مصر فوق النقد

هناك فرقٌ كبير بين أن ينتقد المصريون بلدهم، وبين أن ينتقده غيرهم .. ونحن إذ ننتقد مصر، كمصريين، إنما نعالج أوضاعنا وننتقد ذاتنا من أجل صلاحنا وإصلاح بيتنا وترتيب ما يحتاج فيه إلى ترتيب.

ولكننا لا نقبل نقد الآخرين، فلهم أوطانهم ومن حقهم أن ينتقدوها ما طاب لهم أن ينتقدوا، فهذا ليس من شأننا، بل هو شأنهم وحدهم .. ولا دخل لنا في نقدهم أوطانهم طالما لا يتعرض لغيرهم.

ولكن الطامة الكبرى، والبلاء العظيم، أن تتصدر بعض البلاد العربية حملةً خسيسةً غادرة، كلها نقد لمصر وأهل مصر، وشعب مصر، وحكام مصر بنوعٍ خاص .. ما رأيكم أيها الأخوة العرب، في أننا راضون تمام الرضا عن حكامنا، قانعون كل الاقتناع بنزاهتهم ونبل مقاصدهم، عالمون بمخططاتهم القويمة السليمة الهادفة إلى صلاحنا وصلاح أحوالنا وإلى رفعة شأننا وشأن وطننا .. فخلُّوا عنَّا وكفُّوا عن نقدنا، وضعوا ألسنتكم داخل أفواهكم وارتدعوا.

بقول الشاعر:

عليك نفسك فتِّش عن معايبها
وخلِّ عن عثرات الناس للناس

وقول الآخر:

لا تقْفُ زلات العباد تعدُّها
فلست على هذا الورى بمسيطر

أقول لكم اتركونا وشأننا، وإذا أردتم أن تتكلموا — بحكم العادة — فليكن كلامكم عن غير مصر من دون سائر بلاد الدنيا؛ فمصر هي أمكم، وهي عورتكم الكبرى، وشرفكم الأول .. ومن ذا الذي يستطيع أن يتطاول على شرف أمه، إلا كل نذلٍ عديم المبدأ، خسيس الأصل والمنبت، مجرد من الشهامة والكرامة والرجولة، شحيح العزة والنبل والأرومة.

مصر، يا سادة، لا ينتقدها إلا بنوها وأولادها؛ فهم وحدهم الذين يعرفونها ويعرفون كل شيء فيها، وهم أولى بصلاحها وإصلاحها وتدارك أمورها، وأقدر على رتق الثقوب وسد الثغرات في كيانها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والدولي .. مصر من قديم الزمان خير معلم وأكبر أستاذ مرشد، وأقوى ناقد ينتقد ذاته أولًا، ولا يعاير أو يطاول، ولا ينظر إلى ما في عين أخيه من قذًى، ناسيًا أو متناسيًا أعواد الخشب التي في عينَيه.

مصر فوق النقد؛ لأنها ناقدة للذات من قديم الزمان، وفي كل نكثة من نكثاتها نقد لما يجري في باطنها من عيوب ومثالب؛ فنحن نرى أنفسنا بأنفسنا ولسنا في حاجة إلى من يرى لنا، ويقوِّمنا ويقوِّم اعوجاجنا، لو كان فينا اعوجاج .. ومصر حين تنقد نفسها لا ترحم نفسها .. إنها تنكل وتضرب بيدٍ من حديد على أيدي المفسدين والمبغضين والكارهين والمارقين المنقلبين عليها العاملين ضدها .. لقد أُحرقت مصر بيد بنيها؛ لأنهم لم يكونوا راضين عن أوضاع فرضها عليهم قلةٌ متآمرة حاكمة، استبدَّ بهم الطغيان فحكموها بقلوب العميان .. هذه هي مصر الناقدة .. نقدها عنيفٌ لاذع، وحارقٌ مدمر .. وهو نقدٌ نابع من داخلها وباطنها لا بوحي من غيرها ولا بإيحاء من جيران يغارون منها، ولا شعوبٍ معادية لها.

مصر الناقدة لنفسها لا تنقد أوضاعًا في بلادٍ أخرى؛ لأنها حين تنقد تعرف حدود النقد وتعرف أصول النقد وقواعده .. وهي في هذا السبيل تطبق قول سقراط «اعرف نفسك بنفسك».

هذا ما تفعله مصر منذ أن قامت على وجه الدنيا .. لم ينقدها ناقد وأفلح، ولكن نقدها يأتي من عندها .. فكفاكم هذيانًا أيها الناقدون الحاقدون، فمصر فوق كل نقد؛ لأنها تعرف النقد ولا تنكره على نفسها، ولا تمنعه عن ذاتها لحظةً واحدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤