الفصل الثاني

تراثنا الهدم والبناء

الواقع العربي المعاصر لا ينتمي إلى إيقاع الحياة في الثلث الأخير من القرن العشرين، تنسحب ظلال هذه الحقيقة على كافة تفاصيل وجودنا المادي والمعنوي، وواقعنا ليس متجانسًا، لا من حيث الزمان ولا من حيث المكان. بعض أقطارنا تعيش شكلًا ومعنًى بين أحضان المجتمع البدائي بكل مظاهره القبَلية والعشائرية والبدوية والطائفية. والبعض الآخر في خدعة التلوُّن بمظاهر الحضارة الحديثة، وجوهره في القول والفعل ما زال في معظمه مُكوَّنًا من عناصر الماضي السحيق. وفي المجتمع الواحد تتباين القيَم وعادات السلوك والتقاليد، من طبقةٍ إلى أخرى، تباينًا حادًّا يكاد يمزِّق ما ندعوه بالإطار القومي للشعب، بكل ما يشتمل عليه هذا الإطار من أفكار ومشاعر وخلجات مشتركة.

لذلك تبدو قضية التراث، من بين القضايا العديدة التي تواجه الإنسان العربي في عصرنا، قضيةً شائكةً معقدةً مثقَلة بالتناقضات. وإذا كان لكل طبقة اختيارها الأيديولوجي المرتبط، على هذا النحو أو ذاك، بمصلحتها الاقتصادية ومحتواها الاجتماعي، فإن هذا الاختيار — عند الطبقات الثورية — لا يتم بمعزل عن تصوُّرها الأشمل للكيان القومي، وتصوُّرها الأعم للمحيط الإنساني الواسع. إن ضيق «الاختيار» واتساعه متصلٌ أوثقَ الاتصال بطبيعة الأفق الاقتصادي والاجتماعي للطبقة التي تختار؛ فكلما انحصَرَت مصالحها في دائرةٍ أنانيةٍ ضيقة لم تتسع رؤيتها واختيارها الفكري لما هو أنفع للمجتمع ككل، وما هو أكثر فائدةً للإنسانية جمعاء.

وهكذا، فالطبقات الثورية، بطبيعة محتواها الاجتماعي، هي الشريحة الأكثر انفتاحًا في رفضها وقبولها لما في تراثنا وتراث غيرنا من تقاليدَ وقيَم؛ ذلك أن اختيارها لا يتم بمعزلٍ عن ضرورات «التقدم» التاريخي للشعب في مجموعه، وللبشرية كلها. إن مصلحتها الذاتية لا تتعارض مع المصلحة الموضوعية للوطن والعالم، بل لعل مصلحتها تلك تتحقق جدليًّا من خلال السياق المتقدِّم للمسيرة القومية والعالمية معًا.

والطبقات الثورية في الوطن ليست بمنأًى عن كافة الأدواء التي يعاني منها هذا الوطن، ولكن معاناتها تختلف كمًّا وكيفًا عن معاناة غيرها. إن التخلف الحضاري المرعب — مثلًا — يزيدها فقرًا وشقاءً؛ فهي التي تتحمل الأعباء المادية لهذا التخلف، أما الأعباء المعنوية فالكل فيها سواء، ربما كان الفَرق أن غيرها لا يشعر فقط بهذا التخلف (وهذا نفسه أحد مظاهر التخلُّف) بينما تشعر هي به (وهذا أحد مظاهر التقدُّم).

والتقاليد غير الديمقراطية في أسلوب الحكم — مثلًا أيضًا — يقع عِبئُها الكامل على كاهل الطبقات المطحونة، يقيِّدها ويغلُّ أيديَها من المشاركة في صنع الحياة، يحاول جاهدًا أن يُبقيَها على هامش التاريخ.

والطبقات الثورية في الوطن العربي، بمعاناتها الهائلة من التخلف والدكتاتورية، تعي بهذا القدْر أو ذاك أن انسحاقها ليس انسحاقًا فئويًّا فحسب، إنه في اللحظة عينها انسحاقٌ لمقدَّرات المجتمع كله، وإهدارٌ للكيان القومي، واختلالٌ في الحركة الإنسانية العامة؛ لذلك، فإنها حين تدرك مأساتها الخاصة، فهي تدرك مأساة الوطن والإنسان أينما كان. حين تحاول بالوعي أن تتخطى حدود أزمتها، إنما تحاول أن تنتشل المجتمع كله من الوهدة التي يتردَّى فيها، وأن تنقذ الإنسانية مما يهدِّدها في مكانٍ ما على ظهر الكوكب. ووعيُها الذي يُملي اختيارها هو الوعي الثوري القادر على استبصار ما هو أبعدُ من المصلحة الذاتية الضيقة. إن هزيمة ٦٧، على سبيل المثال، كانت هزيمةً قويةً شاملة. ولا شك أن الاستعمار والصهيونية هما اللذان ألحقَا بنا الهزيمة، ولكن الطبقات الرجعية في الوطن العربي هي المسئول الأول؛ لأنها هي التي وطَّدَت أركان التخلف والدكتاتورية لحساب مصالحها الأنانية العابرة، مما مهَّد السبيل للغزو؛ هذا إذا تغاضَينا عن تشابك المصالح بين هذه الطبقات والاستعمار. إن الطبقات الثورية على نقيضٍ من ذلك، تتوحد مصالحها، في رد التخلف وإقصاء الدكتاتورية، مع مصلحة الوطن في الاستقلال والتقدم الاجتماعي. ومن هنا تجيء موافقتُنا على أن الهزيمة كانت — قبل ٦٧ وبعدها — هزيمةً حضارية، وأن التحدي الذي يواجهنا ما زال تحديًا حضاريًّا، ولكن مضمون هذه الهزيمة هو الذي يحدِّد — بصورةٍ مضادة — مقوِّمات النصر. إنه بالقطع، ليس مضمونًا تقنيًّا؛ لأنه لم تكن الآلة هي التي هُزمَت، وإنما كان الإنسان، كان البناء الاجتماعي للوطن.

وإذا كانت الرجعية العربية قد طرحَت قضية التراث في مواجهة الهزيمة، بمعنى الانغلاق على النفس والاكتفاء بالذات، فإن المعنى الوحيد لهذا الطرح هو أنها ما زالت مُبقِيةً على اختيارها الأيديولوجي الضيِّق الأفق، وليس هذا بمستغرب إذا نظرنا إليه في سياق وضعها الاقتصادي والاجتماعي. إن هذا معناه هو أن الهزيمة الحضارية — على أية صورة كانت عسكرية أو اقتصادية أو سياسية — باقيةٌ ما بقيَت هذه الرجعية أو الفكرية ممسكةً بمصير العقل والوجدان العربي، أما الثورة العربية، ثورة الطبقات المقهورة، فهي ثورة الوطن كله، هي خلاصنا القومي. ومن هنا كان واجبها في التصدِّي لقضية التراث وعيًا طبقيًّا واختيارًا قوميًّا في الوقت نفسه، لا ينبغي أن تُعرض عنه أو تجفُل منه، وإنما عليها أن تتبنى المدخل الصحيح للرفض والقبول والهدم والبناء.

•••

ليس التراث شيئًا جامدًا ولا مقدَّسًا ولا مطلقًا خارج الزمان والمكان. وإنما هو إحدى ثمرات فكر الإنسان. ومن البديهيات أن الإنسان، ككائنٍ حي، يخضع لمقتضَيات البيئة والوراثة، وضرورات الصراع بينه وبين الطبيعة من جانب وبين نفسه من جانبٍ آخر؛ لهذا كان التراث الإنساني كله تعبيرًا عن حركة هذه المجموعة من التناقضات التي يتجاور فيها السلب مع الإيجاب، الفعل ورد الفعل، التخلف والتقدم، الشد والجذب، المد والجزر، إلى غير ذلك من أقطابٍ متصارعة في مختلف أشكال المادة الحية والجامدة، في مختلف أشكال الفكر وصوره؛ لذلك كانت عملية «الهدم والبناء» ضرورةً حيوية تتم تلقائيًّا فيما يختص بنمو الكائنات الدنيا، ولكن الوعي بها لدى الكائنات الراقية ينعطف بمجراها من نهر الصُّدفة والعَفْوية والعشوائية، إلى دنيا التوجيه والتخطيط. وهكذا نستطيع أن نفهم لماذا أكبَّت أوروبا في فجر نهضتها على تراث اليونان والرومان، وناضلَت المسيحية في عقر دارها، ونجحَت في فتح عصرٍ جديد، لا للبرجوازية وحدها، ولا أوروبا وحدها، ولكن للإنسانية كلها، ولماذا أخفق أبسماتيك، فرعون مصر (٧١٢–٦٦٦ق.م.) في دعوته «عودوا إلى القدماء» بإحيائه الشعائر القديمة وأساليب الفن القديم، ولم تكَد تمضي مائة سنة حتى كان الغزاة من كل جانب يكتسحون البلاد. إن الوعي بالتراث — وليست العودة إليه — هو البوصلة التي تهدينا إلى طريق التقدم، وبغيرها إما أن ننزلق في مهاوي الصُّدفة والتلقائية، وحينئذٍ نتحول إلى قطيعٍ من الكائنات الدنيا، وإما أن نرتبط بتخطيطٍ مضاد تدبِّره الطبقات الرجعية.

لقد عرف التاريخ في كل بقعة من عالمنا تقريبًا، عملية الهدم والبناء للتراث؛ ففي أحد العصور تعلو أصواتٌ على غيرها مطالبةً بإحياء هذه المرحلة أو تلك من مراحل التراث، وفي عصرٍ آخر ترتفع أصواتٌ جديدةٌ معادية لما كان تم إحياؤه. وليس هذا مقصورًا على التراث، والوطن، والشعب، بل إن قضية الأخذ عن تراث الشعوب الأخرى كانت، ولا تزال، من القضايا المحورية في تاريخ الثقافة؛ دائمًا كان هناك من يطلب فتح النوافذ على الجيران ومن كان يطلب إغلاقها بإحكام. ولم تكن هذه كلها — حركات الإحياء والنسيان والانفتاح والانغلاق — مجرد تياراتٍ فكريةٍ طافية على سطح المجتمع، وإنما تجسيدًا روحيًّا عميقًا لما يغلي في باطن هذا المجتمع من تناقضات. كان «الهدم والبناء» عمليةً اجتماعية، ولا يزال، ليس التراث فيها رمزًا تجريديًّا لما يحدث، ولكنه مساهمةٌ إيجابيةٌ نشيطة وفعَّالة فيما يجري بالفعل.

ومن هنا، فليس ترفًا نظريًّا أن يحدِّد الثوريون العرب «اختيارهم» الأيديولوجي في قضية التراث؛ ذلك أنها في الأساس ليست قضيةً وجدانية، وإنما هي تُطرح في أيامنا — بمبادرة مشبوهة من الرجعية العربية — كقضيةٍ سياسيةٍ في المقام الأول، تخص الشكل الاجتماعي لوطننا، وتتخذ من التشريعات واللوائح ما يصوغ منها «دستورًا» قابلًا للتطبيق و«حكمًا» مشمولًا بالنفاذ. إن أجهزة الإعلام والفنون وبرامج التعليم هي أوعية التوصيل الجماهيرية الواسعة الانتشار، وهي السلطة ذات النفوذ على العقل والوجدان العربي؛ لذلك كان الاختيار الثوري في قضية التراث، بندًا أساسيًّا في جدول أعمال المثقفين الثوريين، أو هكذا ينبغي أن يكون.

الثوري لا يُسقِط مثلًا ذهنيًّا على الواقع ويقسِرُه داخله، وإنما هو يسترشد فحسب بالنظرية الثورية في التغيير، بالتعرُّف العلمي الدقيق على أبعاد هذا الواقع ومقوِّماته. حينئذٍ يصوغ اختيارَه للتراث — ولغيره من عناصر الحياة — على ضوء الاحتياجات الموضوعية بهذا الواقع. والثوري العربي يدرك إدراكًا عميقًا أن التخلف الحضاري المرعب، والتقاليد غير الديمقراطية في أسلوب الحكم، خطَّان عريضان على جبين واقعه، تندرج تحتهما تفاصيلُ موغلةٌ في التشابك والتعقيد، أهمها أن هذا الوطن مغلولٌ بقيودٍ مرئية وأخرى لا تُرى، أن تحرير الأرض من الاحتلال يتساوى مع تحرير الإنسان من الفقر والجهل والخوف؛ ومن ثَم كان التراث الذي تُنجِز الرجعية مهمة إحيائه، ويحرص الاستعمار على بقائه وتدعيمه، هو تراث التفاوت الطبقي، ومعاداة العلم، والاستسلام للقهر. وما أثقلَ الترِكةَ التي ورثناها عبْر الأجيال والقرون من الغزاة والطغاة في هذا الصدد! هذا هو التراث الذي يحتاج إلى مواجهةٍ شجاعة، توضِّح أصوله ومنابعه وآثاره على تطوُّرنا الاجتماعي، إنه التراث الذي يحتاج إلى «الهدم» بمعاول الدراسة العلمية والبحث الموضوعي، بكشف همزة الوصل بينه وبين القوى الاجتماعية المستفيدة من رُكامه الأيديولوجي، بفضح الأستار التي يتلفَّح بها الرجعيون وهم يخاطبون ضميرًا شعبيًّا مُرهَقًا بهذه الرواسب، التي تحوَّلَت مع الزمن إلى قيمٍ وتقاليدَ وعاداتٍ وعقائدَ تتحكَّم لاشعوريًّا في سلوكهم وفي إيقاع حياتهم، مما يتفق ومصلحة «سادتهم» ويتعارض مع مصالحهم. غير أن هناك وجهًا آخر للتراث، سواء كان نابعًا من أرضنا أو من أرض غيرنا — التي سبق أن شاركنا في ريِّها — يشتمل على مجموعةٍ أخرى من القيَم والتقاليد، التي يعمل الرجعيون بلا هوادة على إخفائها ونسيانها وتجاهلها، بوسائلهم المؤكَّدة الفعالية والتأثير. هذه القيَم الثورية في حياة شعبنا، وغيره من الشعوب، هي التي تحتاج إلى البعث والإحياء و«البناء»، وربما كان تجاوُر هذا القيم وتلك هو الدليل الأكبر على طبقية التراث، مما يفرض على المتصدِّين لقضيته، النظرة الطبقية. غير أن شيوع هذه القيَم المتعارضة المتجاورة بين مختلف طبقات الشعب، يفرض بدوره النظرة القومية. كما أن تشابه هذه القيم عند شعبنا مع قيم الشعوب الأخرى يفرض أخيرًا النظرة الإنسانية. وتلك هي العناصر الثلاثة الرئيسية التي تتكون منها نظرة الثوريين إلى التراث، ومن هنا كانت أكثر النظرات رحابةً وانفتاحًا وشمولًا؛ ذلك أن الطبقات بتركيزها على القيَم السلبية في التراث، وبصدِّها عن تراث الإنسانية، إنما تُحاصِر القضية منذ البداية في الدائرة الطبقية وحدها، دائرتها هي فحسب، غير أنها بنرجسيَّتها القومية تتحدث باسم الوطن كله، فتغلق في وجهه باب التقدم الإنساني، وتفتح له من الناحية الأخرى أبواب الشوفينية والعنصرية والعِرقية.

والتراث في حياتنا لا يبدأ بالكلام المكتوب أو المحفوظ المقروء أو المسموع، وإنما هو يبدأ بتلك القيم والعادات والتقاليد ذات الطابع العلمي؛ أي هذه التي تنعكس في سلوك الأفراد والجماعات انعكاسًا فعليًّا، وتجري في ممارساتهم اليومية مجرى الأشياء الطبيعية، لا من قبيل الشذوذ والاستثناء. وفي هذا المجال سوف نكتشف رصيدًا للنظرة الغيبية للعالم، رصيدًا ينحدر إلينا من عصور ما قبل ديانات التوحيد، وإن تأثرت بعض هذه الديانات بتلك العصور البدائية وطقوسها السحرية. إن هذه الطقوس في حياة الإنسان العربي، بدءًا من الفلاح البسيط في القرية النائية، حتى الأستاذ الجامعي في قلب العاصمة المضيئة بآيات التقنية الحديثة، تشكِّل أيديولوجيا غيبية متكاملة تضبط أوتار السلوك الفردي والاجتماعي للأمة ضبطًا محكمًا بعيدًا عن روح العلم. والبيت المصري — على سبيل المثال — ما زال يتصور في بعض العادات الخرافية تحقيقًا للنفع وتجنبًا للضرر، كعادة «عمل تحويطة» للعروسين توفِّق بينهما، وتحيطهما بسياجٍ سحري يمنع عنهما الحسد والعين، وكتفسيرِ جفافِ اللبن عند الأم الوالدة «الكبسة» التي تحدث لهذه الأم إذا دخلَت عليها إحدى السيدات ومعها أشياء معيَّنة كاللحم أو السمك، أو كانت مُتحلِّية بالذهب أو الماس، وكاتقاء الحسد بصنع «عروسة ورق» تثقب عينَيها بالإبرة، كالأحجبة التي تضُم رأسَ هدهد محنَّطًا، أو جزءًا من ذيل كلب، أو بعضَ أسنان ذئبٍ أو عقربٍ مجفَّف، أو بعضَ النقود الصغيرة، مع قليل من الملح، كعادة اقتناء سلَحفاة في البيت لأنها «تجلب البركة»، وعادة تعليق حدوة حصان على باب المنزل؛ لأنها «تُبعِد العين وتجلب الخير لأهل البيت»، وعادة ثقب أذن الصبي، وتعليق حلقة فيها خرزةٌ زرقاء «لكي يعيش»، وغربلة المولود في الغربال أثناء الاحتفال «بسبوعه» ثم دحرجة الغربال على الأرض «كي يطول عمره»، وعادة أن ترميَ البنت بخُصْلة من شعرها في النيل أو في إحدى الترع أثناء الفيضان «كي يطول شعرها»، وعادة أن تدخُلَ العروس بيت الزوجية برجلها اليمنى قبل اليسرى حتى توفَّق في حياتها الزوجية، وعادة رش المياه وراء الميت حتى لا يموتَ فردٌ آخر، بعده ووضع السكين على البطيخ المكشوف حتى لا تقربه الثعابين، وتبخير المريض بالملاريا بجلد قنفذ لكي يُشفى، ولبس الأم التي يموت أولادها خلخالًا من الحديد حتى يعيش الأولاد، ورش الملح أو بعض النقود على العروسَين أثناء الزفاف منعًا للحسد، وعادة تسمية الابن باسم بنت وارتدائه ثياب البنات حتى لا يموت كإخوته السابقين.١ وتقول فوزية دياب إن «توارث العادات التقليدية من جيلٍ إلى جيلٍ يُضفي عليها احترامًا وقدسية يزيدان من تثبيتها ورسوخها واستقرارها. وكلما استقرَّت بالتوارث وبتقادم الزمن، أصبحَت أقوى في سيطرتها وإلزامها لأفراد الجماعة؛ إذ يتكون عندهم الاعتقاد بأن هذه العادات هي السلوك الصائب السليم، الذي تم اختياره بمِحَك التجريب والخبرة العلمية، وبعد أن تثبتَ صلاحيتُه بالممارسة الفعلية للأسلاف والأجداد، ولذا يجب أن يتمسَّكوا بها.»٢ وتُعدِّد الباحثة المصرية بعض التقاليد السارية المفعول في حياتنا الاجتماعية، كعدم تزويج البنت الصغرى قبل الكبرى، وكعدم زواج أحد الزوجَين إذا مات الآخر، وكتفسير عقم المرأة بالمُشاهَرة والعجز الجنسي عند الرجل بأنه «مربوط»، وقد أشارت الكاتبة في بحثها إلى أن أهم القيَم والعادات الضاغطة والمُرهِقة للمجتمع هي الزواج المبكِّر، وسلطة الوالدَين المطلَقة في الاختيار عند الزواج، وتفضيل الذكور على الإناث، وكثرة الخلف، والتفاخر بالحسب والنسب، والاحتماء في العزوة والعصيبة، والتطبيب بالسحر والرُّقى والتعاويذ والوصفات البلدية. غير أن هذا ليس كل شيء؛ فليست المشكلة هي إبطال هذه العادة أو تفنيد هذا المعتقد، وإنما المشكلة الحقيقية هي أن مجموعة هذه القيَم والعادات والأعراف والتقاليد والمعتقَدات تصوغ فيما بينها عالمًا فكريًّا كاملًا. وهو ليس عالمًا منفصلًا عن الواقع، بل هو يتبادل معه التأثير؛ فهذه الأفكار والتصورات والمشاعر مرتبطة بالتطبيق؛ أي إنها في اللحظة عينها سلوكٌ اجتماعي ومنهج في الحياة. إن مجتمعنا يحدِّد أسلوب حياته على هذا النحو، يحدِّد في الوقت نفسه غاياتِ هذه الحياة، فإذا كان الهدف والوسيلة كلاهما ينتمي إلى عصر السحر والأسطورة، فأي تناقضٍ حادٍّ إذن نستطيع تصوُّره بين واقعنا الحقيقي وواقع العصر الذي نعيش بأجسادنا فيه؟
ولعل أهم ما تعكسه هذه الأيديولوجية الغيبية القابضة على زمام الأمور في المجتمع، هو أن ثمَّة مشكلاتٍ حقيقية تواجه الإنسان في بلادنا على كافة المستويات المادية والروحية؛ فأولئك الذين يزورون الموتى ويصل ببعضهم الأمر إلى حد المبيت في مقابرهم، لا يذهبون لمجرد الوفاء أو التذكُّر أو توزيع الصدقات، وإنما هم قد يذهبون للحصول على البركة والشكوى والطلب.٣ وهكذا يختلط عالَم الموتى بعالَم الأحياء، كما اختلط من قبلُ الواقع بالوهم. ويقول الدكتور سيد عويس إن الناس لا تكتفي بالنذور النقدية وحدها، وإنما هي تخصِّص لأولياء الله النذورَ أيضًا، كالمحصولات الزراعية والذبائح، والناس يختارون أولياءهم تبعًا لبُعد صيتهم وتخصُّصاتهم، فهذا الوالي «سره باتع» والآخر متخصِّص في أمراض العيون، والثالث في عقم النساء، والرابع في تدبير المكائد الخصوم، وهكذا.٤ ويستطرد الباحث قائلًا: «إن الأساليب غير العلمية، ومنها ما يمارسه بعض الناس عن طريق إرسال الرسائل إلى ضريح الإمام الشافعي، تُنبئ عن وجود بعض العناصر الثقافية السلبية التي تتحكم في سلوك هؤلاء الناس؛ فبدلًا من مواجهة أمورهم ومشاكلهم في إيجابية، فهم يفضِّلون — لعواملَ عديدة تضطرُّهم إلى ذلك — مواجهة الانتظار، انتظار آخرين، مثلًا الإمام الشافعي الذي مات منذ ١١٥٠ عامًا ميلاديًّا، ليؤديَ لهم ما يجب عليهم أن يقوموا به.»٥ وليس هذا طرحًا كاملًا للقضية بكل أبعادها؛ فحقًّا للناس مشكلاتهم واحتياجاتهم، ولكن «انتظارهم» لمن يجيء لهم بالحل هو جوهر القضية؛ فحين يختفي الحل العلمي للمشكلات، وتغيب التلبية الموضوعية للاحتياجات، لا بد أن يكون الموتى — أبعدَ الناس عن الحياة — هم أصحاب «القدرة» الوحيدون على تقديم الحلول. وربما كانت الملاحظات التي أحصاها الدكتور عويس في بحثه لظاهرة إرسال الرسائل إلى ضريح الإمام الشافعي أجدرَ من كل تخمين.٦
فقد لاحظ أن هذه الرسائل منتشرة في ثلاثة أرباع محافظات الجمهورية، وأنها مستمرة على مَرِّ الأزمان، وأنه بالرغم من أن الدين الإسلامي يحرِّم هذه الرسائل، ويعتبرها شركًا بالله، فإن أصحابها مسلمون، ويبعثون بها في الشهور المباركة.
وقد لاحظ أيضًا أن الإمام الشافعي في عقول أصحاب الرسائل هو شخصٌ حيٌّ رغم مرور ١١٥٠ عامًا على وفاته، وأنه شخصٌ ذو سلطان وملهم وذو بصيرة تخترق الحجب والأستار، وهو يؤتمَن على السر، ومتخصصٌ فيما تقوم به عادةً وزارات الداخلية والعدل والشئون الاجتماعية والعمل والصحة. وهو أخيرًا شخصٌ يمكِن تملُّقه ومساومتُه ورشوتُه ويقبل الواسطة.

ولو أن باحثينا الاجتماعيين قد أُتيحَت لهم إمكانيات الدراسة الميدانية الواسعة في هذا المجال، لاكتشفنا أن ظاهرة الإيمان بحياة الموتى، والتعامل معهم كأحياء منحهم الموت قدرةً استثنائية تفوق طاقة البشر، هي ظاهرةٌ قوميةٌ شاملة للوطن بأَسْره، بمختلف طبقاته وفئاته الاجتماعية، وأنها تبدأ في زيارة ملايين الموتى من الأقرباء، وتنتهي بتقديم القرابين والولاء لألوف الموتى من «الأولياء والقديسين»؛ وبالتالي فهي رؤيةٌ كاملة للوجود، لا تختلف عن العالم الفكري الكامل لمجموعة القيم والعادات والتقاليد، بل تتكامل معه في خلق دنيا وهمية بديلة للواقع الحي، في استبدال العلم بالمعجزة الغيبية في مواجهة المشكلات، تتكامل في صياغته للسلوك الفردي والاجتماعي، تتناقض مع متطلبات العصر الذي نعيش فيه فتلحق بنا الهزائم تلو الهزائم.

إن هذا الجانب «الحي» من تراثنا، بمعنى سريانه اللاشعوري في حياتنا اليومية، لم يعرف حتى في فجر نهضتنا نوعًا من «الهدم»، رغم أنه نتيجةٌ كيفية لتراكماتٍ كمية تنحدر إلينا من الماضي السحيق، وليس «أصالةً» مطلقًا أن تحتفظ الشخصية العربية بمثل هذه الخرافات عبْر كل الأزمان، بل إن الأصالة الحقيقية هي رفض هذا التراث وهدمه، بدلًا من أن نظل رازحين تحت عبئه الضاغط، مكبَّلين بقيودٍ من صنع أسلافنا، لعلها أيامَهُم كانت الممكنَ الوحيدَ لتفسير الوجود ومواجهته. لقد كان المصريون القدماء — مثلًا — هم الذين يخشَون إن مات أحدهم ألا يعبِّروا عن حزنهم تعبيرًا كافيًا «فكانوا يستأجرون الندابين والنائحات، الذين لا يكِلُّون إطلاقًا، ولا يكُفون عن الصراخ والعويل. وكانت النساء يلطمن رءوسهن بأيديهن. بينما كانت وجوههن ملطَّخة بالطين، وصدورهن عارية، وثيابهن ممزَّقة.»٧ وكان المصريون القدماء أيضًا هم الذين لا يضعون الفواصل بين الحُلم والواقع ولا بين الأحياء والأموات «ولذا يلتئم الرمز إليه معًا، كما يلتئم الشيئان المتشابهان؛ بحيث يغدو الواحد الآخر.»٨ ومن هنا كانت عادتهم في نقش أسماء أعدائهم والدعاء لهم بالموت على أقداحٍ من الفخَّار ثم تحطيمها. كذلك كانت المخلوقات الخفية تملأ فضاء بابل ونينوى، يقابلها اعتقاد جازم بقدرتها على التأثير خيرًا أو شرًّا في حياة الناس، وقد تفردت كلدة في مسائل التمائم والأحجبة والتعاويذ والطلاسم والعرافة، فكانت مواطن السحر.٩ وكانت شعوب ما بين النهرَين تصنع التماثيل البسيطة لمن يقصدون إيذاءهم، ثم يكتبون عليها ما يشتهون وقوعه على أعدائهم من الأذى، اعتقادًا منهم بأن ذلك يصل إلى جسم الأعداء مباشرة. وكان الأقباط الأولون هم الذين ورثوا عن أجدادهم الفراعنة، وأورَثوا أبناءهم المحدَثين، عادات المآتم والجنازات من لطمٍ وحلٍّ للشعر وصبغة بالنيلة، واهتزازاتٍ توقيعية تتمشَّى مع أنغام التعديد، الذي كثيرًا ما يقترن بقرع الرق أو الطبول، وكذلك عادة المقابر والمبيت فيها. ويلاحظ الدكتور مراد كامل في كتابه «حضارة مصر في العصر القبطي» أنه، سواء في العديد — أي ترديد مآثر الفقيد — أو في زيارة المقابر، يأتي الناس بأقوالٍ وأفعالٍ تنكرها المسيحية التي جاءت في الإنجيل، فإذا أضفنا إلى ذلك ظاهرة «الموالد» فإنها فضلًا عن مضمونها التجاري المبتذَل لدى البعض، فإنها من الناحية الخُلقية عدوانٌ سافر على القيَم التي دعا إليها المسيح.١٠

يدلنا ذلك على أن مجموعة القيَم والعادات والأعراف والمعتقدات والتقاليد، التي تُشكِّل فيما بينها تراثًا راسخًا في النفس العربية المعاصرة، قد انحدرَت إلينا تلقائيًّا من المجتمع الوثني والبدائي القديم، وأن بقاءها طيلة هذا الزمان ليس شاهدًا على قوَّتها الذاتية — التي سرعان ما تتبخَّر أمام قوة العلم — وإنما يستمد هذا البقاء عناصره الأساسية من أن تراثنا، على مدى تاريخه، لم يتعرض لما أسمِّيه بعملية «الهدم والبناء»، فظلَّت هذه التراكمات الغيبية تتوالى قرنًا بعد قرن، وعصرًا بعد الآخر، حتى وصلنا إلى هذه النتيجة الكيفية المرعبة، وهي أن الإنسان في بلادنا يعيش كيانًا مزدوجًا، يعيش في عالمٍ «آخر» موازٍ لعالمه الحقيقي، وربما كان البعض منا يَعُون هذه المفارقة المؤسية فيتمزقون، ولكن الغالبية الساحقة تحيا عمرها في انسجامٍ متوهَّم بين العالمَين. ولقد عرفَت بلادنا ثوراتٍ فكريةً عديدة بعد انهيار الحضارات القديمة، فيما بين النهرَين ومصر الفرعونية وفينيقيا وغيرها، عَرفَت المسيحيةَ والإسلامَ والفكرَ الحديث، ولكن فترات الثورة كانت دائمًا بالغة القِصَر، إذا قيست بمتطلبات الهدم والبناء، وضرورات التصفية الجذرية العميقة للقيَم والعادات، للأبنية العلوية في الهرم الاجتماعي وانعكاساتها المؤثِّرة على قواعد السلوك ومناهج الحياة. كانت فتراتُ «الانحطاط» هي الأطول عمرًا، وكانت الطبقات القائدة للثورة، سرعان ما تستكين لشهوة السلطة والضعف، أو التركيز على الجوانب المادية المباشرة والمحقِّقة لمكاسبها الآنيَّة الضيقة، أو انكسارها أمام شوكة الغزاة الأجانب؛ لذلك استطاع مجتمع السحر القديم أن يغزوَ مجتمع الدين في العصر الوسيط ومجتمع العلم في العصر الحديث، وتوغَّلَت عقائد الإنسان البدائي وتقاليد البشرية القديمة في العقائد الجديدة والبشرية المعاصرة؛ فبالرغم من اختلاف إيمان المسيحي عن إيمان المسلم، نجد أنهما يسلكان — عاطفيًّا واجتماعيًّا، نظريًّا وعمليًّا — سلوكًا واحدًا مشتركًا، تمتد جذوره إلى قيم الإنسان القديم ومعتقداته الأساسية، يختلف الديكور، ربما، ولكن الجوهر لا يختلف، بل ويختفي اختلاف الديكور أيضًا إذا عبَرنا دهاليز الحياة الدينية إلى شُرفات الحياة الدنيا؛ حينئذٍ يتوحد المظهر والجوهر توحدًا تامًّا. وربما كان هذا يعني لدى البعض دليلًا على الوحدة القومية للشعب، ولكنه في يقيني دليلٌ سلبي. أما معناه الحقيقي والأول، فهو أن ثمَّة ثقوبًا واسعة في كل ما عرفناه من ثوراتٍ فكرية وسيطة حديثة، قد سمحَت لقَدْرٍ كبير من تراثنا السلبي أن يتسرَّب إلى حياتنا الاجتماعية والعقلية والوجدانية، وأن يُحكِمَ قبضته في السيطرة على مقادير شعوبنا كل هذا الزمان. إن غياب «الهدم والبناء»، كعمليةٍ ثوريةٍ من برامج تلك الثورات، قد أتاح لهذه الغيبيات فرصة السيادة.

إن هذه النتيجة الكيفية التي وصلنا إليها عبْر تراكمات الزمن — وهي قيام عالمٍ آخرَ موازٍ لعالمنا في حياة الشخصية العربية — يلزم لمواجهتها منهجٌ كيفيٌّ مضاد؛ فالأسلوب الإصلاحي يكتفي بالترميم والترقيع؛ أي الشكل، وكأنه يعالج جزئياتٍ منفصلة أو تراكماتٍ في مرحلة النمو. أما الأسلوب الثوري فيقتضي التغيير الجذري ماديًّا ومعنويًّا. يقتضي الإبقاء على «عالَمٍ واحد» في حياتنا هو العالم الواقعي، وترسيخ منهجٍ واحد يضبط سلوكنا الاجتماعي هو المنهج العلمي. يقتضي تقديم البديل الوحيد الذي يمكن أن يحلَّ مكان الوهم والأسطورة في مواجهة المشكلات وتلبية الاحتياجات، وهو التغيير الثوري للمجتمع، تغيير قاعدته المادية — الاقتصادية والاجتماعية — وبنائه الفوقي من قيم وأفكار وتقاليد وعادات وسلوك في وقتٍ واحد. ولقد ثبت بالدليل القاطع، من التجربة التاريخية، أنه ليس صحيحًا أن تتغير القيم تلقائيًّا غداة تغيير الاقتصاد والسياسة.

•••

يتبدى لنا هذا الدليل الدامغ في ذلك الكم الهائل مما ندعوه تراثًا شعبيًّا، وهو التنظير البليغ لقيَم وأفكار وعقائد الأقدمين. إن الأمثلة العامية الدارجة، والحكايات، والحواديت، والمواويل، والحِكَم التي تلهج بها ألسنتُنا وأغانينا في أفراحنا وتعازينا وعلاقاتنا الاجتماعية، تصوغ كلها وبإحكامٍ دقيق ذلك الصراع العنيف بين أيديولوجية الشعب المتوارثة وواقعه. ولعل الأمثال الشعبية بالذات، بإيجازها وسجعها، تكتشف لنا أكثر من غيرها ذلك النسَق المتضارب من الأفكار والقيَم والمشاعر، التي تحرك عقول ووجدانات شعبنا في إطارٍ معيَّن من السلوك الاجتماعي، لا يتسق مع المرحلة التاريخية إلا مجازًا ورمزًا إلى أوجه الشبه بين المجتمع الطبقي الذي يُظلِّلهم والمجتمع الطبقي الذي ظلَّل أسلافنا. وهي أوجهٌ شبه مجازية؛ لأن ثمَّة تناقضًا موضوعيًّا بين المرحلة التاريخية المعاصرة والمجتمع القديم.

في طبيعة المجتمع الطبقي يردد الإنسان في بلادنا هذه الأمثال.١١
«خدوا من فقرهم حطُّوا على غناهم.»
«أبو ميَّة يحسد أبو دفيَّة.»
«أبو جموسة يحسد أبو معزة.»
«ناس تاكل البلح وناس تتضرب بالشماريخ.»
«قالوا يا اللي أبوك مات من الجوع، قلت هو كان لقى أكل ولا كلش؟!»

وفي حتمية البناء الطبقي للمجتمع يُردِّد هذه الأمثال:

«لما أنا أمير وأنت أمير مين يسوق الحمير؟!»
«صوابعك مش زي بعضها.»

وعن مظاهر الانسحاق الطبقي تقول الأمثال:

«على قد حصيرتك مد رجليك.»
«اللي يبص فوق توجعه رقبته.»
«العين ما تعلاش على الحاجب.»

وحول علامات الهوان الطبقي تقول الأمثال:

«أصلك فلوسك، وجنسك لبوسك.»
«إذا غني أكل حية قالوا من حكمته، وإذا أكلها فقير قالوا من حموريته.»
«إذا مات الغني جَرُو الخبر، وإذا مات الفقير ما فيش خبر.»
«ابن مين اللي محمول؟ ابن اللي عندها مأكول. وابن مين اللي ماشي؟ ابن اللي ما عندها شي!»

وحول علامات الهوان الطبقي تقول الأمثال:

«عاز الغني شقفة كسر الفقير زيره.»
«اعمل انت يا شقي لهذا المتكي».
«إن عاشوا كلوا الديدان، وان ماتوا ما يلاقوا أكفان.»
««اجري يا مشكاح للي قاعد مرتاح.»

ومن علامات الفساد الاجتماعي ما يرمز إليه المثل القائل:

«ارشو تشفو.»
وفي تبرير الانتهازية تقول الأمثال:
«اللي يجَّوز أمي أقول له يا عمي.»
«إن كان لك عند الكلب حاجة قوله له يا سيدي.»
«ارقص للقرد في دولته.»
والرضا بالقهر، كالخضوع والاستسلام، ينال قدْرًا وافرًا من الأمثال:
«اللي يرضى بحكم موسى يرضى بحكم فرعون.»
«أقل عيشة أحسن من الموت.»
«لاجْل الضرورة أروح للندل البيت، وأقول له العفو يا سيدي، أشيل مداسه، وأمسح تراب رجليه.»
«الباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح.»
«اللي يوطي لها تفوت.»
«المغلوب مغلوب، وفي الآخرة ينضرب بالطوب.»

وفي المجتمع الطبقي تطغى الروح الفردية بمعناها الأناني، فتقول الأمثال:

«قال بيت أبوك اتهد قال خد لك منه قالب.»
«ما ينفعك إلا نفسك.»
«ما يبكي على الميت إلا كفنه.»
«صباح الخير يا جاري، إنت في دارك وأنا في داري.»
«قالوا يا جحا إمتى تقوم القيامة قال لما أموت أنا.»
«أنا رحت الغيط حرست جاري، سرق البرسيم وخد حماري.»
وضد المرأة تحتشد الأمثال بالهجوم الضاري، فتقول.
«الراجل ابن الراجل اللي عمره ما يشاور مرة.»
«عمر المرة ما تربي طور ويحرُت.»
«لا تآمن للمرة إذا صلت، ولا للخيل إذا وطت، ولا للشمس إذا ولت.»
«موت البنات سُترة.»

أما الإيمان بالحظ والقدَر والصُّدَف، فله نصيب الأسد من الأمثال:

«المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين.»
«ابن آدم في التفكير، والرب في التدبير.»
«اصرف ما في الجيب، يأتيك ما في الغيب.»
«السعْد وعْد.»
«كله قسمة ونصيب.»
«قليل البخت يلاقي العظم في الكرشة!»
«اجري جري الوحوش غير رزقك ما تحوش.»
«قيراط حظ ولا فدان شطارة.»
«الدنيا زي الغزية، ترقص لكل واحد شوية.»
«بختي لقاني في الطريق باعرُج قال ارجعي يا خايبة لارقُد.»
«جيت أتاجر في الكتَّان ماتت النسوان.»
«جيت ادعي عليه، لقيت الحيطة مايلة عليه.»

هذه كلها ليست أكثر من نماذج وعينات لحشدٍ هائلٍ من الأمثال الشعبية المدعِّمة للبناء الطبقي بكافة عناصره الاقتصادية والاجتماعية والخُلقية. وبالرغم من أن هذا الرصيد السلبي من الأمثال هو الرصيد الأكبر، فإن للعملة وجهًا آخر هو تلك المجموعة من الأمثال المناهضة لهذا التكوين الفكري، وهو الأمر الذي يؤكِّد أن التراث الشعبي في جملته يُبلوِر خبرةً اجتماعيةً للشعب على مدى التاريخ، ولكنه يؤكد من زاويةٍ أخرى أن هذه الخبرة التاريخية ليست كيانًا متجانسًا، وإنما هي تعكس تناقضًا واضحًا بين تجارب القاهرين وتجارب المقهورين. وإذا كانت الفئات الممتازة طبقيًّا قد استطاعت، على مَر الزمن، أن تُروِّج لأكثر المبادئ انهزاميةً حتى تتم لها السيطرة على العقل والوجدان، في موازاة سيطرتها على مقاليد السلطة، فإن هذا يتطلب من الطبقات المطحونة أن تُحييَ الوجه الإيجابي المقابل في التراث.

وهو الوجه الذي يقف ضد القهر، كما تقول الأمثال:

«اللي يعمل ضهره قنطرة يستحمل الدوس.»
«اللي يربط في رقبته حبل ألف من يسحبه.»
«يا فرعون مين فرعنك قال ما لقتش حد يردني.»
«اللي يرشك بالمية رشه بالدم.»
«سكتناله دخل بحماره.»
«اللي يوطي راسه يتركب.»
«اللي ما يقدر عليه القَدوم يقدر عليه المنشار.»
«ما ورا الصبر إلا القبر.»
«مسمار دخل بالخشب فلقه، قال له فلقتني، قاله مانتاش شايف الدق فوق رأسي.»

وتحل القيم الجماعية مكان القيم الفردية الأنانية، كما تقول الأمثال:

«حط إيدك على عينك، زي ما توجعك توجع غيرك.»
«اللي قيدني يفتل لك.»
«إيد واحدة ما تسقفش.»
«البركة في كترة الأيادي.»
«إيد على إيد تكيد.»
«قبل ما أقول يا أهلي يكونوا جيراني غاتوني.»
«اللي ياكل لوحده يزور.»
«الكترة تغلب الشجاعة.»
«النوايا تسند الزير.»
«إيد على إيد تساعد.»

وتصبح المساواة قيمةً مؤكدة، كما تقول هذه الأمثال:

«كلنا ولاد تسعة.»
«ما حدش أحسن من حد.»
«البلاد بلاد الله، والخلق عبيد الله.»
«الأكل في الشبعان خسارة.»
ولا يعود هناك مجال للإيمان بالحظ والمكتوب، كما يقول المثل:
«العاجز في التدبير يُحيل على المقادير.»
ذلك أن العمل هو المعيار الخلقي، كما يقول المثل.
«الإيد البطالة نجسة.»

وهكذا يُدان الفساد الاجتماعي كجمع الثروة بغير الطريق الحلال، كما يقول المثل:

«اللي تجيبه الريح تاخده الزوابع.»
«بيت النتاش عمره ما يعلاش.»
ويصبح الحب بين الجنسين عملًا مشروعًا يدعمه المثل الشعبي بقوله:
«إذا كان بدك تصون العرض وتلمه، جوز بنتك للي عينها منه.»

وتغيب الانتهازية كعُرفٍ اجتماعي، كما يجيء في المثل:

«أعمل حاجتي بإيدي، ولا أقول للكلب يا سيدي.»

وهكذا يتضح لنا في هذه النماذج والعينات أن بعضها يكاد يرى حرفيًّا على البعض الآخر، وإن كان التراث السلبي أكثر غلبة من الوجه الإيجابي الشحيح، مما يعكس التناقضات الاجتماعية والفكرية من ناحية، كما يعكس سيطرة الأيديولوجية القاهرة وسيادتها من ناحيةٍ أخرى، والجدير بالذكر أن هذه المجموعة المختارة من الأمثال الشعبية المصرية لها ما يناظرها أحيانًا على وجه التقريب، وأحيانًا على وجه الدقة، في بقية أرجاء الوطن العربي، بل لقد أحصى أحمد رشدي عددًا من الأمثال الشائعة والمشتركة بيننا نحن العرب وبين غيرنا من شعوب العالم١٢ مما يرجح — في عملية الهدم والبناء — الأهمية القصوى لدراسة تطور هذه الأمثال، لا من حيث دلالتها الاجتماعية المباشرة فحسب، بل من زاوية حركتها التاريخية؛ فلعلنا نكتشف مثلًا وحدة الوجدان العربي، من ذيوع أمثالٍ بعينها بين الأقطار المختلفة لهذا الوطن، كما قد نكتشف أمورًا لا علاقة لها بالتفاعل الصحي بين الشعوب، كنزوح بعض الأمثال الأجنبية مع الغزاة؛ الأمر الذي يجعلنا نتحرر في تبويب كل ما وصلَنا من أمثال تحت عنوان تراثنا الشعبي، كتلك القيم والعادات التي انحدرَت إلينا من المجتمعات الوثنية والبدائية، وأطلق عليها عنوانًا فضفاضًا هو «تقاليدنا القومية»، بل وإن ما نطلق عليه اسم «الموسيقى العربية» — وكنا فيما قبلُ نسمِّيها صوابًا بالموسيقى الشرقية — لا علاقة لها بعمود الموسيقى العربية، وإنما هي كالرقص الشرقي مجلوبة مع الأتراك والفرس والأكراد والشركس؛ فكتب العرب لا تحدِّثنا عن السيكا والنهاوند، ولكنها تحدِّثنا عن الخفيف والثقيل وما إلى ذلك.١٣ ولسنا نرفض هذه الفنون «الشرقية» لكونها شرقية، بل لأنها كانت فنون السادة والقصور والأغَوات والسلاطين، وهي تصوغ أخلاقياتهم وتقاليدهم أكثر مما تصوغ أخلاقًا أو قيمًا إنسانية رفيعة، فضلًا عن بُعدها التام عن ضمير الشعب. ولعل ثورة سيد درويش التي أُجهِضَت هي أنه حاول استلهام تراث الشعب وضميره استلهامًا منظورًا. بينما نلاحظ على الذين جاءوا من بعده — وقد انتكسَت ثورة ١٩١٩م وتوالت الهزائم — أنهم يُؤثِرون استلهام الجانب السلبي الطاغي على التراث الشعبي؛ فأغانينا العاطفية بسيلها المنهمر تتبارى في التركيز على انكسار الحبيب وتسوُّل الحب، امتدادًا لهذه المعاني في الأدب الشعبي؛ حيث لا يكون الحب «انتخابًا حرًّا بين طرفَين متكافئَين، بل هو علاقةُ ذي قدرةٍ على الامتلاك وطرفٍ آخر مجرَّد منها».١٤ ويقول الباحثون في الأغنية الشعبية بالضفة الغربية من نهر الأردن إن المُغَني الشعبي قد اعتاد «أن ينظر للمرأة نظرةً خاصة، ذات أبعاد تستقي مفاهيمها من التراث، بما في ذلك التقاليد والدين والتاريخ. وقد اعتاد المُغني الشعبي أن ينظر للمرأة من زاويةٍ واحدة؛ فهي جميلة وممتعة ومشتهاة.»١٥ ويضيف الباحث — باستشهاداته من النصوص — أن ظاهرة الشك في المرأة لدى المُغني الشعبي كانت صدَى اعتقاد السواد الأعظم من الناس، بأن المرأة لا تُخلِص إلا لمن يُغدِق عليها العطاء. ويعود هذا الاعتقاد إلى نظرة المجتمع للمرأة منذ العصر الجاهلي؛ حيث تبدو مكروهةً محتقَرة لأنها عُرضةٌ للسبي تجلب العار، وهي ضعيفة البنية والقلب تعجز عن المغالبة والغزو وكسب القوت،١٥ ويستعرض الكاتب عشرات النماذج الدالة على أن المرأة سلعة تُقتنى، حتى إن الفلاح إذا شتم المرأة قال لها: «يلعن أبو اللي قانيها.»١٥
وتشارك الحكاية الشعبية في تجسيم ما تقول به الأمثال والمواويل من قيم وأفكار؛ ففي السودان مثلًا تشيع حكاية «القِدر» التي يصادف فيها أحد الحكماء جمجمة إنسان بين الرمال وقد كُتب على وضع الجبين منها: «قتَلتُ حيًّا أربعين، وسوف أقتل ميتًا مثلهم.» ويرتعب الرجل من هذا المكتوب فيهشِّم الجمجمة ويسحقها تمامًا، ولكن الكتابة لا تزول بسحق الجمجمة، ويتحقق الشر المكتوب على جبينها بموت أربعين شخصًا بسببها.١٦ أليست هذه الحكاية ترجمةً قصصيةً للمثل الذائع، في مصر وغيرها من أقطار الوطن العربي، من أن «المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين»؟ وفي السودان أيضًا حكاية «حمار حبوبة خديجة»؛ حيث تخرج خديجة مع بعض العجائز، وحين تعبَت في الطريق وجلسَت لتستريح ظهرَت أمامها فجأةً قافلةٌ من الحمير البيض، فامتطت واحدًا حتى لحقَت برفيقاتها، ولكن الحمار طار بها وتجاوزهن، ثم توقف حتى لحقن بها، فطار بها مرةً أخرى ثم توقف، وهكذا إلى أن توقف مرة ورفض المسير فعضَّته خديجة في أذنه حتى نهق «ثم رفع رجله الأمامية، ومدها لحبوبة خديجة، وكانت فيها شوكة كبيرة، وكشر عن أضراسه وقال: يا حبوبة، عليك الله، امرقي لي الشوكة دي. عند ذلك ذُعرَت خديجة من كلام الحمار، وقرأت آية الكرسي، فاختفي الحمار عن عينها.»١٦ وهي قصةٌ شعبية تصوِّر الاعتقاد في امتلاء الكون بالأرواح الشريرة القادرة على التجسُّد في أشكالٍ حيوانية. وفي السودان كذلك حكاية «أخدر عراز» الذي يشرف على الموت من مرض «علوي»، ولا يتم شفاؤه إلا حين يأكل كبدَي عصفورَين من عصافير الجن، لا يخرجان من قفصها إلا مرةً واحدة كل مائة سنة.١٦

إن هذه الأمثال والأغاني والحكايات الشعبية هي الصياغة «التبريرية» لما يأتي به الذين يردِّدونها من أفعال، إنها فلسفة السلوك الاجتماعي الفعلي، وليست زخرفًا لغويًّا أو بهارجَ لفظيةً معزولةً عن الواقع، وإذا كانت القيم والعادات الاجتماعية المضادة لروح العلم، لا يمكن إلغاؤها بجرة قلَم؛ إذ هي تعبِّر عن مشكلاتٍ حقيقية واحتياجاتٍ موضوعية، فإن الصياغة التبريرية لهذه التقاليد في معاداتها للتقدم تعبِّر هي الأخرى بطريقتها الخاصة عن هذا الواقع، وإذا كان الأسلوب الثوري في تصفية السلوك الاجتماعي المتخلف هو تقديم البديل العلمي للحلول الوهمية في معالجة المشكلات، وإذا كان هذا البديل يتطلب مجموعةً مستقاة من المنجَزات المادية والمعنوية لتغيير الواقع، فإن الأسلوب الثوري في تصفية الصياغة التبريرية الرجعية لا يتطلب فحسب تقديم الصياغة العلمية البديلة، بل يتطلب أيضًا مقدمةً ضرورية وبالغة الأهمية، هي دراسة هذا التراث السلبي، وتحليله تحليلًا طبقيًّا وقوميًّا وإنسانيًّا عميقًا، يكشف للذين يعيشون في حماه، الجذور والأصول والمنابع التي وفد إلينا منها، والطبقات التي روَّجَت له وأفادت منه، والطبقات التي لا تزال تروِّج له وتفيد منه، والآثار الاجتماعية والفكرية المترتِّبة عليه، في تعويق المجتمع عن إحراز خطوةٍ واحدة في طريق التقدم، وتكبيله وشلِّه عن مواجهة التحديات المعاصرة له على كل الجبهات. إن تحليلًا عميقًا كهذا، لا يقدِّم لنا الخريطة الطبقية للمجتمع فحسب، ولا خريطة الغايات والوسائل في عملنا وحده. وإنما هو يقوم، بالإضافة إلى ذلك كله، بعملية الهدم والبناء في حياة المجتمع، يجدِّد خلاياه الثورية، ويغيِّر الدماء الفاسدة، ويقتل الجراثيم المميتة. إن الهدم والبناء؛ هذه العملية التي لا تتم تلقائيًّا في حياة النبات والحيوان والجهاز العضوي للإنسان، لا بد وأن تتم على المستوى الفكري والاجتماعي للإنسان العربي؛ فتلك هي أولى بوادر اليقظة الثورية الحقيقية، إننا في هذا الصدد نتعلَّم من العالم أن الاستمرارية الحضارية، وسريان التراث في الشرايين الرئيسية للثقافة القومية، كما فعل هوميروس وسوفوكليس وتشوشر وشيكسبير، بصياغاتهم الجديدة لتراث الشعوب الأوروبية، التي غربلَت هذا التراث جيلًا بعد جيل، عصرًا بعد عصر؛ بحيث إنه لم يُحدث فجوةً تتسع يومًا بعد يوم بين تراث الشعب والحضارات المتعاقبة. كما أن ثراء الفكر الأوروبي مدينٌ بإضافات العصور وتفسيراتها المختلفة لتراث الشعب.

•••

ولئن كانت الحضارات القديمة هي «مصدر» تلك المجموعة السلبية من القيم والتقاليد والمأثورات الشعبية من أمثال وحكايات ومواويل، فإن هذا لا يعني مطلقًا أن هذه الحضارات مسئولة عن الوجه الدميم للتراث، بل ولا يعني مطلقًا أن هذا الوجه كان دميمًا في مسقط رأسه القديم. إن المسئولية بكاملها في سريان الدم التراثي الفاسد في شرايين المعاصرين، تقع على وسائل انتقال التراث التاريخية والاجتماعية من عصر إلى آخر، ولا علاقة لها بالنبع الأول؛ حيث لم تكن هذه القيم والتقاليد بالنسبة له تراثًا، وإنما كانت أسلوبًا في الحياة ابتدعه الإنسان القديم بخيره وشره ابتداعًا. ومن الظلم الفادح لذلك الجد القديم أن نلومه على أسلوبه الخاص في الحياة، وإنما يقع اللوم على عاتق الذين استَيسَروا التقليد الأعمى والمحاكاة الحرفية، بدلًا من الابتكار والخلق، بما يناسب حياتهم الجديدة، حتى لو تطلب هذا الابتكار الأخذ عن «بعض» القديم، فالخلق في هذه الحالة هو الاختيار. إن القدماء لم يُلزِمونا بشيء وقد كان الدرس الأول الجدير بالحفظ عنهم هو «الإبداع»، والحق أنه لم يكن مجرد «استسهال» أن قلَّدنا أسلافنا وسِرْنا على منوالهم، بل لو أننا تعمَّقنا في هذا التعبير لاكتشفنا خطأه؛ فنحن لم نَسِر على منوالهم بالضبط، لقد أخذنا عنهم النتائج دون المقدمات التي أدَّت إليها. والمقدمات والنتائج في حياتهم تشكل كلًّا واحدًا لا يقبل القسمة، وحين يواجهنا العصر بمقدماتٍ جديدة ولا نبني عليها نتائجها، بل نركِّب عليها نتائج الأقدمين، فإن ذلك ليس هو المنوال الذي ساروا عليه. لقد كان الاتساق المنهجي رايتهم أما التناقض فهو راية «المحافظين» الذين جاءوا من بعدهم. لم يكن استسهالًا أنْ قلَّدْنا الأسلاف، بل كان الأمر عمقًا. كانت القوى المحافظة دائمًا على مَر العصور ترى في نتائج القدماء، دون ربطها بالمقدمات، دعائمَ قويةً تسند نظامها. كان المحافظون دومًا هم الذين يُغفِلون السياق التاريخي للتجربة الاجتماعية، ويلتقطون أكثر الجوانب سلبًا في التراث فيُلمِّعونها، أما الوجه الإيجابي فيطفئونه؛ ذلك أن التراث — كل تراث — يتضمن بصفة مستمرة «وجهَين»؛ أحدهما نسبي يبلور الهموم الموقوتة، المتغيرة، وذلك هو الوجه الذي ينبغي ألا يُورث؛ لأنه يتناقض مع الظروف الجديدة، بل يكتفي علماء التاريخ والنفس والاقتصاد بدراسته في سياقه، لاستنباط العبر والدروس. وهناك أيضًا الوجه المطلَق للتراث الذي يبلور الخبرة الإنسانية العامة. وهو الوجه الأحق بالتوارث؛ لأن الظروف الجديدة تؤكِّد الحاجة إليه ولا تتناقض معه؛ هذا الموقف من الوجه النسبي والوجه المطلَق للتراث، لا يتخذه إلا الذين يرغبون في تقدم المجتمع وتطويره وتجديده. أما القوى المحافظة فتقلب الآية على المجتمع أن يرثَ الوجه النسبي، وأن ينسى الوجه المطلَق. وهي حين تتبنى الوجه النسبي تتبناه مقصورًا على السطح الخارجي، دون الجذور الثائرة الغائرة، فتعزل العلة عن المعلول والسبب عن النتيجة، برؤية براجماتية للأمور، تفصل الشكل عن المضمون، وتأخذ القشور التي تعنيها وترمي بالجوهر في غياهب النسيان. وهكذا فهي تقوم بعملية الهدم والبناء من وجهة نظرها لا من وجهة نظر التقدم، فتهدم ما يستحق البناء وتبني ما يستحق الهدم؛ لذلك تتراكم السلبيات الموروثة جيلًا بعد جيل وعصرًا بعد عصر — لطول ما استولت القوى الرجعية على السلطة — حتى تتحول في خاتمة المطاف إلى «معتقدات» راسخة في عمق أعماق الضمير.

ولولا أن المواهب الفنية الرئيسية في الأدب العربي الحديث تنتمي، بصورة أو بأخرى، إلى اليسار بمعانيه المختلفة، لتوارى إلى الأبد عن عقولنا ووجداننا أروع ما في تراثنا من قيم وتقاليد. ومع هذا فإن منجَزات الأدب والفن في استلهام الوجه الإيجابي العظيم في التراث، ليست أكثر من نقطة في بحر أجهزة الإعلام وبرامج التعليم وبقية أدوات التوصيل الجماهيرية الواسعة الانتشار والنفوذ، والتي تخصَّصَت غالبيتها في إبراز الوجه المعتم وتلميعه، وإغفال الجوانب المشرقة، بإخفائها عمدًا عن العيون والآذان والأفئدة. وما زالت هناك من القيم والتقاليد الثورية المطمورة في تراثنا، ما لم تعرف بعدُ بعثًا ولا إحياءً؛ لأنها تحتاج إلى طاقة الآداب والفنون، تحتاج إلى ثورةٍ ثقافيةٍ شاملة تقودها الطبقات المؤهَّلة تاريخيًّا واجتماعيًّا لذلك.

إن أول ما يصادفنا في تراث مصر القديمة من ملاحظات، هو قبول المصريين للمستحدَثات، «ودمجها في فكرهم دون التخلي عن التقدم»؛١٧ أي إن أجدادنا اكتشفوا المعنى الصحيح للأصالة والمعاصرة في وقتٍ مبكر، فما بالنا نحن نتنكر لهذه الفكرة الرائعة وننكَب على القديم دون مراجعة، دون تحليل لواقعنا وتركيب لفكرنا؟ إننا على ضوء هذه الفكرة المصرية القديمة، نرى أن أسوأ ما يمكن أن نرثه من المصري القديم هو فكرة الخلود، وفكرة توحيد الملك وفكرة الكهنوت. لقد أثمرت بالطبع فكرة الخلود أعمالًا معمارية كالأهرام، وأعمالًا كيميائية عظيمة كالتحنيط، ولكن هندسة الأهرام، كيمياء التحنيط، هي الجديرة بالدراسة والتأمل والفائدة، أما «نظرية الخلود» الكامنة وراء التحنيط والأهرام، فهي موقف هروبي من الموت ورؤية غيبية للحياة، وكلاهما ضد العلم — في عصرنا نحن — والإنسان، إنساننا المعاصر. وهذا لا ينفي أننا نستطيع أن نستلهم معنًى آخر للخلود من التراث البابلي، يتبدى في الصراع البطولي ضد الموت، كما يتمثل في ملحمة جلجامش. ولقد أثمر التوحيد بين شخصية الملك وشخصية الإله في مصر الفرعونية نوعًا «مقدسًا» من عبادة الحاكم، أدى إلى عديد من ألوان الطغيان والاستبداد الفردي، لسنا بحاجة مطلقًا لأن ندرجه ضمن موروثاتنا. وحين يرى بعض المصريين والأجانب أن المسرح المصري القديم هو أقدم ما عرف الإنسان من فنون الدراما، فإن ما ينبغي أن نلتفتَ إليه ليس هو هذا القِدم أو هذه الأولوية — إلا عند أصحاب الأفكار العنصرية — بل إن ما يجب أن يشد انتباهنا حقًّا هو معرفة الأسباب التي أدت إلى اغتيال المسرح في مصر القديمة، وازدهاره مثلًا في اليونان القديمة. لقد مات المسرح المصري داخل المعبد على أيدي الكهنة، بينما ازدهر المسرح اليوناني لخروجه من المعبد إلى الشارع، بانعتاقه من الكهنوت، وحين كان ينتشر السحر وتقوى الكهنة كانت مصر تنحدر، والعكس صحيح، حين كان العلم يحل مكان السحر والمدنيون مكان الكهنة كانت مصر تتقدم، ولعل هذا هو سر الأسرار في عظمة الإخناتونية ومأساتها في الوقت نفسه، هي — الأخرى — لم تكن مجرد «أول» دعوة للتوحيد الإلهي، وإنما يكمن مغزاها الحقيقي في أن هذا التوحيد يؤدي إلى نوعٍ آخر من التوحيد والمساواة، هو ما ندعوه الآن بالفكرة العالمية والإخاء البشري؛ فالإنسان في كل مكان — دون تفرقة — هو عبد هذا الإله الواحد. ولا شك أن انعكاس مثل هذه الدعوى على المجتمع الواحد، هو مزيدٌ من الديمقراطية بين المواطنين، وانفلاتٌ من قبضة المرتزقين بتعدد الآلهة من الكهنة. والديمقراطية في مثل هذه الحال ليست فقط ديمقراطيةً سياسية واجتماعية، وإنما هي أولًا وقبل كل شيء ديمقراطية المعتقد الديني، لا بمعنى حرية أداء الشعائر الدينية فحسب، وإنما بمعنى التخفيف من أعباء الجمود الكهنوتي في رؤية العلاقة بين الإنسان والدين، والتحرر من الالتزام الحرفي المطلَق بتعاليمَ دوجمائية. والدليل على ذلك أن إخناتون فقط هو الذي تجرَّأ على تحريم السحر.١٨

إننا نستطيع أن نستلهم الكثير من التراث الفرعوني والبابلي والفينيقي، وغير ذلك من تراث العصور القديمة، سواء في المبادئ العامة للتفكير أو في مناهج السلوك والعلاقات الاجتماعية، على أن يكون استلهامنا لأكثر العناصر قدرةً على توجيه مجتمعنا وإنساننا في طريق التقدم. وسوف أضربُ هنا مجموعةً من الأمثلة تعمُر بها كتب الأجانب عن حضارتنا، وتخلو منها برامجنا التعليمية والتثقيفية والأكاديمية خلوًّا شبه تام.

إذا كانت الديمقراطية والعدل الاجتماعي من المشكلات الحية التي تؤرق عصرنا الحديث، فإننا سوف نكتشف صفحاتٍ رائعةً في تاريخنا القديم، تؤكِّد حرص الإنسان في بلادنا على مقاومة القهر والطغيان والظلم الاجتماعي، بل إن المفارقة الجديرة بالتأمل هي أن عصور الاستبداد في مصر الفرعونية مثلًا، هي التي تُمِدنا بتراثٍ ديمقراطي عظيم، لا في أسلوب الحكم، وإنما في مواجهته من جانب الحكماء والمواطنين البسطاء، وأحيانًا على ألسنة الملوك في خطبة العرش التي يوجهونها إلى وزرائهم، وأحيانًا على واجهات المقابر، حتى يتجنب الميت عقاب الآلهة. تعدَّدَت الوسائل، ولكن الغاية واحدة، وهي أن الضمير الإنساني لدى أجدادنا كان يرجف ويهتز من كل ما ينتاب البلاد، ويهدِّد أمن البشر وطمأنينتهم. هكذا تقول لنا أقدم الوثائق، وهي ورقةٌ محفوظة الآن بمتحف برلين، ويميل برستيد إلى تسميتها «محاورة بين إنسانٍ يائسٍ سئم الحياة وبين روحه»؛ لأن عنوانها القديم فُقد، وهي أقرب لأن تكون قصيدة لشاعر أضنَته الحياة وعذاباتها، فيقول:

«لمن أتكلم اليوم؟ فإن الذي كان يظن أنه يثير الغضب بأخلاقه الشريرة يُسر منه الناس جميعًا، رغم أن خطيئته فظيعة.

لمن أتكلم اليوم؟ فإن الناس يسرقون؟ وكل إنسانٍ يغتصبُ متاع جاره. لمن أتكلم اليوم؟ فإن الخائن صار أمينًا، ولكن الأخ الذي يأتي بها (يعني الأمانة) يصير عدوًّا.

لمن أتكلم اليوم؟ لا يُوجد رجلٌ عادل.

وقد تُركت الأرض لأولئك الذين يرتكبون الظلم.»١٩

وما أقربَ هذه المعاني من تلك التأملات الحزينة، التي سجَّلها أحد كهنة عين شمس في مؤلَّف ظل متداوَلًا قرونًا طويلة، حتى نقله كاتبٌ من عصر الأسرة الثامنة عشرة على لوحة من الخشب، محفوظة الآن بالمتحف البريطاني! واسم الكاهن الحزين «خع خبر رع سننب»، يقول في تأملاته المؤسية:

«ليت لي قلبًا يتحمل الألم؛ فعندئذٍ كنتُ أركن إليه، فتعالَ إذن قلبي لأتكلم إليك، ولتجيبَني عن كلامي، ولتفسِّرَ لي ما هو كائن في الأرض. إني أفكر فيما قد حدث. إن المصائب تقع اليوم، ومصائب الغد لم تأتِ بعدُ، وكل الناس لاهون عن ذلك، مع أن كل البلاد في اضطرابٍ عظيم. وليس إنسانٌ خاليًا من الشر؛ فإن جميع الناس على السواء يأتونه، والقلوب بالحزن مفعَمة؛ فالآمر والمأمور صارا سواسية، وقلب كلٍّ منهما راضٍ بما حصل، والناس عليه (يعني الشر) يستيقظون في صباح كل يوم، ولكن القلوب لا تنبذه، ولا تزال اليوم على ما فعلَته في ذلك بالأمس؛ فلا يوجد إنسانٌ عاقل يدرك، ولا إنسان يدفعه الغضب إلى الكلام، والناس تستيقظ في الصباح كل يوم لتتألم. إن مرضي ثقيل وطويل، والرجل الفقير ليس له حول ولا قوة لينجو مما هو أشد منه بأسًا. وإنه لمؤلم أن يستمر الإنسان ساكتًا على الأشياء التي يسمعها.»٢٠

وفي قصة «الفلاح الفصيح» التي أتيح لها أكثر من غيرها أن تُبعث من كهوف النسيان يقول ذلك الفلاح الإهناسي، الذي عاش في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد: «إن العدالة خالدة الذكرى؛ فهي تنزل مع من يُقيمها إلى القير، ولكن اسمه لا يُمحى من الأرض، بل يُذكر على مَر السنين بسبب العدل.» ووجَّه خطابه إلى «مدير البيت العظيم» قائلًا:

«لقد نُصِبت لتسمع الشكاوى، وتفصل بين المتخاصمين، وتضرب على يد السارق، ولكنك تتحالف مع السارق، والناس تحبك رغم أنك معتدٍ. ولقد نُصِبتَ لتكون سدًّا للرجل الفقير يحميه من الغرق، ولكن انظر فإنك أنت فيضانه الجارف.»٢١
ولعلنا نذكُر تلك السطور القليلة، التي جاءت في رواية نجيب محفوظ «ثرثرة فوق النيل»، على لسان الحكيم إيبور، وقد صَدرَت الرواية عام ١٩٦٦م؛ أي قبل الهزيمة الأخيرة بعامٍ واحد، ولقد دهِش الكثيرون بعدئذٍ مما حملَته كلمات إيبور إلى فرعون من «نبوءة»، استكشفها الفنان المعاصر ببصيرته المدركة لواقعه، وعينه التي لم تغفُل عن التراث. لم تكن القضية بالنسبة لنجيب محفوظ مجرد رمز أو مجاز أو إسقاط، وإنما كانت إلى جانب ذلك وعيًا عميقًا باستمرارية التراث. إذا كان الواقع الذي يتحدث عنه إيبور ممتدًّا، على نحوٍ من الأنحاء، في واقعنا المعاصر، فإن الوجه الآخر للعملية يجب أن يكون حاضرًا، وهو شجاعة إيبور وتحذيره. وذلك هو الاستلهام الثوري للتراث. و«تحذيرات إيبور»، كما يدعوها برستيد، من أهم الوثائق التي تسترعي الالتفات، لا من حيث موقفها من السلطة فحسب، بل من حيث إنها نموذج يُقتدى به في موقف الكاتب أو المفكر من السلطة. يبدأ إيبور بتصويرٍ دقيق لما كانت عليه الحال من ذلك الوقت؛ حيث كل شيء آل إلى الفوضى، و«قوانين العدل ألقي بها وراء الظهور»، وانحل التآخي بين الناس، فأصبح كل واحد يبحث عن نفسه فقط، ويشير إلى أهوال الغارات الأجنبية، ويربط بينها وبين سوء النظام في الداخل، «حتى إن الرجال أصبحوا غير قادرين على صد غزوات الآسيويين عن حدود شرق الدلتا»، وحاق الهلاك بالأرض والإنسان «انظر، إن الذي لم يكن يملك زوجًا من الثيران صار الآن صاحب قطيع منها، وذلك الذي كان لا يجد ثورًا لحرثه صار الآن يملك قطيعًا. انظر، إن الذي لم يكن يملك غلالًا صار الآن صاحب مخازن من القمح.» ويتطرق من ثَم إلى العدالة «وفي الحق أن العدالة موجودة في البلاد باسمها فقط، وما يلقاه الناس حين يلتجئون إليها هو العَسْف»، حتى إن الأطفال أصبحوا يقولون «ليتنا متنا قبل هذا» إن الماشية «تئن بسبب حالة البلاد». ويجهر إيبور بشجاعة نفسية نادرة في خاتمة الخطاب «ليتني رفعتُ صوتي في ذلك الوقت، حتى كنت أنقذ نفسي من الألم الذي أنا فيه الآن؛ فالويل لي لأن البؤس عم في هذا الزمان.»٢٢

وربما لا تكتمل هذه الصور، لحوار الفكر والسلطة في مصر القديمة، إلا إذا نوَّهنا بأمرٍ آخر في غاية الأهمية، هو ما تم اكتشافه من تداول لقصة الفلاح الفصيح، وتأملات الكاهن الحزين، بعد كتابتهما الأولى بقرونٍ طويلة. وهذا لا يدل على بقاء الحال بقَدْر ما يدل على استمرارية التراث الإيجابي في مصر القديمة، بل إن هناك ما هو أكثر من ذلك؛ فعندما أتيح لمصر ملكٌ عادل، كانت تعاليم إيبور هي محور توجيهاته للوزير الأعظم (أي رئيس الوزراء كما تقول الآن). ولقد تفاوتَت بالطبع صورة المخلِّص لمصر، من حكيم إلى آخر، وَفقًا لانتمائه الاجتماعي؛ فبينما نجد هذا يرى الخلاص في «مُنقِذ عبقري»؛ أي فرعونٍ جديدٍ عادل، كان هناك من يرى الخلاص في ثورةٍ شاملة وجيلٍ جديد، ولكننا في جميع الأحوال نرى أن الكلام لا يضيع سُدًى؛ فها هي نصائح فرعون لوزيره الأعظم تقول:

«لا تنسَ أن تحكم بعدالة. إنه ممقوتٌ لدى الإله التحيز. اعتَبِر الشخص المعروف لديك كالشخص الذي لا تعرفه، وذاك القريب من الملك كالبعيد عنه. لا تمُر على مقدِّم التماس دون أن تعيَ كلامه.

إذا كان يُوجد مقدِّم التماسٍ يعرض أمره عليك. وكان شخصًا ليس كلامه مما يُقال فاصرِفْه بعد أن تجعله يسمع السبب الذي دعاك إلى أن تصرِفَه.

لا سبب أي تأخير في العدالة التي تعرف قانونها.»٢٣

وكما أننا سمعنا صدَى تحذيرات إيبور في وثيقة تنصيب الوزير الأعظم، نسمع صدى هذه الوثيقة على واجهة قبر الحاكم أميني (في بني حسن)؛ حيث كتب ما يشبه البيان عن سياسته الإدارية كسيد للإقليم، على الوجه التالي:

«لم تكن تُوجَد ابنة مُواطنٍ أسأتُ إليها. لم تكن تُوجَد أرملة أوقعتُ عليها خَطْبًا. لم يكن يُوجَد فلاحٌ انتزعتُ أرضه، ولا راعي قطيع طردته. لم يكن مشرفٌ على خمسة دفعتُه لأن يرهنَ أهلَه من أجل الضرائب التي لم يدفعها. لم يكن يُوجَد تعِسٌ في مجتمعي. لم يكن جوعان في عهدي. ولم أرفَع الرجل العظيم فوق الرجل الفقير في كل شيءٍ أعطيتُه.»٢٤
وقد كانت هذه الأسطر انعكاسًا واضحًا، لما كان يركِّز عليه الحكماء في قولهم للحكماء «لا تغبن أحدًا عند جباية الضرائب، ولا تكن شديد القسوة إذا وجدتَ في القائمة مبلغًا جسيمًا متأخرًا على شخص فقير، فقسِّمه إلى ثلاثة أجزاء، واترك منه جزأَين حتى لا يبقى عليه إلا جزءٌ واحد.»٢٥

إن الدروس التي يمكن استخلاصها واستلهامها من هذه النصوص هي:

  • أن حضارتنا القديمة قد عرفَت، في أحلك أيامها سوادًا، أصواتًا شجاعة، تنبأ بعضها بالهول قبل وقوعه، وواكب البعض الآخر تطور المأساة مزمجرًا في وجه المسئولين عنها، واكتفى البعض الآخر بإدانتها بعد وقوعها، ولكن هذه الأنماط الثلاثة تحملت عبء الشهامة في سبيل ما ترى أنه الحق.

  • من التقاليد الثورية في الفكر المصري القديم، أنه رغم ندرته ظل ساريًا في شرايين المجتمع، جيلًا بعد جيل وعصرًا بعد عصر، وأنه في تصدِّيه لقضية المساواة والديمقراطية لم يكن يفصل بين الشكل السياسي والمضمون الاجتماعي للحرية.

  • أن السمة البارزة على حركة الفكر والمجتمع هي التفاعل، وتبادل التأثير والتأثر، بين الفكر والمواطنين وبين الفكر والسلطة.

وقد انعكست هذه القيم والأفكار على صفحة السلوك الاجتماعي والتشريع الاجتماعي على السواء. وفي «كتاب الموتى» بعض العبارات التي يتعيَّن على الميت ترديدها أمام الآلهة، إذا كان قد نفَّذ ما جاء بها، وهي تضع أيدينا بصورة غير مباشرة على «قواعد السلوك» التي كان يُراعَى اتباعها في ذلك الوقت. ولو أننا تركنا جانبًا ما يتصل بالتعاليم الدينية، واتجهنا صوب ما يمسُّ العلاقات الاجتماعية، سوف نكتشف ما ينبغي أن يتحلى به الإنسان من فضائل على هذا النحو «لم أرتكب غشًّا، لم أترك الأراضي الزراعية، لم أتصنَّع الصمَم وقت سماع الحق والعدل، لم أخُن أحدًا، لم أسعَ لترقية، ولم أزد ثروتي إلا بالحلال.» وقد نظم القانون المصري القديم الزواج مشترطًا أن يتم العقد أولًا وَفْق الأصول المدنية، ثم يحصل بعدئذٍ الزواج الديني لمن يرغب عند الكهنة. أما العلاقة بين الزوجَين فقد أسَّسها على قواعد تساوي بين الرجل والمرأة، وتحفظ للأسرة تماسكها الاجتماعي، كفصل مال كلٍّ من الزوجَين عن الآخر، وتخصيص بعض أو كل مال الزوجة للمساعدة في المعيشة، وكحق الطلاق لكلٍّ منهما، واشتراط ما يدرأ عن الزوجة خطر الطلاق، وكحق الزوجة في الميراث والتصرف بأملاكها.»٢٦ وفي مجال القضاء «كان القضاة يُقسِمون عند تعيينهم يمينًا في حضرة الملك، يأخذون فيه على أنفسهم عدمَ طاعته إلا فيما يطابق العدل؛ بحيث يكون لهم مخالفتُه إذا أمرهم بما يُنافي قواعده.»٢٧ وهو تقليدٌ مُلهِم ما ندعوه الآن باستقلال القضاء.

على أن أعظم التشريعات التي يمكن أن تظل في حياتنا ميراثًا متجددًا، هو ذلك التشريع الذي أثمرَتْه حضارة ما بين النهرين فيما يخص العلاقة بين الرجل والمرأة، وهو تشريع حمورابي، وتنصُّ بعض بنوده على ما يلي:

  • المادة ١٢٧: «إذا سيد أومأ بإبهامه على فتاة معبد أو على زوجة سيد، ولم يُثبِت عليها شيئًا، يُجلب الرجل أمام القضاء ويُطم جبينه بمقص.»
  • المادة ١٢٩: «إذا قُبض على امرأة سيد مضطجعة مع سيدٍ ثان، فيجب أن يُوثَق الاثنان ويُلقيا في النهر. ويمكن للزوج إذا شاء أن يُبقيَ على زوجته.»
  • المادة ١٣٤: «إذا أُسر سيد ولا يُوجَد في بيته طعام، ثم ذهبَت زوجته إلى بيتٍ ثانٍ، فإن هذه المرأة لا ذنب لها.»
  • المادة ١٣٦: «إذا أهان سيدٌ بلدته وولى هاربًا، ومن بعده ذهبَت زوجته إلى بيتٍ ثانٍ، فإذا عاد هذا السيد وأراد استرجاع زوجته، فيمكن لزوجه الشارد ألَّا ترجع إلى زوجها؛ لأنه أهان بلدته وهرب.»
  • المادة ١٨٤: «إذا لم يقدِّم السيد إلى ابنته جهازًا، ولم يعطها إلى زوج، فبعد أن يذهب إلى أجله، يجب على إخوتها أن يقدِّموا لها جهازًا، يتناسب مع حصتها من أبيها.»٢٨
وتُمِدنا الحضارة الفينيقية، التي كان أهلها همزة الوصل بين الشرق والغرب، بفضل نزوعهم للتجارة والملاحة، بميراثٍ بالغ الأهمية. سواء كانوا هم الذين اخترعوا الحروف الهجائية، أو لم يخترعوها — كما يقول كوتنينو — فهم الذين قاموا بإذاعتها في كل العالم القديم «وهم الذين فتحوا بذلك للأفكار آفاقًا لا حدود لها، وأدَّوا للحضارة من هذه الناحية خدماتٍ لا يمكن أن يُحد مداها البعيد، ولكن أهَم فضلٍ لهم وأعظَمه قيمةً هو انتشار لغتهم؛ فإنهم استطاعوا عن طريق لغتهم أن يُكسِبوا الحضارة الأجنبية التي اعتنقوها ثوبًا من صنعهم؛ فقد كانت اللهجات الآسيوية ضعيفةً قاصرةً عن التحقيق، على حين كانت اللغات الهندية-أوروبية واللغات السامية ذات ثروةٍ لغوية متنوعة إلى أقصى درجة، وذات تشكيلاتٍ صرفية واضحة مرنة إلى أقصى حد (وكانت اللغة البابلية زمن حمورابي مثلًا نموذجيًّا لهذا النوع)، فكان لا بد أن تتركَ اللغات الضعيفة المجال لغيرها سريعًا.»٢٩ وما أجدَر هذه المعاني بالتآكل الطويل لدى من يهمهم ميراثنا اللغوي وتطوراته!

•••

من أبرز سمات تاريخنا الحضاري أنه ممزَّق الأوصال، متسع الفجوات التي تفصل بين مراحل تطوره فصلًا متعسفًا؛ ذلك أن كل حضارةٍ واحدة — بفاعلية العوامل السياسية — كانت تنشُد القضاء على ما سبقها من حضارات، ولم تكن لتسمح إلا بسريان العناصر التراثية التي تُفيد وجودها وتدعمه. نتج عن ذلك أن ثمَّة فتراتٍ كاملة، مع الانقطاع الحضاري بين مراحل تراثنا، تكاد تجعل من كل مرحلة وحدةً منغلقة على ذاتها. كما نتج عن ذلك أيضًا غزو العناصر السلبية القديمة للحضارات الجديدة واستمرارها للآن. غير أن التراث الذي اتخذ شكلًا دينيًّا مقدسًا موصول الحلقات، كاليهودية والمسيحية والإسلام، قد ظل — قوة وضعفًا حسب نسبة الكم البشري المجسد لهذا التراث — ساريَ المفعول لوقتنا هذا، يشكِّل الغالبية الساحقة من قيم وعادات وتقاليد الإنسان العربي المعاصر. ولا ريب أن تجاهل هذا التراث وإغفاله بدعوى العلم هو تجاهل لعنصرٍ جوهري من عناصر واقعنا وإغفاله؛ الأمر الذي يؤدي في محاولة تغيير هذا الواقع إلى نقصٍ خطير في أدوات التغيير؛ أي إننا بدعوى العلم نصل إلى طريقٍ غير علمي. إن التراث اليهودي والمسيحي والإسلامي عامر — ككل تراث — بالقيم النسبية والقيم المطلَقة، وواجب الثوريين نحو الأولى هو وضعها في سياقها التاريخي، بالدراسة الموضوعية التي يمكن بواسطتها استخلاص الدروس العامة. أما القيم المطلَقة التي تتجاوز الزمان والمكان رغم صدورها عنهما، فإن إحياءها وتأصيلها مهمةٌ عاجلة من مهام الثورة غير المعزولة عن واقعنا.

إن الوجه النسبي في التوراة مثلًا، هو تلك الأسفار التاريخية، التي تُعدِّل دراستُها من بعض مفاهيمنا عن المسألة اليهودية؛ فهذه الدراسة تدُلنا على أنه ليس هناك جوهرٌ ثابت يمكن تسميته بالطبيعة اليهودية؛ لأن الأصول التاريخية والصراعات الاجتماعية التي عاشها اليهود على مَر التاريخ — وخاصةً في تلك الأزمنة التي تؤرِّخ لها بعض أسفار التوراة — لا يمكن أن تخلُقَ عنصرًا جامدًا لا يتغير، هو العنصر اليهودي. إن خطورة هذا التصور الذي تُروِّج له الصهيونية بأسطورة «شعب الله المختار» هي أن قطاعًا عريضًا من الفكر الرجعي العربي يؤمن به، ويتعامل أيديولوجيًّا مع المسألة اليهودية على أساسه، وهو التصور الذي يستتبع بعد القول بأن لليهودي جوهرًا أزليًّا أبديًّا، أن نلصقَ به عديدًا من الصفات الثابتة كذلك. وكأن الشخصية بجوهرها الميتافيزيقي الخالد هذا، وصفاتها الدهرية تلك، هي «قدَر» لا سبيل إلى مقاومته، ويستتبع هذا التصور أيضًا أن اليهود «كتلة» واحدة، لا فرق بين فقرائهم وأغنيائهم ولا بين المتقدمين والمتخلفين بينهم. إذا كانت السلطة الإسرائيلية تحاول — منذ قيام الدولة — أن يبدوَ مجتمعُها على هذا النحو النازي، فإن الفكر الرجعي العربي يقع بدوره في الفخ، ويُصدِّق على ضوء الجوهر اليهودي الواحد أن اليهود كتلةٌ واحدة. وبدراسة التوراة وتاريخ اليهود بعدها سوف نكتشف ضلال هذه الدعوى من أساسها وبكاملها. سوف نكتشف أن اليهود عناصر مختلفة تاريخيًّا واجتماعيًّا، وأنه ليست لديهم صفات لا تقبل الزوال. وهذه النتيجة التي يمكن استخلاصها بالعلم، من دراسة التراث اليهودي، تؤدي بنا للقول بأن الشخصية اليهودية قابلة للتغير، وأن المجتمع اليهودي ليس كيانًا متجانسًا، وأن هذه النسبة التاريخية والاجتماعية في حياة اليهود تجعلهم عُرضةً لمختلف المؤثِّرات والمتغيِّرات والنتائج.

أما الوجه المطلَق للتراث اليهودي، فيتمثل في تلك الأسفار الشعرية الجميلة، كمزامير دواد، وأمثال سليمان، ومراثي إرميا، وسِفْر الجامعة، ونشيد الإنشاد. إن هذه الأسفار التي تُوجِز معاناةً روحية عميقة بين الإنسان والوجود، تتجاوز الظروف التاريخية التي وُلدَت في سياقها لتُطل على الإنسان، في كل زمان ومكان، بمجموعة من التجارب الفنية الثمينة. وإذا كان الأدب الغربي قد سبقنا إلى استلهام هذه الأسفار، فإنها كجزء من تراثنا، نحن أولى بها. وبدلًا من أن يكون الأدب الغربي وسيطًا بيننا وبين التوراة، كما حدث بالفعل حين تأثر بعض أدبائنا بأعمالٍ أوروبية تفاعلَت مع التراث العبري، فإننا نستطيع أن نعود إلى الأصل مباشرة؛ لأنه يخصُّنا نحن أكثر مما يخص الغربيين، بل إن أدبنا حينئذٍ يتوهج بأصالةٍ أعمق مما يعكسه النقل عن طرفٍ ثانٍ.

وكذلك الأمر بالنسبة للتراث المسيحي. وربما كان أجدر المبادئ التي شَرعَها المسيح نفسه، وتصلُح لأن تكون تراثًا متجددًا، هو ذلك المبدأ القائل: «أعطوا ما لله لله، وما لقيصر لقيصر.» إنه أول تشريع — ومن صميم تراثنا — يدعو لفصل الدين عن الدولة، ويصدُر عن صاحب الدعوة شخصيًّا. وبغَض النظر عن تفاصيل قصة صلب المسيح، فإننا نستنير بفكرة «الخلاص بالألم» التي تُجملها نظرية الفداء في المسيحية. إننا بعد تخليص هذه النظرية من أوشاب اللاهوت القائل بالخطيئة الأصلية، نستطيع استلهامها فيما يعترضُ حياتنا من مسئولياتٍ جسام تتطلب التضحية بالنفس. والمزاوجة التي نصادفها في كلمات المسيح وأفعاله، كقوله: «أريد رحمة لا ذبيحة»، أو «من ضربك على خدك الأيمن فحوِّل له الأيسر»، وقوله في الوقت نفسه «ما جئتُ لألقي سلامًا، بل سيفًا»، وضربه بالسياط أولئك الذين حوَّلوا المعبد إلى سوق للتجارة، قائلًا: «بيتَ الصلاة يُدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص»؛ هذه المزاوجة فوق أنها تُلهِمنا المرونة في اتخاذ المواقف إزاء الأحداث؛ أي إنها ضد الدوجمائية، فإنها أيضًا تدلنا على أن «السياق التاريخي» هو الذي يحتِّم هذه المعالجة أو تلك، وليست هناك قواعدُ مطلقة للسلوك، بل إن المسيح لكي يوضِّح أنه صاحب دعوةٍ جديدة غير اليهودية، كان يبدأ تعاليمه دومًا بقوله: «قيل للقدماء كذا وكذا، أما أنا فأقول لكم كَيت وكَيت.» ومع هذا فهو لا يدعو إلى إلقاء التراث اليهودي في جهنم «ما جئتُ لأنقضَ الناموس، بل لأُكملَ الناموس.»

ولعل التراث المسيحي الذي جسدَته حضارتنا القومية — كما نلحظ مثلًا في تراثنا من العصر القبطي — أحقُّ بالانتباه من المجرَّدات وفي هذا الصدد يلتفت المؤرخون إلى الفن القبطي التفاتًا بارزًا؛ حيث يرونَ أنه كان الفن شبه الوحيد في الشرق القديم الذي اصطبغ بروح الشعب، سواء في الصياغة أو في المضمون، وأنه رغم الطابع الديني الذي يتطلبه بناء الكنائس والأديرة مثلًا، فقد كان فنًّا مدنيًّا يشارك الناس همومَهم وأشواقَهم في حياتهم الدنيا، لا كما تُرسم لخيالاتهم من صفحات الإنجيل، وأنه كان فنًّا من ثمار البيئة المصرية وترابها الوطني؛ فالارتباط بالواقع المحلي هو السمة الجوهرية في الفن القبطي، لا من حيث المشكلات التي عالجها فحسب، بل من حيث الإطار المصري الخالص، كالطبيعة بحيواناتها ونباتاتها ومظاهر الحياة بين جنباتها. على أن هذا الفن قد جاء ثمرةَ تفاعلٍ مع ما سبقَه من فنون ومؤثِّرات فنية؛ فالفنون الفرعونية واليونانية والرومانية لها بصماتُها غير المنكورة على الفن القبطي، وإن ظلت الروح المصرية هي ملمحه الرئيسي. وقد فهم الأقباط القدماء «الجمال» كمرادفٍ للبساطة وذي طبيعة براجماتية، غير أنه، إلى جانب ذلك كله، كان فنًّا غنيًّا متنوع الاتجاهات والمدارس.٣٠ وتكاد هذه المجموعة من القيم أن تشكِّل، فيما بينها، منهجًا في التعبير الفني، جديرًا بأن نرث أهم مقوماته في حوارنا المعاصر بين الفن والمجتمع.
ولأنني أميل إلى أن التراث المسيحي — كأي تراثٍ ديني آخر — هو تاريخ المسيحية، وليس التعاليم التي وردَت في الإنجيل وحدها؛ أي إنه تراثٌ تاريخي-اجتماعي، فإنني لا أُغفِل النظر عن وجهٍ آخر للتراث المسيحي، لا علاقة له بالمسيح، ولكنه وثيق الارتباط بالكنسية؛ أي بالمؤسَّسة الاجتماعية والسياسية. وإذا كانت الكنيسة القبطية تتمتع بتاريخٍ وطني مشرق، فإن هذا لم يكن دائمًا تاريخ الكنيسة المسيحية في كل مكان، بل إن الكنيسة القبطية نفسها، في صراعها المرير ضد الوثنية، قد ارتكبَت أخطاء تاريخية ضد الثقافة (وهو ما أشرتُ إليه فيما قلتُ من أن الحضارات الجديدة في تاريخنا، تضع نصب عينَيها تدمير الحضارات القديمة، والإبقاء على بعض عناصرها السلبية)؛ فلم يكن لدى كيرلس بطريرك الإسكندرية (٤١٥م) مانعٌ من أن يقوم عشرات الرهبان بسحل هيباطية، أستاذة الفلسفة، في شوراع المدينة لمجرَّد أنها وثنية. وكان من أسباب فخر يوحنا فم الذهب، بطريرك القسطنطينية (في القرن الرابع) أن جميع الكتب الوثنية قد زالت من الوجود. ورغم هذا تسلَّلَت الوثنية الفرعونية إلى طقوس الكنيسة وشعائرها، وما زالت حيةً إلى يومنا، وتسلَّلَت المانوية (نسبة إلى ماني الفارسي، الذي وُلد بالمدائن عام ٢١٥ ميلادية) إلى معتقدات الأقباط؛ فقد كانت المانوية هي التي حرَّمَت بعض الأطعمة في بعض المواسم، كما هو الأمر في الصيام القبطي الآن. وترجع العزوبة التي يتسم بها كهنة الكاثوليك إلى هذه النزعة المانوية، ويرجع إليها أيضًا تحريم الكنيسة الغربية لوقتٍ طويل قراءة التوراة؛ لأنه كتاب «يهوه»، وقد ارتكبَت الكنيسة الغربية لأكثر من خمسة قرون جرائم «محاكم التفتيش» ومجازرها الرهيبة. وفي هذا الوقت كانت الثقافة «وقفًا على الرهبان، يبحثون جغرافية العالم الآخر وهم لا يدرون جغرافية هذا العالم. ويشرحون للناس كيف يجب أن يموتوا بدلًا من أن يشرحوا لهم كيف يجب أن يعيشوا. ويشتبكون في مشكلاتٍ «ذهنية» أولى بها أن يبحثها الأطفال، وأن يضحكوا منها، مثل قيمة الرقم ٧ في الدنيا والآخرة، ومثل عدد الملائكة الذين يمكنهم أن يقفوا على رأس إبرة.»٣١ وأضحت صكوك الغفران هي جوازات مرور المؤمنين إلى السماء، وأصبح على العلماء أن يُستشهَدوا بالصلب والإحراق إذا قالوا بأن الأرض كروية، أو أن هناك كواكبَ أخرى غير الأرض، أو أنه ليس هناك عالمٌ آخر غير عالمنا.
هذا الوجه البشِع من تاريخ الكنيسة ليس مما يمكن أن نرثه، إلا إذا فضَّلنا وراثة ظلام العصور الوسطى، ولم نستفد من ردود الفعل التي جرت في موازاة هذا التاريخ؛ أي إذا لم نكتشف الوجه الآخر للتراث المناضل ضد الكنيسة. وهو الوجه الذي يطالعنا فيما قام به إرازموس الهولندي، من إعادة طبع للإنجيل (عام ١٥١٦م) باللغة اللاتينية، تقابلها الإغريقية صفحة بعد صفحة؛ فإنه بهذا العمل افتتح عصرًا جديدًا لدرس الإنجيل درسًا تاريخيًّا دقيقًا. وكتابه اليتيم «مدح الجنون» يقول إن عالمنا حافل بالأخطاء والمساوئ، مما يدعونا لأن نتسامح بعضنا مع بعض؛ لأنه ليس بيننا من يحق له التطاول على أحد بعلمه، وأنه خيرٌ لنا أن ننظر إلى الإنجيل ليس باعتباره شريعةً واجبة التطبيق على أنظمة الحكم والحياة، بل حسبه أن يكون مرشدًا لنا في الأخلاق٣٢ وهناك أيضًا رابلييه الفرنسي، الذي جرؤ عام ١٥٣٢م أن يضع أول كتابٍ بالفرنسية العامية، فأطلق الذهن الفرنسي من قيود الأداء باللاتينية، وجعل الفرنسية لغة الثقافة، ونزع نزعةً علمية بدرس التشريع، ومضى على طريق إرازموس بدراسة القدماء واستيعاب التراث اليوناني والروماني، ووضع الطبيعة البشرية أمام التقاليد الدينية، وآثر الأولى على الثانية.٣٣ وهناك كذلك، سوزيني الإيطالي، الذي أقدم على فعلٍ مماثل حين ترجم المزامير إلى العامية الإيطالية، وألف كتابًا بعنوان «المسيح الخادم»، أراد فيه للمسيحية أن تعود إلى سيرتها الأولى؛ حيث كان المسيح وتلاميذه رجالًا بسطاء وليسوا باباواتٍ ذوي عروش من الذهب. وفي كتابه «تعليم راكوف» يقول بالحرف: «فلندَع كل إنسانٍ حرًّا للحكم على دينه؛ لأن هذه هي القاعدة التي يبسطها لنا العهد الجديد. هل احتكر أحدٌ منا معرفة الكتب المقدسة؟ ولِم لا نتذكر أن سيدنا الوحيد هو يسوع المسيح، وأننا جميعًا إخوة ليس لأحدٍ منا أن يسيطر على نفوس الآخرين؟ وليس مَن ينكر أن يكون أحدٌ منا أعلى من الآخرين، ولكننا نستوي جميعًا في الحرية وفي علاقتنا بالمسيح.»٣٤ وفي عام ١٦٠٠م — السابع عشر من فبراير — كان الكهنة قد أعدُّوا محرقة عظيمة لتنفيذ حكم الإعدام حرقًا في برونو، وأثناء خطوه الثابت المطمئن نحو النيران التي ستُحيله رمادًا بعد قليل، سمعه كهنة المحكمة يقول بصمتٍ هادئ: «لعلكم أيها القضاة وأنتم تنطقون بهذا الحكم تُحسون من الفزع والرعب أكثر مما أُحس أنا عند سماعي له.» وبعد ٣٠٠ سنة فقط من إحرافه كان بابا روما يبكي؛ لأن أهل روما يقيمون لبرونو تمثالًا في المكان الذي أُحرق فيه.٣٥ وقد كان لوك الإنجليزي (١٦٣٢–١٧٠٤م) هو الذي كتب يقول: «إذا كان للحكومات الحق بأن تمليَ على الناس كل ما يختص بسعادة أرواحهم المستقبلة، فإن نصف الناس قد حُكم عليه منذ الآن بالهلاك الأبدي؛ لأنه كان من المستحيل أن يكون المذهبان صحيحين؛ فمن المعقول أن جميع مَن وُلِدوا في ناحيةٍ ما سيذهبون إلى السماء، في حين أن مَن وُلِدوا في الناحية الأخرى قد قُضي عليهم بالذهاب إلى جهنم. وبهذه الطريقة يتقرر مصير الإنسان ونجاته، حسب البقعة الجغرافية التي اتفق ميلاده فيها.»٣٦ وربما كان قريبًا من هذا المعنى ما قصد إليه فولتير الفرنسي (١٦٩٤–١٧٧٨م) حين قال: «إذا أنتَ أصررتَ على أن الكفر بالدين السائد جريمة، فإنك تؤثِّم المسيحيين الأولين آباءك، وتُبرِّئ أولئك الذين تنقِم منهم اضطهادَهم لهم.»٣٧

وقد أثمر هذا الحوار العظيم بين المسيحية والإنسان الأوروبي في البداية عصر «النهضة»، وفي النهاية «الثورة الفرنسية»، التي قرَّرَت أن جميع الناس متساوون أمام القانون في الواجبات والحقوق، وأنه لا تمييز لإنسانٍ عن آخر إلا بقَدْر ما يقدمه للمجموع، وأن لكل مواطن أن يشارك في سن الشرائع بالانتخاب الحر المباشر، وأن الأعباء الوطنية توزَّع على كاهل المواطنين حسب قدراتهم الفعلية على حملها، وأن حرية الإنسان مقدسة لا تُمس إلا بحكم محكمة، وأن حرية الاعتقاد والرأي وممارستهما من حقوق المواطنة الطبيعية؛ هذا هو الوجه الآخر للتراث المسيحي الذي يعيش الأوروبيون المعاصرون — ومعهم بقاعٌ أخرى من العالم — في ظل نتائجه التي أرست مجموعةً من التقاليد الديمقراطية العميقة الجذور في باطن تاريخهم، ولكنهم يدركون في حرصهم على هذه التقاليد أنها كانت حصيلة صراعٍ مرير، وصل بمئات الألوف من أجدادهم إلى القبور والسجون وغُرف التعذيب. وهذا هو المحور الذي يمكن لنا أن ندور من حوله ونحن نستكشف أبعاد تراثنا وتراث غيرنا، إن الصراع بين السلب والإيجاب ضرورةٌ حتمية، وإننا لا نستطيع الحفاظ على «نتائج» لم نمارس مقدماتها. لقد قامت «النهضة الأوروبية»، و«الثورة الفرنسية» بعملية الهدم والبناء للتراث المسيحي، وهذا هو الإلهام الأول لهذا التراث، إن حوارًا عظيمًا بالقول والفعل والدم دار بين الإنسان والدين، فأثمر حضارةً جديدة للإنسان ورؤيا جديدة للدين.

ولقد عرف التراث الإسلامي في بعض مراحله مثل هذا الحوار العظيم، بل إن الحركة الوحيدة في تاريخ المسيحية والتي يراها المؤرخون حركةً تقدمية، وهي البروتستانتية، لا تُقاس بما عرفه تاريخ الإسلام من تياراتٍ فكرية وحركاتٍ ثورية، ولكن الفرق هو أن الحوار الغربي مع المسيحية استمر منذ بدايات الفكر البرجوازي الناشئ إلى الفكر الماركسي الحديث، بينما مُنيَت حركات الفكر الثوري في الإسلام بالإجهاض والانقطاع، بالإضافة إلى السنوات الألف على وجه التقريب، التي آلت فيها الدولة الإسلامية إلى التدهور والجمود والانحطاط؛ لذلك تتجه القوى الرجعية في الوطن العربي إلى بعث «المثل الأعلى» والسلوك من رُكام وأنقاض تلك الفترة الطويلة المظلمة. ويتعيَّن على القوى الثورية أن تفعل العكس، وتبحث عن رموز ثورتها في الفترات المضيئة، بالإضافة إلى دراسة الظلام، وتحليل أسبابه، وبلورة نتائجه السلبية على الماضي والحاضر والمستقبل.

حينذاك سوف نكتشف أن كتابًا مثل «حياة الحيوان» للدميري، يتكلم عن السحر والعفاريت كأنها حق، وينظر إلى السلف بتقديسٍ مطلَق، ويعتمد في رؤياه على أخبار رووايات الأقدمين، دون مراجعة أو شك أو تمحيص، ويرى أن الغاية الوحيدة من نشر الثقافة هي خدمة الدين، ولا ينسى حين يتكلم عن الصرصار والبرغوث أن يشرح هل أكلُهما حلالٌ أم حرام، إلى غير ذلك مما يُعد إحياؤه في عصرنا ومجتمعنا جريمةً حقيقيةً ضد سعادة الإنسان وتقدمه، بل إننا نرفض من الغزالي — وهو إمام وفيلسوف كبير — تكفيره للعلماء والفلاسفة، وموقفه الغريب من الفنون الجميلة، كقوله: «وليتجنب (المسلم) صناعة النقش والصياغة، وتشييد البنيان بالجص، وجميع ما تُزخرف به الدنيا؛ فكل ذلك كرهه ذوو الدين.» ومثل هذا كثيرٌ في التراث الإسلامي، ويجد هوًى وتشجيعًا مذهلًا من جانب القوى المناوئة للتقدم.

بينما هناك في مواجهة هذا التراث السلبي مجموعة من الرجال الأفذاذ وتيارات الفكر وحركات الثورة في الإسلام، مما ينبغي أن يُطِل علينا بقاماته المرفوعة العالية الجبين.

ولعل فكر المعتزلة هو أول التيارات الفكرية في التراث الإسلامي الجديرة بالنظر والتأمل العميق؛ فقد كانت حركتهم انفتاحًا شجاعًا على تراث العالم من حولهم، فأكبُّوا على دراسة الفلسفة اليونانية، والمذاهب الفارسية والهندية، والديانات اليهودية والمسيحية، إلى جانب احتكاكهم بالتأييد والمعارضة لما عاصرهم من اتجاهاتٍ فكرية أخرى، نشأَت في حِضْن الإسلام، كالرافضة والخوارج والمرجئة وغيرهم. ولقد تسبب هذا الانفتاح الحر من جانبهم في أن يتهمَهم المحافظون من أبناء قومهم، والمغرضون من المستشرقين، «بعدم الأصالة»؛ ذلك أن الرجعية في زمانهم — كما هي بالضبط في زماننا — فرضَت مفهومًا للأصالة يُحرِّم «التنفس» الفكري إن جاز التعبير، بل يُحيل الإنسان إلى مومياء لا تتجاوز التابوت المصنوع من أجلها سلفًا. كانت المعاصرة عندهم كفرًا، وكانت الأصالة هي التحنيط العقلي، ولكن الحقيقة هي أن انفتاح المعتزلة على العالم من حولهم، لم يكن مجرد سياحةٍ فكرية بين الغرائب، وإنما كان عنصرًا منهجيًّا في التفكير، هو أن الموروث من السلف الصالح فقد وحده لا يكفي لحياة الإنسان، وأن التراث البشري وحدةٌ واحدة بالتشابه والتناقض معًا؛ لذلك فهم، بدلًا من التعريف الشائع لعلم الكلام بأنه «علمٌ يتضمن الحِجَاج عن القواعد الإيمانية بالأدلة العقلية»، قلبوا التعريف رأسًا على عقِب وجعلوا السنة والعقائد في خدمة العقل؛٣٨ ومن ثَم ظهَرَت في بداياتهم الأولى نزعة الاعتماد على العقل، وإقامة سلطان له إلى جانب النصوص المُنزلة.٣٩ «وكان لموقفهم التحرُّري من إرادة الإنسان وتقديس عقله، ما دفعهم إلى أن يتفقوا على أن العبد قادرٌ خالقٌ لأفعاله خيرها وشرها.»٤٠ ولكنهم جعلوا الحرية الإنسانية شرطًا لتحمل المسئولية بالثواب والعقاب؛ أي إنهم رفَضوا فكرة القضاء والقدَر «إذ كيف يُجبر الله عباده على فعلٍ قدَّره هو عليهم، ثم يحاسبهم لأنهم فعلوه؟»٤١ وقد تطوَّر الأخذ بالعقل عند المعتزلة ثلاث مرات؛ الأولى إنه كان أداتهم لفهم الدين، والثانية أنه أصبح ندًّا للشرع مساويًا له، وفي الثالثة تغلَّب العقل عندهم، وحاولوا تطويع الوحي في خدمته.٤٢ وهكذا لم تعُد هناك في عُرفهم «مسلَّمات يقينية»، بل أضحى كل شيء قابلًا للنظر والنقد،٤٣ وحل الاستقراء والاستدلال مكان الإيمان.٤٤
ولم يكن المعتزلة مجرد تيارٍ فكري، بل كان لهم تنظيمهم السياسي، الذي تبلور في أواخر القرن الأول الهجري، وهم ليسوا ملحدين بالمعنى الدقيق لهذا التعبير، ولكنهم صوَّروا الذات الإلهية تصويرًا مجردًا منزهًا عن «التجسيد والمشابهة» عند الذين يصوِّرون هذه الذات تصويرًا «ماديًّا مجسمًا». وهم بدعوتهم لحرية الإنسان يرونه صاحب الحق في إقامة وإسقاط السلطة السياسية، في أنهم يدعون للثورة على السلطة الجائرة إذا توفَّرت للثوار فرصة النجاح. ولقد كان الفكر المعتزلي في نشأته انقلابًا فكريًّا بين المثقَّفين المسلمين؛ لأنه أحل الثقافة والموقف مكان العصبية والنسب، في مجتمعٍ كان لهما فيه شأنٌ كبير. وقد ازدهر فكرهم أيام المأمون والمعتصم والواثق — عصر ازدهار الحضارة العربية — ولكنهم اضطُهِدوا أيام المتوكل (٨٤٧–٨٦١م) ودُمرَت غالبية آثارهم الفكرية.٤٥
وهي النهاية التي كُتبَت لحركة القرامطة التي قامت بثورة ضد الدولة العباسية، في أواخر القرن التاسع الميلادي، فإن ما نعرفه عن هذه الحركة الثورية العظيمة، قد وصلنا عن طريق كتابات خصومها الفكريين. وحين نعلم أن الذين أسرعوا بتأييد هذه الحركة هم صغار الفلاحين والعمال الزراعيون، والفئات الحرفية كالصيَّادين وصُناع الغزل، نفهم طبيعة الأرضية الاجتماعية التي انطلق منها القرامطة. وقد تأسَّسَت دعوتهم على قواعدَ اجتماعية واقتصادية، فكان من أهدافها القضاء على استغلال الإنسان للإنسان، ونزع الأملاك العقارية الفردية الواسعة، ومصادرة الإيرادات الطائلة الخاصة لمصلحة الدولة، وفرض ضرائبَ معقولةٍ متدرجة في الضخامة، وإلغاء قانون ومبدأ الوراثة، ومصادرة أملاك المهاجرين والعصاة، ووضع جميع وسائل النقل والمواصلات تحت تصرف الدولة، وزيادة المصانع الوطنية وآلات الإنتاج، وإصلاح الأراضي المجدبة، وتحسين المزروعة منها، وفرض العمل الإجباري على جميع الأفراد، ووصل العمل الزراعي بالصناعي، وإقامة نظام جمهوري شوري، قائم على مجلسٍ خاضع للانتخاب الجماعي يحل محل الملكية الوراثية، ونسف نظام الاستثناء بين الطبقات، وتغيير العقلية السائدة المرتكزة في كل شيء على الدين، وكل هذا يهدد بالفَناء.٤٦ وكان من الطبيعي — تبعًا لذلك — أن يقاوموا العصبية القومية، وأن يدافعوا عن فكرة الإخاء الحقيقية، لا بين المسلمين وحدهم، بل بينهم وبين جميع القبائل والشعوب والأمم، على اختلاف قومياتهم وأديانهم «وقد نشروا أفكارًا بين جميع الشعوب على أساس احترام جميع الأديان الأخرى.»٤٧ ومن الطبيعي، في مجتمع هذه الدعوة أن تحتل المرأة مركزًا مرموقًا، والمرأة بدورها سارعَت بتقديم كل ما تمتلك من حلي ومتاع «وما يحصلن عليه ويتكسبنه من الاشتغال بالغزل؛ هذا بالإضافة إلى ما قامت به المرأة من جهود في ميادين القتال؛ حيث كن يخرجن مع الرجال في الحرب.»٤٨
وكانت ثورة الزنج — بقيادة علي بن محمد — هي الأخرى ثورة ضد نظام الحكم العباسي في جنوب العراق (٨٦٨–٨٨٣م)، وقد شاركَت فيها جماهير الفلاحين الفقراء والعبيد والأقنان الذين كانوا يعملون في إزالة الملوحة من مياه الخليج. وقد نجحَت ثورة الزنج في الاستيلاء على سلطة إمارة البحرين، وظلت خمسة عشر عامًا تهدِّد العباسيين، إلا أنهم هزموها في النهاية بتجنيد كل مدخرات الدولة والخليفة في ميدان القتال. وفي منطقة الخليج أسَّس الخوارج أيضًا دولتهم، التي قامت كحركةٍ ثورية ضد الأمويين والعباسيين، وهم يضيفون إلى فكرة الثورة عند المعتزلة، أنه ليس شرطًا لكى تشبَّ أن تتوفَّر لها ظروف النجاح، بل لا بد من هبوبها متى جارت السلطة وعاثت فسادًا. وهم في الإمامة كانوا ضد وراثتها، وكانوا يرون أنه من حق الأمة إسقاط الإمام (الخليفة أو الحاكم) الذي يحيد عن الطريق المستقيم، وأن الإمامة حقٌّ مقصور على من تختاره الجماعة أيًّا كان، ولو كان عبدًا أسود. وكانوا يرون أن العبرة بالعمل، وأن الحكم بين الناس يجب أن يكون مشمولًا بالنفاذ لا مُرجَئًا إلى يوم القيامة، وذلك حتى لا تُكرَّس أوضاع تستحق رفع السيف في وجه المستفدين منها.٤٩
وفي التراث الإسلامي من الرجال الأفذاذ ما يُعد علاماتٍ بارزة على طريق الثورة العربية. وأيًّا كان اختلافنا أو اتفاقنا مع مضمون الدعوات التي استُشهد من أجلها رجالٌ من أمثال الحلاج والسهروَردي وابن حنبل، فإن مواقفهم الشجاعة من حرية الضمير لا تقل إلهامًا، إن لم تزد، بمقاييس العصر الذي عاشوا فيه، عن أكثر العلامات المضيئة بروزًا في التراث الإنساني أجمع. وحين تقترن الشجاعة الأسطورية بالمضمون الثوري، فإننا نرث تكاملًا حيًّا عميق الأثر في حياة شعبنا. ولعل عبد الرحمن الكواكبي (١٨٥٤–١٩٠٢م) هو أقرب الشواهد على ما يدخره تراثنا من تقاليدَ ثورية. لقد أشعل الكواكبي في زمنه حربًا شعواء على «الاستبداد» من أهم صفاتها أن محتواها الفكري ليس جزئيًّا ولا نسبيًّا؛ أي إنها لا تنتمي إلى طبيعة المرحلة التاريخية التي عاشها الكواكبي فحسب، وإنما هي تملك صلاحية الانتقال إلى مراحلَ أخرى؛ ذلك أن الكواكبي قد وضع كلتا يدَيه على جذور انحطاط الدولة الإسلامية، وجوهر الفكر الفاسد الذي يُظلِّل حياة المسلمين بسحابةٍ قاتمةٍ لا تمطر خيرًا. كان رأيه أن الإيمان بالقضاء والقدر هو الذي جرَّد المسلمين من أسلحة التحدي، وكان رأيه أن غياب الحرية على كافة المستويات هو الذي أورثَهم الجبن والنفاق والهُزال المعنوي، وكان رأيه أن ضياع العدل وإهداره هو الذي أدى بهم إلى ما هم فيه من ذل وفاقة. في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي صدر عام ١٩٠٠م، يقول بالحرف: «المستبد يتحكم في شئون الناس وبإرادتهم، ويحاكمهم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المعتدي، فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق والتداعي لمطالبته»، و«المستبد يتجاوز الحد لأنه لا يرى حاجزًا؛ فلو رأى الظالم على جنب المظلوم سيفًا لما أقدم على الظلم». ومضمون الظلم عند الكواكبي كمضمون الثورة على الظلم، اجتماعي. إنه ينظر إلى الثورة الوطنية ويُعدِّدها قائلًا: إنها «الأراضي، والمعادن، والأنهر، والسواحل، والقلاع، والمعابد، والأساطيل، والمعدات … إلخ، مما هو لازم للجميع، ويجب أن تبقى الحقوق فيه محفوظةً للجميع على التساوي والشيوع، أو موزعةً على الفصائل والبلدان والصفوف والأديان بنسبة عادلة.»٥٠ ويرسم الخريطة الطبقية لمجتمعه على هذا النحو الدقيق «أهل الصنائع النفيسة والكمالية والتجار الشرهون المحتكرون، وأمثال هذه الطبقة، ويُقدَّرون بواحد في المائة، يعيش أحدهم بمثل ما يعيش به العشرات أو المئات أو الألوف من الصُّناع أو الزُّراع، ورجال السياسة والأديان، ومن يلتحق بهم، وعددهم لا يتجاوز الواحد في المائة، يتمتعون بنصف ما يتجمد من دم البشر أو زيادة، ينفقونه في الرفَه والإسراف.» وهكذا فإن «رجال البشر قد تقاسموا مشاق الحياة قسمةً ظالمة.»٥١ والعلاج الذي يراه الكواكبي حلًّا لهذه المأساة هو أن تكون هذه الثروة «ملكًا لعامة الأمة، يستنبتها ويتمتع بخيراتها العاملون فيها فقط».٥٢

إذا أضفنا إلى ذلك كله أن فضل أسلافنا على أوروبا في العصر الوسيط لم يكن مجرد نقل التراث اليوناني، بل كان رصيدهم من «التجربة العلمية» ملهمًا لعصر النهضة في الاكتشاف والاختيار والتحقق، ولو أضفنا أن من القوانين الرئيسية في التراث العربي الإسلامي استلهامه الحر الطليق لخير ما في تراث العالم المعاصر له، فإننا حينئذٍ نستطيع أن نستخلص مجموعة من النتائج والمهام، التي يتحتم علينا دراستها وإنجازها في مواجهة الرجعية الجديدة، وهي تحاورنا بقضية التراث:

  • إن ما جاء في هذا البحث من استشهادات عن مراحلنا التراثية المختلفة ليس أكثر من نماذج وعينات، تشير إلى ما يزخر به تراثنا من عناصر السلب والإيجاب، التي يتطلب إحياؤها أسلوبًا ثوريًّا أدعوه بالهدم والبناء، والهدم لا يعني الإغفال أو التجاهل، وإنما يعني دراسة السياق التاريخي للشيء الموروث. والبناء لا يعني إزاحة الغبار فحسب، وإنما يعني الاستلهام الإيجابي الفعَّال.

  • يظل الواقع المعاصر هو البوصلة الفكرية، القادرة على توجيه النظر إلى هذه الناحية دون تلك من التراث. بتحديد معالم هذا الواقع، وتحديد احتياجاته الفعلية، نتعرف على ما يلهمنا التقدم من عناصر التراث، المتباينة والمتضاربة أحيانًا.

  • تحتاج مراحل تطور تراثنا إلى إعادة صياغة منهجية، تسد الفجوات المتسعة وفترات الانقطاع الحضاري؛ بحيث نحصل في خاتمة المطاف على تصورٍ شامل لتراثنا السلبي، وتصورٍ مماثل لتراثنا الثوري. إن «توحيد» تراثنا؛ أي رؤيته في سياقٍ تاريخي، يحول دون تمزُّقه في ذاكرتنا الحضارية، أو تحويله إلى وحداتٍ منغلقة على ذاتها.

  • إن القول بأن حضارة المصريين القدماء أو البابليين أو الكنعانيين أو الفينيقيين أو غيرهم كانت «أول» من أعطى العالم كذا أو كَيت أبعد ما يكون عن العلم؛ فالبحث عن العلة الأولى أو المحرك الأول هو بحثُ عقيم. ولعل القراءة لكتاب إسماعيل مظهر «تاريخ الفكر العربي»، أو كتاب هربرت مولر «استخدامات الماضي» The Uses of the Past تحيطنا علمًا بمدى التعقيد في هذه المشكلة؛ حيث إن التداخل والتشابك بين شرايينِ الفكر وأوردتِه، منابِعِه ومصابِّه، لا يصل بنا إلى يقينٍ مطلَق فيما يخص البدايات الأولى. ومن ناحيةٍ أخرى فإن الشموخ أو التباهي بقولنا حاسمين إننا كنا أول من صنع، أو أول من زرع، أو أول من حسَب أو هندَس أو طبَّب، هو المقدمة الطبيعية للشعور العرقي والفوقية العنصرية.
  • إن الصهيونية، والنازية، والفاشية، وغيرها من الدعوات العنصرية التي عرفها تاريخ الإنسان الحديث، ليست أكثر من «أبنية» علوية قديمة يُراد بعثُها وفرضُها على سياق العصر الجديد، وهي أبنية تضيق بما يتجه إليه العصر نحو الإخاء البشري والوحدة الإنسانية والسلام العالمي. إنها تؤصل في وعي «القوم» ما كانوا عليه من صفاتٍ «فريدة» في التاريخ القديم، عصرهم الذهبي.

أما الرؤية الثورية للتراث، فترى أنه جزءٌ من التاريخ ليس خارجًا عن نطاقه؛ وبالتالي فهو ليس كائنًا ميتافيزيقيًّا مطلَق التقديس، وأننا جزءٌ من العالم، تراثُه تراثُنا بقَدْر ما يسهم في إنقاذنا من وهاد التخلف بكافة معانيه.

١  راجع تفصيلًا في كتاب «القيم والعادات الاجتماعية»، لفوزية دياب، ص١٢٦، ١٢٧، ١٢٨، دار الكتاب العربي، بالقاهرة، تاريخ النشر غير مثبت، ولكن المقدمة مؤرَّخة عام ١٩٦٦م.
٢  المرجع السابق، ص١٥٣.
٣  راجع «من ملامح المجتمع المصري المعاصر»، للدكتور سيد عويس، ص٢٣، منشورات المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، ١٩٦٥م.
٤  المصدر السابق، ص٢٥.
٥  المصدر السابق، ص٣٦.
٦  المصدر السابق، ص١٣٨، ١٣٩.
٧  راجع «الحياة اليومية في مصر في عهد الرعامسة»، تأليف بيير موتنيه، ص٤٢٤، ترجمة عزيز مرقس منصور، الدار المصرية للتأليف والترجمة، ١٩٦٥م.
٨  راجع «مدخل ما قبل الفلسفة»، تأليف ج. و. ج. أ، فرانكفورت، ص٢٤، ٢٥، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، دار مكتبة الحياة، فرع بغداد، ١٩٦٠م.
٩  راجع «حضارة بابل وآشور»، تأليف جوستاف لوبون، ص٩٧، ٩٨، ترجمة محمود خيرت، المطبعة المصرية، بالقاهرة، ١٩٤٧م.
١٠  راجع كتابه المذكور في النص، ص١٧٨، ١٧٩، ١٨٩، ١٩٠، الناشر مطبعة العالم المصري بالقاهرة، تاريخ النشر غير مثبت، وفي ص١٢٢ يذكُر المؤلف كيف تسلَّلَت عادة الندب إلى العصر القبطي؛ حيث وصلنا منظومًا ومنقوشًا على الرخام كشواهد للقبور، وقد نشرَت ماريا كرامر كتابًا فيه الكثير من منظومات الندب القبطية من بينها قصيدة أرشيليديس وأمه سنكليتيكي، التي تدعو فيها النساء للندب «أيتها النساء، يا كافة من أنجبن أبناء، تجمَّعن، وابكين معي».
١١  جميع الأمثال التي استُشهد بها هنا مأخوذة عن كتاب «فلسفة المثل الشعبي»، لمحمد إبراهيم أبو سنة، دار الكتاب العربي، بالقاهرة، سلسلة «المكتبة الثقافية»، ١٩٦٨م؛ وكتاب «الأمثال العامية»، لأحمد تيمور، الطبعة الثانية، لجنة نشر المؤلفات التيمورية، ١٩٥٦م.
١٢  راجع كتابه «فنون الأدب الشعبي»، الجزء الثاني، ص٧، و٨، و٩، و١٠، و١١، و١٢، الطبعة الأولى، دار الفكر، بالقاهرة، ١٩٥٦م.
١٣  راجع مقال الدكتور لويس عوض «ملاحظات على الناي والقانون»، بجريدة الأهرام، ١٩ / ١٢ / ١٩٦٩م.
١٤  راجع لأحمد رشدي صالح «فنون الأدب الشعبي»، الجزء الأول، ص١٣٢، دار الفكر، بالقاهرة، ١٩٥٦م.
١٥  راجع لنمر سرحان «أغانينا الشعبية في الضفة الغربية من الأردن»، ص١٤١، ١٤٨، ١٥١، ١٥٢، منشورات وزارة الثقافة والإعلام الأردنية، ١٩٦٨م.
١٦  راجع للدكتور عز الدين إسماعيل «القصص الشعبي في السودان»، ص١٩٢-١٩٣، ١٩٦، ٢٠٨-٢٠٩، الهيئة المصرية العامة للتأليف، ١٩٧١م.
١٧  راجع «ما قبل الفلسفة»، ص٤٥، الفصل الثاني، لجون أ. ولسن.
١٨  راجع «تطور الفكر والدين في مصر القديمة»، لجميس هنري برستيد، ص٢١، ترجمة زكي سوس، دار الفكر، الكرنك، بالقاهرة، ١٩٦١م.
١٩  راجع «فجر الضمير»، لجيمس هنري برستيد، ص١٨٢-١٨٣، ترجمة الدكتور سليم حسن، مكتبة مصر، تاريخ النشر غير مثبت، ولكن مقدمة المترجم مؤرخة في ١٩٥٦م، ويعود زمن القطعة إلى عام ٢٠٠٠ قبل الميلاد، ولم يُعرف لصاحبها اسم.
٢٠  المصدر السابق ص١٩١، ١٩٢.
٢١  المصدر السابق، ص٢٠٣.
٢٢  المصدر السابق، ص٢٠٨–٢١١.
٢٣  المصدر السابق، ص٢٢٤–٢٢٦، والنص نفسه في «تطور الفكر والدين في مصر القديمة»، ص٢٣٠–٢٣٦.
٢٤  راجع «تطور الفكر والدين في مصر القديمة»، ص٣٤١-٣٤٢.
٢٥  راجع «الحياة اليومية في مصر في عهد الرعامسة»، ص٣٤٦.
٢٦  راجع «تراث مصر القديمة»، ملحق مجلة المقتطف، سبتمبر ١٩٣٦م؛ مقالة «التراث القانوني لمصر القديمة»، للدكتور زكي عبد المتعال، ص٥٣.
٢٧  المصدر السابق، ص٥٧.
٢٨  راجع «الإنسان والحضارة»، ليوسف الحوراني، ص١٤٧-١٤٨، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، تاريخ النشر غير مثبت.
٢٩  راجع «الحضارة الفينيقية»، تأليف ج. كوتنينو، ص٣٠٢–٤٠٣، ترجمة الدكتور محمد عبد الهادي شعيرة، سلسلة الألف كتاب، تاريخ النشر غير مثبت.
٣٠  راجع الدكتور مراد كامل في كتابه «حضارة مصر في العصر القبطي»، ص١٣٣، ١٣٤، ١٣٥.
٣١  راجع لسلامة موسى كتابه «ما هي النهضة؟»، ص٧، الطبعة الثانية، منشورات مكتبة المعارف، بيروت، ١٩٦٢م (ولقد كُتب في هذه الطبعة خطأ أنها الطبعة الأولى). لقد صدر نفس الكتاب عام ١٩٣٥م، كملحق للمجلة الجديدة، بعنوان «النهضة الأوروبية»، وقد أضاف المؤلف إليه قبل وفاته بضع صفحات.
٣٢  راجع لسلامة موسى كتاب «حرية الفكر وأبطالها في التاريخ»، الطبعة الثانية، دار العلم للملايين، بيروت، ١٩٥٩م، من ١٥٣، ١٥٤.
٣٣  المصدر السابق، ص١٥٨.
٣٤  المصدر السابق، ص١٦١، ١٦٢.
٣٥  المصدر السابق، ص١٦٧–١٦٩.
٣٦  المصدر السابق، ص١٩٣.
٣٧  المصدر السابق، ص١٩٨.
٣٨  راجع «النزعة العقلية في تفكير المعتزلة»، لعلي فهمي خشيم، ص٥٠، منشورات دار مكتبة الفكر، طرابلس، ليبيا، ١٩٦٧م.
٣٩  المصدر السابق، ص٥٧.
٤٠  النص للشهرستاني في «الملل والنحل»، ج١، ص٦٢، ومأخوذ هنا عن المصدر السابق، ص٥٨.
٤١  المصدر السابق، ص٥٩.
٤٢  المصدر السابق ص٩٧.
٤٣  المصدر السابق، ص١١١.
٤٤  المصدر السابق، ص١١٣.
٤٥  راجع مقال محمد عمارة «نظرة جديدة لإحياء التراث الإسلامي»، مجلة دراسات اشتراكية، مارس ١٩٧٣م.
٤٦  راجع كتاب «القرامطة»، لعارف تامر، ص٦٨، دار الكتاب العربي، بيروت، ومكتبة النهضة ببغداد، تاريخ النشر غير مثبت.
٤٧  المصدر السابق، ص٥١.
٤٨  راجع كتاب «قرامطة العراق في القرنَين الثالث والرابع الهجريَّين»، لمحمد عبد الفتاح عليان، ص٢٠٨، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، ١٩٧٠م.
٤٩  راجع مقدمة الدكتور عبد الرحمن بدوي لكتاب «الخوارج والشيعة»، ليوليوس فلهزون، مكتبة النهضة المصرية، ١٩٥٨م.
٥٠  راجع الأعمال الكاملة لعبد الرحمن الكواكبي، مع دراسة عن حياته وآثاره لمحمد عمارة، ص٤٣٠، طبعة القاهرة، ١٩٧٠م.
٥١  المصدر السابق، ص٣٧٦.
٥٢  المصدر السابق، ص٣٧٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥