تراثنا الهدم والبناء
الواقع العربي المعاصر لا ينتمي إلى إيقاع الحياة في الثلث الأخير من القرن العشرين، تنسحب ظلال هذه الحقيقة على كافة تفاصيل وجودنا المادي والمعنوي، وواقعنا ليس متجانسًا، لا من حيث الزمان ولا من حيث المكان. بعض أقطارنا تعيش شكلًا ومعنًى بين أحضان المجتمع البدائي بكل مظاهره القبَلية والعشائرية والبدوية والطائفية. والبعض الآخر في خدعة التلوُّن بمظاهر الحضارة الحديثة، وجوهره في القول والفعل ما زال في معظمه مُكوَّنًا من عناصر الماضي السحيق. وفي المجتمع الواحد تتباين القيَم وعادات السلوك والتقاليد، من طبقةٍ إلى أخرى، تباينًا حادًّا يكاد يمزِّق ما ندعوه بالإطار القومي للشعب، بكل ما يشتمل عليه هذا الإطار من أفكار ومشاعر وخلجات مشتركة.
لذلك تبدو قضية التراث، من بين القضايا العديدة التي تواجه الإنسان العربي في عصرنا، قضيةً شائكةً معقدةً مثقَلة بالتناقضات. وإذا كان لكل طبقة اختيارها الأيديولوجي المرتبط، على هذا النحو أو ذاك، بمصلحتها الاقتصادية ومحتواها الاجتماعي، فإن هذا الاختيار — عند الطبقات الثورية — لا يتم بمعزل عن تصوُّرها الأشمل للكيان القومي، وتصوُّرها الأعم للمحيط الإنساني الواسع. إن ضيق «الاختيار» واتساعه متصلٌ أوثقَ الاتصال بطبيعة الأفق الاقتصادي والاجتماعي للطبقة التي تختار؛ فكلما انحصَرَت مصالحها في دائرةٍ أنانيةٍ ضيقة لم تتسع رؤيتها واختيارها الفكري لما هو أنفع للمجتمع ككل، وما هو أكثر فائدةً للإنسانية جمعاء.
وهكذا، فالطبقات الثورية، بطبيعة محتواها الاجتماعي، هي الشريحة الأكثر انفتاحًا في رفضها وقبولها لما في تراثنا وتراث غيرنا من تقاليدَ وقيَم؛ ذلك أن اختيارها لا يتم بمعزلٍ عن ضرورات «التقدم» التاريخي للشعب في مجموعه، وللبشرية كلها. إن مصلحتها الذاتية لا تتعارض مع المصلحة الموضوعية للوطن والعالم، بل لعل مصلحتها تلك تتحقق جدليًّا من خلال السياق المتقدِّم للمسيرة القومية والعالمية معًا.
والطبقات الثورية في الوطن ليست بمنأًى عن كافة الأدواء التي يعاني منها هذا الوطن، ولكن معاناتها تختلف كمًّا وكيفًا عن معاناة غيرها. إن التخلف الحضاري المرعب — مثلًا — يزيدها فقرًا وشقاءً؛ فهي التي تتحمل الأعباء المادية لهذا التخلف، أما الأعباء المعنوية فالكل فيها سواء، ربما كان الفَرق أن غيرها لا يشعر فقط بهذا التخلف (وهذا نفسه أحد مظاهر التخلُّف) بينما تشعر هي به (وهذا أحد مظاهر التقدُّم).
والتقاليد غير الديمقراطية في أسلوب الحكم — مثلًا أيضًا — يقع عِبئُها الكامل على كاهل الطبقات المطحونة، يقيِّدها ويغلُّ أيديَها من المشاركة في صنع الحياة، يحاول جاهدًا أن يُبقيَها على هامش التاريخ.
والطبقات الثورية في الوطن العربي، بمعاناتها الهائلة من التخلف والدكتاتورية، تعي بهذا القدْر أو ذاك أن انسحاقها ليس انسحاقًا فئويًّا فحسب، إنه في اللحظة عينها انسحاقٌ لمقدَّرات المجتمع كله، وإهدارٌ للكيان القومي، واختلالٌ في الحركة الإنسانية العامة؛ لذلك، فإنها حين تدرك مأساتها الخاصة، فهي تدرك مأساة الوطن والإنسان أينما كان. حين تحاول بالوعي أن تتخطى حدود أزمتها، إنما تحاول أن تنتشل المجتمع كله من الوهدة التي يتردَّى فيها، وأن تنقذ الإنسانية مما يهدِّدها في مكانٍ ما على ظهر الكوكب. ووعيُها الذي يُملي اختيارها هو الوعي الثوري القادر على استبصار ما هو أبعدُ من المصلحة الذاتية الضيقة. إن هزيمة ٦٧، على سبيل المثال، كانت هزيمةً قويةً شاملة. ولا شك أن الاستعمار والصهيونية هما اللذان ألحقَا بنا الهزيمة، ولكن الطبقات الرجعية في الوطن العربي هي المسئول الأول؛ لأنها هي التي وطَّدَت أركان التخلف والدكتاتورية لحساب مصالحها الأنانية العابرة، مما مهَّد السبيل للغزو؛ هذا إذا تغاضَينا عن تشابك المصالح بين هذه الطبقات والاستعمار. إن الطبقات الثورية على نقيضٍ من ذلك، تتوحد مصالحها، في رد التخلف وإقصاء الدكتاتورية، مع مصلحة الوطن في الاستقلال والتقدم الاجتماعي. ومن هنا تجيء موافقتُنا على أن الهزيمة كانت — قبل ٦٧ وبعدها — هزيمةً حضارية، وأن التحدي الذي يواجهنا ما زال تحديًا حضاريًّا، ولكن مضمون هذه الهزيمة هو الذي يحدِّد — بصورةٍ مضادة — مقوِّمات النصر. إنه بالقطع، ليس مضمونًا تقنيًّا؛ لأنه لم تكن الآلة هي التي هُزمَت، وإنما كان الإنسان، كان البناء الاجتماعي للوطن.
وإذا كانت الرجعية العربية قد طرحَت قضية التراث في مواجهة الهزيمة، بمعنى الانغلاق على النفس والاكتفاء بالذات، فإن المعنى الوحيد لهذا الطرح هو أنها ما زالت مُبقِيةً على اختيارها الأيديولوجي الضيِّق الأفق، وليس هذا بمستغرب إذا نظرنا إليه في سياق وضعها الاقتصادي والاجتماعي. إن هذا معناه هو أن الهزيمة الحضارية — على أية صورة كانت عسكرية أو اقتصادية أو سياسية — باقيةٌ ما بقيَت هذه الرجعية أو الفكرية ممسكةً بمصير العقل والوجدان العربي، أما الثورة العربية، ثورة الطبقات المقهورة، فهي ثورة الوطن كله، هي خلاصنا القومي. ومن هنا كان واجبها في التصدِّي لقضية التراث وعيًا طبقيًّا واختيارًا قوميًّا في الوقت نفسه، لا ينبغي أن تُعرض عنه أو تجفُل منه، وإنما عليها أن تتبنى المدخل الصحيح للرفض والقبول والهدم والبناء.
•••
ليس التراث شيئًا جامدًا ولا مقدَّسًا ولا مطلقًا خارج الزمان والمكان. وإنما هو إحدى ثمرات فكر الإنسان. ومن البديهيات أن الإنسان، ككائنٍ حي، يخضع لمقتضَيات البيئة والوراثة، وضرورات الصراع بينه وبين الطبيعة من جانب وبين نفسه من جانبٍ آخر؛ لهذا كان التراث الإنساني كله تعبيرًا عن حركة هذه المجموعة من التناقضات التي يتجاور فيها السلب مع الإيجاب، الفعل ورد الفعل، التخلف والتقدم، الشد والجذب، المد والجزر، إلى غير ذلك من أقطابٍ متصارعة في مختلف أشكال المادة الحية والجامدة، في مختلف أشكال الفكر وصوره؛ لذلك كانت عملية «الهدم والبناء» ضرورةً حيوية تتم تلقائيًّا فيما يختص بنمو الكائنات الدنيا، ولكن الوعي بها لدى الكائنات الراقية ينعطف بمجراها من نهر الصُّدفة والعَفْوية والعشوائية، إلى دنيا التوجيه والتخطيط. وهكذا نستطيع أن نفهم لماذا أكبَّت أوروبا في فجر نهضتها على تراث اليونان والرومان، وناضلَت المسيحية في عقر دارها، ونجحَت في فتح عصرٍ جديد، لا للبرجوازية وحدها، ولا أوروبا وحدها، ولكن للإنسانية كلها، ولماذا أخفق أبسماتيك، فرعون مصر (٧١٢–٦٦٦ق.م.) في دعوته «عودوا إلى القدماء» بإحيائه الشعائر القديمة وأساليب الفن القديم، ولم تكَد تمضي مائة سنة حتى كان الغزاة من كل جانب يكتسحون البلاد. إن الوعي بالتراث — وليست العودة إليه — هو البوصلة التي تهدينا إلى طريق التقدم، وبغيرها إما أن ننزلق في مهاوي الصُّدفة والتلقائية، وحينئذٍ نتحول إلى قطيعٍ من الكائنات الدنيا، وإما أن نرتبط بتخطيطٍ مضاد تدبِّره الطبقات الرجعية.
لقد عرف التاريخ في كل بقعة من عالمنا تقريبًا، عملية الهدم والبناء للتراث؛ ففي أحد العصور تعلو أصواتٌ على غيرها مطالبةً بإحياء هذه المرحلة أو تلك من مراحل التراث، وفي عصرٍ آخر ترتفع أصواتٌ جديدةٌ معادية لما كان تم إحياؤه. وليس هذا مقصورًا على التراث، والوطن، والشعب، بل إن قضية الأخذ عن تراث الشعوب الأخرى كانت، ولا تزال، من القضايا المحورية في تاريخ الثقافة؛ دائمًا كان هناك من يطلب فتح النوافذ على الجيران ومن كان يطلب إغلاقها بإحكام. ولم تكن هذه كلها — حركات الإحياء والنسيان والانفتاح والانغلاق — مجرد تياراتٍ فكريةٍ طافية على سطح المجتمع، وإنما تجسيدًا روحيًّا عميقًا لما يغلي في باطن هذا المجتمع من تناقضات. كان «الهدم والبناء» عمليةً اجتماعية، ولا يزال، ليس التراث فيها رمزًا تجريديًّا لما يحدث، ولكنه مساهمةٌ إيجابيةٌ نشيطة وفعَّالة فيما يجري بالفعل.
ومن هنا، فليس ترفًا نظريًّا أن يحدِّد الثوريون العرب «اختيارهم» الأيديولوجي في قضية التراث؛ ذلك أنها في الأساس ليست قضيةً وجدانية، وإنما هي تُطرح في أيامنا — بمبادرة مشبوهة من الرجعية العربية — كقضيةٍ سياسيةٍ في المقام الأول، تخص الشكل الاجتماعي لوطننا، وتتخذ من التشريعات واللوائح ما يصوغ منها «دستورًا» قابلًا للتطبيق و«حكمًا» مشمولًا بالنفاذ. إن أجهزة الإعلام والفنون وبرامج التعليم هي أوعية التوصيل الجماهيرية الواسعة الانتشار، وهي السلطة ذات النفوذ على العقل والوجدان العربي؛ لذلك كان الاختيار الثوري في قضية التراث، بندًا أساسيًّا في جدول أعمال المثقفين الثوريين، أو هكذا ينبغي أن يكون.
الثوري لا يُسقِط مثلًا ذهنيًّا على الواقع ويقسِرُه داخله، وإنما هو يسترشد فحسب بالنظرية الثورية في التغيير، بالتعرُّف العلمي الدقيق على أبعاد هذا الواقع ومقوِّماته. حينئذٍ يصوغ اختيارَه للتراث — ولغيره من عناصر الحياة — على ضوء الاحتياجات الموضوعية بهذا الواقع. والثوري العربي يدرك إدراكًا عميقًا أن التخلف الحضاري المرعب، والتقاليد غير الديمقراطية في أسلوب الحكم، خطَّان عريضان على جبين واقعه، تندرج تحتهما تفاصيلُ موغلةٌ في التشابك والتعقيد، أهمها أن هذا الوطن مغلولٌ بقيودٍ مرئية وأخرى لا تُرى، أن تحرير الأرض من الاحتلال يتساوى مع تحرير الإنسان من الفقر والجهل والخوف؛ ومن ثَم كان التراث الذي تُنجِز الرجعية مهمة إحيائه، ويحرص الاستعمار على بقائه وتدعيمه، هو تراث التفاوت الطبقي، ومعاداة العلم، والاستسلام للقهر. وما أثقلَ الترِكةَ التي ورثناها عبْر الأجيال والقرون من الغزاة والطغاة في هذا الصدد! هذا هو التراث الذي يحتاج إلى مواجهةٍ شجاعة، توضِّح أصوله ومنابعه وآثاره على تطوُّرنا الاجتماعي، إنه التراث الذي يحتاج إلى «الهدم» بمعاول الدراسة العلمية والبحث الموضوعي، بكشف همزة الوصل بينه وبين القوى الاجتماعية المستفيدة من رُكامه الأيديولوجي، بفضح الأستار التي يتلفَّح بها الرجعيون وهم يخاطبون ضميرًا شعبيًّا مُرهَقًا بهذه الرواسب، التي تحوَّلَت مع الزمن إلى قيمٍ وتقاليدَ وعاداتٍ وعقائدَ تتحكَّم لاشعوريًّا في سلوكهم وفي إيقاع حياتهم، مما يتفق ومصلحة «سادتهم» ويتعارض مع مصالحهم. غير أن هناك وجهًا آخر للتراث، سواء كان نابعًا من أرضنا أو من أرض غيرنا — التي سبق أن شاركنا في ريِّها — يشتمل على مجموعةٍ أخرى من القيَم والتقاليد، التي يعمل الرجعيون بلا هوادة على إخفائها ونسيانها وتجاهلها، بوسائلهم المؤكَّدة الفعالية والتأثير. هذه القيَم الثورية في حياة شعبنا، وغيره من الشعوب، هي التي تحتاج إلى البعث والإحياء و«البناء»، وربما كان تجاوُر هذا القيم وتلك هو الدليل الأكبر على طبقية التراث، مما يفرض على المتصدِّين لقضيته، النظرة الطبقية. غير أن شيوع هذه القيَم المتعارضة المتجاورة بين مختلف طبقات الشعب، يفرض بدوره النظرة القومية. كما أن تشابه هذه القيم عند شعبنا مع قيم الشعوب الأخرى يفرض أخيرًا النظرة الإنسانية. وتلك هي العناصر الثلاثة الرئيسية التي تتكون منها نظرة الثوريين إلى التراث، ومن هنا كانت أكثر النظرات رحابةً وانفتاحًا وشمولًا؛ ذلك أن الطبقات بتركيزها على القيَم السلبية في التراث، وبصدِّها عن تراث الإنسانية، إنما تُحاصِر القضية منذ البداية في الدائرة الطبقية وحدها، دائرتها هي فحسب، غير أنها بنرجسيَّتها القومية تتحدث باسم الوطن كله، فتغلق في وجهه باب التقدم الإنساني، وتفتح له من الناحية الأخرى أبواب الشوفينية والعنصرية والعِرقية.
ولو أن باحثينا الاجتماعيين قد أُتيحَت لهم إمكانيات الدراسة الميدانية الواسعة في هذا المجال، لاكتشفنا أن ظاهرة الإيمان بحياة الموتى، والتعامل معهم كأحياء منحهم الموت قدرةً استثنائية تفوق طاقة البشر، هي ظاهرةٌ قوميةٌ شاملة للوطن بأَسْره، بمختلف طبقاته وفئاته الاجتماعية، وأنها تبدأ في زيارة ملايين الموتى من الأقرباء، وتنتهي بتقديم القرابين والولاء لألوف الموتى من «الأولياء والقديسين»؛ وبالتالي فهي رؤيةٌ كاملة للوجود، لا تختلف عن العالم الفكري الكامل لمجموعة القيم والعادات والتقاليد، بل تتكامل معه في خلق دنيا وهمية بديلة للواقع الحي، في استبدال العلم بالمعجزة الغيبية في مواجهة المشكلات، تتكامل في صياغته للسلوك الفردي والاجتماعي، تتناقض مع متطلبات العصر الذي نعيش فيه فتلحق بنا الهزائم تلو الهزائم.
يدلنا ذلك على أن مجموعة القيَم والعادات والأعراف والمعتقدات والتقاليد، التي تُشكِّل فيما بينها تراثًا راسخًا في النفس العربية المعاصرة، قد انحدرَت إلينا تلقائيًّا من المجتمع الوثني والبدائي القديم، وأن بقاءها طيلة هذا الزمان ليس شاهدًا على قوَّتها الذاتية — التي سرعان ما تتبخَّر أمام قوة العلم — وإنما يستمد هذا البقاء عناصره الأساسية من أن تراثنا، على مدى تاريخه، لم يتعرض لما أسمِّيه بعملية «الهدم والبناء»، فظلَّت هذه التراكمات الغيبية تتوالى قرنًا بعد قرن، وعصرًا بعد الآخر، حتى وصلنا إلى هذه النتيجة الكيفية المرعبة، وهي أن الإنسان في بلادنا يعيش كيانًا مزدوجًا، يعيش في عالمٍ «آخر» موازٍ لعالمه الحقيقي، وربما كان البعض منا يَعُون هذه المفارقة المؤسية فيتمزقون، ولكن الغالبية الساحقة تحيا عمرها في انسجامٍ متوهَّم بين العالمَين. ولقد عرفَت بلادنا ثوراتٍ فكريةً عديدة بعد انهيار الحضارات القديمة، فيما بين النهرَين ومصر الفرعونية وفينيقيا وغيرها، عَرفَت المسيحيةَ والإسلامَ والفكرَ الحديث، ولكن فترات الثورة كانت دائمًا بالغة القِصَر، إذا قيست بمتطلبات الهدم والبناء، وضرورات التصفية الجذرية العميقة للقيَم والعادات، للأبنية العلوية في الهرم الاجتماعي وانعكاساتها المؤثِّرة على قواعد السلوك ومناهج الحياة. كانت فتراتُ «الانحطاط» هي الأطول عمرًا، وكانت الطبقات القائدة للثورة، سرعان ما تستكين لشهوة السلطة والضعف، أو التركيز على الجوانب المادية المباشرة والمحقِّقة لمكاسبها الآنيَّة الضيقة، أو انكسارها أمام شوكة الغزاة الأجانب؛ لذلك استطاع مجتمع السحر القديم أن يغزوَ مجتمع الدين في العصر الوسيط ومجتمع العلم في العصر الحديث، وتوغَّلَت عقائد الإنسان البدائي وتقاليد البشرية القديمة في العقائد الجديدة والبشرية المعاصرة؛ فبالرغم من اختلاف إيمان المسيحي عن إيمان المسلم، نجد أنهما يسلكان — عاطفيًّا واجتماعيًّا، نظريًّا وعمليًّا — سلوكًا واحدًا مشتركًا، تمتد جذوره إلى قيم الإنسان القديم ومعتقداته الأساسية، يختلف الديكور، ربما، ولكن الجوهر لا يختلف، بل ويختفي اختلاف الديكور أيضًا إذا عبَرنا دهاليز الحياة الدينية إلى شُرفات الحياة الدنيا؛ حينئذٍ يتوحد المظهر والجوهر توحدًا تامًّا. وربما كان هذا يعني لدى البعض دليلًا على الوحدة القومية للشعب، ولكنه في يقيني دليلٌ سلبي. أما معناه الحقيقي والأول، فهو أن ثمَّة ثقوبًا واسعة في كل ما عرفناه من ثوراتٍ فكرية وسيطة حديثة، قد سمحَت لقَدْرٍ كبير من تراثنا السلبي أن يتسرَّب إلى حياتنا الاجتماعية والعقلية والوجدانية، وأن يُحكِمَ قبضته في السيطرة على مقادير شعوبنا كل هذا الزمان. إن غياب «الهدم والبناء»، كعمليةٍ ثوريةٍ من برامج تلك الثورات، قد أتاح لهذه الغيبيات فرصة السيادة.
إن هذه النتيجة الكيفية التي وصلنا إليها عبْر تراكمات الزمن — وهي قيام عالمٍ آخرَ موازٍ لعالمنا في حياة الشخصية العربية — يلزم لمواجهتها منهجٌ كيفيٌّ مضاد؛ فالأسلوب الإصلاحي يكتفي بالترميم والترقيع؛ أي الشكل، وكأنه يعالج جزئياتٍ منفصلة أو تراكماتٍ في مرحلة النمو. أما الأسلوب الثوري فيقتضي التغيير الجذري ماديًّا ومعنويًّا. يقتضي الإبقاء على «عالَمٍ واحد» في حياتنا هو العالم الواقعي، وترسيخ منهجٍ واحد يضبط سلوكنا الاجتماعي هو المنهج العلمي. يقتضي تقديم البديل الوحيد الذي يمكن أن يحلَّ مكان الوهم والأسطورة في مواجهة المشكلات وتلبية الاحتياجات، وهو التغيير الثوري للمجتمع، تغيير قاعدته المادية — الاقتصادية والاجتماعية — وبنائه الفوقي من قيم وأفكار وتقاليد وعادات وسلوك في وقتٍ واحد. ولقد ثبت بالدليل القاطع، من التجربة التاريخية، أنه ليس صحيحًا أن تتغير القيم تلقائيًّا غداة تغيير الاقتصاد والسياسة.
•••
يتبدى لنا هذا الدليل الدامغ في ذلك الكم الهائل مما ندعوه تراثًا شعبيًّا، وهو التنظير البليغ لقيَم وأفكار وعقائد الأقدمين. إن الأمثلة العامية الدارجة، والحكايات، والحواديت، والمواويل، والحِكَم التي تلهج بها ألسنتُنا وأغانينا في أفراحنا وتعازينا وعلاقاتنا الاجتماعية، تصوغ كلها وبإحكامٍ دقيق ذلك الصراع العنيف بين أيديولوجية الشعب المتوارثة وواقعه. ولعل الأمثال الشعبية بالذات، بإيجازها وسجعها، تكتشف لنا أكثر من غيرها ذلك النسَق المتضارب من الأفكار والقيَم والمشاعر، التي تحرك عقول ووجدانات شعبنا في إطارٍ معيَّن من السلوك الاجتماعي، لا يتسق مع المرحلة التاريخية إلا مجازًا ورمزًا إلى أوجه الشبه بين المجتمع الطبقي الذي يُظلِّلهم والمجتمع الطبقي الذي ظلَّل أسلافنا. وهي أوجهٌ شبه مجازية؛ لأن ثمَّة تناقضًا موضوعيًّا بين المرحلة التاريخية المعاصرة والمجتمع القديم.
وفي حتمية البناء الطبقي للمجتمع يُردِّد هذه الأمثال:
وعن مظاهر الانسحاق الطبقي تقول الأمثال:
وحول علامات الهوان الطبقي تقول الأمثال:
وحول علامات الهوان الطبقي تقول الأمثال:
ومن علامات الفساد الاجتماعي ما يرمز إليه المثل القائل:
وفي المجتمع الطبقي تطغى الروح الفردية بمعناها الأناني، فتقول الأمثال:
أما الإيمان بالحظ والقدَر والصُّدَف، فله نصيب الأسد من الأمثال:
هذه كلها ليست أكثر من نماذج وعينات لحشدٍ هائلٍ من الأمثال الشعبية المدعِّمة للبناء الطبقي بكافة عناصره الاقتصادية والاجتماعية والخُلقية. وبالرغم من أن هذا الرصيد السلبي من الأمثال هو الرصيد الأكبر، فإن للعملة وجهًا آخر هو تلك المجموعة من الأمثال المناهضة لهذا التكوين الفكري، وهو الأمر الذي يؤكِّد أن التراث الشعبي في جملته يُبلوِر خبرةً اجتماعيةً للشعب على مدى التاريخ، ولكنه يؤكد من زاويةٍ أخرى أن هذه الخبرة التاريخية ليست كيانًا متجانسًا، وإنما هي تعكس تناقضًا واضحًا بين تجارب القاهرين وتجارب المقهورين. وإذا كانت الفئات الممتازة طبقيًّا قد استطاعت، على مَر الزمن، أن تُروِّج لأكثر المبادئ انهزاميةً حتى تتم لها السيطرة على العقل والوجدان، في موازاة سيطرتها على مقاليد السلطة، فإن هذا يتطلب من الطبقات المطحونة أن تُحييَ الوجه الإيجابي المقابل في التراث.
وهو الوجه الذي يقف ضد القهر، كما تقول الأمثال:
وتحل القيم الجماعية مكان القيم الفردية الأنانية، كما تقول الأمثال:
وتصبح المساواة قيمةً مؤكدة، كما تقول هذه الأمثال:
وهكذا يُدان الفساد الاجتماعي كجمع الثروة بغير الطريق الحلال، كما يقول المثل:
وتغيب الانتهازية كعُرفٍ اجتماعي، كما يجيء في المثل:
«أعمل حاجتي بإيدي، ولا أقول للكلب يا سيدي.»
إن هذه الأمثال والأغاني والحكايات الشعبية هي الصياغة «التبريرية» لما يأتي به الذين يردِّدونها من أفعال، إنها فلسفة السلوك الاجتماعي الفعلي، وليست زخرفًا لغويًّا أو بهارجَ لفظيةً معزولةً عن الواقع، وإذا كانت القيم والعادات الاجتماعية المضادة لروح العلم، لا يمكن إلغاؤها بجرة قلَم؛ إذ هي تعبِّر عن مشكلاتٍ حقيقية واحتياجاتٍ موضوعية، فإن الصياغة التبريرية لهذه التقاليد في معاداتها للتقدم تعبِّر هي الأخرى بطريقتها الخاصة عن هذا الواقع، وإذا كان الأسلوب الثوري في تصفية السلوك الاجتماعي المتخلف هو تقديم البديل العلمي للحلول الوهمية في معالجة المشكلات، وإذا كان هذا البديل يتطلب مجموعةً مستقاة من المنجَزات المادية والمعنوية لتغيير الواقع، فإن الأسلوب الثوري في تصفية الصياغة التبريرية الرجعية لا يتطلب فحسب تقديم الصياغة العلمية البديلة، بل يتطلب أيضًا مقدمةً ضرورية وبالغة الأهمية، هي دراسة هذا التراث السلبي، وتحليله تحليلًا طبقيًّا وقوميًّا وإنسانيًّا عميقًا، يكشف للذين يعيشون في حماه، الجذور والأصول والمنابع التي وفد إلينا منها، والطبقات التي روَّجَت له وأفادت منه، والطبقات التي لا تزال تروِّج له وتفيد منه، والآثار الاجتماعية والفكرية المترتِّبة عليه، في تعويق المجتمع عن إحراز خطوةٍ واحدة في طريق التقدم، وتكبيله وشلِّه عن مواجهة التحديات المعاصرة له على كل الجبهات. إن تحليلًا عميقًا كهذا، لا يقدِّم لنا الخريطة الطبقية للمجتمع فحسب، ولا خريطة الغايات والوسائل في عملنا وحده. وإنما هو يقوم، بالإضافة إلى ذلك كله، بعملية الهدم والبناء في حياة المجتمع، يجدِّد خلاياه الثورية، ويغيِّر الدماء الفاسدة، ويقتل الجراثيم المميتة. إن الهدم والبناء؛ هذه العملية التي لا تتم تلقائيًّا في حياة النبات والحيوان والجهاز العضوي للإنسان، لا بد وأن تتم على المستوى الفكري والاجتماعي للإنسان العربي؛ فتلك هي أولى بوادر اليقظة الثورية الحقيقية، إننا في هذا الصدد نتعلَّم من العالم أن الاستمرارية الحضارية، وسريان التراث في الشرايين الرئيسية للثقافة القومية، كما فعل هوميروس وسوفوكليس وتشوشر وشيكسبير، بصياغاتهم الجديدة لتراث الشعوب الأوروبية، التي غربلَت هذا التراث جيلًا بعد جيل، عصرًا بعد عصر؛ بحيث إنه لم يُحدث فجوةً تتسع يومًا بعد يوم بين تراث الشعب والحضارات المتعاقبة. كما أن ثراء الفكر الأوروبي مدينٌ بإضافات العصور وتفسيراتها المختلفة لتراث الشعب.
•••
ولئن كانت الحضارات القديمة هي «مصدر» تلك المجموعة السلبية من القيم والتقاليد والمأثورات الشعبية من أمثال وحكايات ومواويل، فإن هذا لا يعني مطلقًا أن هذه الحضارات مسئولة عن الوجه الدميم للتراث، بل ولا يعني مطلقًا أن هذا الوجه كان دميمًا في مسقط رأسه القديم. إن المسئولية بكاملها في سريان الدم التراثي الفاسد في شرايين المعاصرين، تقع على وسائل انتقال التراث التاريخية والاجتماعية من عصر إلى آخر، ولا علاقة لها بالنبع الأول؛ حيث لم تكن هذه القيم والتقاليد بالنسبة له تراثًا، وإنما كانت أسلوبًا في الحياة ابتدعه الإنسان القديم بخيره وشره ابتداعًا. ومن الظلم الفادح لذلك الجد القديم أن نلومه على أسلوبه الخاص في الحياة، وإنما يقع اللوم على عاتق الذين استَيسَروا التقليد الأعمى والمحاكاة الحرفية، بدلًا من الابتكار والخلق، بما يناسب حياتهم الجديدة، حتى لو تطلب هذا الابتكار الأخذ عن «بعض» القديم، فالخلق في هذه الحالة هو الاختيار. إن القدماء لم يُلزِمونا بشيء وقد كان الدرس الأول الجدير بالحفظ عنهم هو «الإبداع»، والحق أنه لم يكن مجرد «استسهال» أن قلَّدنا أسلافنا وسِرْنا على منوالهم، بل لو أننا تعمَّقنا في هذا التعبير لاكتشفنا خطأه؛ فنحن لم نَسِر على منوالهم بالضبط، لقد أخذنا عنهم النتائج دون المقدمات التي أدَّت إليها. والمقدمات والنتائج في حياتهم تشكل كلًّا واحدًا لا يقبل القسمة، وحين يواجهنا العصر بمقدماتٍ جديدة ولا نبني عليها نتائجها، بل نركِّب عليها نتائج الأقدمين، فإن ذلك ليس هو المنوال الذي ساروا عليه. لقد كان الاتساق المنهجي رايتهم أما التناقض فهو راية «المحافظين» الذين جاءوا من بعدهم. لم يكن استسهالًا أنْ قلَّدْنا الأسلاف، بل كان الأمر عمقًا. كانت القوى المحافظة دائمًا على مَر العصور ترى في نتائج القدماء، دون ربطها بالمقدمات، دعائمَ قويةً تسند نظامها. كان المحافظون دومًا هم الذين يُغفِلون السياق التاريخي للتجربة الاجتماعية، ويلتقطون أكثر الجوانب سلبًا في التراث فيُلمِّعونها، أما الوجه الإيجابي فيطفئونه؛ ذلك أن التراث — كل تراث — يتضمن بصفة مستمرة «وجهَين»؛ أحدهما نسبي يبلور الهموم الموقوتة، المتغيرة، وذلك هو الوجه الذي ينبغي ألا يُورث؛ لأنه يتناقض مع الظروف الجديدة، بل يكتفي علماء التاريخ والنفس والاقتصاد بدراسته في سياقه، لاستنباط العبر والدروس. وهناك أيضًا الوجه المطلَق للتراث الذي يبلور الخبرة الإنسانية العامة. وهو الوجه الأحق بالتوارث؛ لأن الظروف الجديدة تؤكِّد الحاجة إليه ولا تتناقض معه؛ هذا الموقف من الوجه النسبي والوجه المطلَق للتراث، لا يتخذه إلا الذين يرغبون في تقدم المجتمع وتطويره وتجديده. أما القوى المحافظة فتقلب الآية على المجتمع أن يرثَ الوجه النسبي، وأن ينسى الوجه المطلَق. وهي حين تتبنى الوجه النسبي تتبناه مقصورًا على السطح الخارجي، دون الجذور الثائرة الغائرة، فتعزل العلة عن المعلول والسبب عن النتيجة، برؤية براجماتية للأمور، تفصل الشكل عن المضمون، وتأخذ القشور التي تعنيها وترمي بالجوهر في غياهب النسيان. وهكذا فهي تقوم بعملية الهدم والبناء من وجهة نظرها لا من وجهة نظر التقدم، فتهدم ما يستحق البناء وتبني ما يستحق الهدم؛ لذلك تتراكم السلبيات الموروثة جيلًا بعد جيل وعصرًا بعد عصر — لطول ما استولت القوى الرجعية على السلطة — حتى تتحول في خاتمة المطاف إلى «معتقدات» راسخة في عمق أعماق الضمير.
ولولا أن المواهب الفنية الرئيسية في الأدب العربي الحديث تنتمي، بصورة أو بأخرى، إلى اليسار بمعانيه المختلفة، لتوارى إلى الأبد عن عقولنا ووجداننا أروع ما في تراثنا من قيم وتقاليد. ومع هذا فإن منجَزات الأدب والفن في استلهام الوجه الإيجابي العظيم في التراث، ليست أكثر من نقطة في بحر أجهزة الإعلام وبرامج التعليم وبقية أدوات التوصيل الجماهيرية الواسعة الانتشار والنفوذ، والتي تخصَّصَت غالبيتها في إبراز الوجه المعتم وتلميعه، وإغفال الجوانب المشرقة، بإخفائها عمدًا عن العيون والآذان والأفئدة. وما زالت هناك من القيم والتقاليد الثورية المطمورة في تراثنا، ما لم تعرف بعدُ بعثًا ولا إحياءً؛ لأنها تحتاج إلى طاقة الآداب والفنون، تحتاج إلى ثورةٍ ثقافيةٍ شاملة تقودها الطبقات المؤهَّلة تاريخيًّا واجتماعيًّا لذلك.
إننا نستطيع أن نستلهم الكثير من التراث الفرعوني والبابلي والفينيقي، وغير ذلك من تراث العصور القديمة، سواء في المبادئ العامة للتفكير أو في مناهج السلوك والعلاقات الاجتماعية، على أن يكون استلهامنا لأكثر العناصر قدرةً على توجيه مجتمعنا وإنساننا في طريق التقدم. وسوف أضربُ هنا مجموعةً من الأمثلة تعمُر بها كتب الأجانب عن حضارتنا، وتخلو منها برامجنا التعليمية والتثقيفية والأكاديمية خلوًّا شبه تام.
إذا كانت الديمقراطية والعدل الاجتماعي من المشكلات الحية التي تؤرق عصرنا الحديث، فإننا سوف نكتشف صفحاتٍ رائعةً في تاريخنا القديم، تؤكِّد حرص الإنسان في بلادنا على مقاومة القهر والطغيان والظلم الاجتماعي، بل إن المفارقة الجديرة بالتأمل هي أن عصور الاستبداد في مصر الفرعونية مثلًا، هي التي تُمِدنا بتراثٍ ديمقراطي عظيم، لا في أسلوب الحكم، وإنما في مواجهته من جانب الحكماء والمواطنين البسطاء، وأحيانًا على ألسنة الملوك في خطبة العرش التي يوجهونها إلى وزرائهم، وأحيانًا على واجهات المقابر، حتى يتجنب الميت عقاب الآلهة. تعدَّدَت الوسائل، ولكن الغاية واحدة، وهي أن الضمير الإنساني لدى أجدادنا كان يرجف ويهتز من كل ما ينتاب البلاد، ويهدِّد أمن البشر وطمأنينتهم. هكذا تقول لنا أقدم الوثائق، وهي ورقةٌ محفوظة الآن بمتحف برلين، ويميل برستيد إلى تسميتها «محاورة بين إنسانٍ يائسٍ سئم الحياة وبين روحه»؛ لأن عنوانها القديم فُقد، وهي أقرب لأن تكون قصيدة لشاعر أضنَته الحياة وعذاباتها، فيقول:
«لمن أتكلم اليوم؟ فإن الذي كان يظن أنه يثير الغضب بأخلاقه الشريرة يُسر منه الناس جميعًا، رغم أن خطيئته فظيعة.
لمن أتكلم اليوم؟ فإن الناس يسرقون؟ وكل إنسانٍ يغتصبُ متاع جاره. لمن أتكلم اليوم؟ فإن الخائن صار أمينًا، ولكن الأخ الذي يأتي بها (يعني الأمانة) يصير عدوًّا.
لمن أتكلم اليوم؟ لا يُوجد رجلٌ عادل.
وما أقربَ هذه المعاني من تلك التأملات الحزينة، التي سجَّلها أحد كهنة عين شمس في مؤلَّف ظل متداوَلًا قرونًا طويلة، حتى نقله كاتبٌ من عصر الأسرة الثامنة عشرة على لوحة من الخشب، محفوظة الآن بالمتحف البريطاني! واسم الكاهن الحزين «خع خبر رع سننب»، يقول في تأملاته المؤسية:
وفي قصة «الفلاح الفصيح» التي أتيح لها أكثر من غيرها أن تُبعث من كهوف النسيان يقول ذلك الفلاح الإهناسي، الذي عاش في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد: «إن العدالة خالدة الذكرى؛ فهي تنزل مع من يُقيمها إلى القير، ولكن اسمه لا يُمحى من الأرض، بل يُذكر على مَر السنين بسبب العدل.» ووجَّه خطابه إلى «مدير البيت العظيم» قائلًا:
وربما لا تكتمل هذه الصور، لحوار الفكر والسلطة في مصر القديمة، إلا إذا نوَّهنا بأمرٍ آخر في غاية الأهمية، هو ما تم اكتشافه من تداول لقصة الفلاح الفصيح، وتأملات الكاهن الحزين، بعد كتابتهما الأولى بقرونٍ طويلة. وهذا لا يدل على بقاء الحال بقَدْر ما يدل على استمرارية التراث الإيجابي في مصر القديمة، بل إن هناك ما هو أكثر من ذلك؛ فعندما أتيح لمصر ملكٌ عادل، كانت تعاليم إيبور هي محور توجيهاته للوزير الأعظم (أي رئيس الوزراء كما تقول الآن). ولقد تفاوتَت بالطبع صورة المخلِّص لمصر، من حكيم إلى آخر، وَفقًا لانتمائه الاجتماعي؛ فبينما نجد هذا يرى الخلاص في «مُنقِذ عبقري»؛ أي فرعونٍ جديدٍ عادل، كان هناك من يرى الخلاص في ثورةٍ شاملة وجيلٍ جديد، ولكننا في جميع الأحوال نرى أن الكلام لا يضيع سُدًى؛ فها هي نصائح فرعون لوزيره الأعظم تقول:
«لا تنسَ أن تحكم بعدالة. إنه ممقوتٌ لدى الإله التحيز. اعتَبِر الشخص المعروف لديك كالشخص الذي لا تعرفه، وذاك القريب من الملك كالبعيد عنه. لا تمُر على مقدِّم التماس دون أن تعيَ كلامه.
إذا كان يُوجد مقدِّم التماسٍ يعرض أمره عليك. وكان شخصًا ليس كلامه مما يُقال فاصرِفْه بعد أن تجعله يسمع السبب الذي دعاك إلى أن تصرِفَه.
وكما أننا سمعنا صدَى تحذيرات إيبور في وثيقة تنصيب الوزير الأعظم، نسمع صدى هذه الوثيقة على واجهة قبر الحاكم أميني (في بني حسن)؛ حيث كتب ما يشبه البيان عن سياسته الإدارية كسيد للإقليم، على الوجه التالي:
إن الدروس التي يمكن استخلاصها واستلهامها من هذه النصوص هي:
-
أن حضارتنا القديمة قد عرفَت، في أحلك أيامها سوادًا، أصواتًا شجاعة، تنبأ بعضها بالهول قبل وقوعه، وواكب البعض الآخر تطور المأساة مزمجرًا في وجه المسئولين عنها، واكتفى البعض الآخر بإدانتها بعد وقوعها، ولكن هذه الأنماط الثلاثة تحملت عبء الشهامة في سبيل ما ترى أنه الحق.
-
من التقاليد الثورية في الفكر المصري القديم، أنه رغم ندرته ظل ساريًا في شرايين المجتمع، جيلًا بعد جيل وعصرًا بعد عصر، وأنه في تصدِّيه لقضية المساواة والديمقراطية لم يكن يفصل بين الشكل السياسي والمضمون الاجتماعي للحرية.
-
أن السمة البارزة على حركة الفكر والمجتمع هي التفاعل، وتبادل التأثير والتأثر، بين الفكر والمواطنين وبين الفكر والسلطة.
على أن أعظم التشريعات التي يمكن أن تظل في حياتنا ميراثًا متجددًا، هو ذلك التشريع الذي أثمرَتْه حضارة ما بين النهرين فيما يخص العلاقة بين الرجل والمرأة، وهو تشريع حمورابي، وتنصُّ بعض بنوده على ما يلي:
- المادة ١٢٧: «إذا سيد أومأ بإبهامه على فتاة معبد أو على زوجة سيد، ولم يُثبِت عليها شيئًا، يُجلب الرجل أمام القضاء ويُطم جبينه بمقص.»
- المادة ١٢٩: «إذا قُبض على امرأة سيد مضطجعة مع سيدٍ ثان، فيجب أن يُوثَق الاثنان ويُلقيا في النهر. ويمكن للزوج إذا شاء أن يُبقيَ على زوجته.»
- المادة ١٣٤: «إذا أُسر سيد ولا يُوجَد في بيته طعام، ثم ذهبَت زوجته إلى بيتٍ ثانٍ، فإن هذه المرأة لا ذنب لها.»
- المادة ١٣٦: «إذا أهان سيدٌ بلدته وولى هاربًا، ومن بعده ذهبَت زوجته إلى بيتٍ ثانٍ، فإذا عاد هذا السيد وأراد استرجاع زوجته، فيمكن لزوجه الشارد ألَّا ترجع إلى زوجها؛ لأنه أهان بلدته وهرب.»
- المادة ١٨٤: «إذا لم يقدِّم السيد إلى ابنته جهازًا، ولم يعطها إلى زوج، فبعد أن يذهب إلى أجله، يجب على إخوتها أن يقدِّموا لها جهازًا، يتناسب مع حصتها من أبيها.»٢٨
•••
من أبرز سمات تاريخنا الحضاري أنه ممزَّق الأوصال، متسع الفجوات التي تفصل بين مراحل تطوره فصلًا متعسفًا؛ ذلك أن كل حضارةٍ واحدة — بفاعلية العوامل السياسية — كانت تنشُد القضاء على ما سبقها من حضارات، ولم تكن لتسمح إلا بسريان العناصر التراثية التي تُفيد وجودها وتدعمه. نتج عن ذلك أن ثمَّة فتراتٍ كاملة، مع الانقطاع الحضاري بين مراحل تراثنا، تكاد تجعل من كل مرحلة وحدةً منغلقة على ذاتها. كما نتج عن ذلك أيضًا غزو العناصر السلبية القديمة للحضارات الجديدة واستمرارها للآن. غير أن التراث الذي اتخذ شكلًا دينيًّا مقدسًا موصول الحلقات، كاليهودية والمسيحية والإسلام، قد ظل — قوة وضعفًا حسب نسبة الكم البشري المجسد لهذا التراث — ساريَ المفعول لوقتنا هذا، يشكِّل الغالبية الساحقة من قيم وعادات وتقاليد الإنسان العربي المعاصر. ولا ريب أن تجاهل هذا التراث وإغفاله بدعوى العلم هو تجاهل لعنصرٍ جوهري من عناصر واقعنا وإغفاله؛ الأمر الذي يؤدي في محاولة تغيير هذا الواقع إلى نقصٍ خطير في أدوات التغيير؛ أي إننا بدعوى العلم نصل إلى طريقٍ غير علمي. إن التراث اليهودي والمسيحي والإسلامي عامر — ككل تراث — بالقيم النسبية والقيم المطلَقة، وواجب الثوريين نحو الأولى هو وضعها في سياقها التاريخي، بالدراسة الموضوعية التي يمكن بواسطتها استخلاص الدروس العامة. أما القيم المطلَقة التي تتجاوز الزمان والمكان رغم صدورها عنهما، فإن إحياءها وتأصيلها مهمةٌ عاجلة من مهام الثورة غير المعزولة عن واقعنا.
إن الوجه النسبي في التوراة مثلًا، هو تلك الأسفار التاريخية، التي تُعدِّل دراستُها من بعض مفاهيمنا عن المسألة اليهودية؛ فهذه الدراسة تدُلنا على أنه ليس هناك جوهرٌ ثابت يمكن تسميته بالطبيعة اليهودية؛ لأن الأصول التاريخية والصراعات الاجتماعية التي عاشها اليهود على مَر التاريخ — وخاصةً في تلك الأزمنة التي تؤرِّخ لها بعض أسفار التوراة — لا يمكن أن تخلُقَ عنصرًا جامدًا لا يتغير، هو العنصر اليهودي. إن خطورة هذا التصور الذي تُروِّج له الصهيونية بأسطورة «شعب الله المختار» هي أن قطاعًا عريضًا من الفكر الرجعي العربي يؤمن به، ويتعامل أيديولوجيًّا مع المسألة اليهودية على أساسه، وهو التصور الذي يستتبع بعد القول بأن لليهودي جوهرًا أزليًّا أبديًّا، أن نلصقَ به عديدًا من الصفات الثابتة كذلك. وكأن الشخصية بجوهرها الميتافيزيقي الخالد هذا، وصفاتها الدهرية تلك، هي «قدَر» لا سبيل إلى مقاومته، ويستتبع هذا التصور أيضًا أن اليهود «كتلة» واحدة، لا فرق بين فقرائهم وأغنيائهم ولا بين المتقدمين والمتخلفين بينهم. إذا كانت السلطة الإسرائيلية تحاول — منذ قيام الدولة — أن يبدوَ مجتمعُها على هذا النحو النازي، فإن الفكر الرجعي العربي يقع بدوره في الفخ، ويُصدِّق على ضوء الجوهر اليهودي الواحد أن اليهود كتلةٌ واحدة. وبدراسة التوراة وتاريخ اليهود بعدها سوف نكتشف ضلال هذه الدعوى من أساسها وبكاملها. سوف نكتشف أن اليهود عناصر مختلفة تاريخيًّا واجتماعيًّا، وأنه ليست لديهم صفات لا تقبل الزوال. وهذه النتيجة التي يمكن استخلاصها بالعلم، من دراسة التراث اليهودي، تؤدي بنا للقول بأن الشخصية اليهودية قابلة للتغير، وأن المجتمع اليهودي ليس كيانًا متجانسًا، وأن هذه النسبة التاريخية والاجتماعية في حياة اليهود تجعلهم عُرضةً لمختلف المؤثِّرات والمتغيِّرات والنتائج.
أما الوجه المطلَق للتراث اليهودي، فيتمثل في تلك الأسفار الشعرية الجميلة، كمزامير دواد، وأمثال سليمان، ومراثي إرميا، وسِفْر الجامعة، ونشيد الإنشاد. إن هذه الأسفار التي تُوجِز معاناةً روحية عميقة بين الإنسان والوجود، تتجاوز الظروف التاريخية التي وُلدَت في سياقها لتُطل على الإنسان، في كل زمان ومكان، بمجموعة من التجارب الفنية الثمينة. وإذا كان الأدب الغربي قد سبقنا إلى استلهام هذه الأسفار، فإنها كجزء من تراثنا، نحن أولى بها. وبدلًا من أن يكون الأدب الغربي وسيطًا بيننا وبين التوراة، كما حدث بالفعل حين تأثر بعض أدبائنا بأعمالٍ أوروبية تفاعلَت مع التراث العبري، فإننا نستطيع أن نعود إلى الأصل مباشرة؛ لأنه يخصُّنا نحن أكثر مما يخص الغربيين، بل إن أدبنا حينئذٍ يتوهج بأصالةٍ أعمق مما يعكسه النقل عن طرفٍ ثانٍ.
وكذلك الأمر بالنسبة للتراث المسيحي. وربما كان أجدر المبادئ التي شَرعَها المسيح نفسه، وتصلُح لأن تكون تراثًا متجددًا، هو ذلك المبدأ القائل: «أعطوا ما لله لله، وما لقيصر لقيصر.» إنه أول تشريع — ومن صميم تراثنا — يدعو لفصل الدين عن الدولة، ويصدُر عن صاحب الدعوة شخصيًّا. وبغَض النظر عن تفاصيل قصة صلب المسيح، فإننا نستنير بفكرة «الخلاص بالألم» التي تُجملها نظرية الفداء في المسيحية. إننا بعد تخليص هذه النظرية من أوشاب اللاهوت القائل بالخطيئة الأصلية، نستطيع استلهامها فيما يعترضُ حياتنا من مسئولياتٍ جسام تتطلب التضحية بالنفس. والمزاوجة التي نصادفها في كلمات المسيح وأفعاله، كقوله: «أريد رحمة لا ذبيحة»، أو «من ضربك على خدك الأيمن فحوِّل له الأيسر»، وقوله في الوقت نفسه «ما جئتُ لألقي سلامًا، بل سيفًا»، وضربه بالسياط أولئك الذين حوَّلوا المعبد إلى سوق للتجارة، قائلًا: «بيتَ الصلاة يُدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص»؛ هذه المزاوجة فوق أنها تُلهِمنا المرونة في اتخاذ المواقف إزاء الأحداث؛ أي إنها ضد الدوجمائية، فإنها أيضًا تدلنا على أن «السياق التاريخي» هو الذي يحتِّم هذه المعالجة أو تلك، وليست هناك قواعدُ مطلقة للسلوك، بل إن المسيح لكي يوضِّح أنه صاحب دعوةٍ جديدة غير اليهودية، كان يبدأ تعاليمه دومًا بقوله: «قيل للقدماء كذا وكذا، أما أنا فأقول لكم كَيت وكَيت.» ومع هذا فهو لا يدعو إلى إلقاء التراث اليهودي في جهنم «ما جئتُ لأنقضَ الناموس، بل لأُكملَ الناموس.»
وقد أثمر هذا الحوار العظيم بين المسيحية والإنسان الأوروبي في البداية عصر «النهضة»، وفي النهاية «الثورة الفرنسية»، التي قرَّرَت أن جميع الناس متساوون أمام القانون في الواجبات والحقوق، وأنه لا تمييز لإنسانٍ عن آخر إلا بقَدْر ما يقدمه للمجموع، وأن لكل مواطن أن يشارك في سن الشرائع بالانتخاب الحر المباشر، وأن الأعباء الوطنية توزَّع على كاهل المواطنين حسب قدراتهم الفعلية على حملها، وأن حرية الإنسان مقدسة لا تُمس إلا بحكم محكمة، وأن حرية الاعتقاد والرأي وممارستهما من حقوق المواطنة الطبيعية؛ هذا هو الوجه الآخر للتراث المسيحي الذي يعيش الأوروبيون المعاصرون — ومعهم بقاعٌ أخرى من العالم — في ظل نتائجه التي أرست مجموعةً من التقاليد الديمقراطية العميقة الجذور في باطن تاريخهم، ولكنهم يدركون في حرصهم على هذه التقاليد أنها كانت حصيلة صراعٍ مرير، وصل بمئات الألوف من أجدادهم إلى القبور والسجون وغُرف التعذيب. وهذا هو المحور الذي يمكن لنا أن ندور من حوله ونحن نستكشف أبعاد تراثنا وتراث غيرنا، إن الصراع بين السلب والإيجاب ضرورةٌ حتمية، وإننا لا نستطيع الحفاظ على «نتائج» لم نمارس مقدماتها. لقد قامت «النهضة الأوروبية»، و«الثورة الفرنسية» بعملية الهدم والبناء للتراث المسيحي، وهذا هو الإلهام الأول لهذا التراث، إن حوارًا عظيمًا بالقول والفعل والدم دار بين الإنسان والدين، فأثمر حضارةً جديدة للإنسان ورؤيا جديدة للدين.
ولقد عرف التراث الإسلامي في بعض مراحله مثل هذا الحوار العظيم، بل إن الحركة الوحيدة في تاريخ المسيحية والتي يراها المؤرخون حركةً تقدمية، وهي البروتستانتية، لا تُقاس بما عرفه تاريخ الإسلام من تياراتٍ فكرية وحركاتٍ ثورية، ولكن الفرق هو أن الحوار الغربي مع المسيحية استمر منذ بدايات الفكر البرجوازي الناشئ إلى الفكر الماركسي الحديث، بينما مُنيَت حركات الفكر الثوري في الإسلام بالإجهاض والانقطاع، بالإضافة إلى السنوات الألف على وجه التقريب، التي آلت فيها الدولة الإسلامية إلى التدهور والجمود والانحطاط؛ لذلك تتجه القوى الرجعية في الوطن العربي إلى بعث «المثل الأعلى» والسلوك من رُكام وأنقاض تلك الفترة الطويلة المظلمة. ويتعيَّن على القوى الثورية أن تفعل العكس، وتبحث عن رموز ثورتها في الفترات المضيئة، بالإضافة إلى دراسة الظلام، وتحليل أسبابه، وبلورة نتائجه السلبية على الماضي والحاضر والمستقبل.
حينذاك سوف نكتشف أن كتابًا مثل «حياة الحيوان» للدميري، يتكلم عن السحر والعفاريت كأنها حق، وينظر إلى السلف بتقديسٍ مطلَق، ويعتمد في رؤياه على أخبار رووايات الأقدمين، دون مراجعة أو شك أو تمحيص، ويرى أن الغاية الوحيدة من نشر الثقافة هي خدمة الدين، ولا ينسى حين يتكلم عن الصرصار والبرغوث أن يشرح هل أكلُهما حلالٌ أم حرام، إلى غير ذلك مما يُعد إحياؤه في عصرنا ومجتمعنا جريمةً حقيقيةً ضد سعادة الإنسان وتقدمه، بل إننا نرفض من الغزالي — وهو إمام وفيلسوف كبير — تكفيره للعلماء والفلاسفة، وموقفه الغريب من الفنون الجميلة، كقوله: «وليتجنب (المسلم) صناعة النقش والصياغة، وتشييد البنيان بالجص، وجميع ما تُزخرف به الدنيا؛ فكل ذلك كرهه ذوو الدين.» ومثل هذا كثيرٌ في التراث الإسلامي، ويجد هوًى وتشجيعًا مذهلًا من جانب القوى المناوئة للتقدم.
بينما هناك في مواجهة هذا التراث السلبي مجموعة من الرجال الأفذاذ وتيارات الفكر وحركات الثورة في الإسلام، مما ينبغي أن يُطِل علينا بقاماته المرفوعة العالية الجبين.
إذا أضفنا إلى ذلك كله أن فضل أسلافنا على أوروبا في العصر الوسيط لم يكن مجرد نقل التراث اليوناني، بل كان رصيدهم من «التجربة العلمية» ملهمًا لعصر النهضة في الاكتشاف والاختيار والتحقق، ولو أضفنا أن من القوانين الرئيسية في التراث العربي الإسلامي استلهامه الحر الطليق لخير ما في تراث العالم المعاصر له، فإننا حينئذٍ نستطيع أن نستخلص مجموعة من النتائج والمهام، التي يتحتم علينا دراستها وإنجازها في مواجهة الرجعية الجديدة، وهي تحاورنا بقضية التراث:
-
إن ما جاء في هذا البحث من استشهادات عن مراحلنا التراثية المختلفة ليس أكثر من نماذج وعينات، تشير إلى ما يزخر به تراثنا من عناصر السلب والإيجاب، التي يتطلب إحياؤها أسلوبًا ثوريًّا أدعوه بالهدم والبناء، والهدم لا يعني الإغفال أو التجاهل، وإنما يعني دراسة السياق التاريخي للشيء الموروث. والبناء لا يعني إزاحة الغبار فحسب، وإنما يعني الاستلهام الإيجابي الفعَّال.
-
يظل الواقع المعاصر هو البوصلة الفكرية، القادرة على توجيه النظر إلى هذه الناحية دون تلك من التراث. بتحديد معالم هذا الواقع، وتحديد احتياجاته الفعلية، نتعرف على ما يلهمنا التقدم من عناصر التراث، المتباينة والمتضاربة أحيانًا.
-
تحتاج مراحل تطور تراثنا إلى إعادة صياغة منهجية، تسد الفجوات المتسعة وفترات الانقطاع الحضاري؛ بحيث نحصل في خاتمة المطاف على تصورٍ شامل لتراثنا السلبي، وتصورٍ مماثل لتراثنا الثوري. إن «توحيد» تراثنا؛ أي رؤيته في سياقٍ تاريخي، يحول دون تمزُّقه في ذاكرتنا الحضارية، أو تحويله إلى وحداتٍ منغلقة على ذاتها.
-
إن القول بأن حضارة المصريين القدماء أو البابليين أو الكنعانيين أو الفينيقيين أو غيرهم كانت «أول» من أعطى العالم كذا أو كَيت أبعد ما يكون عن العلم؛ فالبحث عن العلة الأولى أو المحرك الأول هو بحثُ عقيم. ولعل القراءة لكتاب إسماعيل مظهر «تاريخ الفكر العربي»، أو كتاب هربرت مولر «استخدامات الماضي» The Uses of the Past تحيطنا علمًا بمدى التعقيد في هذه المشكلة؛ حيث إن التداخل والتشابك بين شرايينِ الفكر وأوردتِه، منابِعِه ومصابِّه، لا يصل بنا إلى يقينٍ مطلَق فيما يخص البدايات الأولى. ومن ناحيةٍ أخرى فإن الشموخ أو التباهي بقولنا حاسمين إننا كنا أول من صنع، أو أول من زرع، أو أول من حسَب أو هندَس أو طبَّب، هو المقدمة الطبيعية للشعور العرقي والفوقية العنصرية.
-
إن الصهيونية، والنازية، والفاشية، وغيرها من الدعوات العنصرية التي عرفها تاريخ الإنسان الحديث، ليست أكثر من «أبنية» علوية قديمة يُراد بعثُها وفرضُها على سياق العصر الجديد، وهي أبنية تضيق بما يتجه إليه العصر نحو الإخاء البشري والوحدة الإنسانية والسلام العالمي. إنها تؤصل في وعي «القوم» ما كانوا عليه من صفاتٍ «فريدة» في التاريخ القديم، عصرهم الذهبي.
أما الرؤية الثورية للتراث، فترى أنه جزءٌ من التاريخ ليس خارجًا عن نطاقه؛ وبالتالي فهو ليس كائنًا ميتافيزيقيًّا مطلَق التقديس، وأننا جزءٌ من العالم، تراثُه تراثُنا بقَدْر ما يسهم في إنقاذنا من وهاد التخلف بكافة معانيه.