الحب بُدٌّ وحب مصر بُدَّان
الحب بد .. هذا صحيح .. فالحب كالهواء والماء والطعام .. لا بد للنفس من أن تذوقه وأن تستمرئه .. الحب أساس البشرية والعمران .. بَيْد أن هناك حبًّا آخر لا مفرَّ منه، ولا بد مما ليس منه بد .. هو حب له بد، بل قل له بدان .. هو حب الوطن والأوطان، وأنا لا أحب زوجتي فحسب، ولا أولادي فحسب .. فكل هؤلاء يموتون وإلى زوال وفناء، ولكن أحب مصر أيضًا .. أحبها أعظم الحب وأصدق الحب .. وكما أن حبي لها لا يموت، فهي كذلك لا تموت؛ لذا لا أحبها حبًّا واحدًا، بل أحبها حبَّين؛ حبًّا يخصها هي وحدها، وحبًّا آخر يتصل بأهلها وقومها وشعبها .. فإن أنا أحببت مصر، فلا يمكنني أن أكره أهلها وسكانها وشعبها .. غير أنني في حبي لمصر، ذلك الحب الصادق الأصيل المتغلغل في أعماق قلبي، أهبها هي كل الحب .. وأهب أهلها كل الحب أيضًا .. فأنا معهم في السراء والضراء، أنا معهم في الحرب والسلم .. أنا معهم في كل أوانٍ وفي كل مكان، أنا أتعاون معهم وأشاركهم وأحمل المعول معهم، وأبني وأشيد معهم وأرفع معهم الأحمال والأثقال .. أسعى سعيهم من أجل الحبيبة مصر .. هذا هو حبي لمصر .. إنه حب لا بد منه؛ لأنه حبٌّ شديدٌ عنيف وعميق الأغوار يصل إلى باطن التربة الصالحة المنبتة، ويصل إلى أعماق قلوب بنيها الصابرين المؤمنين المنتمين إليها والمترعرعين فوق حقولها ونبتها وزروعها، والمرتوين بماء نيلها الطويل الجميل الجليل، والعذب السلسبيل .. فأنا مع هؤلاء كالعاشق الولهان، والحقيقة أنني مع طين مصر أكثر من عاشق .. أنا هيمان .. أنا سكران نشوان سهران .. عيناي لا تنامان عن حبيبتي مصر، ولا تسهوان أو تغفلان .. فإن كانت عيون العاشقين — كما قالوا — لا تنام، فإن عيني وقلبي وفؤادي، كلها لا تنام من فرط حبي العميق لأرض مصر المباركة صاحبة الأيادي البيضاء والجوادة بسنابلها الذهبية الصفراء، وثمارها اليانعة الخضراء .. حقًّا، إن حبي لك يا مصر ليس حبًّا عاديًّا، بل هو حب يصل إلى حد العبادة .. حبي لك يا مصر لا يمكن أن يقاس بحبي لزوجتي وابني وابنتي، ولا بحبي لأمي وأبي .. فحبك يا مصر هو مجموع حبي لكل هؤلاء مضروبًا في عشرة .. فحبك لا يُكال ولا يكيل، لا يُعبَّأ ولا يُصدَّر، كما أنه لا يُباع ولا يُشترى .. إنه شيء فوق كل هذا؛ لأنه حبٌّ ثمين وغالٍ ثقيل .. قليله ثقيل، وكثيره أثقل وأثقل .. حبك يا مصر خفاق في القلوب، جوال في الصدور .. ربوعه أجسادنا وأكبادنا .. إنه في كل ذرة من ذرات دمائنا .. إنه في أنفاسنا الطاهرة، وأرواحنا الزكية السماوية .. هو بحق حبٌّ عجيبٌ غريب، من لونٍ جديد .. ندين به ويسري في عروقنا كما تسري الكهرباء في الأسلاك، فلا نراه .. إنه حبٌّ عاتٍ شديدٌ عنيف، سِرُّه باتع، ومفعوله أكيدٌ مريد .. إنه الحب الذي نِكنُّه للعزيزة مصر، من دون كافة بلاد الدنيا .. فتحظى به مصر وحدها دون سائر أقطار العالم .. هو حبٌّ عظيم حقًّا .. يا بخت مَنْ يعرفه، ومَنْ يذوقه!