الفصل الحادي والعشرون

اخترقت مينلي وراعي الجاموس الحشود بينما كانت حرارة الشمس تلفح رأسيهما. لم تستطِع مينلي، التي ألِفَت محاصيل قريتها البسيطة، منْع نفسها من الحملقة في أكوام الطعام الهائلة المعروضة للبيع في سوق الفيض الأخضر. امتلأ الشارع والساحة المكشوفة بأكشاك ومنصَّات مُغطَّاة بمظلَّات، وكرنب زاهٍ بلون اليشم، وخيار مُلتوٍ، وباذنجان أرجواني، وبرتقالٍ ذي رائحة نفَّاذة. وسال لُعاب مينلي عند رؤية ثمار توت الزعرور اللامعة المُحلاة بالسكَّر التي تُشبه أحجار الياقوت المُثبَّتة على أعواد.

قالت مينلي: «لا أرى الملك في أي مكان.»

قال راعي الجاموس: «ربما لم يحضر بعد.»

قالت مينلي: «لا أعرف ما إذا كنتُ سأعثر عليه هنا أم لا.» فالآن، في وضح النهار، شعرَت أن صديقة راعي الجاموس ليست استثنائيةً مثلما بدَت لها بالليل. «ماذا سيفعل الملك في سوقٍ شعبي على أي حال؟»

زمَّ راعي الجاموس شفتَيه في إصرار وقال: «لقد قالت إنه سيكون هنا؛ لذا سيكون هنا.»

صاح أحد الباعة بينما كان الجاموس يُحاول أكل ثمرةِ خسٍّ لونها أخضر فاتح: «أنت! ابتعِد عن تلك!» فجذَبه الصبيُّ بسرعة بعيدًا. صاح البائع وقد احتقن وجهه حتى صار كلون الفجل الذي يبيعه: «أبعِد جاموسك من هنا!»

قال الصبيُّ وهو يُبعد رأس جاموسه عن صنوف الطعام المُغرية: «من الأفضل أن آخُذَه بعيدًا. إنه جائع، يجب أن آخُذَه إلى المرعى.»

قالت مينلي: «سأبقى هنا. لا داعيَ لأن تبحث عن الملك معي.»

قال الصبي: «حسنًا. إذا احتجتِ إلى مكانٍ تَبيتِين فيه ليلتك، فأنت تعرفين مكان كوخي. وإلا فربما أراك لاحقًا! حظًّا طيبًا!»

قالت مينلي: «شكرًا»، لكن بينما كان يُلوِّح بيده بلا مبالاة لتوديعها، أدركَت أنها قد لا تراه مرةً أخرى. وقبل أن يختفي عن نظرها، أخرجت من صُرَّتها القطعة النقدية الأخيرة وركضت نحوه. وقالت: «انتظرْ. خُذ هذه.»

ضحك الصبي: «لا، لستُ بحاجة إليها، فلتحتفظي بها.»

قالت مينلي معترِضةً: «ولكن …» لكنه كان قد استدار بالفعل. وسمِعَته يصيح قائلًا: «إلى اللقاء!» وخار الجاموس أيضًا مُودِّعًا إيَّاها. ابتسمت مينلي لنفسها بتهكُّم.

تساءلت في نفسها وهي تتجوَّل بين الأكشاك والتجَّار والزبائن: ماذا تفعل الآن؟ كيف يمكن أن تعثر على الملك هنا؟

أتاها صوتٌ مبحوح يقول: «هلَّا جُدتَ بثمرة فاكهة على رجل عجوز؟!» استدارت مينلي فرأت رجلًا فقيرًا مليئًا بالتجاعيد يتسوَّل أمام أحد أكشاك الخوخ. كان أغبرَ مَحنِيَّ الظهر، وبدت ملابسه وكأنما خِيطت من خِرَق تنظيف الأرضيات. قال متوسِّلًا إلى بائع الخوخ: «أرجوك، أنا ظمآن جدًّا. هلا أعطيتني ثمرة خوخ صغيرة، أصغر واحدة لدَيك؟»

قال البائع السمين: «فلترحَلْ أيها الرجل العجوز. من دون مال لن أُعطيك أي خوخ.»

قال المتسوِّل مرةً أخرى بصوتٍ واهن: «أرجوك. أشفِق على رجلٍ عجوز مُتعَب.»

قال البائع بغضب: «ابتعِد من هنا أيها المتسوِّل الحقير! وإلا استدعيتُ الحراس ليُبعدوك.»

اجتذب صوت البائع العالي انتباه المارَّة، وبدأ حشدٌ صغير يتجمَّع أمام كشك الخوخ.

غمغم أحدُهم: «إنه لأمرٌ مُخزٍ أن تُعامِل رجلًا عجوزًا بهذه الطريقة. فلتُعطِه حبَّةَ خوخ.»

قال البائع وهو ينظر للحشد شزرًا: «أتُحسِنون من جَيبي! إذا كنتم تهتمُّون لأمره كثيرًا، فاشتروا له ثمرة خوخ.»

وبينما كانت مينلي تُراقِب يدَي المتسوِّل الممدودتَين المرتعِشتَين من الجوع، شعرت بغصَّة في قلبها. إذ تذكَّرت أباها وهو يمدُّ يدَه بآخِر ما تبقَّى من الأرز ليُطعم به سمكتها. كانت العملة النحاسية التي قدَّمتها لراعي الجاموس لا تزال في يدِها. كادت تشعر بدقات قلبها على حافتها الدائرية.

قالت وهي تُعطي البائع العملة: «تفضَّلْ.» ثم التقطت أكبر ثمرة خوخ في الكشك وأعطتها للعجوز. انحنى لها بامتنان، وأكل ثمرة الخوخ بنَهَم. شاهَدَته مينلي مُتناسيةً أمر المدينة الداخلية والقصر في تلك اللحظة. في الواقع، وقف الحشد كلُّه يُراقبه وهو يلتهم الثمرة حتى لم يعُد في يده سوى بذرتها، وكأنما وقعوا تحت تأثيرِ تعويذةٍ ما.

قال المتسوِّل بصوتٍ أقوى بكثير من ذي قبلُ وهو ينحني تحيةً لكل من يشاهده: «شكرًا. كانت ثمرة الخوخ لذيذة جدًّا، أتمنَّى لكم جميعًا أن تتمكنوا من تذوُّقها. إذا تفضلتم بمسايرة رجلٍ عجوز وبقيتُم قليلًا، فسأُشارككم ثروتي الطيبة.»

أخرج العجوز عصًا صغيرة من جيبه وانحنى. وحفر حفرةً صغيرة في التربة المجاورة للطوب الأسود، وزرع بذرة ثمرة الخوخ. ثم غرس عصاه في الكومة الصغيرة، ثم طلب أن يُحضروا له ماءً. أخرجت مينلي التي غلبَها الانبهار إبريق الماء الخاص بها وأعطته إيَّاه. وحين صبَّ الماء على عصاه اهتزَّت، وبدت — على نحو لم تتخيَّله — وكأنها تنمو.

وكانت بالفعل تنمو. فقد أخذت ترتفع أكثر فأكثر وتزداد سُمكًا حتى صارت بسُمك ذراع مينلي. وبعد أن ارتفعت قمَّتها حتى غابت عن بصرها، بدأت تنبثق منها الأزهار والأغصان. ولما فاح شذى الزهور العذب في الهواء، أدركت مينلي أن العصا استحالت شجرةَ خوخ. وبدا أن أفراد الحشد أدركوا ذلك أيضًا؛ إذ حدقوا بها جميعًا فاغِرين أفواههم. وحتى البائع البخيل ترك كشك الفاكهة ليُحدق بها بإجلال.

تساقطت البتلات من الشجرة مثل ندفات ثلج وردية، وكست التربة كبساطٍ وثير. انبثقت الأوراق الخضراء، وبينما كسَتِ الأغصانَ تدريجيًّا، نبتت كراتٌ شاحبة بلَون القمر تُشبه اللآلئ. وتحوَّلت إلى ثمارٍ مستديرة، كما لو كانت بالونات صغيرة تنتفخ بالهواء، واكتسبت اللون الورديَّ والأحمر أثناء نموِّها. وسرعان ما امتلأت الشجرة بها، وتشبَّع الهواء برائحة الخوخ الناضج الساحرة. تجمَّع الأطفال حولَها، وحدَّقوا بلهفة في الفاكهة اللذيذة بينما ازدرد الكبار ريقَهم.

أخيرًا، مدَّ الرجل العجوز يدَه، وقطف ثمرة خوخ من الشجرة، وأعطاها لأحد أفراد الحشد. قال وهو يلوِّح بيده: «رجاءً، تفضلوا.»

لم يكن الحشد بحاجة إلى مزيد إلحاح. فتسلَّق الأطفال الصغار الشجرة وناولوا بعضهم الثمار، بينما شبَّ الكبار الأطول قامةً على قدمَيهم وقطفوها ببساطة. واعتلى صبيٌّ يجرُّ حِصانًا متعَبًا ظهر حصانه كي يصِل إلى ثمرة خوخ حمراء مُعينة لفتت نظره. لم يمضِ وقت طويل حتى امتلأت أفواه الجميع بالخوخ الطري الحلو وهمهمات البهجة. حتى بائع الخوخ نسِيَ كشكه، ووقف تحت الشجرة مغمضًا عينيه في رضًا، وتقطر من فمه عصارة الخوخ.

غير أن مينلي لم تشارك في وليمة الخوخ. قالت في نفسها إنه لولا أنها نالت كفايتها من الخوخ طوال الطريق إلى المدينة، لكانت أول من يتسلَّق الشجرة. ولكن لأنها كانت قد سئمت قليلًا من الخوخ، فقد لاحظت ما لم يُلاحظه أي شخصٍ آخر. لاحظت أنه كلما قطف أحدُهم ثمرة خوخ من الشجرة، تختفي واحدة من كشك الفاكهة.

إذَن الخوخ الذي أنبته المتسوِّل في شجرته هو خوخ البائع! ضحكت مينلي في نفسها وهي تُلقي نظرةً سريعة عليه خلال الحشد المُنهمِك في التهام الفاكهة. كان يُراقبهم وعلى وجهه نظرة استمتاع، وفجأةً لاحظت مينلي أن المتسوِّل لم يكن عجوزًا جدًّا في الحقيقة. قالت في نفسها: «لا بدَّ أنه ساحر. ربما يُمكنه مساعدتي للوصول إلى المدينة الداخلية.»

تقدَّمت مينلي تجاهه. وبينما كانت تشقُّ طريقها نحوه، قُطفت آخر ثمرة خوخ من الشجرة، وبدأت الأوراق والأغصان تختفي. وبدا أن جذع الشجرة ينكمش ويهزل ويقصر. كان الحشد قد أنهى حبات الخوخ، وأصبحت الأرض مليئةً بالبذور. ولما بلغت مينلي المتسوِّل أخيرًا، كان الغُصَين المتبقي من الشجرة قد توارى تحت كومة بذور الخوخ، وكان المتسول يستدير للمغادرة.

قالت مينلي: «انتظر!» وأمسكت بذراعه. لكن حين جذبت مينلي كُمَّه انحسر كاشفًا عن شيء ذهبي لامع. جذب المتسول كُمَّه بسرعة ليستره، لكن تلك اللمحة كانت كافية لأن ترى مينلي أنه يرتدي سوارًا ذهبيًّا على هيئة تنِّين. حدَّق كلٌّ منهما في الآخر، فيما تسارعت الأفكار في عقل مينلي السريع البديهة. كان التنين قد أخبرها أنه لا يُسمح إلا للعائلة الإمبراطورية باستخدام شعار التنين. وأخبرها راعي الجاموس أن الجميع يعلم أن الملوك فقط هم من يرتدون شعار التنين الذهبي دائمًا. ومضت الكلمات في عقل مينلي، وكادت لا تستطيع التقاط أنفاسها.

شهقت مينلي قائلةً: «أنت ترتدي تنينًا. لا يُسمح بارتداء التنين الذهبي … إلا ﻟ… لا بد أنك … لا بد أنك …»

دوَّى صراخٌ غاضب عبر الفوضى: «أين هذا المتسول؟!» ميَّزت مينلي صوت البائع. «لقد سرق خوخي! سأنال منه!»

بسرعةٍ أفلت المتسول ذراعه من قبضة مينلي وانطلق يركض. حدَّقت فيه مدهوشةً وهي تُنهي عبارتها. همست لصاحب الملابس الرثَّة الذي كاد أن يتوارى عن الأنظار: «لا بد أنك الملك!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤