مصر العجوز العذراء
تعتبر مصر بتاريخها العريق الطويل القديم، أم البلاد جميعًا، وأكبرها سنًّا وعقلًا وخبرة وحنكة وعلمًا .. ومصر كأمٍّ عجوز، تعرف ما لا يعرفه باقي البلاد والأمم .. فللسنِّ قدرها وأفكارها ومكانتها وقيمتها، وهي إضافة إلى صاحبها ترفع قدره ومقامه ومكانته وتعلو به وتزيد من قيمته.
مصر عجوز من حيث السن، ولكنها تعيش كما تعيش العذارى البكارى من الشابات الصغيرات السن .. لمصر عقل الشيوخ ورجاحتهم وحكمتهم، ولها رويتهم وبُعد نظرهم، وسمات الحكماء وأهل الرأي والفكر السديد .. ولكن عندما تبحث في طاقاتها تجدها كلها طاقات الشباب ذوي السواعد القوية الفتية، ولو درست قلبها لوجدته قلب غادة في العشرين من عمرها تبحث عن الحب النمير، تريد أن تعبَّ منه وتهنأ به، وتنعم كما ينعم المحبون والعاشقون الذين في مثل هذه السن المتفتحة للحب الحنون المأمول.
ومصر كأمة، لها عقل مائة أمة من كبريات الأمم، ولها رأيٌ راجح يفوق آراء مئات الأمم مجتمعة .. إنها في هذا الصدد عجوزٌ مسنةٌ مدركة لكل شيء .. ملمة بكل شيء .. عالمة بكل شيء .. فاهمة كل شيء.
ومصر، في الوقت نفسه، لا تشيخ ولا تهرم جسدًا أو قوة أو عزيمة أو جهدًا، فهي في جميع هذه المناحي لها جسد الشباب بعضلاته المفتولة .. وقوة الشباب اليافع .. وعزيمة الرجال الأشداء .. وجهد الجنود البواسل المثابرين الهادفين إلى الظفر والانتصار، والفوز والغلبة، مهما يقدموا من دماء وأرواح غالية!
هذه هي مصر الحديثة .. إنها امرأةٌ عريقة المنبت، أصيلة المحتد، شريفة النِّجار، رفيعة القدر، مرفوعة الرأس، عالية الهمة تخاف على نفسها من الفتنة، وتعرف كيف تحافظ على نفسها من اعتداء المعتدين وشراسة المغتصبين؛ لأن لها قلبًا كقلب الأسد، وأنيابًا كأنياب الذئاب ضراوة، ومخالب كمخالب النمور .. ولها قرون كقرون الوعول .. كما لها صبر البعير وأناة الإبل وفراسة الجياد ودهاء الثعالب .. وهي مع ذلك جميلة جمال الطاووس، ووديعة وداعة الحمام، ومسالمة كاليمام؛ لأنها تدين بالإسلام والسلام.