لا، لا تعودي

أحبك، أنت لا تدرين ماذا تعني هذه الكلمة بالنسبة لي، وأنت أيضًا تجهلين ماذا تعنيه بالنسبة لك.

أحبك، كلمة هينة ما أسهل ما يقولها الناس للناس، وما أسرع ما ينخدع بها الناس من الناس! قالها أغلب الأمر أبونا آدم لأمنا حواء، وقالها لا شك كل الذين اشتركوا في تكوين هذه البشرية، وقالها بصوت عالٍ مرتفع، ظل يدوِّي عبر الأجيال روميو لجولييت، وقيس لليلى وقيس آخر للبنى، وجميل لبثينة، وكُثيِّر لعزة، ولعل هؤلاء كانوا صادقين، ولكن آخرين كاذبين قالوها بطريقة فيها شيء من خِفة الظل، أو فيها شيء من الفن، فانتقلت إلينا أنباؤهم هم أيضًا؛ فقد قالها كازانوفا لكثيرات وكثيرات، وقالها دون جوان لكثيرات وكثيرات، وقالها أيضًا عمر بن أبي ربيعة لكثيرات وكثيرات.

قالوا هذه الكلمة البسيطة الثمينة بطرق شتى، وبأساليب مختلفة، بأبيات وقصائد وخطابات، قالوها شفاهًا، وقالوها خلجة في عين أو هزة من رأس، أو لمسة من يد. لا شأن لي بهؤلاء جميعًا، لا شأن لي، فإني أحبك، وأنا الآن في الثلاثين من عمري، يبدو أنك لم تفهمي بعد ما أريد.

أنا من هواة الأدب والقراءة، عشت عمري كله بين الصفحات ولم أقل لواحدة في العالم أحبك، هذه الكلمة التي قلتها لكِ أنتِ، وقلتها بعد تردد شديد وخجل أشد، لم أقلها لفتاة قبلك أبدًا، احتفظت بها عمري كله لأقولها لكِ أنتِ، هي كلمة عذراء عندي، لم يتحرك بها لساني إلا لك، ولم تصافح مني أذُن فتاة قبل أذنك، فهي كلمة لم تسمعها من قبلك أبدًا، هي بِكر ناضرة جديدة كقطرة من ماء المطر تكونت ونزلت إلى النهر ثم لم تتكرر، كلمة لم تُخلق في حياتي إلا لك أنت، خبأها القدر في حنايا أيامي، لم يفضَّ عنها ختمها إلا لتسمعها أذنك، ثم هي من بعد لن تُقال لفتاة أخرى، لا لن تقال مني إلا لكِ أنتِ، أرأيت إذن كم هي جديدة كلمة أحبك التي أقولها أنا لك، هي جديدة وفريدة لا شبيه لها فيما مضى من تاريخها، ولا أحسب أن سيكون لها شبيه في مستقبلها الطويل الطويل الذي لا شك أنه سيمتد حتى قيام الساعة، بل إنني أعتقد أن قيام الساعة لن يميت هذه الكلمة التي ستظل تتردد في أنحاء الجنة من أولئك الذين رضي عنهم ربهم إلى الحور العين هناك على ضفاف الكوثر، وفي رحاب الخمر والعسل، وفوق السندس والإستبرق، كلمة تتأبى على الموت، هذه الكلمة، ولكن كلمتي أنا التي قلتها لك لا مثيل لها، إنها تحمل في عروقها نبض الصبا الباكر والشباب الريان والأعوام الثلاثين التي خضتها في الحياة.

أنت لا شك تذكرين ذلك اليوم الذي قلتها فيه، تذكرين، كارثة لو كنتِ حتى لا تذكرين متى سمعتها وأين وكيف، كل التفصيلات التي أحاطت بها وهى تنطلق من أعماق شبابي وحياتي، من ذكرياتي وآمالي لتمر بأذنيك آملة أن يكون مصيرها إلى قلبك.

لكَم تمنيت ألا أكون رئيسًا لتحرير المجلة التي تعملين بها، لكم كنت أتمنى أن تكون كلمتي إليك بريئة من هيبة الرئيس وإعجاب المرءوس، ولكن ماذا بيدي أن أفعل، وأي عجيبة في أن يحب رئيس تحريرٍ فتاةً لها هذا الوجه المستدير الأبيض الجميل، وهذا القوام الفارع الهفهاف الذي يسير وكأنه نغمة فرحانة؟ وأي عجيبة في أن يحب رئيس التحرير هاتين العينين فيهما دائمًا كلمة تريد أن تُقال، ولكنها تتخفى وراء رموش كستار الغيب، رقيقة كثيفة تنبئ ولا تفصح، وتومئ ولا تبين، وهذا الأنف في وجهك على محيَّاه عبير الحياة، كأنه لم يوضع مكانه إلا ليستنشق من الدنيا عطرها، وهذا الشعر تلمِّينه فهو تاج، أو ترسلينه فهو عربدة ومرح وحياة، رأيتك أول ما رأيتك حين انضممت إلى أسرة تحرير المجلة كرئيس لتحرير القسم الأدبي بها، وكنتِ تحبين أن تكتبي، لم تكن قصصك رائعة، ولكني كنت أنشرها، لم أكن أنا الذي تبينت أنها غير رائعة، وإنما القراء وخطاباتهم، أما أنا فلم أكن أرى فيك أو منك إلا كل رائع وجميل وفنان، لا لست من هؤلاء الناس الذين يفصلون في أحكامهم بين الحب والعمل الفني، أو أنا على الأقل أمام حبك أنت لا أستطيع أن أكون عادلًا، لقد أحببت قصتك قبل أن أقرأها، وما كان لي من بعد أن أحكم عليها، ولقد قرأتها لأنه لا بد أن أقرأها، وقد أعجبت بها، نعم أعجبت بها فنيًّا، وكنت واثقًا حينذاك أنني عادل في حكمي، ولكن القراء لم يروك، وأرسلوا خطابات يُبدون فيها عدم إعجابهم، إنهم لم يروكِ، لم تعرفي أنت من أمر هذه الخطابات شيئًا، بل إنك عرفت عنها غير ما تقوله، لقد قلت لك مرة في خبث: تصل إلينا خطابات كثيرة عن قصصك.

وطبعًا فهمت أنها خطابات مديح، فاعلمي اليوم إذن أنها لم تكن كذلك، اليوم أريد أن تعلمي أنها لم تكن كذلك، على الأقل يجب أن تعلمي أن قصصك لم تعجب القراء، لم تعجبهم.

لقد فرحتِ يوم أخبرتك عن الخطابات، فرحت كطفلة صغيرة أُهديت عروسًا كبيرة.

ورأيت مع الكلمة التي في عينيك دمعتين طفرتا لم تستطيعي أن تمنعيهما من الظهور، ولا أدري أي شجاعة واتتني حينذاك لأطلب إليك شيئًا لم أطلبه من أحد قبلك، تلعثمت وتلجلجت وأنا أقول: ما قولك في أن نتعشى معًا الليلة؟

وغاضت الدمعتان في عينيك، أو لا أدرى لعلهما تحدرتا لتختفيا، ونظرت إليَّ نظرة فيها آثار سعادة واضحة، وقلت وابتسامة فيها شيء من التحدي على شفتيك: نعم، لم لا.

وحاولت في هذا العشاء أن أقول ما أردت أن أقوله منذ لقائي الأول بك، ولكن لم أستطع، وكانت كلمة أحبك هي أعز ما أقتنيه لأقدمه لحبيبتي، خشيت أن أقولها لك فلا تجد ما تستحق من تكريم عندك، وانتظرت، ولكنني مع ذلك عقدت معك اتفاقًا ما زلت — رغم ما حدث — أرى نفسي فيه ذكيًّا حاد الذكاء، اتفقنا على أن نتناول عشاءنا معًا كلما نشرت لك قصة وجاءت للمجلة عنها خطابات، وهكذا كنا نلتقي وحدنا بعيدًا عن المجلة مرة كل أسبوعين أو كل ثلاثة أسابيع على الأقل؛ فقد كانت الخطابات تأتي للمجلة بانتظام غداة ظهور العدد الذي يحمل قصتك، وأنت الآن تعرفين طبعًا أي نوع من الخطابات هذا الذي كان يأتي للمجلة.

وفي يوم انتهينا من عشائنا وقلت في حزم: أريد أن نسير قليلًا بالسيارة.

ولم تجيبي، وسرنا، ذهبنا إلى الهرم ثم عدنا منه لنسير في طريق الإسكندرية، ثم وقفنا قليلًا عند النُّصب المقام هناك، ولم أقل شيئًا، وقطعت حديثنا المتناثر.

– الدنيا برد.

فعدنا إلى السيارة، ومشت بنا، ولم نتكلم، ولا أدري لماذا اتجهت إلى شارع الجبلاية، نعم إني أحب هذا الشارع، وخاصة في الليل، ولكنه لم يكن في طريقنا، ولم تسألي أنت لماذا اتجهت إليه، وعند شجرة تسدل فروعها إلى النيل نزلت من السيارة صامتًا، ونزلت ورائي، وجلست أنت على الحجر هنا، والتفت بوجهك إلى الأفق، وظللت أنا واقفًا وعيناي إلى النيل، وطال بي الصمت أو خُيل لي أنه طال، ودون أن ألتفت إليك، قلت في هدوء وطمأنينة وثقة: إلهام، أحبك.

ولم تقولي شيئًا، ولكنك قبل أن تغادري السيارة إلى البيت قلت هامسة: وأنا أحبك.

ونزلت، وظللت أنا ذاهلًا عن نفسي غير مصدق ما سمعت.

لم تذهب كلمتي التي حفظتها لك طوال السنين سدًى، هي إذن قد صادفت ما كنت أرجو أن تصادف من صدق، هو الحب الكامل إذن. سرت بالسيارة ذاهلًا لا أدري إلى أين، فكل الطرق التي كانت أمامي أضيق من أن تسع فرحتي، وسمعت ضجيجًا في الشارع لم ألتفت له، وفي إشارة مرور دخل وجه إلى سيارتي وصاح بي: اقفل الباب.

وتنبهت حينئذٍ أن باب سيارتي ظل مفتوحًا كما تركته، وتمنيت لو أستطيع أن أتركه مفتوحًا كما تركته، تمنيت أن تتجمد اللحظة التي قلت فيها وأنا أحبك، تمنيت لو وقف الدهر عندها لا يتحرك، ملت بسيارتي إلى جانب الطريق ووقفت، أريد أن أقف لعل الزمن يقف، وأريد أن أسير، أن أغمر هذا العالم جميعه بهذه الفرحة التي تعربد في كياني كله، أريد أن أصمت وأسمع همستك وأن أحبك مرة أخرى، وألف ألف مرة أخرى، وأريد أن أنادي جميع من يمر بي لأقول له لقد قالت: وأنا أحبك. أريد أن أفعل هذا جميعه في وقت واحد. كيف يمكن أن أقف وأسير، وأن أسكت وأتكلم؟ كم هو عاجز هذا الإنسان، عاجز أمام فرحته، كما هو عاجز أمام قدره!

ظللت واقفًا ولم أشعر بالكون حولي يهدأ حتى خلا بي العالم والنشوة في صدري كما هي، وأفقت على خيوط الفجر الأولى تنساب في الظلام في هدوء ودعة، وأقفلت باب السيارة ووجدت نفسي في سريري ولم أنم.

ومرت بعد ذلك فترة من حياتي، هي حياتي الحلوة جميعًا، تجمعت في هذه الأيام، لم تقولي لي بعدها أحبك، ولم أقلها لك، ولكنني كنت أحس الحب من نغمة صوتك، من نظرة في عينيك، من همسة لا معنى لها، أو لمسة تبدو كأنها غير مقصودة.

وكنت كلما أردت أن أقول لك نتزوج تراجعت، فما كنت أريد حبنا الضخم الكبير يصبح زواجًا فقط، ولم يكن هناك أكبر من الزواج، كنت أريد حبي من نوع جديد، وطالت الأيام بي ولم أقل نتزوج، كأنما أردت أن أستمتع بكل قطرة من نداء حبنا، ولم أدرِ لماذا توقفت عن الخروج معي، مرة واحدة رفضت أن تخرجي معي رفضًا باتًّا قاطعًا، ثم تركت مواظبتك على الكتابة، ثم انقطعت عن الجريدة يومًا، وسألت: أين؟ وطالعني النبأ الهائل، اليوم خطبتها، ماذا؟! أمن أجل هذا انقطعت؟ لماذا لم تقولي؟ لقد كنت أرى حبنا أكبر من كل شيء، كان الزواج بالنسبة إليه أمرًا ضئيلًا هينًا، كنت أعتقد أننا نستطيع أن نتمم الزواج في أي لحظة، كنت أريد أن أتمتع به حبًّا حرًّا واسعًا كبيرًا غير مقيد بحجم معين هو الزواج.

لماذا لم تقولي، لماذا؟ ولماذا لم تقبلي أن أتصل بك بعد هذا؟ لماذا رددتني بهذه القسوة حين اقتربت منك أحادثك، عند باب منزلك؟ لويت عني وجهك ومضيت في طريقك وكأن الذي كان بيننا كره كبير، صادق هذا الذي قال: إن أقرب العواطف إلى الحب هو الكره. لقد كرهتك يومذاك، كرهًا قدر الحب الذي أحببتك به، لقد حطمت ذلك الحب الكبير الذي ادخرته لك طوال حياتي جميعًا، أحسست كرهي يشتعل في نفسي كسعار من جحيم، وتبعتك بعيني، ورأيتك وأنت تنظرين خلفك إلى سيارتي لترَي إن كنت قد مشيت أم ما أزال واقفًا، ورأيتك وأنت تنعطفين إلى الشارع الأيمن، وأحسست كرهي يملأ نفسي، وسمعت بوق سيارة من الشارع الذي انعطفت إليه، تمنيت لو أنها قتلتك، ولماذا لا؟ لقد تمنى هذه الأمنية شاعر قديم، تمني لو أنها ماتت حتى يستريح من حبها، أما أنا فقد تمنيت لو أنك مت لأستريح من كرهي، ولماذا أتمنى؟ لماذا لا أقتلك أنا؟ لقد كانت كلمة أحبك التي قلتها لك هي كل ما أدخره من حياتي، وقد بددتها، بددت حياتي جميعًا، لماذا لا أقتلك.

سرت بالسيارة وأوقفتها بعيدًا عنك وتركتها ونزلت، أريد أن أقتلك، أدفعك أمام ترام فأقتلك، أو أخنقك إذا لزم الأمر، سرت خلفك وأنت لا ترينني، وسرت، وسرت، وفكرة قتلك تزداد وضوحًا في نفسي، وفي شارع قليل المرور، عبرت الشارع دون أن تنظري، وكنت وراءك، ونبتت من الطريق سيارة تغول الطريق ووجدت نفسي دون أن أحس ألقي بنفسي عليك لأنتزعك من براثنها ولتصدمني أنا السيارة بدلًا منك.

لا، لا تعودي في غد لزيارتي في المستشفى، لقد كان ما بيننا حبًّا لا مثيل له في الحياة، ولا أريد أن يصبح شكرًا أو عطفًا، لقد أضعت أكبر شيء أحببته في حياتي، وهو حبي، ولم يبقَ لي شيء لتنقذيه، فحتى لو أحببتني اليوم فليس هذا هو الحب الذي أردت، لقد كنت أريده حبًّا خالصًا طلقًا واسعًا سعة الأرض والسماء، سعة الأمل والحياة، ولست أنت التي تستطيعين أن تقدمي هذا الحب، فلا تعودي، لا، لا تعودي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤