مصر هي التاريخ

الناس تاريخ، والدنيا تاريخ، والأمم تاريخ وتواريخ .. ومصر أم التاريخ .. هي التي ابتدعت التاريخ وأرست قواعده ووضعت مناهجه، هي التي علَّمت الدنيا فن التاريخ، بل وكيف يكتب التاريخ ويؤرَّخ ويخلَّد .. وكيف يمكن للأمم أن يكون لها تاريخ .. والتاريخ لا يرحم، فهو يسجل ويسطِّر ويكتب بلا تحريف ولا تنميق .. إنه جهاز تسجيل خطير، يكتب ما لك وما عليك، لا يجامل ولا يمالق .. التاريخ شيخٌ مهيبٌ محترمٌ وقور، لا يخاف إلا الحق والصدق .. وقد خرج هذا الشيخ من أرض مصر، وهو الذي سطَّر تاريخها وكتب سجلَّ تاريخها، فكتب أنصع الصفحات، وخلَّد ذكرى أشجع الأبطال، وحكى كل ما يقال وما لا يقال .. فهو يعرف ما يقول وقيمة ما يقول .. فما قاله دروس وعبر، تعلِّم وترشد، وتنبِّه وتعظ .. جاء هيرودوت «أبو التاريخ» إلى مصر، فكتب أروع كتبه، وسجَّل ما رآه في مصر، فكان ما كتبه سر خلوده وقيامه وبقاء اسمه متداولًا، ولولا زيارته لمصر لما فاز بلقب «أبي التاريخ».

ومصر التاريخ مجلدات لا تنتهي .. وتاريخ مصر الحديث يكتبه أربعون مليونًا، كل واحد منهم في حد ذاته تاريخ .. منهم مَنْ أروى الصحراء بدمائه، ومن أروى الحقول بعرقه، ومنهم من غذَّى العقول والأذهان بأدبه وفكره وتعاليمه، ومنهم من ألهب الخيال بفنِّه ورسومه وتصاويره ولوحاته وتماثيله، ومنهم من حلَّق في المفاهيم السماوية والدينية، وآثر الآخرة على الدنيا، وضرب للزهد أبهى صُوره وللإيمان أنصع اللوحات وأشرفها وأرقاها.

ومصر كتاريخ، لا بد أن يفخر بها التاريخ ويزهو ويتطاوس .. تاريخها منذ الأزل تاريخ حضارة وتقدم وفكر ورأي وهداية ورقي وسمو ورفعة .. كل تاريخها كفاح ونضال من أجل الحريات والديمقراطيات .. وما بقي عليها ظالم، ولا عاش فوقها غازٍ .. ما دخلها غريب إلا خرج مدحورًا محسورًا، ولا طمع فيها طامع إلا وغرق .. نيلها يبسم للتاريخ، بل ويرويه ليكتب سطورًا عذبة تشفي الغليل والعليل وتثلج القلوب وتنير العقول وتلهب الأفئدة والأكباد.

حقًّا، أنتِ يا مصر أم التاريخ .. تاريخ كل الأمم .. من عندك بدأ التاريخ، وعندكِ سينتهي التاريخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤