الفصل السادس والثلاثون

كادت مينلي من فرطِ الإنهاك لا تذكُر ما حدث إثر دخولهم القرية. وكادت لا تذكر صخب الناس المُتجمِّعين حولهم والهُتافات الصاخبة عندما أخبرهم دا-إيه-فو بقضائهما على النمر الأخضر. وتذكَّرت بغير وضوح عناقًا دافئًا ناعمًا من امرأةٍ عجوز أدخلتها إلى منزل تسودُه الحفاوة. لكنها تذكَّرت الشعور بالراحة والدفء الذي غمرها حين استلقت على سرير، ذلك الشعور الذي يُشبه حمل كعكةٍ دافئة مَطهية على البخار في يومٍ قارس البرودة. حينئذٍ أغمضت مينلي عينَيها ونامت.

وعندما استيقظت، كان يُحدِّق بها ثلاثة وجوه مُستديرة تُشبه حبَّات الخوخ اليانعة. كانت وجوه دا-فو، وإيه-فو، وجدَّتِهما. كان كلٌّ من الطفلَين يرتدي ثيابَه الحمراء المحشوَّة بالقطن (كانت القطعة المُمزَّقة في بنطال دا-فو قد رُقعت)، ويُمسك موقدًا صغيرًا محمولًا. بوجود ثلاثتهم والموقدَين في الغرفة، شعرت مينلي أنها في فرنٍ دافئ مليء باللطف. وارتسمت ابتسامة على شفتَيها.

قالت الجدة: «صباح الخير!»

ضحك الطفلان. وقال دا-فو: «بل مساء الخير! لقد نمتِ طوال اليوم! وقريبًا، سيحين وقت الذهاب إلى الفراش مرةً أخرى!»

قالت الجدة: «دا-إيه-فو، لا تُضايقا الفتاة. من الواضح أنها كانت مُتعَبة للغاية. تفضلي يا مينلي، اشربي هذا.»

صبَّت الجدة شايًا من إبريق في كوبٍ وناوَلَته لمينلي. رشَفَته مينلي بامتنان. وانزلق المشروب الساخن في حلقِها بسلاسة، وشعرت به يبثُّ النشاط في جميع أوصالها. رشفت رشفةً أخرى من الشاي، وملأت صدرَها برائحته العطرة التي بدت لها مألوفة.

قالت مينلي: «يا له من شايٍ طيِّب المذاق! شكرًا لكِ.»

قالت إيه-فو: «إنه ليس شايًا! إنه الدواء الذي يَشفي من سُم النمر.»

قالت الجدة: «وهو شاي كذلك. هو مُفيد سواءٌ لَمسَكِ النمر الأخضر أم لا.»

توقَّفت مينلي عن الشرب. تذكَّرت أن إيه-جونج طلب منهم جلب المزيد من الدواء، فسألت: «هل يُوجَد منه ما يكفي للتنين؟ ربما يجب أن نأخذ هذا إليه.»

ضحك دا-إيه-فو مرةً أخرى. وقالا: «لا تقلقي، لدَينا كثير منه! إنه مصنوع من أوراق الأشجار المُزهِرة.»

قالت الجدة وهي تتطلَّع برفق إلى مينلي بوجهها المُتجعِّد: «وقد أخذ دا-إيه-فو بالفعل قِدرًا كبيرًا منه لصديقك التنين.»

قالت إيه-فو: «أجل. صديقُك التنين بخير حال. وجدتُه يتحدَّث مع إيه-جونج عندما جلبتُ لهما القِدر، حتى إنه شكرَنا على إنقاذه من سُم النمر الأخضر.»

استرخت مينلي في جلستها وقد غمرتها كلماتهما بالراحة والسرور. وسألت: «ما حقيقة النمر الأخضر؟ لقد قال دا-إيه-فو شيئًا عن حاكم؟ وكيف عرفتم أن هذا الشاي يَشفي من سُم النمر؟»

قالت الجدة: «لقد اكتشفنا ذلك صدفةً.»

قصة النمر الأخضر والشاي

عندما عثر علينا النمر الأخضر منذ أربعة أشهُر، سرعان ما أدركْنا أنه لم يكن نمرًا عاديًّا. لا للَوْنه أو حجمه، بل لِما يُضمره لنا من غضب. إذ هاجم مواشينا — الأغنام والخنازير والدجاج — لا ليأكلها، بل ليقتُلها فحسب. واستفزَّنا بأفعاله الشريرة؛ إذ ترك الحيوانات المُحتضرة مُصطفَّةً أمام منزلنا. وماتت الحيوانات التي لم يقتُلها على الفور في غضون ساعة أو نحوها بسبب السُّم الخبيث الذي يخرج من مَخالبه.

كنا نعلم أنها مجرد مسألة وقتٍ قبل أن يُمسِك بواحد منَّا. حبَسْنا الأطفال وما تبقَّى من حيواناتٍ داخل المنزل. وظل زوجي إيه-جونج يدرُس الكتب بإمعان، مُحاولًا معرفة المزيد عن هذا الوحش القوي الذي كان يُعذِّبنا.

كان طعامنا قد بدأ ينفد حين اكتشف إيه-جونج أخيرًا حقيقة النمر الأخضر. عندما كان إيه-جونج شابًّا، قام برحلة إلى المدينة الواقعة إلى الجنوب من هنا، واشترى كتابًا قديمًا عن التاريخ. من هذا الكتاب، ومن نصوص أسلافنا القديمة، اكتشف إيه-جونج أن النمر الأخضر هو روح الحاكم الذي حاول أسلافنا منحَه سِرَّ السعادة، لكنهم أغضبوه بدلًا من ذلك. وخلال حياته، ظلَّ الحاكم يكنز روحه بغضبٍ شديد حتى أنها حين فارقت جسدَه، عجزت عن أن ترتاح بل تحوَّلَت إلى ذلك النمر الأخضر. علم إيه-جونج أن النمر الأخضر كان يبحث عن كلِّ مَن صُوِّر له أنهم أساءوا إليه؛ كان سيُعاقبنا على إهاناتنا المُتخيَّلة له، وبعد ذلك، وبعد أن يستكفي من عقابنا كان سيقتلنا؛ وبعدَها كان سيبحث عن آخرين أساءوا إليه، ويُعاقبهم، ويقتلهم أيضًا. من يدري كم آذى من الناس قبل أن يصِل إلينا؛ لعلَّنا مَحظوظون إذ لم يعثر علينا إلا منذ أربعة أشهُر فقط.

قرَّر رجالنا يائسين تشكيلَ فريقِ صيد لمحاولة قتل النمر. لكن النمر الأخضر كان أقوى منَّا بكثير. فهشَّم سيوفنا وعِصِيَّنا. وعاد فريق الصيد، يحمِل نِصفُهم النصفَ الآخر، وقد أصيبوا جميعًا تقريبًا بجروح. وحاولنا نحن النساء والأطفال تمريض الجرحى، لكنهم ظلُّوا يزدادون مرَضًا من سُم النمر، وبدأ اليأس يتسلَّل إلى نفسي.

اعتقدتُ أن الماء الساخن يمكن أن يُطهر الجروح من السُّم، مع أنه لم ينجح مع أيٍّ من الحيوانات في الماضي. وعلى الرغم من خطورة ذلك، غادرتُ المنزل لإحضار ماء من البئر. وأثناء عودتي رأيت النمر!

كان يقف أمام بوابتنا يفعل شيئًا غريبًا. بدا أنه يرصُّ أشياء. ظللتُ واقفة على مسافةٍ بعيدة، خلف جذع شجرةٍ مُزهِرة. وسرعان ما انتهى مما يفعل، وغادَر دون أن يُلاحظني.

وما إن رحل حتى هُرعت بحذَر إلى البوابة. كان النمر قد ترك مجموعةً غريبة من الأشياء المُتفرقة. كانت هناك قطعة من زهرية مكسورة مرسوم عليها قمر، وسترة طفل مُمزَّقة، وعلامتان عميقتان لمَخالبه محفورتان على الحجر. علمتُ أنها رسالة منه، لكن ماذا كانت تقول؟ الشخص الوحيد الذي سيعرف هو إيه-جونج. لكنه كان مريضًا ويحتضر بسبب سُم النمر. اغرورقت عيناي بالدموع وأنا أُهرَع إلى الداخل.

لم أستطِع أن أكفَّ عن البكاء، وغشِيَت دموعي بصري. لذلك لم أُدرك أن الماء الذي كنتُ أغليه قد سقطت فيه أوراق من الأشجار المُزهِرة إلا عندما فاح عبيرها في الهواء. لا بد أنها قد سقطت عندما كنت مُختبئة من النمر الأخضر. كان الخروج لجلبِ ماءٍ غيره أمرًا خطيرًا للغاية — فقد أفزع أمر خروجي الجميع — لذلك استخدمتُ الماء الساخن المختلِط بأوراق الشجر لتنظيف جرح إيه-جونج.

وكأنما بفعل السحر، بدأ أثر السُّم يتلاشى. لم أُصدِّق ما حدث. ناولت إيه-جونج بعضًا من شاي أوراق الأشجار ليشربه، وعلى الفور هدأت حشرجة أنفاسه واسترخى وجهُه. وبسرعة، سكَبْنا الشاي على جروح جميع المُصابين، وحين أعطَينا آخِرَهم الشاي، كان إيه-جونج يجلس في سريره وبجانبه دا-إيه-فو.

قال لنا: «كنتُ أحمق، كان ينبغي لي أن أعرِف أننا لا نستطيع مُحاربة النمر الأخضر بمزيد من الغضب. فبهذه الطريقة نحن لا نفعل شيئًا سوى تعزيز قوَّته. فغضبه هو قوَّته، لكنه قد يكون أيضًا نقطةَ ضعفه. إذ يمكن لغضبه أن يُعميه، حينئذٍ سيكون ضعيفًا. ربما لو استطعتُ أن أعرف من أكثر شخصٍ أغضب الحاكم، يُمكنني أن …»

ابتسمتُ وقلتُ له: «أنت تتعافى بلا ريب. فها أنت قد بدأتَ تضع الخُطط. لكن ما رأيك في قسطٍ من الراحة الآن؟»

أزال إيه-جونج مَخاوفي قائلًا: «كلَّا. يجب أن أعرف المزيد على الفور، قبل أن يُحدِث النمر الأخضر مزيدًا من الضرر.»

علِمتُ حينها أن إيه-جونج يجب أن يرى رسالة النمر الأخضر في الحال. لذا لففناه أنا ودا-إيه-فو بالبطانيات، وسندناه للوصول إلى البوابة لأنه كان يعرج. بدا على إيه-جونج الجدِّية وهو يفحص الأشياء. وكما توقَّعت، عرف على الفور ما تعنيه.

سألت إيه-فو: «ماذا يقول النمر الأخضر؟»

قال إيه-جونج: «يقول إنه إذا أعطيناه طفلَين كل شهر، فسوف يتركنا في سلام. هذه بداية عقوبته لنا، الطريقة التي سنُكفِّر بها عن أخطاء أسلافنا.»

سأل دا-فو: «كيف عرفت ذلك؟»

قال إيه-جونج: «علامتا المَخالب بجانب ملابس الطفل تعني أنه يُريد طفلَين، والزهرية رمز للسلام، والقمر المرسوم عليها يعني كلَّ شهر. هو إذَن يَعرض علينا السلام لمدة شهر مقابلَ طفلَين. لا بأس، فنحن لن نُضحي حتى بخنزيرٍ صغير من أجله.»

قال دا-فو مُقاطعًا: «أما أنا وإيه-فو فكانت لدَينا أفكار أخرى. وبعد أن اكتشف إيه-جونج أن أكثر شخصٍ أغضب النمر الأخضر هو ابنه — الذي كان ملكًا ونفى الحاكم النمر من مملكته — وضعنا خطة!»

قالت إيه-فو بفخر: «أجل، وقرَّرنا أننا سنخدع النمر الأخضر لنجعله يغضب بشدة لدرجة أن يُلقي بنفسه في البئر. ونجحَت خطتنا!»

قالت الجدة وهي تنظر إلى وجهيهما وتهزُّ رأسها، وفي الوقت نفسه تبتسم بمودَّة: «كانت أيضًا خطةً لم نَقبل بها أو نُوافق عليها. والآن مينلي الصغيرة، لقد سمعتِ قصتنا لكننا لم نسمع قصتك. نحن نعرف اسمك، وأن لدَيك صديقًا تنينًا، ويُمكننا تخمين أنكِ بعيدة عن ديارك. لماذا لا تُخبرينا بالباقي؟»

هكذا حكت لهم مينلي عن أُمِّها وأبيها، وكدحِهما في الحقول الموحِلة، وبائع الأسماك الذهبية، وسمكتها الذهبية. وحكت لهم عن مقابلة التنين الذي لا يستطيع الطيران، والقرود، وراعي الجاموس. وحكت لهم عن ملك مدينة ضوء القمر الساطع والشيئين المُستعارَين. وسردت لهم رحلتها كاملة.

وبينما كانت تتحدَّث، ضحك دا-إيه-فو وجدتهما، وشهقوا وحدَّقوا في دهشة. وأحيانًا كانت الجدة تهزُّ رأسها، وأحيانًا كان دا-إيه-فو يتبادلان نظرة عدم تصديق. لكنهم قطُّ لم يُقاطعوها.

قال دا-فو أخيرًا: «فعلتِ كل هذا للوصول إلى الجبل اللامُتناهي. نحن نعلم أين يقع.»

هتفت مينلي في حماسة وهي تعتدل في جلستها: «حقًّا؟ تعلمون مكانه؟»

قالت إيه-فو: «نعم، إن الجبل اللامتناهي قريب من هنا. يبعُد نحو مسيرة يوم واحد.»

نظرت إليهم مينلي مدهوشةً وقد انعقد لسانها. مسيرة يومٍ واحد! بعد كل تلك الأيام التي قضَتها هي والتنين مُرتحِلين، لم تُصدِّق مينلي أنهما صارا قريبَين إلى ذلك الحد.

قالت الجدة: «فور أن يستعيد صديقك التنين عافيته، سيأخذك دا-إيه-فو إلى هناك. وبعد ذلك يمكنكِ العودة إلى والدَيك.»

ابتسمت مينلي بامتنان، ولكن وهي تتطلَّع إلى وجوههم المُريحة المُستديرة الوردية — واتكاء إيه-فو ودا-فو على جدتهما بحبٍّ شديد ويدَيها التي أراحتها على رأسيهما بحنان — تذكرت مينلي فجأةً أُمَّها وأباها. واجتاحتها موجة من الشوق، وشعرت بجفاف في حلقها لم يُفلح الشاي في ترطيبه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤