مقدمة الطبعة الثانية
١
في أوائل عام ١٩٧٢م، كانت بلادي تموج بحركةٍ ديمقراطية يقودها شباب الجامعة. ولم تكن هذه الموجة الأولى من نوعها. كانت مصر منذ فبراير ١٩٦٨م — أي بعد الهزيمة بثمانية أشهر — قد هبَّت مزمجرةً في وجه صُنَّاعها. وكانت الديمقراطية بمعناها الليبرالي هي أعلى الرايات التي ارتفعَت حينذاك، كحلٍّ بديل للوجه الدكتاتوري الذي طالع الناس في ذلك الوقت، كسببٍ يتيم للهزيمة.
ومع الزمن أخذَت حركة الطلاب — والمثقَّفين عامة — تتطور وتتبلور؛ تغيَّر أسلوب التظاهر لدرجة الاعتصام في الشوارع، وتغيَّرت الشعارات المرفوعة. أصبحَت المؤتمرات داخل الجامعة ومجلات الحائط والبيانات هي الأشكال الجديدة للتعبير عن المطالب الديمقراطية. واحتلت المسألة الوطنية مركز الدائرة ولم تعد الليبرالية بمدلولها البرجوازي هي راية النضال، بل أضحَت «الحريات الديمقراطية لأوسع جماهير الشعب» هي الإطار الفكري المصاحب لإعداد الوطن إعدادًا ثوريًّا لمعركة التحرير.
ولم تكن حركة الطلاب — المثقَّفين عامة — حركةً متجانسة، وإنما كانت تضُم العديد من التيارات، التي تعكس الأصول الاجتماعية والجذور الفكرية لشباب الجامعات والمهنيين، من محامين ومعلمين ومهندسين وصحفيين وغيرهم.
وبالرغم من أن توقيت حركة الطلاب المصريين عام ١٩٦٨م يزامن حركة الطلاب في أوروبا — والعالم — إلا أنني أحب التركيز على الملامح الخاصة لحركة الطلاب المصريين. ربما كان صراع الأجيال، ومناهج التعليم الجامعي، والحرب الفيتنامية، والازدهار المفتعل لمجتمعات الاستهلاك، من الأسباب الجوهرية للانتفاضات الطلابية في الغرب. وربما كانت «روح العصر» تنعكس بمجموعةٍ من السمات المشتركة على جبين الحركة الطلابية في العالم أجمع؛ لذلك يمكن القول — من هذه الزاوية — إن عام ١٩٦٨م كان توقيتًا «عامًّا» يضُم تحت مظلته مختلف حركات الشباب في أوروبا وأمريكا وآسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، ومختلف الأنظمة الاشتراكية والرأسمالية بدرجاتهما المتفاوتة.
ولكن عام ١٩٦٨م، من زاويةٍ أخرى، كان يجسِّد في نفس الوقت «زمنًا نوعيًّا خاصًّا» للشباب المصري؛ فلم يكن قد مضى على احتلال بلادنا أكثر من ستة أشهر. وكانت الهزيمة في حزيران ١٩٦٧م حصيلةً دامية لسلبيات النظام المصري طيلة الأعوام الخمسة عشر السابقة عليها. كانت تفسيرًا مُروِّعًا لتركيبة هذا النظام الاجتماعي. ليس من شكٍّ في أن الاستعمار والصهيونية كانا يرميان إلى ضرب الإيجابيات القليلة التي حصل عليها الشعب المصري، ولكنَّ هذَين العدُوَّين المتحالفَين استراتيجيًّا وتكتيكيًّا وجدَا الطريقَ أمامهما ممهَّدًا، بفاعلية العوامل السلبية المريرة في الهيكل الاجتماعي، سواء من ناحية أسلوب الحكم — حيث يتناقض الشكل الفردي مع المضمون الاجتماعي — أو من ناحية علاقات القوى الطبقية؛ حيث يختل ميزان التعبير السياسي عنها في السلطة، أو من ناحية الهوة السحيقة بين الشعار المعلَن والعمل — حيث تتناقض الواجهة الرسمية مع الواقع الفعلي للثقافة.
في هذا المناخ المُعبَّأ بالرائحة للهزيمة (احتلال جزء من التراب الوطني) ورائحتها الكثيفة (القهر والتخلف) تحرَّك الطلاب المصريون لا بدافع مشكلات جامعية — وإن كانت واردة — ولا بدافع ازدهار مجتمعٍ استهلاكي، وإن كان هذا أيضًا واردًا بالنسبة للفئات العليا والطفيلية من الطبقة المتوسطة، إنما تحرَّك الطلابُ المصريون لا كتلامذة جامعات، بل كوكلاء عن طبقاتٍ وشرائحَ اجتماعيةٍ متباينة المصالح والأيديولوجيا؛ أي إننا لا ينبغي أن ننظر إلى حركة الشباب المصري على أنها حركةٌ طلابية فحسب، شأنها في ذلك شأن الحركات الطلابية الأخرى، وإنما علينا أن نتذكَّر دومًا أنها «حركة اجتماعية» في الأساس، جذور تمرُّدها غائرة في الأرض الاجتماعية (المحتلَّة المتخلِّفة، المقهورة) أكثر مما هي نابتة من مدرَّجات الجامعة وقاعاتها وبرامج التعليم فيها. ولأنها حركةٌ اجتماعيةٌ متشبعة الجذور، فهي ليست متجانسة تمامًا، بل تختلف انعكاسات الوضع المتأزم على قطاعاتها اختلافًا حادًّا.
لذلك كان الجناح الناصري — وسط الحركة الطلابية المصرية — هو الجناح الرئيسي، بينما كان هناك على اليسار جناح ماركسي ولكنه مؤثِّر، وعلى اليمين جناحٌ إسلاميٌّ صغير ولكنه مؤثِّر هو الآخر. هذا بشكلٍ عام، ولكن الأحداث طيلة السنوات الأربع التالية لعام ١٩٦٨م كانت تحمل في طيَّاتها بذور الاستقطاب؛ لذلك التقَت شرائحُ عريضة من الناصريين مع الماركسيين في كثيرٍ من النقاط المحورية كالحرب الشعبية، واقتصاد الحرب، والدعم المعلَّق للمقاومة الفلسطينية، وعلمانية الدولة ودستوريتها، وحرية الطبقات الوطنية في التنظيم السياسي المستقل. كذلك التقَت شرائحُ عريضةٌ من الفئات المتدينة مع التيار الإسلامي الذي تكوَّن من فلول الإخوان المسلمين وشباب محمد.
وكما أن هذه التيارات لم تكن بمَعزِل عن الصراع الاجتماعي الدائر في مصر، فإنها كذلك لم تكن بمَعزِل عن صراعات السلطة المصرية. وقد انعكس هذا الاستقطاب العنيف على كافة المؤسَّسات التشريعية والتنفيذية (مجلس الشعب، الاتحاد الاشتراكي، الحكومة). وقد أدى هذا الاستقطاب في جوهره إلى «مواجهة» مباشرة بين اليمين واليسار، بعد أن سقط «الوسط» المعتدل (البرجوازيون الوطنيون الليبراليون) في غَمرة الصراع الضاري. حتى الاتجاهات المستنيرة في المحيط الإسلامي تم إقصاؤها، سواء بالتحييد أو بالقهر.
وكان لهذا الاستقطاب دعائمه الاقتصادية البارزة في هجوم رءوس الأموال العربية الكبيرة على مصر، واتساع حركة الاستثمارات الغربية، مما تطلب إجراء مراجعات للتشريعات الاقتصادية التي كانت تحول دون تطفُّل رأس المال على خطة التنمية والهيكل العام للإنتاج. واستتبع ذلك بالضرورة تنازلاتٍ اجتماعيةً واضحة للشرائح المتوسطة من البرجوازية المصرية، خاصةً أغنياء الريف، على حساب الشرائح المتواضعة من البرجوازية الصغيرة والفلاحين والعمال (الذين أفتى مجلس الشعب بشأن وضعهم الدستوري فيما بعدُ بأنه ليس من الضروري تمثيلهم بخمسين في المائة، وإنما «في حدود» هذه النسبة، وكان النص القديم في الميثاق الوطني صريحًا «بألا تقل» هذه النسبة عن ٥٠ في المائة).
على ضوء هذه الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية، نستطيع أن نفهم الإجراءات السياسية التي تبدأ بإخراج المستشارين السوفييت، ولا تنتهي بإخراج الكُتَّاب والصحفيين والتقدُّميين ومحاكمات الطلبة والمثقَّفين. وفي هذا الضوء أيضًا نفهَم المناخ الأيديولوجي الرسمي الذي ساد مرحلة الاستقطاب العنيف. وهو المناخ الذي تبنَّى بشكلٍ قاطع النظرة الغيبية والفكر الثيوقراطي، وهو المناخ الذي تولَّدَت عنه نعراتٌ طائفية لم تعرفها مصر، وليست من خصائصها القومية. وهو أخيرًا المناخ الذي يرتدُّ على أعرق التقاليد والمكتسَبات الفكرية التي أحرزَتْها الثقافة الوطنية في مصر خلال قرنٍ كامل من الزمان. وأصبح كاتبٌ مثل مصطفى محمود بدأ حياته «الله والإنسان» منحازًا لجانب التقدُّم، أصبح يجد في كتابه «القرآن: محاولة لتفسير عصري» أن الجنة والنار هما الثواب والعقاب، وأن الهزيمة والنصر من صنع الله. وأصبح كاتبٌ كأنيس منصور بدأ حياته بكتابٍ عن «الوجودية» ينتهي به الأمر لأن يؤلف سلسلةً من الكتب عن «تحضير الأرواح»!
والكُتاب الوطنيون التقدُّميون مغلولو الأيدي مكسورو الأقلام، والهلوسة الغيبية تتغلغل في كل بيتٍ عن طريق الإذاعة والتليفزيون والصحافة اليومية والأسبوعية. وحركة الطلاب وحدها — بمَدِّها وجَزْرها — تبدو شعلة الأمل الوحيدة في ليلٍ حالك السواد.
والكاتب حين يجد نفسه عاجزًا عن الفعل، لن يستطيع أن يكبت في عقله الفكر، وإلا تعرَّض لهزَّاتٍ عصبيةٍ ضارية، أودَت ببعض زملائنا إلى مستشفى الأمراض العقلية، وقادت البعض الآخر إلى حافة الانتحار. وإنني أذكُر الآن جيدًا كيف كانت حالي والكثيرين غداة الهزيمة. كنا نجوبُ الشوارع كالمجانين، رغم كل الإشارات التي أحسَسْنا بواسطتها أن البيت آيلٌ للسقوط. ولم ينقذني شخصيًّا من الانتحار سوى أنني انكببتُ على العمل ليل نهار؛ كتبتُ «أمريكا والحرب الفكرية» قُبيل العدوان وأثناءه، كتبتُ «أدب المقاومة» بعد الهزيمة مباشرة، ترجمتُ «أدب المقاومة في فيتنام». وكنتُ وغيري نقوم بالعمل في حماس وهرولة وانفعال المقاتلين لا بعقلية «المشتغلين» بالفكر والثقافة، وكان العمل — بعيدًا عن أبعاده الموضوعية — يشفي جراحًا شخصية في نفوسنا.
هكذا أيضًا كان مناخ المعركة الداخلية، التي لم تكن سوى الوجه الآخر لنفس العملة؛ الرد على الهزيمة!
وأخذت أفكر في تأليف كتاب من نوعٍ جديد لا يؤرِّخ لحركة الطلاب، بقَدْر ما يعكس آفاقها الفكرية الجديدة، وارتباطها بحركة المجتمع نحو التحرير الوطني والديمقراطية. كانت تهمُّني «القضايا» التي أثارتها أكثر من «الأحداث» التي وقعَت. وكانت تعنيني «الحرب الشعبية الطويلة الأمد»، و«إعداد الدولة والشعب للحرب» أكثر مما يعنيني شكل التظاهر وصورة الإضراب وإطار الاعتصام. وكان الطلبة يهمُّونني من زاوية ارتباطهم بالعلاقات الاجتماعية القائمة في الوطن، لا من زاوية أسمائهم المدرجة في سِجلَّات الجامعة. باختصار، كانت حركة الشعب المصري، مُعَبَّرًا عنها في طليعة شباب الجامعة هي محور تفكيري واهتمامي.
ورحتُ أجمع الوثائق والبيانات والمنشورات التي صدرَت منذ عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٢م، ورحتُ أدرُس حركات الطلاب المصريين منذ عام ١٩١٩م إلى عام ١٩٣٥م، إلى حادث كوبري عباس الشهير، إلى تجمع اللجنة الوطنية للطلبة والعمال عام ١٩٤٦م، وقد كان أخطر تجمُّع ديمقراطي في تاريخ مصر الحديث. ورحتُ أجمع الأشعار السرية والمقالات والقصص والمسرحيات التي نُشرَت في مجلات الحائط والتي لم تُنْشر. ووضعتُ عنوانَ الكتاب هو «ثورتنا الثقافية قبل ساعة الصفر» واتفقتُ مع أحد الناشرين في لبنان على إصدارٍ للكتاب. وكانت المشكلة: هل يصدُر بتوقيعٍ مستعار أم بتوقيعٍ علني؟ وتحمَّس أحد الأصدقاء من الفنانين وصمَّم غلاف الكتاب أكثر من مرة. إحداها كانت صورة الشيخ إمام في المقدِّمة وصورة الشاعر أحمد فؤاد نجم على الظهر. وإحداها كانت صورة الشباب الجامعي عام ١٩٦٨م، وصورة أخرى عام ١٩٧٢م وسط القنابل المسيلة للدموع وهِراوات العسكر.
وأصبح بريدي في الأهرام عجيبًا؛ رسائل لا حصر لها من أناسٍ لا أعرفهم يبعثون لي بذكريات ووثائق وبيانات لا تخطر على بال، وزملائي في «الطليعة» ينظرون إلى الملفَّات المتكدسة أمامي من الأرشيف، بدهشةٍ بالغة: ماذا يكتب؟ وما هذه السرعة المروِّعة التي يملأ بها البطاقات والأفيشات؟
كنا في معركة! ومعركةٍ مكشوفة بكل مخاطر العمل العلني. كلٌّ منا يبحث عن دور، نحن أبناء الجيل السابق الذي عانَى أهوالَ العشرين عامًا الماضية، وكان حسابه مدينًا أكثر مما هو دائن. كانت حُمَّى وطنية حقيقية، انتشرَت في جسم الجيل المعذَّب كالوباء. وكان الكُتاب والفنانون منا أكثر إحساسًا بالشعور الفاجع والفرحة المتوثِّبة بين الضلوع. إن زملاءنا من المهندسين أو المحامين أو الأطباء أو المعلِّمين، كانوا أكثر انسجامًا مع ضمائرهم، أما نحن فالفكر والتعبير هو مهنتنا وحياتنا ورسالتنا؛ لذلك كان العبء علينا أكبر وأثقل وطأة. وكان حساب الماضي عسيرًا، والأجيال الجديدة بروح العصر تحسب للمستقبل أكثر مما تحسب التاريخ. لم يهمَّهم كَم مات منا في التعذيب، كم جاع وتشرَّد ونُفي وجُن. كان يهمُّهم من نحن الآن!
وكان اليمين الرجعي المتخلف قد انتهَز الفرصة التاريخية التي ظل يحلُم بها طول العمر. أفكار الإخوان المسلمين استيقظَت فجأة من رُقادها المُحتفِز تنتظم في مجموعاتٍ بشرية وفي الصحف. وتحوَّلَت قضية «التراث» إلى رايةٍ يلتفُّ حولها الفكر الرجعي في أكثر أشكاله تخلفًا. واختلط التراث بالدين بالعروبة، وأضحت المسائل هياجًا عصيبًا ملتاثًا.
ووجدتُني أُفرِد الفصل الأول من «ثورتنا الثقافية قبل ساعة الصفر» للتراث. أكوامٌ من المقالات والكتب والمنشورات والمحاضرات والندوات تكدَّسَت أمامي فجأة، هرمًا عاليًا من الأفكار الرجعية المتطرِّفة. وأمست القراءة والكتابة — وسط هذه الحمَّى الملتهبة — نوعًا من الدفاع عن النفس، وإنقاذًا سريعًا لما يمكن إنقاذه. الاستقطاب يزداد حِدَّة. الليبراليون في دفاعهم عن الديمقراطية والعلمانية يلتقون مع اليسار بشتى أجنحته. الانتهازيون والمأجورون يلتقون مع اليمين المتطرف بمختلف اتجاهاته. والمعركة دائرة في الشارع والبرلمان، والحكومة ثم تجاوزَت الأسوار المحلية إلى الصعيد العربي، ولم تلبث أن انتقلَت إلى المحيط الدولي من تشاد إلى الفيلبين إلى أيرلندا.
كانت — ولا تزال — حربًا حقيقية. من تحت الأرض وفوقها، تنفجر البراكين والزلازل، ويعمل المناضلون ويُستشهَدون. وتحوَّل الفصل الأول من «ثورتنا الثقافية قبل ساعة الصفر» إلى كتابٍ مستقل، إلى رصاصة لا بد من إطلاقها على الفور، بدلًا من الانتظار حتى يكتمل عدد الرصاص اللازم للمِدْفع. وأبرقتُ للناشر عما تطوَّرَت إليه الأمور. إن الانتظار حتى يكتملَ الكتاب المتفَق عليه لا يتناسب مع سرعة القتال الضاري على أرض المعركة. وجاء الناشر بنفسه إلى القاهرة ليقول لي: إنني موافق على ما تراه لازمًا. ولم يكن فصل — أو كتاب — «التراث والثورة» قد اكتمل، فأعطيتُه الأجزاء المنتهية حتى تبدأ المطبعة، خاصةً وأننا قرَّرنا ألا أبعث المخطوط بالبريد (!) وكلما انتهيتُ من عدة صفحات أرسلتُ بها إلى الآلة الكاتبة أولًا فأول، وأصدقائي يقومون بالتصحيح، أنا أواصل القراءة والكتابة ليلَ نهارَ بلا مجاز. إنها أيامٌ تفجَّر فيها النشاط — بكافة معانيه العضوية والنفسية — كالمعجزة. كنا نغلي كالمراجل في سباق الحياة والموت.
وانتهت المخطوطة، وغامَر أحد الأصدقاء الفلسطينيين المناضلين بحَملها إلى بيروت. كلما تصوَّرتُ أن المطبعة قد دارت، وأنها لا يمكن أن تتوقف انتظارًا لبقية الصفحات، كان القلق يأكلني. كنتُ أكتب ولا أراجع، أترك للرفاق أن يستكملوا العمل.
وبعد أسبوعٍ واحد ظهر «التراث والثورة» في أسواق لبنان، وصلَتْني برقية من قارئةٍ صديقةٍ تعلن لي النبأ. ولكم أشفقتُ على الناشر الذي كان يعنيه صدور الكتاب أولًا وأخيرًا، وبأسرع وقتٍ ممكن، هو والكتب المماثلة في الموضوع والتيار الفكري، أشفقتُ عليه من «المصادرات» التي تنتظره في مكاتب رقباء الوطن العربي الكبير، وأشفقتُ عليه من «المغامرة» كلها!
لقد أردتُ بهذه «الذكريات» أن أضعَ القارئَ في المناخ الذي صنع هذا الكتاب؛ إنه لم يكن مناخًا أكاديميًّا بحال، وإن لم أتخلَّ للأسف عن عقليتي الأكاديمية بطبعها. ولم يكن مناخًا هادئًا مستقرًّا يسوده ترَفُ التأليف الجامعي الطويل البال، وإن لم أتخلَّ للأسف عن تقاليد الفكر الجامعي في التأليف. إنه ثمرةُ إحدى المعارك المريرة في وطني، كُتب في أتونها وتجسَّد في أُوارها، واستنشَق دخانها، فظهر يحمل كافة الانعكاسات المحتومة لهذا المناخ. إنه كتابُ مقاتلٍ في جبهةٍ مشتعلة بالنيران من كل جانب، وهو يتخذ مكانًا بالغ التحديد في الصراع اللاهب. وربما بدت قضية «التراث» لأول وهلةٍ قضيةً «ثقافية» من الترف النظري أن تصبح موضوعًا للحرب. ولكنها في الحقيقة تحوَّلَت إلى قضيةٍ اجتماعية وسياسية مُلِحَّة وعاجلة من الدرجة الأولى.
٢
ولستُ هنا في معرض الرد أو الدفاع أو حتى التعليق، على ما جاء في مقالات بعض النقاد، وإنما أودُّ أن أستكمل بالحوار معهم ما فاتهم أو فاتني أثناء قراءة الكتاب أو تأليفه.
وسوف أبدأ بالجانب الإيجابي الذي تفضَّل البعض بالإشارة إليه، وهو تعريفي «الجديد» لتعبير الأصالة والمعاصرة. يُخيَّل إليَّ أن هذا البعضَ كان مطالبًا بإيضاح هذا الأساس النظري للكتاب إيضاحًا تفصيليًّا كاملًا؛ لأنه بالإضافة إلى كونه العمودَ الفِقري للبحث، فهو أيضًا زاوية الاختلاف المنهجية بيني وبين أولئك الذين ناقشوا قضية التراث في الماضي، وما زالوا يناقشونه في الحاضر، على ضوء أن الأصالة تعني التراث «الذاتي» وأن المعاصرة تعني التراث «المستورد». إن الجديد الذي أشار إليه البعض هو أنني جعلتُ من «الاحتياجات الموضوعية للواقع» هي المؤشِّر الدقيق إلى ما نحتاجه من تراثنا أو تراث غيرنا. وإن الأصالة — من ثَم — هي تلبية هذه الاحتياجات في اتجاه التقدم التاريخي للمجتمع، أيًّا كان المصدر الذي نستلهم منه هذه التلبية؛ أي سواء كان تراثنا أو تراث غيرنا لا يهم. لقد كان روَّاد نهضتنا الحديثة أُصَلاء بهذا المعنى رغم أنهم أخذوا الكثير عن أوروبا، بل بسبب هذا الأخذ. ولو أنهم وَلَّوا وجوههم عن أوروبا ويمَّموا شطر التراث «الذاتي» وحده، لما استطاعوا إنجاز المهمة التاريخية الملقاة على عاتقهم، وهي تلبية احتياجات «النهضة»؛ أي لَمَا كانوا أُصلاء! أما المعاصرة فهي بإيجاز استلهام أحدث منجزات الفكر العلمي الثوري في التغيير الاجتماعي. المعاصَرة «منهج» في التفكير، وليست السيارة الكلاديلاك أو الثلاجة الكهربائية أو الطائرة الجامبو. ولن نكون معاصرين حقًّا بغير هذا المنهج، القادر على تحويل مجتمعنا الفقير المتخلف المقهور، إلى مجتمعٍ ديمقراطي متقدم.
اقتصَر البعض إذن على تَبْيان الفهم الجديد لتعبير الأصالة والمعاصرة، وكان عليهم إحاطة هذا التعبير بركائزه المنهجية التي فصَّلها الباحث في البابَين الأول والثاني؛ حيث أعطيتُ تصورًا لكلمة «التراث» يُسهِم في مراجعة الكثير مما بنَيْناه — خطأً — على مرِّ السنين من أن التراث في لغتنا يعني التراث العربي الإسلامي وحده. وليس هذا صحيحًا؛ فالتراث — في حدود الاجتهاد الذي أبديتُه على طول الكتاب وعرضه — ليس مقصورًا على «تاريخ الإسلام في المنطقة»، وإنما هو يمتدُّ في جوف الزمن إلى تلك الحضارات القديمة التي عرفناها في سومر وبابل، فينيقيا ومصر الفرعونية وغيرها. والتراث ليس وحداتٍ ثقافيةً منفصلة، وإنما هو شريانٌ حي متصل بوعي أو بغير وعي في دمائنا. والتراث ليس هو الطابع أو الخصائص القومية، وإنما هو أشمل من ذلك وأعمق؛ ذلك أن الحضارة الإنسانية دوراتٌ جدلية لا تنتهي؛ وبالتالي فهي تستوعب أبقَى ما في تُراثات الشعوب لتُحيلَها، مع المنجَزات الجديدة في العالم، إلى تراثٍ إنساني، من حق الكائن البشري، أيًّا كان لونه أو دينه أو جنسه في هذا الوجود، أن يأخذ منه، وأن يضيف إليه. والتراثُ ليس هيكلًا من المعاني والقيم المتسقة المتكاملة، وإنما هو تعبيرٌ اجتماعي تتباين فيه الأفكار والمشاعر من طبقة إلى أخرى.
تأسيسًا على هذا التصوُّر لمعنى التراث تصبح هناك ثلاثة وجوهٍ رئيسيةٍ للكلمة؛ الوجه الطبقي، والوجه القومي، والوجه الإنساني. وهذه الوجوه الثلاثة هي التي تحدِّد وتحلُّ المشكلات التي تصادفنا في هذا الصدد، كلما رفعَت العربية الرجعية شعارَ التراث في وجوهنا، على النحو التالي:
التراث من أحد وجوهه طبقي؛ وبالتالي فهو ليس «مقدسًا ميتافيزيقيًّا» لا يُمس! لقد كان ولا يزال — في المدوَّن وغير المدوَّن منه — تعبيرًا عقليًّا ووجدانيًّا عن قوًى بشريةٍ غير متجانسة، عاشت قبلنا بمئات وآلاف السنين. ولما كان المجتمع الطبقي — في جوهره — ما زال جاثمًا على قطاعٍ عريض من سكان الكرة الأرضية، فإن كل طبقة تُحْيي قيَم أسلافها بالطريقة التي تخدم مصالحها مباشرة. حين ظهر «علم الفولكلور» في أوروبا كان من علامات الحركة الرومانسية أن «التراث الشعبي» أصبح تعبيرًا مقدسًا كأنه يرادف كلمة «الشعب»، بينما هناك قسمٌ كبيرٌ من هذا الموروث الشعبي، في الأمثال والمواويل والحكايات والحواديت، يخدم مصالح النبلاء والإقطاعيين، ويروِّج لأيديولوجيتهم. وإضفاء صفة القداسة على هذا الموروث هو نوعٌ من الإرهاب اللاعقلي، الذي يسيطرون به على «العامة»، مستغلِّين سذاجتهم وأميَّتهم وحاجتهم. وعلى المنهج الثوري في فهم التراث أن يركِّز على وجهه الطبقي، وينزع عنه مكياج القداسة المزيف؛ فهو من صنع بشرٍ مثلنا، كان بعضُهم ولا يزال يرتكب الجرائم باسم هذه المقدَّسات ضد بشرٍ آخرين، وصلَتْنا منهم أنَّاتُ العذاب وبعضُ شهقات الموت وبعضُ انفعالات التمرُّد.
إن قومية التراث هي الأخرى تحتاج إلى مناقشة؛ فالقوقعة التي يريد لنا البعضُ أن نسكُنها باسم العروبة والإسلام، لا علاقةَ حقيقيةً بينها وبين الطابع القومي للتراث؛ ذلك أن تجاهُل السياق التاريخي لتراثنا يَحْرمنا الكثير من حلقاتٍ ثمينة في هذا السياق. إن على مَن يتبجَّح في وجه المرأة العربية المعاصرة باسم التراث ليسجنَها في حريم الجواري، أن يرجع إلى تشريعات حمورابي مثلًا ليرى أن المرأة قد نالت يومًا في تُراثنا من الحقوق ما لم تنَلْه المرأة الأوروبية بعدُ. إن مَن يتبجَّح في وجه التقدم العلمي العربي أو في وجه الديمقراطية العربية بأن «تراثنا» يُعادي هذه «البدع»، فإن عليه أن يرجع إلى التراث الفينيقي والتراث الفرعوني ليرى أنها لم تكن بدعًا، بل كانت — في بعض الأحيان — أسلوب حياة.
إن القول بأن التراث العربي الإسلامي، وبالذات أكثر فتراته تخلفًا، هي الألف والياء والبداية والنهاية لتراثنا، هو قولٌ عنصري يُفقِر تراثنا ولا يُغنِيه. إننا شعوبٌ عريقة في مضمار الحضارة، ومن المفارقات المؤسفة حقًّا أن يهتم «الأجانب» بهذه العراقة أكثر منا. والقول بأن تاريخنا الحضاري يضُم في إهابه كافة العصور والمراحل والدورات الحضارية، فوق أنه نشرةٌ علميةٌ دقيقة للأمور، فإنه يُغنينا بكثيرٍ من الإجابات «التراثية» على مسائلَ راهنةٍ يطرحها العصر، هذا فيما لو لم نتنكَّر لماضينا في تسلسُله التاريخي بسلبياته وإيجابياته. إن السلبيات والإيجابيات تحدِّدها زاوية النظر التي أُبصِر منها حركة التاريخ، وزاوية النظر يحدِّدها موقفي الاجتماعي ووضعي الطبقي وتكويني الخاص. وكافة مراحلنا التراثية يتجاوَر فيها السلب والإيجاب تجاوُر الطبقات القائمة وصراعها بعضها مع بعض. وحسب موقعي الحالي في حركة المجتمع الذي أعيش فيه سوف أختار إيجابيات «كل العصور» أو سلبياتها، أما أن يبدأ تاريخي بالمرحلة العربية الإسلامية وينتهي بها، فهو تصوُّر غيبي عنصري، وأما اختيار أسوأ فترات هذه المرحلة بالذات، فإنه موقفٌ رجعيٌّ متطرف.
لذلك لم تمُت أبدًا منجزاتُ حضارة الشرق القديم وإبداعاتُ الحضارة العربية الإسلامية، وإنما هي امتُصَّت في أراضٍ أخرى، وتطوَّرَت عن أصلها السابق، ولكنها تحتفظ بعُصارتها القديمة شاهدًا على أن هذا الجزء أو ذاك من العالم قد أعطى يومًا ما «للإنسانية» الشيء الكثير. إن سفينة الفضاء السوفييتية أو الأمريكية لم «تُخلق» هكذا فجأة من العدم، بل هي ثمرةٌ بالغة التعقيد والتطور، لسياقٍ تاريخي طويل شارك في صنعه العلماء السومريون والفينيقيون والفراعنة والهنود واليونان والرومان والعرب، وكل أرضٍ أبدعَت علم الحساب والهندسة والفلك والطبيعة! إن كل رواية أو قصيدة أو مسرحية عظيمة في الغرب المعاصر هي ثمرةٌ شرعية لآلاف الجهود العبقرية المُبدِعة، التي سبق أن أعطت عطاءها في الشرق والشمال والجنوب. وهكذا، فالحضارة «الحديثة» ليست إبداعًا أوروبيًّا خالصًا، بل هي الحضارة «الإنسانية» في مرحلة «أوروبية»؛ فقد اتخذَت مركزها الراهن في أوروبا لأسبابٍ عديدة، ليس هنا مجال ذكرها، ولكن ليس هناك ما يمنع انتقالها في المستقبل إلى مكانٍ آخر، كما أن نصيبنا فيها لا يقل عن نصيب الإنسان الأوروبي المعاصر.
يترتَّب على هذا التصور مسألتان أساسيتان؛ إنه ليس «استيرادًا» ما نأخذه عن أوروبا، وإنما هو أحد طرفَي عملية التفاعل الحضاري، الأخذ. وقد كنا الطرف الآخر — وهو العطاء — في زمنٍ مضى. بهذا المعنى فهم لا يُسدِّدون دَينًا، كما يحلو للبعض أن يردِّد، وإنما هم — أولئك الأوروبيون المعاصرون — يتفاعلون معنا بالعطاء كما كان حالنا معهم من قبلُ. وحتى نستطيع أن نعطي في المستقبل علينا أن نتخلص من العُقَد ومركَّبات النقص إزاء هذا الأخذ؛ لأنه حقٌّ إنسانيٌّ مشروع، وعلينا ألا نُسمِّيَ هذا الأخذ «استيرادًا» لأن التفاعل الحضاري لا يقوم على البيع والشراء، بل على تلبية احتياجات مواقع التخلف الحضاري، التي من شأنها أن تُضعِف سياق الحضارة ومعدَّل سرعة التقدم بالإنسانية جمعاء. وعلينا ألا نفصل بين الوجه المادي والوجه المعنوي للحضارة الحديثة، حتى لا نصبح عالةً عليها، بأن نستهلك الثمرة — كالآلات والماكينات — دون استيعاب السياق الفكري الذي أدَّى إليها. إن الدعوة إلى استيراد الأسلحة والطائرات وأحدث منجَزات التكنولوجيا الأوروبية دون «الأفكار»، هي دعوة الطبقات الرجعية المتخلفة، التي يعنيها في الكثير أن يظل تقدُّمنا «قِشريًّا» استهلاكيًّا بتفريغه من محتواه الفكري. هكذا نستطيع أن نفسِّر حالة الفِصام العقلي الذي تعانيه الثقافة العربية في بعض نواحيها، كأستاذ الكيمياء الذي يُطبِّق قوانين العلم بين جدران المعمل، فإذا عاد إلى البيت طبَّق قوانين الغاب في تربية أولاده، وقوانين العصور الوسطى في معاملة زوجته، وفي المساء يذهب إلى جمعيةٍ لتحضير الأرواح.
والمسألة الأساسية الثانية فيما يخص الوجه الإنساني للتراث، هي أن الحضارة الحديثة بدورها ليست متجانسة، وإنما هي متناقضة فيما بينها تناقُض النظامَين الرئيسيَّين في العالم. لقد أثمرَت الحضارةُ الحديثة النظامَ الرأسمالي، فالاستعمار، ولكنها أيضًا أثمرَت الاشتراكية والنظام الاشتراكي. وفي صفوفنا يمينيون أذكياء يَدْعون إلى الحضارة الحديثة حقًّا، ولكن من موقعٍ طبقيٍّ بالغ التحديد، يلتقي موضوعيًّا ومباشرة مع الوجه الرأسمالي — وأحيانًا الاستعماري — للحضارة الحديثة. أما اليسار المعاصر فإنه يتجه صوب الوجه الاشتراكي في صورته الأيديولوجية الصحيحة.
•••
هذه بعض الإيضاحات التي كان يغنيني في الكثير أن تستكملها الزميلة يمنى العيد حين تكلَّمت عن مفهومي للأصالة والمعاصرة. إن هذا التفصيل كان واجبًا، بل لازمًا حتى يضع القارئ يده على جوهر «التراث والثورة» بدلًا من الاكتفاء بالإشارة السريعة العابرة إلى «عناوين» و«رءوس موضوعات». وأكرِّر القول إن نُقاد «التراث والثورة» كانوا إيجابيين في هذا الجزء من عرض الكتاب، ولكن كنتُ أودُّ لهذه الإيجابية أن تكتملَ بمثل هذا التحليل — أو الشرح والتوضيح بمعنًى أدق — الفكرة الرئيسية.
وفي تقديري أن هذه نقطةٌ خطيرة تستلزم التأمل الطويل، رغم أن الكاتبة ساقَتْها بهرولة وعلى عجَل؛ ذلك أنه إذا لم يكن هذا الكتاب، في مجمله العام وتفاصيله الدقيقة على السواء، مؤسَّسًا على الدعامة الفكرية الراسخة للماركسية، فإنني بصراحةٍ كاملةٍ أكون قد أخفقتُ؛ إما في فهم الماركسية، أو في فهم المجتمع، أو في فهم التراث، أو في هذا كله مجتمعًا!
ولكن الحقيقة ليست على هذا النحو الحاد؛ فالبعض يفهم الماركسية بصورة تجاوزَتها الماركسية بزمنٍ طويل. منطلَقهم الأساسي صحيح، وهو منطلَقي في نفس الوقت، وهو القول بأن الصراع الطبقي محور كافة الظواهر المتفرِّعة عنه، ولكن الصراع الطبقي ليس تعويذةً أو تميمةً سحرية، وإلا تحوَّل إلى مفتاحٍ ميتافيزيقي يفتح الأبواب المغلَقة بعبارةٍ واحدة هي «افتح يا سمسم». إن الصراع الطبقي هو الأساس الموضوعي للتطور، ولكن تفاصيل هذا التطور تحتاج إلى التوغل داخلها، والتعمق في دقائقها، حتى نستطيعَ أن «نُضيفَ» إلى منهجنا العلمي، ولا نتحول إلى مجموعة من السحرة أو الكهنة، الذين يكتفون بتلاوة الصلوات في معبد، يستمطرون الآلهة أن تمنح وتعطي. إننا نختزل الماركسية اختزالًا يشوِّه جوهرها الحي حين تتحوَّل على أيدينا إلى جملة «مقولات» جامدة. ماذا نضيفُ إلى المعرفة الماركسية بعالمنا إذا فسَّرنا أي ظاهرة بقولنا «الصراع الطبقي» وسكَتنا؟ لا شيء مطلقًا، بل إننا نُفقِرها، ونقدِّمها لقمةً سائغة لأعدائنا. إن مهمتنا فيما أعتقد تبدأ بعد القول بالصراع الطبقي تفسيرًا للظواهر الاجتماعية. وفي الماركسية قانونٌ عامٌّ خطيرٌ هو «العام والخاص»، ونحن كثيرًا ما نركِّز على «العام» دون «الخاص» برغم أن هذا الخاص وحده هو الذي يؤكِّد العام، ويُغنيه بمزيدٍ من الأمثلة والدلالات والشواهد.
ولقد أخطأَت الزميلة الكاتبة حين قالت إن «الحضارة» مجرد بِنية فوقية. الثقافة هي التي يصلُح لها هذا التعريف، أما الحضارة فهي الوجه المادي والمعنوي للمجتمع. وقد استخدمتُها على طول الكتاب بهذا المعنى؛ ومن ثَم فهي كانت تحمل إلى جانب القيم والأفكار القواعدَ الاقتصادية والاجتماعية التي تعكس هذه القيَم والأفكار في مرآة الثقافة. ليس هناك من تناقض بين الحضارة والصراع الطبقي، ولكنَّ مزيدًا من التخصيص يصل بالباحث إلى عمق أعماق الظاهرة. تتطور بعض الظواهر إلى درجةٍ من التعقيد يستحيل معها اختزال التفسير إلى عبارةٍ واحدة هي «الصراع الطبقي»، إنه كامن فيها، ولكن لا بد قبله وبعده من فرز وتبويب كافة التشابكات والفروع التي تبدو كغابةٍ كثيفة، وتصل أحيانًا إلى مرتبة «الاستقلال النوعي». إن الصراعَ بين مرحلتَين من مراحل الحضارة هو في جوهره صراعٌ اجتماعي، ولكنه ليس كذلك فحسب. إننا لا نستطيع القول — مثلًا — بأن الحضارة الفرعونية هي حضارة «العبيد» ونرتاح إلى تفسير بناء «الأهرام» — مثلًا أيضًا — بأنه ثمرة مجتمعٍ عبودي، وينتهي الأمر! كلَّا، بل علينا أن ندرُس طبيعة القوى الإنتاجية في المجتمع، جنبًا إلى جنب، مع الظواهر الخاصة التي لا تتشابه مع أي مجتمعٍ عبودي آخر. لماذا نقول بأن هناك حضارة «فرعونية»، وأخرى «سومرية»، وثالثة «يونانية»، رغم أن المجتمع العبودي في جميع الأحوال، ومن حيث الجوهر، كان واحدًا؟ هل لمجرَّد أن هذه نبتَت في مصر والأخرى فيما بين النهرين والثالثة في بلاد الإغريق؟ أم أن الأمر يستوجب الالتفات العميق إلى «خصوصيات» الظاهرة الحضارية، في ارتباطها الوثيق بحركة المجتمع طبعًا، ولكن دون أن يحول هذا الارتباط بين أعيننا ورؤية ما هو خاصٌّ ونوعي؟
مع هذا فقد أخلَص الكتاب للمنظور الطبقي في كل صفحاته إخلاصًا تقريريًّا مباشرًا؛ يقول «أول هذه الضوابط هو النظرة الطبقية للتراث، والتي لا ينبغي أن تغيب عن بالنا قَط، سواء في تقييمنا تقييمًا لمَّا يزَل مطمورًا في بطون الكتب القديمة، أو ما يزال حيًّا في سلوكنا اليومي. إن أمثالنا الشعبية — كنموذج — مليئة حتى التخمة بالتفكير العبودي والإقطاعي. إن دراسة هذه الأمثال واجبةٌ وضرورية، ولكنَّ إحياءها جريمةٌ تشجِّع عليها الطبقات المناظرة لأسلافها من الطبقات القديمة.» ولقد قرأتُ هذا الجزء — السلبي — من نقد الكاتبة أكثر من مرة، علَّني أجد فرقًا بينه وبين ما جاء في كتابي فلم أجد، بل إن الناقدة نفسها تقول في تعليقها بأنني ردَدتُ على التساؤلات المطروحة ردًّا «مبنيًّا على ضرورة فهم الواقع استنادًا إلى المنهجية الماركسية، أداته المعرفة العلمية الصحيحة»!
لقد انتهت المرحلة الستالينية في تاريخ الماركسية تقريبًا. وأقول «تقريبًا» لأني قصدتُ نهايتها المؤكَّدة على الصعيد النظري شرقًا وغربًا، وإن لم تنتهِ بعدُ في كثيرٍ من التطبيقات الاشتراكية.
وقد كان ما يُسمَّى بالعالم الثالث غداة الحرب العالمية الثانية، ولا يزال إلى الآن، وحتى مستقبلٍ غير منظور، هو العالم «المتخلِّف» بالمعنى الاجتماعي الشامل للاقتصاد وعلاقات الإنتاج والثقافة، وقد كان التخلُّف «مناخًا» ساعد على استقبال «الستالينية» في أجزاءٍ واسعة من هذا العام الجريح المستقل حديثًا أو الذي يستعد للاستقلال، في الوقت الذي كان يودِّعها العالم المتطوِّر. ولم يقتصر استقبال الستالينية طيلة العشرين عامًا التالية للحرب، على المنظمات الماركسية في تلك البلدان، بل تجاوزَها إلى «أنظمة الاستقلال» التي لم تكن قط اشتراكيةً أيديولوجيًّا. غير أنها نهجَت في «التحرر» — سواء بالتنمية الاقتصادية أو التخطيط الاجتماعي — نهجًا ستالينيًّا؛ حكم الفرد، والقرار العُلوي، والتنظيم السياسي الواحد.
وكما قلتُ إنها لم تكن قَط اشتراكية، أقول أيضًا إنها لم تكن قَط فاشية. إنها أنظمة «الاستقلال الوطني»، ولكنه أيضًا الاستقلال بالسلطة عن الاستعمار والشعب معًا، بطريقٍ برجماتية من حيث المنهج، ستالينية من حيث المنطق. وقد كان ذلك انعكاسًا مباشرًا للتخلف، الذي لم تنجُ منه أكثر الدعاوى الفكرية تقدمًا بما فيها الماركسية.
إن تأليه وعبادة النصوص، بل وحتى تقديس «الجماهير»؛ كلها من الآثار الستالينية على فكر ما يُسمَّى أحيانًا أخرى بالعالم «النامي»، وخصوصًا الفكر الاشتراكي.
وأعتقد أن التبسيط الستاليني المُخِل للأفكار الماركسية، والذي انقضَّ في التطبيق على الديمقراطية الاشتراكية، كان حاجزًا ضخمًا حال بين «الثوريين» في العالم الثالث ورؤية رجلَين كبيرَين في تاريخ الفكر البشري هما هيجل ولينين.
فلا سبيل مطلقًا إلى فهم ماركس بغير معرفةٍ عميقة بأكبر الفلاسفة الألمان على الإطلاق — وربما أكبر فيلسوف عرفته الإنسانية بعد أرسطو — وهو هيجل. ولا شك أنه من عناصر «العظمة» في ماركس هذه المعرفة العميقة بسلفه الكبير؛ هذا على الصعيد النظري في التطبيق، لا سبيل مطلقًا لفهم الماركسية بغير تعرُّفٍ شامل ودقيق على تجربة لينين، التي صاغها فكرًا ودولة.
وأظن رغم أية ادعاءات أو شعارات، أن هذَين الرجلَين قد غابا تمامًا عن الفكر الثوري في العالم المتخلف الذي أنتمي إليه، والذي تنتمي إليه تجربة بلادي.
وإذا كانت «التجربة» قادَتْها شرائحُ اجتماعيةٌ تنشُد أساسًا «الاستقلال الوطني»، وقد ترفع رايات الاشتراكية والقومية عاليًا وهي تقصد الاقتصادية والاجتماعية بمنهجٍ تجريبي مباشر، فإن «الفكر الاشتراكي» العربي قد تخلَّف كثيرًا فيما يخص منهج التحليل، بسبب بُعده البعيد عن هيجل وبُعده العميق عن لينين؛ أي عن الجدل والخصوصية. وقد تسبَّب هذا البُعد وذاك في تقييماتٍ خاطئة للمجتمع والسلطة، وفي تناقضاتٍ مثيرة بين المواقف السياسية خلال ربع قرن، وعلى مدى جيلٍ كامل، بل تسبَّب هذا البُعد وذاك في مفارقاتٍ تاريخية مؤلمة، كالانتقال المفاجئ من صفوف المعارضة اليسارية المتطرفة إلى الاندماج الكلي في النظام القائم. كان البُعد عن هيجل في الواقع ابتعادًا عن تصورٍ دقيقٍ لحركة المجتمع، وانعدامًا للقدرة على اكتشاف قوانين التاريخ. وكان البُعد عن لينين يعني عمليًّا، الانفصال عن حركة الواقع الاجتماعية، وانعدامًا للقدرة على استخلاص الملامح النوعية الخاصة لمسيرة قوى الإنتاج وعلاقاته وقِيَمه.
ومن هنا غاب الخَلْق والإبداع عن مجمل «الفكر الاشتراكي» العربي، وكثُرت الانقسامات والتشرذمات في صفوفه؛ لأنه كان في خطه العام (وباستثناءاتٍ نادرة اتُّهمَت بالانحراف أو لم تلقَ آذانًا صاغية أو أنها صدرَت عن أفرادٍ مستقلين عن التنظيمات) فكرًا بسيطًا شارحًا وتبريريًّا، كالصَّدَى بالنسبة للصوت القادم من النصوص، أو اجتهادات من خارج الحدود، أو قرارات سلطوية من داخلها.
كان لزمنٍ طويل فكرًا بدائيًّا، جامدًا، متوقفًا عند حدود ستالين العقلية في كُرَّاساته المبسَّطة عن الماركسية واللينينية. كان طبيعيًّا أن يدفَع أصحاب هذا الفكر ثمنًا فادحًا لضمور وعيهم وخطأ تحليلاتهم، ثمنًا فادحًا دفعوه من دمائهم وزهرة أعمارهم، للأعداء والحلفاء على السواء، ولكن «الجماهير» ذاتها كانت الضحية.
وإذا كان أحدٌ لا يطالب قيادات «الأنظمة الوطنية» الحديثة الاستقلال والنمو بوعي هيجل ولينين، بجدلية الأول وخصوصية الآخر — رغم الرايات الاشتراكية التي رفعَتْها — فإن هذه الأنظمة وقعَت تحت سيطرة الستالينية في «الروح» غير الديمقراطية، التي حجبَت عنها أحيانًا كثيرة رؤية مصالحها نفسها في التنمية والتقدم ودعم الاستقلال. وهو الأمرُ الذي تسبَّب بالضرورة في سقوط معظم هذه الأنظمة في القارات الثلاث المنسية — أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية — سواء بانقلابات الثورة المضادة أو الهزائم العسكرية. وتُسجِّل السنوات العشر الأخيرة جَزْرًا متعاظمًا في ثورة «العالم الثالث» وانحناءً حادًّا في الخط البياني لتطوُّر أنظمتها. ولا يعني ذلك تلقائيًّا أن سقوط هذه الأنظمة هو فقط نتيجة تردُّدها في الاختيار الاجتماعي، بضَلالها الطريق إلى الاشتراكية، كحلٍّ ممكن لأزمة التخلف (وقد نجح الحسم حتى الآن في أقطار مثل كوبا وفيتنام وأنجولا)، بل في مقدمة أسباب السقوط شبَح الستالينية، أو غياب الديمقراطية بتغييب «قوى الإنتاج» عن المشاركة في صنع القرار الاجتماعي.
وهذا هو جوهر التحالف غير المنظور بين «الفكر الاشتراكي» الستاليني رغم الماركسية، و«الأنظمة الوطنية» الستالينية رغم عدائها للماركسية.
•••
استعادة هيجل وحضور لينين يشكلان، من ناحية، بعثًا للماركسية كمنهج للتحليل الاجتماعي «الثوري»، ومن ناحية أخرى، هما أداة الوصل بين فكر العالَم المتخلف أو النامي والفكر الاجتماعي المتطور في العالم المعاصر.
وفي غَمرة الغيبوبة الستالينية فاتَ «الفكر الاشتراكي» العربي أهم أخبار هذا الفكر خارج الحدود.
فاتَه مثلًا أن الماركسية لم تعُد مجرد «أيديولوجيا للبروليتاريا»، بل أضحت بعض مقولاتها واكتشافاتها وقوانينها من العناصر الثمينة المعترَف بها في أبنيةٍ فلسفية أخرى. أمست بعض جوانبها، كحقائق العلم، من أدوات التحليل في مناهج «غير ماركسية»، وبالمقابل استضافت الماركسية عناصرَ جديدة لم تكن في صُلبها، وفدَت إليها من علم النفس وعلم الاجتماع بفروعهما المختلفة، بل ومن بعض العلوم الاقتصادية. ولم تكن هذه الاستضافة مجرد تطبيق لمنهج ماركس على معطياتٍ جديدة في الواقع (وقد تم هذا أيضًا)، بل كانت استضافة لعناصر نظرية من مناهج العلوم الأخرى، كالتحليل النفسي، والسبرنطيقا، والبنيوية، ومدارس علم الجمال الحديث. وقد تم ذلك في مستوى العلوم التطبيقية أيضًا، كإعادة النظر في قوانين الصُّدفة والاحتمال والنسبية والوراثة؛ وبالتالي إعادة الاعتبار إلى مندل وآينشتين.
ولقد نتج عن ذلك بالضرورة تغيير بعض «الثوابت» الستالينية.
منها نزع صفة الإطلاق عن الماركسية، وهي الصفة الميتافزيقية التي يطلقها «المؤمنون» على عقائدهم، ولا تجوز على مناهج العلم، وهي إحدى صفات «التخلف»؛ فالنسبية لا تُلغي الماركسية، ولكنها تُعيدها إلى «التاريخ» وعودتها إلى الإطار التاريخي لا تعني نهايتها بانتهاء العصر الذي وُلدَت فيه، كما يدَّعي أعداؤها، بل تظل هذه النهاية مرهونة بالعصر الذي وُلدَت من أجله. وتظل أيضًا مجموعة «الحقائق»، التي أثمرَتْها في النظرية والتطبيق خبرتُها التاريخية، ساريةَ المفعول فيما يمكن أن يستجدَّ من فلسفاتٍ أو علومٍ ما زالت في طي المجهول.
ولينين نفسه هو رمزٌ لهذا التجاوز التاريخي للماركسية وبها؛ فالخصوصية التي نجحَت بها تجربتُه ليست تكذيبًا «لنبوءات» ماركس؛ لأن ماركس لم يكن نبيًّا، ولكنها استيعابٌ حي لديناميكية الجدل الهيجلي، وإضافة إلى معطَيات ماركس، لم تُتَحْ له «معرفتها».
وسقوط التجربة التشيكية عام ١٩٦٨م، والتجربة الشيلية بعدها بخمس سنوات، هو تأكيدٌ تراجيدي للمستقبل، بأن استعادة هيجل وحضور لينين يبعثان ماركس على نحوٍ لا يخطر ببال الدبابات الروسية في الشرق، ولا المخابرات الأمريكية في الغرب. واللقاء غير الموضوعي بين النقيضَين (حلف وارسو والحلف الأطلسي) هو ثمرةُ الرواسبِ الستالينية العالقة بالنموذج السوفييتي الذي يُزعِجه «البرهان» على أن البيروقراطية عدو الاشتراكية، والرواسبِ المكارثية العالقة بالنموذج الأمريكي الذي يُرعِبه «البرهان» على أن الديمقراطية ليست نقيضًا للاشتراكية.
وما يُسمَّى الآن — صوابًا أو خطأ — بالشيوعية الأوروبية، هو الامتداد المتطور لفكر جرامشي الإيطالي، والوصية-الوثيقة لتولياتي، وهو الخلاصة النظرية لما «وقع» في «العالم الاشتراكي» بين تيتو وستالين، ثم بين ماو وخروشوف، وما ناضل من أجله لوفيفر وجارودي داخل الحزب الشيوعي الفرنسي، ثم ما اتخذَه هذا الحزب نفسه من قراراتٍ استراتيجية تنفي دكتاتورية البروليتاريا. وأخيرًا ما وقع بين الحزب الشيوعي الإسباني والحزب السوفييتي من خلافٍ علني. وما انتهت إليه «وثيقة برلين» ١٩٧٦م، بين الأحزاب الشيوعية الأوروبية غربًا وشرقًا، من «إقرارات» السيادة الوطنية والاستقلال لكل حزبٍ في التحليل والممارسة.
هذه المتغيرات كلها نزعَت عن الماركسية صفة «الإطلاق»، وأحلَّت مكانها الإطار التاريخي.
وهو الإطار الذي أسهمَت في صنعه معطياتُ الواقع الاجتماعي للعصر، مضافًا إليها معاناة الخَلْق والإبداع لدى مفكِّريه. وقد كان جدل هيجل وخصوصية لينين محور هذه المعاناة؛ فباستعادة الجدل الهيجلي تمكَّن «الخَلْق» في الفكر الثوري المعاصر من متابعة الحركة متابعةً سريعة وعقلانية ودقيقة، واكتشاف منطق التاريخ اكتشافًا حرًّا من القيود الموهومة أو الحقيقية. وبحضور الخصوصية اللينينية تمكَّن «الإبداع» في الفكر الثوري المعاصر من إيجاد الندِّية والتكافؤ بين العام والخاص، وفي التطبيق من إيجاد «التركيب» بين الديمقراطية والاشتراكية، وبواسطتهما معًا تم بعث ماركس العصر الجديد.
٣
كان من الطبيعي أن تكون سوسيولوجيا المعرفة قد شهدَت تطوراتٍ راديكالية في العالم الاشتراكي، كما في العالم الغربي، ولكن «ماركس العصر الجديد» كان في الوقت نفسه تراثًا هائلًا في علم الاجتماع، مما جعل أثره على سوسيولوجيا الثقافة الاشتراكية هو الجذْر.
غير أنه لا سبيل للشك في أن منجَزات هذا الفرع المهم من العلوم الإنسانية قد عثَرَت، في اجتهادات المدرسة الاجتماعية البولونية أساسًا، ثم الرومانية، على استجابةٍ مبدعة للتحدي القديم-الجديد؛ فلم تعُد المادية التاريخية هي «علم الاجتماع الماركسي» وانتهى الأمر، كما لم تعُد المادية الجدلية هي «الجدل»، بل أضحت المادية التاريخية مجرد تطبيقٍ أوَّليٍّ للجدل على التاريخ الاجتماعي، في حدود المادة الخام التي توفَّرَت من هذا التاريخ لماركس وإنجلز. وأكثر من ذلك، تغيَّرَت بالوثائق المُستجدَّة طيلة قرنٍ مضَى، بعضُ زوايا الرؤية «المادية التاريخية» نفسها، فلم تعُد الجزائر أو الهند جديرةً بالاستعمار الغربي (أو الحضارة كما قال آباء الماركسية)؛ ذلك أن الانقلاب الصناعي في القرن التاسعَ عشرَ قد فرض تصوُّره على أرقى منجَزات الفلسفة العلمية؛ بحيث كانت أوروبا هي «النموذج» الإنساني، وغيرها دون «الإنسانية»؛ فآسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية لم تكن «القارات المنسية» في الفكر البرجوازي التقليدي (الجديد حينذاك) وحده، بل كانت منسيةً في الوعي الاشتراكي الوليد أيضًا، حتى ليُمكِن القول إن ماركس وإنجلز لم ينجُوَا من الفكر البرجوازي. وقد انبنى في ضوء الكشوف الاجتماعية المتتالية، فضلًا عن التجارب، أن التاريخ — طالما أنه أكثر اتساعًا وعمقًا وشمولًا من التاريخ الأوروبي — لا يُضمر بالحتمية ميكانيزم المراحل التي استخلصَتْها الماركسية الأولى، وأنه من الممكن لأحد المجتمعات ألا يعرف مرحلةً أو أخرى من المراحل التي أشارت إليها «المادية التاريخية»، بل وإذا تشابهَت إحدى مراحل تطوره مع التوصيف الماركسي لتطور المجتمعات، فإن أوجهًا عديدةً للاختلاف في التفاصيل، تستدعي اللاتطابق.
ومن هنا كانت الخصوصية التاريخية خصوصيةً اجتماعية-ثقافية في الوقت نفسه، تتطلب اكتشافًا حرًّا وبكرًا للسؤال الاجتماعي، حتى نقترب أكثر فأكثر من «الواقع» الذي يظل تجريدًا ذهنيًّا في المخيِّلة، سواء كانت ماركسية أو لم تكن، ما لم يخضع للتجريب (بوسائل الإحصاء والرصد والفرز والتبويب)، والتحليل (بأدوات المقارنة والقياس)، ثم يأتي التركيب في خاتمة المطاف، لاستخلاص العنصر النظري القابل للتعميم.
واليوم تستعيد قضية «التراث» وعلاقتها بالثورة في العالم الثالث، وعلاقتها بالحرية في العالم الاشتراكي، وعلاقتها بالإمبريالية في العالم الاستعماري، أولويةً استثنائيةً في جدول هموم الفكر المعاصر وقضاياه.
إن التركيز على «تطبيق» القانون العام، ظل أمدًا طويلًا من علامات التخلف والجمود القاصر على رؤية الواقع. كذلك التركيز على «اختلاق» الخصوصية الوطنية، في تجاهلٍ تامٍّ لقوانين الخبرة البشرية العامة، ظل لأمدٍ طويلٍ حجابًا حاجزًا للتقدم. كما بقي الكلام عن تفاعُل «العام» و«الخاص» لأمدٍ أطول مجرَّد شعارٍ لا يكلِّف أصحابه عناء الخَلْق ومحاولة الاكتشاف؛ ذلك أن الأدوات المنهجية الكفيلة بإحداث «التفاعل» بين العام والخاص بقيَت غائبةً طول الوقت.
كل ظاهرة، بالطبع، هي اجتماعية، وكل ظاهرةٍ اجتماعيةٍ جوهرُها الصراع الطبقي، ولكن هذا الكلام يرسم حدود الشعار لا إطار المنهج.
•••
وهذا الكتاب، على صعيد الشكل، صدَر قبل «النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث»، و«الثورة المضادة في مصر»، لكنه على صعيد المحتوى، يتابع صيرورة السؤال الاجتماعي للثقافة، فيحاول تأصيل منهجٍ ربما أخذ الكثير من هنا وهناك؛ لأنه وهو يبحث عن الخصوصية في «الواقع» لم يغلق نافذة العصر.