مقدمة الطبعة الأولى
شغلَتني قضية التراث منذ بداية حياتي الفكرية تقريبًا، شغلَتني مرتَين؛ الأولى على مستوى الفن، والأخرى على الصعيد الاجتماعي والحضاري. كانت علاقة الفن بالتراث من القضايا القديمة التي واجهَت الأدب العربي الحديث، منذ أواخر القرن الماضي وبدايات القرن الحالي، ولكن هذه المواجهة اتخذَت صورةً حادة مع أوائل الخمسينيات، حين ظهرَت حركة الشعر الحديث، واتهمها السلفيون بمعاداة التراث القديم، لمجرد أنها خرجَت على العمود الخليلي خروجًا نسبيًّا. اقترنَت هذه الفترة في حياة جيلي بالنشاط السياسي الموفور لدعاة الفكرة الإسلامية المتطرفة، والقائلة بأنْ لا مستقبل للأمة العربية إلا إذا عادت إلى النبع الأول في الإسلام، وهو القرآن.
قبل هذا التاريخ بعشرين عامًا أو يزيد، كانت هناك معارك ضارية بين المجدِّدين والمحافظين في الفكر العربي، وكان التراث هو المحور الأساسي لهذه المعارك، وقد فتنَني من تلك الفترة، والتي لم أشهَدها، بضع شخصيَّات فذَّة كان لها أثرها العميق في تكويني. كان طه حسين وسلامة موسى وتوفيق الحكيم وحسين فوزي هم أولئك الذين أخصَبوا حياتي بالحوار الخلَّاق بين التراث والعصر. وهم، رغم كل ما بينهم من فروق، جمَعُوا في خيالي بين الإيمان الحار المتوهج بمصر، حضارتها وشعبها، وبين التطلع الواعي المستنير إلى الحضارة الغربية المعاصرة، لم تكن الفكرة العربية آنذاك من الأفكار المحورية القادرة على الجذب أو الاستقطاب؛ لهذا لم أستيقظ على أن الفكرة المصرية عندهم تعني مواجهة الفكرة العربية، وإنما رأيتُها رمزًا للواقع المحلي، للجذور. واستكملتُ تصوُّري بأن قضيتهم الحقيقية تمثَّلَت في تركيب المعادلة المصرية الصعبة من الواقع المتخلف والحضارة المتقدمة. ولا يزال رأيي — أيًّا كانت النتائج التي توصَّلوا إليها مُخفِقة أو ناجحة — أن هذا هو التفسير الوحيد لجمعهم في آنٍ واحد بين حبهم الغامر لمصر وتراثها وشوقهم الملهوف لحضارة الغرب المعاصر. ولا يزال رأيي، أنهم لم يتوصَّلوا إلى التركيب الصحيح للمعادلة المطلوبة لإنقاذ الوطن من وِهاد التخلف، ولكن محاولتهم على أية حال كانت أكثر التجارب تقدمًا، كانت في جملتها — على الأقل — مؤشرًا صحيح الاتجاه.
أقول إن ذلك حدث قبل بداية الخمسينيات بأكثر من عشرين عامًا. بعد هذا التاريخ بعشرين عامًا أخرى، أي في وقتنا الحاضر تتغير الصورة تغيرًا سلبيًّا مريرًا؛ فقد كان الظن أن التطور سيُضيف إلى تجربة الرواد ومحاولتهم أبعادًا جديدة، تسرع بنا في الطريق إلى مرحلةٍ حضارية أكثر تقدمًا، ولكن بعض الظن إثم؛ إذ إننا نعايش هذه الأيام هجمةً رجعيةً خطيرة محورُها من جديد قضية التراث. ولم يعُد الشعر أو الفن عمومًا هو المدار الذي تتحرك داخله المعركة الجديدة، وإنما أصبح المجتمع نفسه هو هذا المدار. أصبحَت السلطة السياسية في بعض الأقطار العربية هي قائدة المد الرجعي الجديد، وليست مجموعة من التنظيمات الدينية المتطرفة. لقد كانت دائرة الفكر والأدب المشغولة بالتراث ضيقةً من خاصة المثقَّفين. أما الآن فبرامج التعليم من الطفولة حتى الجامعة، وبرامج الإذاعة والتليفزيون التي تخاطب ملايين الأميين، والصحافة ودُور النشر التي يسيل لعابها أمام الربح السريع، وتشريعات المجالس النيابية؛ هذه كلها تنقل القضية من الدائرة الضيقة إلى أوسع الدوائر إطلاقًا، دائرة الشعب بمختلف طبقاته وطوائفه ومذاهبه واتجاهاته السياسية والاجتماعية والدينية. وهو الشعب الذي يجد نفسه الآن مُطوَّقًا بقواعدَ وقيمٍ منحدرةٍ منذ آلاف السنين من ناحية، وتحديات الحياة في الثلث الأخير من القرن العشرين من ناحيةٍ أخرى، ولقد كان شعبُنا يعاني مشقة هذا التناقض معاناةً مُرة إن جاز التعبير، ولكنه الآن وهو يرى القيَم القديمة تأخذ طريقَها إلى الدساتير والقوانين، فإن التناقُض سيكون — حقًّا لا مجازًا — بين الحياة والموت، لا بين القديم والجديد.
ولا شك أن الفكر الثوري قد تخلَّف زمنًا طويلًا؛ ففي مواجهة هذه القضية، في زمن المراهقة الفكرية، ظل يرفض التراث جملةً وتفصيلًا، شكلًا ومضمونًا. وفي مرحلةٍ تالية أُصيب بحساسيةٍ مَرَضية خجل معها من مجرد الاقتراب من أسوار القضية، وكأن أسلاكها الشائكة مادةٌ ناسفة، لا تلبث أن تتفجَّر بمجرد اللمس. في مرحلةٍ أخرى اتخذ موقفه رد الفعل، فانكَبَّ يُسقِط على التراث أفكاره الخاصة، فلم يستطع رؤية «واقع التراث»، وإنما اتخذ من بعض أعلامه وحوادثه «شواهد» على صحة فروضه المعاصرة.
ولا تشكِّل هذه المواقف كلها الرؤية الصحية والصحيحة للتراث. إن الرفض للتراث على إطلاقه عملٌ طفولي، لا علاقة له بالثورة أو الفكر الثوري، بل هو من أحد الجوانب انحرافٌ حقيقي عن معنى الثورة والعمل والثوري، وكذلك الموقف الخجول أو المذعور من مناقشة التراث، إنه يترك الميدان خاليًا للرجعية، وينشُد الاستسلام بتجاهل المعركة. والموقف الحماسي المُفرِط في المبالغة يقع بأصحابه في فِخاخٍ يصعُب الخروج منها.
إن الثوريين العرب مطالَبون اليوم، أكثر من أي وقتٍ مضى، بالدخول الشجاع في معركة التراث، لا لأنها مفروضةٌ عليهم فحسب، بل لأن الثورة العربية لا تستكمل مقومات وجودها بغير تراثٍ يحميها ويُغذِّي بقاءها. إن المصريين الذين كانوا يحلُمون مثلًا بمصر «فرعونية»، والسوريين واللبنانيين الذين كانوا يحلمون بالحضارة الفينيقية، والعراقيين الذين كانوا يحلمون ببابل الجديدة، لم تكن لديهم جميعًا إجابةٌ واضحة عن هذا السؤال: ما هي الملامح «الواقعية» لمصر الفرعونية أو فينيقيا أو سومر التي تريدون بعثها؟ كانت أحلامهم جميعًا رؤيةً رومانسية للواقع، سواء بهدف الفرار منه أو تحديًا للوجه الاستعماري للحضارة الوافدة من وراء البحار، أو وهمًا أسطوريًّا بتفوُّق العِرق ونقاء العنصر. أما دعاة الفكر الإسلامية المتطرفة فهم وحدهم الذين امتلكوا وتصوَّروا تصورًا واضح المعالم لدولة الإسلام التي يريدونها؛ لأن القرآن في ذاته «تشريع» متكامل السمات للوجود الاجتماعي والسياسي، وأصحاب هذه الدولة، الآن، هم الكتيبة المتقدمة للرجعية العربية على جبهة التراث، ولم يعُد كافيًا الرد عليهم بأن الإسلام في دعواهم مجرد ستارٍ يُخفي أهدافًا سياسية؛ فقد أصبح هذا الرد مع الزمن لفًّا ودورانًا حول المشكلة، وجُبنًا عن محاولة الولوج داخلها. نعم، إن لهم أهدافًا سياسية بغير شك، ولكنها لا تتناقض مع الإسلام، ولا مع وجهة نظرهم للتراث. غير أن الإسلام في جانبه التشريعي المتسق مع طبيعة المرحلة التاريخية والاجتماعية التي عبَّر عنها، لم يطلُب إليهم أن يطبِّقوه في ظروفٍ مغايرة. إن «العودة إلى الإسلام» وليس الإسلام نفسه هو «وجهة النظر» الجديرة بالمواجهة في معركة التراث بين الثورة والثورة المضادة.
إن التراث في جوهره ليس مجموعةً من المسلَّمات أو البديهيات، بل هو مجموعة من الإجابات على أسئلةٍ طرحها الوجود على السلف. ومجتمعنا المعاصر يعيش في بحرٍ من الأسئلة الجديدة والقديمة، إنساننا المعاصر — الجدير بإنسانيته حقًّا — هو الذي يستطيع أن يُقدِّم جوابًا على الأسئلة المطروحة أمامه، سواء جاءت الأجوبة القديمة هامشًا ضروريًّا أو لم تجئ على الإطلاق.
وهذا الكتاب ليس بحثًا في التراث، وإنما هو محاولةٌ قد تُخطئ وقد تُصيب في رؤية العلاقة بين واقعنا والتراث؛ أي إنه في عبارةٍ أخرى تجربةٌ لتأسيس منهجٍ يصل بين التراث والثورة. هذا المنهج — أكرِّر — مجرد محاولة وتجربة تفتح باب الحوار لإنضاجها وتطويرها وتعميقها. ومن ناحيةٍ أخرى فإن المنهج وحده لا يكفي، وإنما لا بد من عشرات التطبيقات الحية الخلَّاقة على كافة جوانب التراث وعلاقته بالثورة. إن هذه التطبيقات وحدها هي التي ستُضيف وتحذف وتُعدِّل بما يُفصِح عنه واقعُنا من احتياجات التقدُّم، وما تكشف عنه ثورتُنا من التزامات النضال.
والسطور القادمة ليست أكثر من خطوةٍ في طريقٍ طوله أكثر من ألف ميل. فقط، أرجو أن يكون الطريق الصحيح.