التراث إعادة نظر
لا سبيل لثورةٍ ثقافيةٍ عميقة دون أن تشمل قضية «التراث» بإعادة نظرٍ جذرية تتناول كافة «المحرَّمات» التي عانى الفكر العربي من تجاهلها أمدًا طويلًا. ولعله من المفيد أن ثمَّة مضاعفات خطيرة قد طرأَت على موقفنا من التراث خلال السنوات العشرين الماضية؛ فالحق أن جيل الرواد، منذ نهايات القرن الماضي إلى بدايات هذا القرن، قد تصدَّى لكثيرٍ من المشكلات الأساسية التي واجهتنا مع الحضارة الأوروبية الوافدة، وفي مقدِّمتها مشكلة «العلمانية» التي عالجها رفاعة الطهطاوي، ومشكلة تحرير «المرأة» التي عالجها قاسم أمين، ومشكلة «الخلافة» التي عالجها علي عبد الرازق في «الإسلام وأصول الحكم»، ومشكلة «الشعر الجاهلي» التي عالجها طه حسين. هذه كلها ليست أكثر من نماذج للتحدِّي الذي تحمَّل أعباءه روادُ فكرنا الحديث، في مواجهتهم الشُّجاعة لتراثنا. وبالرغم من كل ما لاقَوه وعانَوه من عنتٍ ومن أقوال، فقد كانت «موجتهم» عنصرًا نشيطًا من عناصر فجر «النهضة»، التي تعرَّضَت لانتكاسة لم يعُد ميسورًا ولا مباحًا معها، بعد حوالَي نصف قرن، أن تناقش — مجرَّد المناقشة — هذه الأصول التي تجاوزَها الزمن، وطرح بالإضافة إليها عديدًا من القضايا استحدثَتها روح العصر؛ فالزمن لا يتوقَّف إذا توقَّفنا نحن، بل هو يُضاعِف مسئولية التحرُّك والتزامات التقدُّم.
وربما كانت أولى المهام التي يتعيَّن على ثورتنا الثقافية أن تباشرها في هذا الصدد، هي أن تنزع كافة ما يحيط كلمة «التراث» من لبس وغموض، وأن تؤسِّس منهجًا جديدًا يتناول هذه القضية على ضوء منجَزات العصر، وأن تحاول الربط بين متغيرات النظر إلى التراث والنظر إلى المجتمع، ربطًا جدليًّا عميقًا ومحكومًا برؤيةٍ موضوعية لحركة التاريخ.
على ذلك، فإن طرح موضوع «الأصالة والمعاصرة» بمعنى أن الأصالة هي التراث والمعاصرة هي أوروبا، يُعَد طرحًا خاطئًا ومبتورًا وضارًّا؛ إذ يمكن طرح المشكلة ثوريًّا على أساس أن الأصالة هي «الواقع بكل ما يشتمل عليه من عناصر ومن بينها التراث»، والمعاصرة هي «استخدام المنهج العلمي في التفكير». لقد ظلت أجيالٌ بعد أجيال، في الفكر العربي الحديث، أسيرةَ هذا التناقُض الشكلي المُفتعَل بين ذاتنا القومية والأصيلة والحضارة العالمية المعاصرة. كان السلفيون من أدبائنا ومفكرينا يرَون في التراث ملجأ لهم من الرياح القادمة من وراء البحار، وكان المجددون يرَون فيها قوةً دافعة للشراع المطوية الساكنة منذ قرون وقرون. وكان المعتدلون يكتفون بالقول إن قدمًا هنا وقدمًا هناك تكفُل لنا البقاء فوق أرضنا، وأن نتنسَّم الهواء الجديد في وقتٍ واحد. وقد كان الخلط بين الأصالة والتراث — ولا يزال — هو السبب الحقيقي لاتخاذ هذه المواقف الشكلية، قبولًا ورفضًا وحلًّا وسيطًا؛ فلو اعتبرنا الأصالة هي «الواقع» بكل شموله وعناصره لرفضنا من التراث الشيء الكثير، مما يعوق حركة الواقع وتقدُّمه، وتصبح أصالتنا هي ذلك الرفض الواعي السلبي في التراث. ولو اعتبرنا الأصالة مرةً أخرى هي «الواقع» الحي في الماضي والحاضر والمستقبل، لقَبلنا مع الآخرين، دون عُقَد أو مركَّبات نقصٍ، ما يمكن أن يوجِّه حاضرنا إلى آفاقٍ أعمق، بل لعلنا نجد لدى الآخرين الذين سبقونا في مضمار التقدم ما يفتح عيونَنا على جوانبَ من تراثنا، ما كنا لنراها بغير ما اكتشفوه من أدوات البحث العلمي الحديث. وهكذا تتدعَّم أصالتنا بمزيد من الاختيار الحر لما في التراث من قيَمٍ دافعة لحركة المجتمع، والانفتاح المستنير على الدنيا من حولنا، ويظل «الواقع» معيارًا وحيدًا للرفض والقبول، وضابطًا وحيدًا لحركة الاختيار والانفتاح. حينئذٍ تختفي المعاصرة كمرادفٍ للاستيراد من أوروبا، وتختفي الأصالة كمرادف للتراث، وتُمسي أصالتنا ومعاصرتنا رهنًا بموقفنا من واقعنا، تصورنا له وحركتنا داخله، هل نراه واقعًا موضوعيًّا مستقلًّا عن عواطفنا؟ وهل نتحرك في اتجاه المستقبل؟ هذه الرؤية وحدها هي التي ستُمِدُّنا بما نحتاج إليه من التراث ومن الحضارات الأخرى، وقبل ذلك وبعده بما نحتاج إليه من خَلْقنا وإبداعنا؛ أي ما ينبغي أن نضيفه إلى جهود السالفين من أجدادنا، والمعاصرين لأجيالنا في أرجاء العالم الواسع.
لقد كان جيل الرواد معذورًا، حين فزع فريقٌ منه إلى أحضان التراث خوفًا من المجهول القادم مع «الغزاة»؛ ذلك أن لقاءنا بالحضارة الحديثة قد تم في مناخٍ بالغ التعقيد، كان حمَلة مشاعل هذه الحضارة ممن يحملون في نفس الوقت أسلحة «الاستعمار»، وسواء في ذلك مَن كان يُهرع منهم إلى الحضارة الإسلامية أو إلى الحضارة الفرعونية؛ فالنتيجة واحدة هي نسج وسادةٍ رومانسيةٍ دافئةٍ دفءَ الماضي العريق وآثاره العتيدة، ولكن الرومانسية لم تكن هي المرض العُضال، وإنما حين تطوَّرَت إلى نوعٍ من الشوفينية فإنها تحوَّلَت إلى حائطٍ عنصريٍّ أصَم. إن رفع راية الأمجاد القديمة في وجه المستعمرين كانت في البداية نوعًا من المقاومة السلبية، ولكنها سرعان ما تحوَّلَت إلى «نظريةٍ» عِرقيةٍ مدمِّرة. وكذلك فقد كان جيل الرواد معذورًا حين فكَّر فريقٌ منه في ضرب الاستعمار بأسلحته، وفضَّل الانتماء بصورةٍ مطلَقة إلى الحضارة الغربية، لقد نسي هذا الفريق، في غمرة انبهاره بالعلم الحديث وأساليب العصر، أن الإبحار بعيدًا عن أرض الواقع الصُّلبة سيتوقَّف به عند حدود «الحُلم»، وأن الغرب لن يُحقِّق له هذا الحُلْم، بل هو من أجل أن يصبح «حضارة عظيمة» كان عليه أن يلتهم أحلامَ الآخرين، وأن يزيدَ واقعهم تخلفًا. وهكذا فإن العودة إلى التراث كالانتماء الحضاري للغرب كانا مجرَّد رد فعل مذعور أمام الرياح القادمة من وراء البحار، كانا ابتعادًا عن الواقع، هروبًا منه، والتحاقًا بالبساط السحري للسلف، أو بمظلة الثقافة الغربية على السواء. وكان الوسطيون، الذين رأَوا الحل السعيد في الأخذ من القديم والجديد، أصحابَ نظرةٍ أفقية تبصر الأمور من السطح، وأصحابَ رؤية كمِّية تستهدف التراكم. و«البعد عن الواقع» بكافة عناصره الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعقلية والوجدانية، هو الأساس النظري لهذه المحاولات الثلاث. والبعد عن الواقع بهذا المعنى، وهو في اللحظة نفسها بُعد عن الأصالة والمعاصرة معًا؛ لأن الأصالة ليست «شكلًا تراثيًّا» والمعاصرة ليست «شكلًا غربيًّا». وإنما الأصالة والمعاصَرة كلاهما «محتوًى كيفي جديد» نحصُل عليه بالمعرفة الرأسية — العميقة — لواقعنا، باختراق كافة طبقاته الاجتماعية والتاريخية والنفسية، والتلوُّث بكل ما يشتمل عليه ترابه، لا بالطيران من فوقه إلى كهوف السلف، ولا بالتعلق بأشرعة السفن القادمة من المجهول، ولا بوضع أحد القدمَين هنا والأخرى هناك؛ تلك كلها كانت حلولًا عاطفيةً سهلة. أما استبصار عمق أعماق واقعنا، بتحليله وإعادة تركيبه، في «منظور» جديد، يستهدي بما يحتاج إليه موضوعيًّا من التراث أو الغرب، فهو الإبداع العقلي الخلَّاق الذي يكفينا حقًّا عناءً كبيرًا، ولكنه أيضًا يُضيف إلى التجربة الإنسانية شيئًا جديدًا.
لذلك، فإن عصر النضال ضد الإقطاع والنبلاء، عصر «السوق» البرجوازي الجديد، الذي يحل مكان «الأرض»، بكل ما يشتمل عليه هذا التحول من فروق بين قيَم الزراعة وقيَم الصناعة. من هنا كانت الليبرالية هي مجموعة التقاليد الديمقراطية التي رسَّخَتها في الحياة الأوروبية سواعدُ الطبقات الشعبية البرجوازية، في مواجهة الإقطاع والكنيسة. ومن هنا أيضًا كانت مجموعة الكشوف العلمية التي رافقَت الانقلابَ الصناعي، من ثمار اليقظة القومية الوافدة مع الثورة البرجوازية. ومن هنا كذلك كان ميلاد فنٍّ جديد يلائم وجدانَ الطبقة المتوسطة البازغة هو فن الرواية؛ تلك كلها، وغيرها كثير، كانت «العناصر» التي شكَّلَت ما يُسمَّى الطابع القومي لفرنسا وإنجلترا وألمانيا، وغيرها من الأقطار الأوروبية، مع اختلاف في التفاصيل. الطابع القومي في بلادنا يتخذ شكلًا مختلفًا؛ فالنضال ضد الاستعمار هو البوتَقة التي انصهرَت فيها وحدتُنا القومية، ولقد اتسع نطاق هذه الوحدة ليضُم بعض العناصر الإقطاعية، والحكومة المركزية في وادي النيل مثلًا لم تكن إنجازًا قوميًّا، بل كانت تراثًا قديمًا. بينما كانت وحدة عنصُرَي الأمة — المسيحيين والمسلمين — من أهم ملامح ثورتنا الوطنية. كذلك فإن منازلة الاستعمار كانت تجري جنبًا إلى جنب مع الانفتاح على الغرب في العلم والفكر والصناعة، من هنا يصبح النضال ضد الاستعمار والوحدة الوطنية ومقاومة التخلُّف الحضاري من أبرز سمات «طابعنا القومي».
ولكن لينين لم يتحرك داخل واقعه بفروسية العصور الوسطى، بل كان مسلحًا بأحدث منجَزات التفكير العلمي، بالماركسية. والإبداع الثوري، منذ ذلك الوقت، ظل رهنًا بالقدرة الخلَّاقة على التفاعل بين الواقع والنظرية الثورية؛ تلك بالضبط، هي عظمة الثورة الروسية والثورة الصينية والثورة الفيتنامية والثورة الكوبية، وبقية الثورات الاشتراكية التي استطاعت أن تضيف إلى التجربة الإنسانية تراثًا جديدًا من إبداعها الخاص، من وحي تاريخها وتقاليدها القومية، وتطبيقها الخلَّاق للمنهج العلمي. هذا التراث هو تراثنا بقَدْر ما نستطيع تمثُّله والإضافة إليه، بإدراكٍ موضوعي عميق لواقعنا وتغييرٍ جذري لهذا الواقع. حينذاك يصبح تعبير الانبثاق عن واقعنا، والمراد به القوقعة داخل قشرةٍ صَدفية محكَمة الإغلاق، تعبيرًا مضلِّلًا؛ لأن واقعنا ليس حُلمًا زاهيَ الألوان من الفراديس القديمة أو الجديدة، وإنما هو مجموعة من الحقائق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتعارضة فيما بينها تعارُضَ الطبقات الاجتماعية التي يضمها هذا الواقع. واتجاه تغيير واقعنا — من ثَم — سوف يختلف من طبقةٍ إلى أخرى، ومن هنا تتباين مواقف الفكر الثوري من «التراث» والطابع القومي و«الواقع» عن مواقف الفكر المضادة للثورة؛ فالأول باستخدامه المنهج العلمي في التفكير يحصُل على مؤشراتٍ تختلف عن مؤشِّرات الفكر الآخر. ولن يعود الخلاف بين التراث العربي القديم والحضارة الغربية، ولن يعود الحل السعيد هو التوفيق بين الفريقَين، ولن يُصبِحَ الخلاف ويُمسِيَ بين دعاة التراث القديم حول ما إذا كان المعتزلة والقرامطة هم الأفضل، أو الباطنية والأشعرية، ولن يُصبحَ الخلاف ويُمسِيَ بين دعاة الحضارة الغربية حول ما إذا كانت المدرسة الإنجليزية هي الأفضل أو المدرسية الفرنسية أو الأمريكية. وإنما سوف يتحدَّد الخلاف حول «مصير» واقعنا؛ هل هو إلى التبدد والضَّياع، أم إلى النماء والتقدم.
•••
إن المعادلة التي لم يُوفَّق فكرنا الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في حلها، كان الأدب والفن في أهم نماذجهما قادرَين على التصدِّي لها، ويبدو لي، أحيانًا كثيرة، أن أهمية توفيق الحكيم التاريخية هي أنه ارتاد هذا الطريق المجهول؛ فهو لم يتردَّد طويلًا، وهو يخلُق فنًّا جديدًا على اللغة العربية، أمام ما إذا كان هذا الفن قد عرفه أسلافنا أم لا، وإنما راح يستبصر أبعاد الواقع المصري استبصارًا عميقًا، واكتشف أن بعضَ قوالب الأدب والفن العربيَّين — كالرواية والمسرح — قادرة على تجسيد هذا الواقع، حتى ولو لم يكن التراث قد عرف هذا الشكل أو ذاك. إن توفيق الحكيم — مع هذا — لم «يستورد» قالبًا فنيًّا بعينه من الغرب، وإنما كان «الواقع» الموضوعي، مستقلًّا عن عواطف الفنان الذاتية، هو البوصلة التي وجَّهَته نحو الغرب من ناحية الشكل، ونحو التراث الفرعوني والمسيحي والإسلامي من ناحية الرمز، ونحو الثورة الوطنية الديمقراطية من ناحية المضمون. هكذا جاءت «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«أهل الكهف»، و«شهر زاد» إبداعًا مصريًّا خالصًا، عانى صاحبه في خَلْقه عُسر «التركيب» بين عناصرَ متباينة، تآزرَت في صياغة مرحلةٍ جديدةٍ كيفيًّا في الأدب العربي. لقد أخلص توفيق الحكيم لواقعه أولًا، وبإدراكه النفَّاذ لهذا الواقع، اكتشف أنه على صعيد الفن، لم تعُد المقامة العربية هي أداة التعبير المُثلى، وإنما اكتشَف أن السرد الروائي والحوار المسرحي هما هذه الأداة المُعادِلة موضوعيًّا لما يجري في باطن الواقع من تحوُّلاتٍ تختلف جوهريًّا عما كان عليه مجتمع المقامات العربية، ولكنه من ناحيةٍ أخرى اكتشف في التراث الأوزيري وفي تاريخ المسيحية وفي القرآن موادَّ ملهمة. وكان الفلاح المصري والثورة المصرية هما المحور الجاذب للشرق والغرب في تكوين عمله الفني. ومن هنا كانت «عودة الروح»، و«أهل الكهف» ميلادًا قوميًّا للرواية المصرية والمسرح المصري، رغم المؤثِّرات الأجنبية والتراثية التي دخلَت في تكوينهما. كان الواقع من ناحية، والإيمان بوحدة التراث وتاريخيته من ناحيةٍ أخرى، هما الإطار الحقيقي لهذه «الثورة» الكاملة في تاريخنا الأدبي. إن توفيق الحكيم لم يُمصِّر نصوصًا أجنبية، ولم يعرِّب تجربته المصرية، بل عانى معاناة الأنبياء في اكتشاف الصيغة الحضارية الملائمة ليقظتنا القومية. وهو طريقٌ صعب، ولكنه الطريق الصحيح، والطريق الآخر — سواء بالنقل الحرفي عن الغرب أو التراث — هو الطريق السهل، ولكنه أيضًا الطريق الخطأ.
إن التوفيقيين والسلفيين كلَيْهما، بعدم انبثاقهما الحقيقي عن الواقع، بل بتجاهلهما له، يقعون ويُوقِعون غيرهم في تناقضٍ حادٍّ بين الحُلْم والواقع، بين الوهم والحقيقة. التوفيقيون مثلًا يحبِّذون وبإلحاحٍ متصل، أن نستوردَ التقنية الحديثة، ويحاربون بإصرارٍ وعنادٍ ما يُسمُّونه استيرادًا فكريًّا من الغرب. وهم ينسَون بذلك أو يتناسَون أن الآلات والماكينات والعقول الإلكترونية ليست مجرد تركيبةٍ صمَّاء من الحديد والصُّلب، بل هي ثمرة «الفكر» و«التراث» الغربي، والإنساني عامة. واقتصارنا على قطف الثمرة دون معرفةٍ عميقة بجذورها الفكرية والعقلية، قد لا يحول بيننا وبين استهلاكها و«الاستمتاع» بها، ولكنه الاستهلاك السطحي والمتعة العابرة، ويبقى بعدها أنَّ تعامُلَنا مع أحدث منجَزات التفكير الغربي بعقليةٍ تُغاير جوهر هذا التفكير، بل هي تتخذ منه — وجدانيًّا — موقفًا معاديًا، سببٌ رئيسيٌّ في هذا «الفصام»، الذي نُشاهِد آثارَه، يومًا بعد يوم، بين الإنسان العربي والتقنية الغربية (أليست حرب حزيران شاهدًا لا يُدحض على صدق هذا التصوُّر؟). إننا لا نمانع غالبًا في جلب المصانع من الخارج، ولكننا نرفض الفكر الصناعي، ونتشبَّث بعقليتنا الزراعية أو البدوية، بل نحن نتمادى في استخدام أدوات الثورة الصناعية الثانية، كالعقل الإلكتروني، ونتمادى في نفس الوقت في اجترار أفكار العصور الوسطى. وتتسع الهوَّة بيننا وبين «روح» العصر لحظةً بعد أخرى؛ لأن «الانبثاق عن واقعنا» يعني لدى البعض منا أن نستورد الثمرة دون البذرة، أن نستورد العلم دون المنهج العلمي.
إن الحصول على النتائج، واستنكارنا الفعلي للمقدمات التي أدت إليها، يجعلان منا مجموعةً شرهةً من «المستهلكين» لحضارة، لا «مشاركين» فيها. إن ما يلزمنا حقًّا، ليس هو المقدمات وحدها، وإنما هو «السياق» الذي تجيء الآلة من خاتمة المطاف مجرد مرحلة من مراحله المتصلة؛ هذه الآلة التي لا يُمكِن فهمُها بتمزيق صلتها بما سبقها من مراحل، إنها ليست مجموعةً من المعادلات الرياضية بالحديد والصلب والكهرباء، إنها أكثر من ذلك، كائنٌ حي، وتجسيدٌ عميق للفكر البشري، إنها — أيضًا — تعبيرٌ بالغ الرقي عن التراث.
ولا يقل انفصام شخصيتنا تمزقًا حين ينادي الآخرون بإحياء التراث، وكأن التراث ميتٌ يحتاج إلى إحياء، هؤلاء يقلبون القضية رأسًا على عقِب؛ فأكثر جوانب التراث سلبيةً تعيش بين ظَهْرانَينا، في حياتنا اليومية وفي حياتنا الثقافية على السواء. ونظرةٌ موضوعية على عاداتنا العقلية وسلوكنا الاجتماعي، على أساليبنا الأخلاقية ووسائلنا التربوية، على عواطفنا ومشاعرنا، ما نُبطِنه منها وما نُظهِره، تصل بنا إلى قرارٍ موضوعي يقول إن الوجدان القبَلي والعشائري والرعَوي والبدَوي والزراعي والطائفي، هو الوجدان التراثي الغالب على تكويننا النفسي. وإذا كان اتصالنا الحضاري بالغرب قد أدخل المعامل والمصانع والجامعات، فإنه رغمًا عنا قد أدخل بعضَ المظاهر المتصلة بالعلم والتصنيع، وتتناقض هذه المظاهر مع باطننا ولاوعينا تناقضًا صارخًا، أليمًا وفاجعًا. من هذه الزاوية، فالدعوة إلى إحياء التراث تصبح غير ذات موضوع، إذا لم تقترن بتمويتٍ جذري لتراثنا السلبي الحي في يقظتنا، وإذا لم تقترن بإحياءٍ حقيقي لأزهى عصور تراثنا وتراث العالم. والإحياء أو القتل، ليس مقصودًا به هذا الجانب الشكلي أو ذاك من إعادة طبع وشرح وتفسير الكتب القديمة؛ فتمويتُ تراثنا السلبي لا يتأتى بإحراق الكتب؛ فملايين الفلاحين الفقراء والمتخلفين أميُّون لا يقرَءونها، وإنما التراث السلبي في دمائهم وأسلوب حياتهم، وكذلك إحياء التراث الإيجابي، ليس بالتوثيق وحده يمكن أن يتم — فكم من خاصة المثقفين يقرَءون كتب التراث؟ — وإنما يتأتَّى الإحياء الحقيقي للتراث باستلهامه فيما يؤثِّر في أعرض قطاعاتٍ جماهيرية، قارئة وأمية على السواء. كذلك، فالموت الحقيقي للتراث السلبي الغالب، لا يتأتَّى إلا بعمليتَين متوازنتَين، ولكن جدليتان، هما تغيير التكوين المادي — الاقتصادي الاجتماعي — تغييرًا ثوريًّا في وقتٍ واحد، مع تغيير التكوين الثقافي — الفكري والوجداني — تغييرًا ثوريًّا كاملًا. كذلك (يطول الحديث هنا ويتكرر حول عملٍ سياسي منظَّم لمحو الأمية، تغيير مناهج التعليم من المرحلة الابتدائية حتى الجامعات … إلخ).
والمفارقة الجديرة بالنظرة، أن السلفيين وحدهم هم الذين ينظرون إلى قضية إحياء التراث نظرةً شكلية تكتفي بالدعوة إلى توثيقه، وهم بذلك يحصُرون تأثيرهم الفعلي في بضع عشراتٍ من المؤرخين والأكاديميين. بينما نلاحظ أن التقدُّميين، أنصار التجديد والثورة، هم الذين يستلهمون التراث استلهامًا حيًّا فاعلًا في نفوس أوسع رقعة جماهيرية. إن التقدير اللامع الذي أعطاه عبد الرحمن الشرقاوي لحياة «محمد رسول الحرية»، أو محمد عمارة في كتابه الممتاز «مسلمون ثوار»، إنما يستمد قيمته الحقيقية من ارتباطه الوثيق بمشكلات «الواقع» الذي نعيشه، وارتباطه الأكثر عمقًا بمنجَزات «المنهج العلمي في التفكير». الكتابان كلاهما صفحاتٌ مشرقة من تاريخ الإسلام، ولكن «الاختيار»، و«التحليل» هو الذي يمنحها صفات الإيجابية والفعالية والقدرة على التأثير في مجريات تطوُّرنا الفكري والروحي. ولقد شهد المسرح المصري عروضًا بالغة الجاذبية والروعة في «الفتى مهران»، و«حلاق بغداد»، و«السلطان الحائر»، و«إيزيس»، و«مأساة الحلاج»، وبين دفتَي كُتب «الحسين ثائرًا»، و«الحسين شهيدًا»، و«الراهب»، وغير ذلك من أعمالٍ امتصَّت التراث وتمثَّلَته، تراثنا وتراث غيرنا، ثم بعثَته حيًّا متجددًا بروح الواقع والعصر. هذا هو الفرق بين الذين «يتكلمون» عن إحياء التراث وبين الذين يُحيُونه بالفعل؛ الأولون يقتلون أعظم ما فيه بتكفينه في كهنوت التفاسير والورق المصقول، والآخرون يهَبون أروعَ ما فيه شرارةَ الحياة الجديدة المعاصرة. الأولون في واقع الأمر يشكِّلون جبهة الثورة المضادة للتراث، الآخرون يشكِّلون طليعة الثورة داخل التراث. وهكذا لا تعود القضية كما كانت في زمن المراهقة الفكرية: هل أنت مع أو ضد التراث؟ ولكنها تعود إلى شكلها الطبيعي: ما هي وجهة النظر التي نتَبنَّاها إزاء التراث؟ ووَفْق موقعك الفكري والاجتماعي تكون إجابتك، بل وحركتك مع الثورة أو مع الثورة المضادة. إن السلفيين يتَّسِقون في دعاواهم مع ذواتهم وأوهامهم الجوانية، أكثر من ذلك أنهم يتَّسِقون مع انتماءاتهم الطبقية، وارتباطاتهم الاجتماعية، واتجاهاتهم السياسية، ولكنهم — وهنا يلقَون حَتْفهم — يفتقدون الاتساق مع حركة الواقع في شمولها وصيرورتها؛ فالجمود التوفيقي عند أهل الوسط، والتخلف عند أهل الوراء، يتعارضان جذريًّا مع الاحتياجات الموضوعية للواقع والمتطلَّبات المتطورة له، والمستقلة عن رغبات وعواطف كُلٍّ منهما. هذا التعارض الذي ينتهي في التطبيق العملي إلى الهزائم المُرَّة الساحقة.
غير أنه يتعيَّن على التقدميين، الذين برهنوا على وفائهم العميق للتراث، بأن أضافوا بالخَلْق والإبداع إلى روح الآباء والأجداد، ورفضوا التقمُّص والتناسخ، يتعيَّن عليهم ألا ينزلقوا في مواجهة الحملة الضارية باسم التراث، والتي حمل لواءها الرجعيون القُدامى والجدُد، في مهاوي المزايدة البعيدة عن روح العلم. إن التراث — حتى في أزهى عصوره — يجسِّد مصطلحًا حضاريًّا محددًا. وكما لا ينبغي فرضُ هذا المصطلح على حياتنا الحديثة، كذلك لا ينبغي أن نفعل العكس ونفرض مصطلح الحضارة المعاصرة على التراث القديم. إن أقصى ما نستطيعه في هذا الصدد هو الاستنارة بأدوات البحث العلمي الحديثة في رؤيةٍ جديدة، وهو ما ندعوه بإعادة التقييم. أما فرض المصطلح الجديد على التراث القديم — بهدفٍ سياسي نبيل هو إقناع الآخرين بأن الاشتراكية مثلًا ليست غريبة على تراثنا — فهو يحمل من المجافاة لروح العلم ما يبتعد بالمحاولة في المدى الطويل عن الهدف النبيل. بل قد يجيء بردِّ فعلٍ عكسي نتيجةَ ما نتوهَّم أنه «أرضٌ مشتركة»؛ ففوق هذه الأرض يكسب الرجعيون بغير شك؛ لأنها في الأصل أرضُهم وليست أرضَنا. أقول ذلك وفي ذهني كتابان لا يفتقران إلى الجهد الحماسي للاشتراكية والنظرية الثورية، هما «اليمين واليسار في الإسلام» لأحمد عباس صالح، و«المادية والمثالية في فلسفة ابن رشد» لمحمد عمارة. إن هذَين الكتابَين، أولهما في التاريخ والآخر في الفلسفة، يصلُحان كنموذجَين واضحَين على هذا الفرض المتعسِّف لمصطلحٍ معاصر، على سياقٍ حضاري بعيد تمامًا عن دلالات هذا المصطلح، الذي تبلوَر وتكوَّن في ظروفٍ تاريخية مغايرة. ولا يعيب التراث مطلقًا أنه لم يعرف الاشتراكية أو المادية، ولكن يعيبنا نحن، أو نبدو كما لو كنا نعتذر عن الاشتراكية بأبي ذر الغفاري، وعن المادية بابن رشد، وعن شِعْرنا الحديث بأبي نواس وأبي تمام، كما فعل أدونيس في «مقدمة للشعر العربي»، والحقيقة أن القيم الإيجابية والسلبية في التراث هي قيمٌ تاريخية؛ أي إن مكانها من التاريخ هو الذي يحدِّد مدى تقدُّمها أو تخلُّفها بالنسبة لعصرها. ومن هنا كانت «النظرة التاريخية» للتراث هي أداة التحليل العلمي الأولى، حتى لا يتورَّط الثوريون في شِبَاك الإسقاط التي تورَّط فيها الرجعيون. إن إسقاط الاشتراكية أو المادية على التراث، كما يفعل الرومانسيون والشوفينيون والسلفيون جميعًا، يتجاوز الواقع التاريخي للتراث والواقع المعاصر لنا على السواء. وربما كان كتاب الدكتور طيب تيزيني «مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط» هو النموذج المقابل، نموذج اكتشاف المصطلح القديم في سياقه التاريخي؛ وبالتالي اكتشاف قوانين التطوُّر الاجتماعي التي أثمَرَت ذلك المصطلح القديم، وأخيرًا اكتشاف الوعي النظري الثوري الذي يمكن للتراث أن يُلهِمَنا به.
وبعدُ، فإن الربط الميكانيكي بين الأصالة والتراث، وبين المعاصرة وأوروبا، يستند على مفهومٍ رجعي ومتخلف للأصالة والمعاصرة معًا. والواقع وحده، بقوانينه الموضوعية، هو الذي يحدِّد ماذا نأخذ من هنا أو من هناك، وقبل ذلك ماذا نُضيف، والموقف الثوري من هذا الواقع، بماضيه وحاضره ومستقبله، بتراثه وانفتاحه وفتوحاته، هو وحده الذي يجعل منا أُصَلاء ومعاصرين في وقتٍ واحد؛ أصلاء بالتزامنا الحر العميق بأبعاد هذا الواقع، بإدراكه واكتشاف قوانينه، ومعاصرين باسترشاد الثوري — فكرًا وحركة — بالمنهج العلمي في التفكير، في السيطرة على هذه القوانين، وتوجيهها نحو التقدم التاريخي. بهذا المنهج فقط نستطيع تغيير واقعنا — بعد معرفته — تغييرًا ثوريًّا. وهذا التغيير وحده هو الذي يُشرِّف أسلافنا العظام؛ لأنه خير برهانٍ على أن خصوبتهم لم تلِد عقمًا. وهذا التغيير وحده أيضًا، بما يحتويه من إضافةٍ خلَّاقة مبدعة إلى التجارب الثورية للإنسانية المعاصرة، يُفسِح لنا مكانًا بارزًا بين طلائعنا المتقدمة.
-
أول هذه الضوابط هو النظرة الطبقية للتراث، والتي ينبغي ألا تضيعَ عن بالنا قط، سواء في تقييمنا لما يزال مطمورًا في بطون الكتب القديمة، أو ما يزال حيًّا في سلوكنا اليومي. إن أمثالنا الشعبية — كنموذج — مليئةٌ لحد التخمة بالتفكير العبودي والإقطاعي. إن «دراسة» هذه الأمثال واجبةٌ وضرورية، ولكنَّ «إحياءها» جريمةٌ تُشجِّع عليها الطبقاتُ الراهنة المناظرة لأسلافها من الطبقات القديمة. هكذا يصبح نجيب سرور في استلهامه لموال ياسين وبهية كاتبًا ثوريًّا، بينما يصبح رشاد رشدي في استلهامه لسيرة السيد البدوي كاتبًا رجعيًّا، رغم أن كلَيهما يبني عمله الفني بوحيٍ من التراث. إن الانتماء الطبقي والفكري للكاتب هو الذي يحدد «معنى» ارتباطه بالتراث.
-
ثاني هذه الضوابط هو النظرة القومية للتراث، والتي أقصد بها الوحدة التاريخية للشعب. هذه النظرة تذلل لنا كثيرًا من الصعاب في لحظات التحدي الحضاري؛ فما يتعذَّر علينا استنباطُه من إحدى مراحل تراثنا قد لا يتعذَّر العثور عليه من مرحلةٍ أخرى؛ أي ما لا نجده في الحضارة الإسلامية قد نجده في الحضارة السومرية أو الفرعونية أو الفينيقية أو المسيحية، وما لا نجده في هذه المراحل الحضارية من تراثنا القومي قد نجده في الإسلام، وهكذا. إن الجمود داخل إحدى هذه المراحل بغَض النظر عن خلفيته العنصرية، يحول دون الاستلهام الحقيقي الشامل لتراثنا. إننا نظلم أنفسنا ظلمًا فادحًا حين نتوهَّم أن تراثنا خلا من هذه النقطة أو تلك من نقاط التحدي الحضاري. سبب ذلك هو تصوُّر البعض منا لهذا التراث تصورًا جامدًا ضيقًا. وكثيرٌ من معضلات حياتنا الحديثة، كحرية المرأة، والرق، والانفتاح على العلم والقوالب الحديثة في الفن، وغير ذلك من مشكلات، يبدو لنا عسير الحل على التراث إذا نظرنا إليه هذه النظرة المبتسرة الظالمة، بل إن كثيرًا من أمراضنا السياسية والاجتماعية هو نتيجة هذا الانفصام والمحدودية في شخصيتنا التراثية؛ فلو أن المسيحي العربي اعتبر الإسلام جزءًا جوهريًّا من تراثه، والعكس أيضًا صحيح، ولو أن الكردي والآشوري اعتبر الحضارة العربية جزءًا من تراثه، وكذلك القومي العربي لو أنه اعتبر بابل وآشور ومصر القديمة والحضارة القبطية والفينيقية جزءًا لا يتجزأ من تراثه، إذن لانتفَت — في المستوى الاجتماعي والسياسي الراهن — عوامل الفُرقة «العنصرية» البغيضة. ولكن هذا «الاعتبار» للتراث الموحد لا يتأتَّى هكذا مصادفة وعن هوًى شخصي. وإنما يتأتَّى بتأسيس نظرةٍ قومية ثورية شاملة للتراث، لا يقوم بها الأفراد المخلصون فحسب، بل تدخُل في نسيج ثورتنا الثقافية المبتغاة. إن جهود مفكِّرٍ مستنيرٍ كحسين فوزي في «سندباد مصري»، والجهود المكملة له على يدَي كاتبٍ شاب هو محمد العزب موسى، في كتابه «وحدة التاريخ المصري» هي حقًّا جهودٌ ممتازة، ولكنها لا تكفي بحالٍ لقيام هذه النظرة القومية الواحدة للتراث. لقد صدَرَت عدة ترجمات في العراق لملحمة جلجامش، وعدة دراساتٍ جيدة حول التراث البابلي، ولكن هذا أيضًا لا يكفي. إننا نحتاج إلى «تصوُّر كامل» لتراث المنطقة حضاريًّا في تسلسله التاريخي، المتقطع والمنتظم على السواء. ومن الغريب حقًّا ألَّا تُوجَد ترجمةٌ عربية إلى الآن «لكتاب الموتى» الذي تم نقله إلى مختلف لغات العالم، بل إن كتابًا خطير الأهمية هو «وصف مصر»، الذي قام بكتابته علماء الحملة الفرنسية، لم يجد حتى الآن من يتحمَّس لترجمته، بينما تخرج علينا مطابع الحكومات العربية كل يومٍ بأطنانٍ من الورق المطبوع، الكثير منه لا يساوي ثمَن الحبر الذي سوَّده.
-
ثالث هذه الضوابط هو النظرة الإنسانية للتراث. وبغَض النظر عن أن مشاركة تراثنا القومي في سياق الحضارة الإنسانية العامة تمنحنا الحق في التفاعل بالآخذ كما تفاعلنا بالعطاء، فإن ثورة العصر الحديث تتطلب منا هذا «البعد الإنساني» في رؤية التراث، حتى لا ينتهي بنا الأمر إلى هامش التاريخ، أو نصير كبعض الحضارات المنقرضة إلى ذمة التاريخ. وفي رؤيتنا الإنسانية للتراث يجب أن نستنير بنظرتنا الطبقية ونظرتنا القومية لواقعنا. إن «دراسة» تراث العالم كله — خصوصًا مرحلته الحديثة — واجبةٌ وضرورية، ولكن «اختيار» ما يلزمنا منه هو الذي يحتاج إلى بصيرةٍ ثورية واعية باحتياجات واقعنا في التغيير، ومتطلَّبات مجتمعنا في التقدم. والتراث الإنساني المرشَّح لتلبية هذه الاحتياجات، والوفاء بهذه المتطلَّبات، هو تراثُ الوجه الثوري للحضارة العالمية الحديثة. إننا لا نحتاج مثلًا إلى التراث الاستعماري من أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، ولكننا أحوجُ ما نكون إلى التراث الاشتراكي العلمي نظريةً وتطبيقًا. هذا التراث الذي سيُمِدنا على الصعيد الفكري بأدوات التعرُّف على واقعنا معرفةً علميةً موضوعيةً عميقة. وهذا التراث هو الذي سيُمِدنا على صعيد الحركة بأدوات التغيير الثوري لواقعنا المتخلف. ولأنه واقعنا نحن بكل صفاته الفريدة، فسوف تكون ثمرة «المعرفة»، و«التغير» تجربةً فريدة بدورها تضيف نموذجًا جديدًا إلى الثورة العالمية المعاصرة.
وحين ندخُل غمار هذا الامتحان العظيم، يحقُّ لنا — فيما لو جاء الجواب بالإيجاب — أن ندعُوَ أنفسنا أُصلاءَ ومُعاصِرين. وبغير هذا التصوُّر لن نحصل على مفهومٍ عامٍّ وشامل لحركة التاريخ في بلادنا، بغير هذا التصور لن نكتشف «مسارنا الخاص» في التاريخ الإنساني.