مقدمة الطبعة الثالثة
ها هو ذا «التراث والثورة» يعود إلى وطنه الأول، للمرة الأولى، بعد سبعة عشر عامًا من صدوره في بيروت (طبعة ١٩٧٣م).
ليس هذا كتابًا من مؤلَّفات المنفى أو الاغتراب. لقد كتبتُه في القاهرة في خِضَم أحداث ١٩٧٢م، المعروفة بحركة الطلاب والعمال والمثقَّفين، التي ضغطَت على السلطة آنذاك من أجل البدء في حرب التحرير. وقد كان من نتائج المشاركة في هذه الحركة أن تشكَّلَت محكمةٌ سياسية في الاتحاد الاشتراكي تُسمَّى «لجنة النظام» قضت غيابيًّا بطرد أكثر من مائة كاتب وصحفي. وهذا هو السبب الحقيقي والأول في ظاهرة الهجرة الجماعية لبعض المثقَّفين إلى خارج البلاد.
في تلك الفترة أيضًا كانت البداية الجديدة لاستئناف التيارات الدينية السلفية نشاطَها المتعاظم إلى اليوم. وكان «التراث» دائمًا في مقدمة الإشكاليات التي تُثيرها هذه التيارات، كأنَّ الآخرين من العلمانيين والعقلانيين والديمقراطيين لا «معرفة» لهم ولا منهج بالتراث.
ولا شك أن أصحاب الفكر العقلاني من اشتراكيين وليبراليين قد قصَّروا إلى هذا الحد أو ذاك في معالجة قضية «التراث»، ولا شك أيضًا أن الدولة الوطنية الحديثة الاستقلال كانت بسبب فكرها الإصلاحي الوسطي الهجني، أكثر تقصيرًا باعتمادها على الأسلوب الإداري-البوليسي، وفي رفضها للتيارات العلمانية أن تواجه السلفيين، وفي قمعها كذلك لتيار الإصلاح الديني، ممثَّلًا حينذاك في خالد محمد خالد وغيره.
ولكن هذا لا ينفي أن روَّاد النهضة والعقلانية في فكرنا الحديث قد تناولوا التراث دائمًا في أعمالهم، ولكن إجهاض ثورة ١٩١٩م في مصر قد انعكس سلبيًّا في قضايا شهيرة؛ مثل «الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبد الرازق، و«في الشعر الجاهلي» لطه الحسين؛ الأمر الذي دفع قطاعًا عريضًا من الروَّاد — هيكل، وطه حسين، والعقاد، وأحمد أمين، وتوفيق الحكيم — إلى التوجُّه نحو «التاريخ الإسلامي» وليس إلى التراث الإسلامي. هؤلاء كانوا يمثِّلون، بهذا القدر أو ذاك، الاتجاه الليبرالي في النهضة. أما الاتجاه الماركسي فقد كان معنيًّا في المقام الأول — باستثناء بعض المقالات المبكِّرة لمحمود أمين العالم — بشرح الاشتراكية، والدعاية لمضمونها الاقتصادي وأدواتها السياسية.
وبذلك كانت الساحة — وربما ما زال بعض أركانها الأساسية — خالية من الجهد العلمي القادر على صياغة الإشكالية صياغةً جديدة، لقد كان كتاب «تجديد الفكر العربي» لزكي نجيب محمود عام ١٩٧١م، هو آخر المحاولات الليبرالية (الإصلاحية – الوسطية – التوفيقية) لمواجهة إشكالية التراث في الإطار التقليدي لمعادلة النهضة «التراث والعصر» أو «الأصالة والمعاصَرة». ومن خارج مصر كانت هناك في الوقت نفسه محاولة الطيب تيزيني، التي حاول فيها رؤية التراث من وجهة نظر ماركسية تقليدية تُغالِب فيها الأيديولوجيا الفلسفية.
في ذلك الوقت — أواخر ١٩٧٢م — انكببتُ على دراسة «المنهج» في رؤية التراث. إن المنهج العام وحده لا يكفي؛ فالماركسية بوصلةٌ بعيدة، ولكنها تحتاج إلى المنهج الخاص — وهو هنا علم اجتماع المعرفة — وهذا المنهج نفسه يفرض مستوًى منهجيًّا ثالثًا، هو العدسة الأخيرة التي نرى بها التراث؛ أي إننا أمام نظامٍ معرفي يتكوَّن من ثلاثة أنساقٍ دلالية؛ الرؤية العامة، والرؤية الخاصة بالأدوات الإجرائية، والرؤية النوعية أو مجال المعرفة.
هذه الدراسة إذن ليست عن أو في التراث، وإنما هي تطمع للمشاركة في تأسيس «منهج» عيني لدراسة التراث.
وقد صدرَت طيلة السبعينيات مساهماتٌ بالغة الأهمية للشاعر أدونيس في «الثابت والمتحول»، ومحمد عابد الجابري في «نقد العقل العربي»، وهي محاولاتٌ في المنهج أكثر مما هي دراسات في التراث. وكان من الممكن الحوار مع هذه المحاولات الجادة والجديدة، في الطبعة الجديدة من هذا الكتاب، لولا أنني حرَصتُ على إعادته إلى وطنه، في الهيئة ذاتها التي وُلد بها للمرة الأولى على أرض هذا الوطن.
وأيضًا لأن «التراث والثورة» مجرد حلقة في مشروع يطمح للتكامل، بدأ من «النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث» ثم «الثورة المضادة في مصر» إلى «أقنعة الإرهاب: البحث عن علمانية جديدة»، و«أقواس الهزيمة: وعي النخبة بين المعرفة والسلطة».
إنه مشروعٌ واحد أرجو أن يشكِّل مساهمةً متواضعةً في بناء الوعي العقلاني الجديد.
القاهرة، ١٥ / ٢ / ١٩٩٠م