حكايتي مع مصر
وُلدت في مصر من أبوين مصريَّين أفهماني صغيرًا أنني مصري .. من أهل مصر .. وأن مصر هي أرضي ووطني .. قالا لي أن أهتف باسمها، فقلت: تحيا مصر .. تحيا مصر!
ولما ذهبت إلى المدرسة المصرية، علموني الوطنية، وقالوا لي إن مصر هي أمك الأولى، وإنها هي التي سترعاك ليل نهار، وإن عليَّ أن أعشقها قبل أن أعشق حبيبتي، أو من ستكون يومًا ما زوجتي وأم أولادي .. وفعلًا اعتبرتُ مصر أمي الأولى، وراح اسمها يتردد في خاطري الصغير، ومع كل دقة من دقات قلبي الطاهر النظيف؛ فأحب قلبي مصر حبًّا نظيفًا غريبًا، يختلف عن كل حب عرفه قلبي الصغير في ذلك الحين المبكر من حياتي القصيرة.
ولما نموتُ قليلًا، علمت أن مصر، التي هي أمي، تعاني مرضًا وبيلًا .. تعاني مرض الاستعمار الإنجليزي البغيض .. وعرفت أن علاج هذا المرض ليس لدى أي طبيبٍ متخصص، وإنما علاج هذا الداء موجود عندي أنا .. فأنا مصري ابن مصر، وفي يدي علاج أمي من مرضها العضال الذي أعيا نطس الأطباء .. عندئذٍ زاد اهتمامي ﺑ «مصر»، وبدأتُ أفكر في العلاج .. وتصدَّيت مع إخوتي من أبناء مصر لمحاربة الإنجليز والتصدي لهم في كل طريق ومقاومة شوكتهم بالضرب على أيديهم وعلى أيدي مَن يعاونونهم .. ولما وصلت إلى الجامعة، أدركت أن حكام مصر هم السبب في تغلغل المرض في جسم أمي .. ومن هنا بدأتْ معركةٌ جديدة مع الحكام المارقين الفاسدين .. وجاءت ثورة ٥٢ فوقفتُ معها بكل كياني، وآزرتها وكرَّستُ صوتي لها وهتفتُ لرجالها .. وفعلًا خرج الملك المستبد الذي باع أمه للإنجليز .. خرج غير مأسوف عليه تشيعه اللعنات .. وخرج معه أعوانه من حاشيته وطاقمه ومن كانوا على شاكلته .. وأُلغيت الألقاب .. وصرنا سادة بعد أن كنا مسودين .. وخرج الإنجليز وتحرَّرت أمي من مستعبِديها .. وتخلصت أيضًا من أمراضها وسقامها .. وتبدَّلت الشعارات، وتغير وجه أمي، وأصبحت أمًّا كريمة مرفوعة الرأس، وتحررت قناتها من الاستغلال وأصبحت مصرية مائة في المائة .. وغضب الغاصبون، وثارت ثائرتهم، فأغاروا عليها .. أغاروا على أمي .. ولكني كنت لهم بالمرصاد وأبيت لأمي المذلة، ودافعت عنها حتى ساعدني الله على التنكيل بهم وردِّهم على أعقابهم بقوة السلاح، وأخرجتهم بعيدًا عن عرض أمي.
وتكررت قصة الاعتداءات .. فهناك الكثيرون الذين يشتهون أمي الجميلة الحلوة، بعضهم من الوضعاء السكعاء الرقعاء، فوقفتُ أمام هؤلاء درعًا لأمي وسيفًا مصلتًا على رقابهم .. وهجم أنجاس الأرض علينا في سنة ٦٧؛ تلك السنة الغبراء .. وقطع أولئك الأنجاس إصبعًا من أصابع يد أمي، فتألمتْ أمي وأطلقتُ أنا التأوُّه والأنين بدلًا منها وظللتُ أئنُّ وأتوجَّع لآلامها .. وحاولت المستحيل لتخفيف آلامها وتسكين حدة سقامها .. وعولت على الانتقام .. وشجعتني أمي، واستبسلت هي معي وعلمتني الطريق .. وفي عام ٧٣، في السادس من أكتوبر، العاشر من رمضان المبارك، خرجت أضرب عدوي الضربة التي لم يكن يتوقعها. فقلَّت آلام أمي، وتحولت إليه سقامها، واسترجعت الإصبع المفقودة .. وزالت أوجاع مصر .. وعادت إلى ثغرها البسمة والفرحة، فهللتُ وكبَّرتُ معها، ورحنا معًا نزعق ونقول: «الله أكبر .. الله أكبر .. يوم لنا ويوم علينا .. يوم يصيبنا فيه السوء ويوم ننال فيه الخير، كل الخير.»
وظهرت أعلام السلام يرفعها قائدٌ ضرغام، هو أخي في الوطنية، وابن أمي التي أنجبتني.
جاء «السادات» العظيم، وأعلن على الملأ باسم أمي الكريمة الشريفة، حق مصر في السلام العادل حتى تعيش في راحة بال وطمأنينة، وحتى تندمل جراحها السابقة، وتستعيد أنفاسها وتستريح كل أم بعد التعب والعرق …
هذه، يا سادة، هي حكايتي مع مصر، رويتها باختصار .. والمهم في هذه القصة أنني ما زلت أحيا لأرى أمي تنهض نهضتها الجديدة .. ولكي أرى السلام يعقد عقوده الماسية فوق جيدها الأبيض الناصع.
حقًّا. إن حكايتي معكِ، يا مصر، حكايةٌ حلوة يحسدني عليها أبناء الأمم الأخرى .. لأنها حكايةٌ شريفةٌ نبيلة، خالصةٌ مخلصة، تنمُّ بحق عن منتهى الوفاء والولاء.