قبرص الحقيرة الصغيرة ومصر العظيمة الكبيرة

وقعت أحداث قبرص المشينة في الوقت الذي كنت أكتب فيه هذا الكتاب الصغير، أعبر فيه عن مشاعري نحو البلد الذي أدين له بكل شيء بكياني وحياتي ومكانتي وعزي ومالي.

أرادت قبرص الحقيرة؛ دويلة اللصوص والقراصنة، أن تلعب دور الذئب الغادر المفترس متخذة من مصر حَملًا وديعًا يسهل عليها اغتصابه والنيل من عزَّته وكرامته.

وأنت امرؤ يا ذئب والغدر كنتما
أُخيين كانا أُرضعًا بلبان

ولكن هيهات هيهات .. لقد حدث لقبرص ما لم تكن لتعرفه لو لم يلقنها شعب مصر ذلك الدرس الذي لن تنساه والذي جلَّلها بالعار أمام شعوب العالم كله.

عددٌ بسيط من شعب مصر، لا يتجاوز السبعين نفرًا من رجال الصاعقة المصرية، تصدوا لجيشٍ عرمرم من القبارصة الأبالسة المدجَّجة بشتى صنوف الأسلحة أشكالًا وألوانًا، والمحتمين داخل دباباتهم وخلف مدافعهم .. وقد ظن أولئك القراصنة السكعاء الرقعاء، أن الطعم سهل والصيد ضعيف وأن الخدعة أثمرت .. ولكن مصر العظيمة خيَّبتْ أملهم، فضربتهم ضربةً قاصمة هزَّت كيانهم وزلزلت أركانهم وخلعت عليهم الخنوع والمذلة، وجعلت العار نصيبهم، وكشفت خسَّتهم ودناءتهم ووضاعتهم، وأظهرتهم على حقيقتهم وسط دول العالم المتمدين المتحضر.

ماذا فعلت القِلَّة المصرية أمام الكثرة القبرصية؟ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ صدق الله العظيم .. لقد صمدت القلة وقاومت وضربت وأبلت بلاءً حسنًا وعاد العدد الأكبر منها سليمًا، على وجوههم ابتسامة الرضا والقناعة بحسن الأداء وقوة البلاء وروعة الفداء.

ليس ما قام به رجال الصاعقة المصريون حدثًا جديدًا، أو أول حدث من نوعه في تاريخ مصر .. وليس أمرًا حديثًا عليها أو مستغربًا أن يصدر عنها وينسب إلى أبنائها .. فما قام به رجال الصاعقة المصريون قام بعشرات أمثاله رجال القوات المسلحة المصرية في حرب أكتوبر الطاحنة .. يوم أن دكُّوا حصون خط بارليف المنيع؛ الذي ظن الإسرائيليون والعالم كله أنه سيزهو على خط ماجينو وخط سيجفريد. ماذا فعل به جنود مصر البواسل الضراغيم؟ ركبوه كما يركب الفارس الماهر ظهر جواده المطيع:

فخرَّ مضرجًا بدم كأني
هدمت به بناء مُشَمخِرَّا

وبذا دخل المصريون في أعماق الصحراء وأصلوا جيوش إسرائيل نارًا حامية لم يعهدوها من قبلُ، ولم يسبق لهم أن رأوا مثلها أو فطنوا إلى وجود مثلها شراسة وقوة واقتدارًا.

ألم يبلغك ما فعلته كفِّي
بكاظمة غداة لقيتُ عمرًا؟

ليت هذه فقط هي مصر، بل إن مصر أكثر من ذلك .. وها هو التاريخ يشهد بروعة أعمال رمسيس وغيره.

من كرمسيس في الملوك حديثًا
وكرمسيس المملوك فداءً

والعالم أجمع يذكر ولا ينسى ما فعله أحمس الأول بالهكسوس.

نصحتك فالتمس يا ذئب غيري
طعامًا إن لحمي كان مُرًّا

وها هو الفلاح المصري وهو يضرب باطن الأرض بفأسه، ويشقُّه بمحراثه، لا يقلُّ روعة عن ضربة الجندي، وهو يطلق رصاصاته القاتلة، وقنابله المدمرة .. فلاح مصر البسيط الجاهل، رجلٌ عظيم بالغ العظمة يضرب الأرض ضربته فتدين له وتنبت له من كل الثمرات .. وإلى جانب الفلاح هناك الصانع المصري الماهر، يدير الآلات والدواليب في صمت ليحول القطن إلى خيوط ثم إلى منسوج وإلى ملابس .. وهكذا يقوم في هذا الميدان بعملٍ جليل من أجل صالح مصر.

كل هؤلاء، وغير هؤلاء، مهندسون تعتزُّ بهم البلاد كلها .. فهم ممتلئون رجولة وشهامة ومروءة واستعدادًا للفداء والتضحية بالنفس والروح والمال، والعَرَق في سبيل نهضة مصر، ورفع رأسها عاليًا، بين الأمم فيلهج كل لسان بذكرها بالخير والجميل والعرفان.

كم أنتِ عظيمة يا مصر! عظيمة بسواعد أبنائك .. ولعل العمل الفدائي الذي قام به رجال الصاعقة هو خير شاهد على نوع التربة التي يتغذى من خيراتها بَنوكِ، وعلى نوع الماء الذي ينهل منه شعبك .. مصر كنانة الله في أرضه .. والنيل هو ثاني أنهار الدنيا طولًا .. ورجالك أشجع من خلَقَ اللهُ من الرجال على وجه البسيطة كلها، بلا نزاع ولا جدال .. فماذا نريد منك، أكثر من هذا يا مصر؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤