بعلومهم، لكننا بصدد بحث الجانب المنطقي وحده ولذلك نقول في حسم قاطع: إنه إما أن تخضع القضية — كائنة ما كانت — للتحقيق بالمشاهدة وإجراء التجارب، وإما أن تحذف حذفًا من قائمة العلوم؛ وإذا خضع وصفنا شيئًا ما لمشاهدة المشاهدين وخضع لتجاربهم، كان عبارة عن علاقات بين الظواهر (راجع ما قلناه آنفًا عن هيكل الإدراك ومضمونه)، وكل العلاقات يمكن أن تقاس إذا أسعفها نبوغ الباحثين، فوجد لها معيارًا يقيس التساوي بين وحداتها.
إنه لا غرابة أن تتقدم العلوم الطبيعية بخطوات الجبابرة، وتظل العلوم الإنسانية راكدة أو كالراكدة؛ لأن الأمر فيها لا يزال «كلامًا في كلام»، ولا سبيل هناك إلى تأييد أو تفنيد ما يقوله «المتكلم» من هؤلاء، إلا «بكلام» آخر؛ أما إن جعلنا الأمر مرجعه إلى الضبط الكمي والقياس، فالتأييد أو التفنيد يجري في طريق قويمة، ويسير العلم قُدُمًا، كل جيل يبني على أساس الجيل الذي سبقه، فيصحح أخطاءه ويضيف صوابًا إلى صوابه.
إن كل عبارة تصف حقيقة نفسية يمكن ترجمتها إلى عبارة أخرى تقال بلغة العلوم الطبيعية، وتصف حوادث تقع في زمان معين ومكان معين، ويمكن للمشاهدين أن يلاحظوا حوادثها، فإذا لم يكن ذلك ممكنًا في بعض العبارات، كانت هذه في نظر العلم الوضعي كلامًا فارغًا من المعنى.
إذا قال قائل في عالم الطبيعة: «حرارة هذه الغرفة اليوم ٢٥ درجة»، كان الشاهد على صدق كلامه عمودًا من الزئبق في جهاز معين، يشير إلى رقم ٢٥ — ونحن نريد شيئًا كهذا في العلوم الإنسانية إذا أردنا لها أن تكون علومًا؛ فإذا قال قائل: «إن فلانًا يشعر بألم في ضرسه» وجب أن يكون الشاهد على صدق قوله أشياء تشاهدها حواسنا، مثل علامات معينة في ملامح وجهه وحركات جسمه، وورم معين في لثته، وآثار معينة في ضغط دمه، وتغيرات معينة في جهازه الهضمي أو جهازه العصبي، وهكذا — لكن افرض أن فلانًا ذلك جعل يُصِرُّ على أنه يحس ألمًا في ضرسه، وليس ثمة شيء مما يمكن أن نلاحظه نحن المشاهدين، فلنتركه عندئذٍ يَقُلْ ما يشاء، فليس قوله — ولن يكون أبدًا — كلامًا يحرك العلم خطوة إلى أمام أو وراء؛ إذا استطاع صاحب الوجدان المعين أن يقول قولًا جميلًا في وصف ما يدور في نفسه، فذلك أدب وفن، ولكنه ليس من العلم في قليل أو كثير.
وقد يقال: لكن الغضب — مثلًا — شيء غير علاماته الظاهرة؛ فليست العلامات الظاهرة إلا رموزًا فقط تدل على وجود حالة باطنية هي التي نسميها بالغضب؛ وجوابنا على ذلك هو نفسه الجواب الذي يجيب به عالم الطبيعة الذي يبحث في الكهرباء — مثلًا — إذا ما قيل له: إن الكهرباء ليست هي المعادلات الرياضية التي يكتبها، بل هي شيء باطني تدل هذه المعادلات عليه دون أن تكون إياه، فهذا العالم الطبيعي يُصِمُّ أذنيه عن أمثال هذه الاعتراضات، لأنها عند العلم كلام فارغ من كل معنى؛ «فالحقيقة الباطنية» — على حد تعبيرهم — هي مضمون الإدراك كما أسلفنا القول في موضع سابق، وليس مضمون الإدراك هو موضوع العلم، إنما موضوع العلم هيكل الإدراك، أي العلاقات الكائنة بين أجزاء الظاهرة المعينة التي نضعها موضع البحث.