في الطريق ولن أعود

موجود بلا وجود أنت. لا يهمني في شيء أن تأكل وتشرب وتعيش وتنام؛ فأنت عندي لا وجود لك ولا كيان ولا حياة. أنا لا أعرفك، لست أنت، أنا لا أريد أن أعرفك، ولا أريد أن أذكرك، وكم أتمنى ألا أراك، علم الله أن هذه الحياة التي تقوم بيننا حرام، لا تستند إلى شرع ولا تعتمد على قانون، فهي ليست قائمة وهي ليست موجودة، وأنت غير موجود، غير حي، أنت عندي وهم، أنت ماضٍ لم يعد له حاضر، أنت ذكرى بددها واقع، أنت حلم قضى عليه ظهور النهار.

نعم إني مخطئة، ولكن ألم أدفع ثمن الخطأ الذي ارتكبت، وهبْني أجرمت ألا يدفع المجرم ثمن جريمته بعض وقت يقضيه في السجن، ثم هو بريء؛ فكيف تريد الحياة أن تحكم عليَّ بالإعدام وأنا لم أقتل أحدًا إلا لكرامتي، وكيف تريد أن ترغمني على هذه الحياة؟ كنا في مطالع اللقاء الأول بيننا نقول إن الحياة بلا حب هي الموت. بربِّك ألم تشعر بعدُ أن حبًّا بيننا لم يعد له وجود؟! تدَّعي في أحيان أنك تحبني، إنك كاذب، لا تستطيع أن تشعر بنبضة من حب لإنسانة تُكِن هذا القدر من الكره الذي أكنه لك وتزعم أنك لا تعمل إلا ما تمليه عليك مشاعرك، أية مشاعر هذه التي تُملي عليك هذا الامتهان لإنسانيتي، وهذا التحقير لعواطفي؟! أنت غير موجود، غير موجود.

إن دخولك البيت وخروجك على مشهدٍ مني، وحديثك الجاف المتعالي دائمًا، وطعامك المتكبر المتأله، ومعاشرتك البعيدة كل البعد عن الإنسانية، كل هذا لا يستطيع أن يجعل من وجودك وجودًا. أنت غير موجود.

كنت موجودًا دائمًا قبل أن نتزوج، كنت نبضات قلبي، وكنت فكري، وكنت دمائي، ولم نكن يومذاك في بيت واحد، وكان البيت الذي أعيش فيه يكرهك جميعًا، وكان لا يطيق أن يذكر اسمك، فلم يكن اسمك يُذكر، وكنت موجودًا.

كنت حنانًا، وكنت همسة حبيبة توشوش أنفاسي وآمالي وغدي. كنت موجودًا.

كان أبي يكرهك، وكانت أمي تكرهك لأنها كانت تحب أبي، لماذا أحببتك في هذه الأيام؟ ما أسخف هذا السؤال دائمًا! ولكنني أذكر أنني كنت أحبك بقلبي وعقلي، بآمالي وفكري، كنت حين أسير إلى جانبك أحس أنني أسير مع إشراق الحياة، وأحس خطواتي تنتقل في الشاطئ الأمين من العالم، كانت ألفاظك أمنًا وثقة، وكان بيتي أمنًا وثقة، فأنا أكره الاضطراب ويقتلني القلق.

ازددت ثقة بك وأنت عند أبي تطلب يدي.

– ابنتي صغيرة.

– أنتظرها.

– لا أحب الانتظار.

– ولكن يا سيدي إنه أنا الذي أنتظر.

– لا أحب …

– لا تحبني أم لا تحب الانتظار؟

– لا أحب شيئًا.

رفض أبي بإصراره الحاد العنيف. وحين رأى في عيني ابتدار الدموع.

– تريدين الزواج؟

وصمتُّ.

– أم تريدين هذا الشخص بالذات؟

وأطرقت.

– فأنت تريدينه بالذات؟

وظللت مطرقة.

– إنه لا يعجبني.

ورفعت رأسي أريد أن أقول، ولكني صمتُّ ثم أطرقت.

– نعم أعرف أنك أنت التي ستتزوجينه وليس أنا.

ورفعت رأسي، ورأى في عيني أن هذا ما كنت أريده، وأحسست أنه عرف ما أريد.

فعدت أصمت من جديد وأطرقت.

– ولكن أنا الذي أختار لك.

ورفعت رأسي ورأى السؤال في عيني.

– من حقك أن تحبي من تشائين، ومن واجبي أن أوافق أو لا أوافق.

ولم ينتظر حتى يرى الدهشة في وجهي.

– نعم، وأعلم أنكِ طالبة في الجامعة، وأعرف أيضًا كل ما كتبه الشعراء والكُتاب والقصاصون عن الحب، بل وأعرف الحب نفسه، ولكن هؤلاء الكُتاب والفنانين يختارون لموضوعاتهم النواحي العاطفية ولا يتكلمون عن تجربة الأب وفهمه للأمور وطول ممارسته للحياة، وممارسة الحياة له … فحكمه حين يحكم وراءه كثير من العقل والحكمة والبعد عن العاطفة.

ولم أرفع رأسي.

– إنني لم أقل في حياتي كلامًا أكثر سخفًا من هذا الذي أقوله الآن.

وتولَّتني دهشة لم يكن محتاجًا ليراها.

– إنني أنصح وأخطب وأعظ. ليس أسخف من ذلك.

وخالجني خالج من الأمل.

– إذن …

– لن تتزوجيه.

ولم ينتظر أن أسأله.

– وبدون إبداء أسباب.

إنني أعرفه، إنني أعرفه، لا يتراجع، ولكن عليه أن يبدي الأسباب، لا بد أن يبدي الأسباب. قالت أمي: ألا تكفي إرادة أبيكِ؟

– إرادة أبي هذه تكفي عندك أنتِ؛ لأنكِ عشت في عصر كانت فيه إرادة الرجل هي القانون، ولكننا اليوم في عصر القانون نفسه محل نقاش كبير.

– إذن فاعلمي أن هذا الفتى الذي تحبين خطب قبلك أربع بنات وتركهن.

خبر جديد لم أكن سمعت به.

– من أين عرف أبي؟

– سأل.

– متى سأل؟

– بعد أن رفض.

– أليس عجيبًا؟!

– ما العجب؟!

– يرفض ثم يسأل، لماذا رفض إذن ولم يكن يعلم هذا عنه؟

– يقول إنه لم يكن مرتاحًا إليه.

– لمجرد شكله؟

– هذا فارق السن يا بنتي.

– هذا سحر.

– بل تجربة.

– على كل حال لا يهم.

– لا يهم أن يخطب أربع بنات ويتركهن.

– لم تعجبه واحدة منهن.

– وأعجبتِه؟

– ولمَ لا …

لا فائدة تُرجى من هذا النقاش، لقد رفض أبي، ولم يكتفِ بهذا بل سعى فنُقل إلى الإسكندرية لأبتعد عن القاهرة، ومرضت أمي فأصبح الحديث في الزواج غير معقول. وطال المرض بأمي وسألت أبي أن تعود إلى القاهرة لتكون بجانب أهلها، واستطاع أن يعود، وعدت أنت إليَّ، حنانًا ولهفة عدت، تسألني عن أمي ولا تتكلم عن الحب، وإذا تعذر عليك أن تكلمني راحت أمك تكلمني، فهي كل يوم تسألني عن صحة أمي، وعن سير المرض كأنما هي طبيب مخلص في عمله.

وماتت أمي، وأطبقت أمك عليَّ بأنيابها الذكية المتمرسة فإذا أنا أتعلق بها تعلقي بأمي وتعطف عليَّ كأنني ابنتها.

وتمر فترة الحداد القاسية، وأخرج من السواد القاتم لتلقفني ذراعا أمك ولسانك.

– بعد موت أمك سيرغمك أبوك على الزواج بمن يريد ولن تجدي أحدًا يحميك.

إن السواد الذي يصاحب الموت يشل العقل، إن التجار والنهازين لا يجدون فرصة أحسن من الموت ليعقدوا صفقاتهم؛ إنها فترة يظن فيها أهل الميت أن الجميع يعطف عليهم ولا يريد لهم إلا الخير.

وكان البيت الذي خلا بي وبأبي جحيمًا، هو يعلم أني أريد ما لا يريد، وأنا لا أدري لماذا لا يريد، وكما تعقدت هذه الكلمات كانت حياتنا معقدة، فيها جهامة الموت، ونفور الرغبة والرفض.

حتى إخوتي حين كانوا يلمون بنا في زيارة كانوا فاشلين في تبديد ما بيني وبين أبي من جليد ونار.

وتزوجتك، وحين أرسلت وثيقة الزواج إلى أبي قال لأختي في برود وصرامة: لا تدخل بيتي. ولم أدخل.

وخلوت بي، وخلت أمك.

كانت بداية عهدك الجديد وعهد أمك جملة قالتها حماتي في جمعية كبيرة من السيدات: يا حسرة علينا تزوج ابني بلا فرح ولا زفة ولا حتى زغرودة.

وانقلبت أنت وحشًا كاسرًا، فقد علمت أنني أصبحت بلا ملجأ إلا أنت؛ فأنا إذن كالمطاط مهما تقذف بي إلى الحائط فسأعود إليك، وأعود إليك، وأعود إليك.

لا أريد أن أذكر، لا أريد أن أذكر، ولكن شيئًا واحدًا لا يحتاج أن أذكره، إنني أصبحت مهانة وحقارة وبشرية مدمرة عصفت بها أنت، وحين كنت أقول لنفسي: لا يمتهن الإنسان إلا نفسه، تصيح بي نفسي: أليس أنتِ من اخترتِ؟! وينتهي الحوار إلى هذه الصيحة، ولكن يوم ضربتني صحت في نفسي: ألم أدفع الثمن بعدُ؟! إن المجرم يدفع الثمن بضع سنوات ثم هو بريء، وأنا لم أدفع الثمن بعد؟ أنت غير موجود. لو أنك دمرت حياتي عن كره ما كرهتك بهذا القدر الذي أكرهك به الآن، ولو أنك قسوت عن طبيعة لا تملك أن تغيرها في نفسك ما احتقرتك كما أحتقرك الآن، ولو أنك مزقتني وأنت تعرف أن لي مكانًا أستطيع أن ألجأ إليه إذن ما فعلت ما أفعله الآن، أنت لا تعرف أين أنا؛ أنا في الطريق العام لا أعرف لي وجهة ولا مكانًا ولا مستقرًّا، وسأسير وسأظل أسير، وليكن الطريق بيتي وغدي ومستقبلي، ولكن لن أعود؛ وكيف أعود إلى عدم؟ إنك اليوم بالنسبة لي عدم. أنا لن أعود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤