التراث وجهات نظر
ليست الرجعية وحدها هي التي تتصدَّى لقضية التراث، ولكنها حتى الآن صاحبة الدور الخطير في اتخاذ التراث مِشْجبًا تعلِّق عليه كافة ثيابها الفكرية. غير أنه قد ظهرَت في الآونة الأخيرة عدة موجاتٍ نشيطة تلعب دورًا إيجابيًّا مهما ضَؤُل حجمه، وأيًّا كانت الأصول النظرية والاجتماعية التي يصدُر عنها. ولن نتتبع هنا تفصيل هذه التيارات الجديدة المناوئة من زاويةٍ رئيسية للفكر الرجعي، ولكننا سنحاول أن نتبيَّن معالمها البارزة؛ أي إننا لن نطرح للمناقشة أبحاثًا جزئية وتفصيلية رغم أهميتها البالغة، كتلك التي يكتبها في مصر محمد عمارة وفي لبنان حسين مروة. وإنما تعنينا الأبحاث التي شغلَتها قضية «المنهج» في تناول التراث أكثر من انشغالها بأحد عصوره أو إحدى شخصيَّاته؛ هذا لا ينفي بطبيعة الحال أن الذين تخصَّصوا في بحث هذه الخامات من أصحاب المناهج، ولكن التطبيق كان غايتَهم الأولى.
في هذه الحدود أيضًا سوف نختار أكثر الكتابات حول التراث تمثيلًا لمناهج أصحابها، وأكثر هذه المناهج دلالةً على اتجاهات بعينها يضطرم حولها الصراع في الفكر العربي الحديث. إن الجبهة الوطنية الديمقراطية ليست حكرًا للعمل السياسي وحده. وإنما هي تتسع لتضم الجهود الفكرية أيضًا. وهذا لا يعني بأية حال أنه يمكن قيام «جبهة أيديولوجية»، وإنما يعني أن ثورتنا الثقافية ليست من ضيق الأفق؛ بحيث تقصُر العمل الوطني في مجال الفكر على وجهة نظر واحدة. إن صراع الأفكار ضرورةٌ حيوية للثورة والفكر الثوري، ولا يمكن أن يتم صراعٌ بغير حوار، ولكن الصراع مع الفكر الرجعي يختلف شكلًا وموضوعًا عن الحوار مع الفكر الرجعي والتقدمي بتياراته المختلفة؛ لذلك أقول إن اجتهادات المدارس المختلفة لهذا الفكر ينبغي أن يضمَّها إطارٌ مشترك في مواجهة الثورة، دون أن يَعنيَ ذلك عملًا جبهويًّا على الصعيد الأيديولوجي، وإنما يجسِّد تفاعلًا موضوعيًّا، صحيًّا وعميقًا، بين وجهات النظر الوطنية والتقدمية في قضية التراث.
فلنبدأ إذن هذا الحوار:
(١) الوجهة الليبرالية
أما في كتابه الجديد فهو ينطلق من زاويةٍ جديدة تقول: «لننظر إلى حياتنا اليوم، وما تواجهنا به من مشكلاتٍ أساسية، لم يعُد يصلُح لها ما قد ورثناه من قيمٍ مبثوثة في تراثنا، لسببٍ بسيط هو أنها لم تكن هي نفسها المشكلات التي صادفَت أسلافنا حتى نتوقع أن يضعوا لها الحلول» (ص٧٣). ويؤكد أن المسائل التي شغلَت المتكلمين والباطنية والفلاسفة الأقدمين والصوفية ليست هي المسائل التي تشغل دنيانا؛ فما قالوه لا يغني فتيلًا في إعداد الإنسان المعاصر، «ولا أقول في دفع الصورايخ في الفضاء» (ص٨٩)؛ ذلك أن هذا العصر لا يجد شفاءه فيما قاله أسلافنا «حتى وإن ثبت أن غيرنا قد وجد فيه الدواء الشافي لما يعرض لهم من معضلات» (ص٩١)؛ فالفكر في عصرنا من طرازٍ مختلف، والمشكلات المطروحة أمامه من طبيعةٍ مختلفة، وهو لن يجد ما يهتدي به عند أجدادنا في أزماته الفكرية (ص٩٥)؛ ومن هنا كان التراث الباقي من تلك الجماعات القديمة جديرًا بالحفظ والصون في متاحف الآثار «لكني كذلك لا أستخدمها في شئون الحياة الجارية» (١٠٣). إن المحور الرئيسي في تراثنا كله — كما يقول زكي نجيب محمود — هو العلاقة بين الإنسان والله «على حين أن ما نلمسه اليوم في لهفةٍ مؤرِّقة هو محورٌ تحوَّر عليه العلاقات بين الإنسان والإنسان» (ص١١٠). وينتهي الكاتب إلى صيغةٍ حاسمة تقول: «إما أن نعيش عصرنا بفكره ومشكلاته، وإما أن نرفُضَه ونُوصِدَ دونه الأبواب لنعيش تراثنا. نحن في ذلك أحرار، لكننا لا نملك الحرية في أن نوحِّد بين الفكرَين» (ص١٨٩).
ومع هذا، فزكي نجيب محمود، رغم عباراته الحادة القاطعة، لا يرفض التراث جملةً وتفصيلًا، وإنما هو يركِّز على ما عاناه من الداعين إلى إحياء التراث وكأنه ميتٌ يحتاج إلى بعث، بينما المشكلة الحقيقية تكاد تكون على النقيض من ذلك؛ لأن التراث كمجموعة من القيم والتقاليد والعادات والمبادئ، وما زال ساريًا في دمانا يعرقل نموَّنا الحضاري، ويعوق نهضتنا الإنسانية … فالذي يحتاج حقًّا إلى إحياءٍ هو بعض المواقف النادرة في التراث، نأخذ منها القيمة والشكل وزاوية النظر؛ أي المنهج، دون المضمون الذي لا علاقة له بعصرنا وإنساننا؛ من هنا كان الأجدر بالداعين إلى «إحياء التراث» أن ينشطوا بالفكر كما نشط الآباء، ولكن في مشكلاتهم، وبعقولهم هم، وبحلولهم هم، لا في مشكلات الآباء، ولا بعقول الآباء، وحلولهم (ص٨٦). إن كل تراث بهذا المعنى واجب الدراسة عند المؤرخين (ص١٤٩)، ولكن قليله النادر فحسب هو ما يمكن استلهامه — لا تقليده — في بناء حياتنا المعاصرة؛ فما أكثر الذي ينبغي علينا أن نرفضه من التراث، بل ونقتله لأنه حيٌّ فينا للأسف، يفعل فعلَه السلبيَّ في حياتنا دون وعيٍ منا. و«الوعي بالتراث»، كطرف في المعادلة الحضارية التي نعيشها، هو أول الخطوات نحو يقظةٍ قومية حقيقية. والوعي به ليس هو اصطياد كلماتٍ معاصرة كالحرية والعدل والعلم، والتبجُّح بأن التراث مليء بها «ويفوتنا دائمًا أن نتروَّى حتى نستوثق من أن كئوس هذه الألفاظ ما زالت تحمل شرابها القديم، ولم نستبدل به شرابًا جديدًا، به وحده تسري في أجسادنا روح العصر، وبغيره نتخلف لنعيش مع الأقدمين لفظًا ومعنًى، وشكلًا ومضمونًا» (ص١٧٩).
ويقدم الدكتور زكي نجيب محمود عدة نماذج لتمزُّق الإنسان العربي بين قيم التراث وقيم الحياة، وفي مقدمة هذه النماذج تجيء المرأة المثقَّفة كمثالٍ حي لهذا التمزق؛ فهي أستاذة وعالمة ووزيرة، ولكن التراث بقوانينه وتشريعاته يضعها في منزلة مهينة؛ فالرجال قوَّامون عليها، يستطيعون إذلالها بالطلاق، والزواج عليها، وحصتها في الميراث، وحضانتها للأطفال، إلى غير ذلك من قوانين العبودية القديمة التي ورثناها. بالرغم من كل ما حقَّقَته في الحياة الدنيا من «حرية اقتصادية» و«حمل المسئولية»، فهذا كله لا يشفع لها أمام سطوة التراث (ص٧٩-٨٠). والنموذج الآخر الفاجع هو الرجل «المثقف» الذي يعيش بين جدران المعمل، أو في مدرج الجامعة، أو بين آلات المصنع بعقلية الحياة المعاصرة، ولكنه بين أهله ومواطنيه يعيش بعقلية الدراويش والمشعوذين (ص١٦٦)؛ هذه الازدواجية المُرَّة في حياة المثقَّفين، رجالًا ونساءً، قد لا نجد لها أثرًا في حياة «العامة» من الناس؛ فيحتل وجدانهم وعقولهم مكان الانفصام نوعٌ مميت من الخدر العقلي والخيال. لا يمكن لأمة، تلك هي حال مثقَّفيها وعوامِّها، أن تقدر على تحدِّي أعدائها، مهما كثُرت جامعاتها، وتسلَّحَت جيوشها؛ لأن داءها القاتل يسكن في أغشية المخ وتحت مسامِّ الجلد.
-
السلطة السياسية هي صاحبة الرأي؛ فالفكر مقصورٌ على السلطان (ص٢٧)؛ وبالتالي فليست هناك معارضة ولا حتى تأييد، بل لا يصبح هناك فكر؛ لأن «الفعل» السلطوي قد حل مكانه. ويعزو الكاتب ما عرفَته المنطقة العربية في تاريخها الحديث من دكتاتوريات مؤلهة، إلى هذا المعنى المنحدر إلينا من التراث؛ حيث كان الخليفة أو الأمير هو عقل الأمة ووجدانها الوحيد؛ لذلك نبحث عبثًا عن معنًى «لحرية الفكر» في تاريخنا القديم،٣ وتضيع جهودنا سُدًى إذا بحثنا عن «الحرية السياسية» بمعنى التمثيل النيابي للشعب، وسيصيبنا اليأس حتمًا إذا حاولنا أن نبحث عن «الحرية الاجتماعية» فالصدقات هي المعنى الوحيد الذي سنصادفه.
-
العامل الثاني من عوامل الضعف في التراث العربي هو التكرار والتقليد، وخنق روح الإبداع والخلق والمبادرة، حتى الأدب لم يكن يتطلب من صاحبه إلا أن يصوغ حقيقة معلومة في لفظٍ جديد (ص٢٠)، «وكلما مات مؤلفٌ لبس ثَوبَه مؤلفٌ آخر، وأطلق على مؤلفه اسمًا جديدًا» (ص٢٧).
-
أما العامل الثالث فهو غياب الإيمان بقدرة الإنسان وإرادته؛ فكل شيء مُنزَّلٌ من علٍ، ولا رادَّ لمشيئة صاحب الأمر، وهو سلطان في جميع الأحوال.
في مواجهة عوامل الضعف هذه التي لا تحتاج إلى «إحياء»، بل إن الوعي بها في الحقيقة هو مقدمة الإدراك الإيجابي الفعَّال لما ينبغي أن نرفضَه من تراثنا، وما ينبغي أن نقبله بتحفُّظات. وقد صاغ الكاتب قَبوله لبعض ما في التراث — وهو أقل من القليل — في نقطةٍ واحدة، هي أن نأخذ القيمة، ونستلهم الشكل، ونستخدم زاوية النظر وميزان الحكم فيما يختص بالمواقف العقلية، التي يمكن استخلاصُها بشِق النفس من تاريخ بعض الفرق الإسلامية كالمعتزلة، وقد لقِيَت من العنَت والعَسْف ما أودى بها، وكذلك مواقف بعض الرجال كابن حنبل، الذي أودى به صموده في قولة الحق إلى حافة الموت، وكذلك وقفات قلة من الأدباء والفلاسفة، كأبي العلاء والجاحظ وابن رشد «فإذا أخذنا عن الأسلاف منظار العقل، الذي استخدموه وهم أشدَّاءُ أقوياء، انبثقَت لنا على الفور أسسٌ جديدة نقيم عليها حياتنا الفكرية، بدل الأسس السائدة. والأسس الجديدة المرجوَّة هي أسس الحوار الحر، الذي تتعادل فيه قامات الناس، وإن تفاوتوا بعد ذلك في الفهم وسداد الرأي وقوة الحُجَّة. وأما الأسس التي نريد لها الزوال فهي تلك التي تجيء فيها الفكرة من علٍ، لتهبط كالقدَر على رءوس الناس، وعندئذٍ يكون الصواب هو المعيار الذي تُمليه تلك الفكرة «السامية»، ويكون الخطأ هو الجرأة على مناقشتها، فضلًا عن الجرأة على تجريحها والتمرُّد عليها» (ص٣٠). إننا نتخذ من ابن حنبل هاديًا في الدفاع عن حرية الفكر، بالرغم من أن الفكر الذي دافع عنه لا يعنينا في شيء، ولا ننسى ونحن نستلهم ابن حنبل أنه لا يعبِّر إلا عن جزءٍ ضئيل من التراث، أما بقية الصورة التي يصبح فيها حامل السوط هو وحده صاحب الحق — وهو الجزء الأكبر في حياة السالفين — فإننا نُدينه ونرفُضه ونناضل بقاياه في حياتنا المعاصرة (ص٤٦). والمعتزلة أهم الجماعات التي يرشِّح الكاتب وجهة نظرها لأن تكون تراثًا باقيًا في حياتنا المعاصرة (ص٤٦). والمعتزلة أهم الجماعات التي يرشِّح الكاتب وجهة نظرها لأن تكون تراثًا باقيًا، بالرغم من أن الموضوعات التي ناقشَتْها لا تهمُّ عصرنا في شيء، ولكن يبقى الاحتكام إلى العقل والحوار الفكري الحر يقدِّمان لنا الإفادة منها، فيما يطرحه عصرنا من قضايا لم يعرفها الزمن القديم «ولو تصورتَ الله تعالى في الصورة المجردة الموحدة التي أرادها المعتزلة لكان شيئًا أقرب إلى الضمير، ولأصبحت وحدتُه في القيم؛ بحيث يصعب على المؤمن — بهذا المعنى — بعد ذلك أن يتصرف هنا على أساس وهناك على آخر» (ص١٢٦). ووَفْق هذا التصور المعتزلي لا تعود الأخلاق رقابةً خارجية أشبه بالوصاية، وإنما نزوعٌ داخلي تحدِّده الذات الحرة والمسئولة معًا.
والمعاصرة التي بدونها لا تتوفر للإنسان أسباب الحياة يراها الدكتور زكي نجيب محمود في «الغرب» — أوروبا وأمريكا على وجه التحديد — إنه يرى بوضوحٍ أن حياتنا الثقافية ما زالت في مرحلة السحر «وأننا لولا علم الغرب وعلماؤه لتعرَّت حياتنا على حقيقتها، فإذا هي لا تختلف كثيرًا عن حياة الإنسان البدائي في بعض مراحلها الأولى» (ص٦١)، وحتى لم نجد حلًّا لمشكلات حياتنا الراهنة — وفي مقدمتها مشكلة الحرية — إلا في الإنتاج الأوروبي الحديث (ص٧٨-٧٩). ويتناول الكاتب معنى «الثقافة» كما رسخَت في أذهاننا ووجداننا من صفحات التراث، ومعناها كما تعرفه حضارة الغرب، فيرى أن اللغة عند العرب لم تكن أداة الثقافة، وإنما كانت الثقافة نفسها؛ لذلك كانت تُقاس عظمة الكاتب بمخزونه اللغوي، ومهارته في السبك اللفظي، وبراعته في تنسيق الإيقاع، إلى غير ذلك، دون احتفالٍ كبير أو قليل بما هو خارج حروف اللغة، من دنيا عامرة بالخبايا والغوامض، تحتاج إلى وهج الاكتشاف وحرارة المعرفة. وكان المبدأ في التعليم هو الحفظ والتسميع بالتكرار والتقليد، وتوالُد العبارات بعضها من بعض، بغَض النظر عن التسلسل الفكري (ص٢٠٣، ٢٠٤، ٢١٧). وأصبح التأليف أشبه بتناسخ أرواح الكاتبين؛ فلا فرق جوهريًّا بين كاتبٍ وكاتبٍ آخر، حتى أصبح المطلوب من القارئ هو التقمُّص لا الحوار (ص٢١٩)، ولا أمل في ثورة ثقافية دون ثورة لغوية، تتحول معها اللغة من حلوى يتمزَّز بها الناس إلى أداة توصيلٍ حقيقية في عصر التفكير العلمي (ص٢٢٠، ٢٢١، ٢٢٢، ٢٢٣). إن اللغة التي تلفُّ بك وتدور حول الفراغ ليست أكثر من مادة للتسلية في ساعات الفراغ (ص٢٤١)، ومع هذا لا نُطامِن رءوسَنا، بل نتبجَّح ونطلب من الآخرين أن يُترجِموا «ثقافتنا» إلى لغاتهم (ص٢٥٢).
ويفرِّق الدكتور زكي نجيب محمود بين منهج الإنسان القديم ومنهج الإنسان في العالم المعاصر، مؤكدًا أن عصرنا قد أضاف إلى التربية العقلية للمثقَّف ما لم يكن يحلُم به أحدٌ من الأولين، وذلك لتطور العلوم ومناهج البحث فيها تطورًا مذهلًا؛ ومن ثَم لم يعُد مؤثِّرًا على مجرى هذا التطور أن يكون عالم الطبيعة أو الكيمياء أو النبات أو الطب مؤمنًا أو غير مؤمن بما تواضَع السلف على تسميته بالإيمان. إن قوانين العالم الطبيعي لن تتأثر بما إذا كان العالم قديمًا أو حادثًا، أزليًّا أو مخلوقًا (ص١٣٢، ١٣٣)؛ فالمعاصرة الحقيقية «لا تتنافى ولا تتأيد بالإيمان الديني، كائنًا ما كان في شكله ومضمونه، وإنما المعاصرة هي فيما له علاقة بمشكلات اليوم، المعاصرة هي متابعة العلوم وتقنياتها وتطبيقاتها، وفي متابعة الفنون على مقتضى نوازع الحياة الحاضرة، وفي متابعة أنظمة الحكم والتعليم والاقتصاد، وغيرها من وسائل العيش، وَفْق الحضارة التي نحياها» (ص١٣٤). ويستخلص الكاتب من هذه المقدمة نتيجةً مؤدَّاها: ليؤمن من يشاء فالدين موكول إلى الإيمان «ونجعل العلم موكولًا إلى العقل، دون أن نحاول امتداد أيٍّ من الطرفَين ليتدخل في شئون الآخر» (ص١٣٦)، وهي النتيجة التي تتجسَّد دلالتها الاجتماعية والسياسية في فصل الدين عن الدولة.
كيف يتم التطور أو الانتقال من القديم إلى الجديد؟ يجيب الكاتب بأن نتحول عن ثقافة اللفظ إلى ثقافة العلوم التقنية والصناعة، ولن يتم هذا بالتوجه إلى الماضي والتراث، بل إلى أوروبا وأمريكا «نستقي من منابعهم ما تطوَّعوا بالعطاء وما استطعنا من القبول وتمثُّل ما قبلنا» (ص٨٢) وليصبح معيارنا دائمًا في الرفض والقبول هو مدى ما يُسببه لنا من نفع أو ضرر، في حياتنا المادية والعقلية على السواء (ص١٨، ١٩).
تلك هي الأفكار الأساسية التي تحتل ثلثَي كتاب «تجديد الفكر العربي»، ولكن زكي نجيب محمود قد أراد، في الثلث الأخير، أن يقدم صياغةً فلسفية للنتائج التي استخلصها من السياق؛ حينئذٍ تصدَّى لما تقول به الماركسية في تصوُّره من «جبر» يحجُب فاعلية الإنسان، ويشل إرادته، ما دام التطور التاريخي في طريقه المحتوم، كذلك ما قال به ماركس من أن إنجاز الاشتراكية يتم في البلدان الأكثر تطورًا، بينما العكس في التطبيق العملي هو الصحيح. ولعله من المناسب أن أرجئ التعليق على هذه التصورات الشائعة — والمتعمَّدة أحيانًا — عن الماركسية حتى نستكمل بقية أركان الصياغة التي يقدمها الكاتب في النهاية «كمنهج» مقترَح لحياتنا الجديدة.
وربما كانت ملاحظتي الأولى على هذا المنهج أنه رغم وحدته الظاهرية يفتقد الاتساق الداخلي؛ فبين عناصره يضم بعضًا من أفكار عصر التنوير وبعضًا من أركان الوضعية المنطقية والبراجماتية والتجريبية والمادية الميكانيكية في وقتٍ واحد. كان من نتيجة ذلك — وتجيء هنا ملاحظتي الثانية — أن تناقضَ كثيرٌ من النتائج مع المقدمات، حتى ليبدو الثلث الأخير من الكتاب وكأنه رواسبُ الموقف للمؤلف وقد غاصت في القاع تؤكد صراعًا عميقًا في نفسه، بين ما تربَّى عليه وما توصَّل إليه بعد طول بحث وتدقيق. ويمكن لنا أن نتابع أهم النتائج التي تُواجهنا قرب الخاتمة على النحو التالي:
-
إن قَدْرًا كبيرًا من ألفاظ حياتنا اليومية وحياتنا الثقافية على السواء، يهيم في فضاء المعاني المجردة، غير الموصولة بجذورها المادية، فلا نحصل منها على الفكر وإنما على الرنين الأجوف (ص٢٢٠، ٢٢١، ٢٥١، ٢٥٢)، ولكن هذا التفسير اللغوي المأخوذ عن المنطق الوضعي سرعان ما يلتوي عنقه (ص٣٨٢) لتصبح اللغة العربية لغة الإرادة الإنسانية الفاعلة، ما دامت الجملة فيها تبدأ بالفعل.
-
النقطة الثانية هي أننا في مرحلة تحوُّل تستدعي ألا تكون لدينا قواعدُ ثابتة للقياس، لنفتح الطريق أمام المبادرة والمغامرة والخَلْق، فنبتكر لكل موقفٍ ما يلائمة من قيَم ونُظم (ص٢٢٦) بالمعنى التجريبي البحت في الفلسفة الذرائعية (البرجماتية).
-
النقطة الثالثة هي أنه يتعيَّن علينا ألا نكون مجرد «ناقلين»، سواء للتراث القديم أو الفكر المعاصر، وإنما يشترط أن «نعاني لنبدع» لنشارك الإنسانية ونضيف إليها فلسفةً عربية أصيلة وجديدة (ص٢٥٣، ٢٥٤، ٢٥٥) وهنا يقسِّم الكاتب الفلسفات السائدة على عالم اليوم تقسيمًا جغرافيًّا؛ فغرب أوروبا مشغول بالمعرفة العلمية، وشرقها مشغول بالمجتمع (ص٢٦٧، ٢٦٨، ٢٦٩)، وعلينا أن ننهج في إقامة فلسفتنا الخاصة نهجًا وسطيًّا عُرفَت به (ص٢٧٠) حضارتنا العربية حتى ننفي ما آلت إليه الأمور في الغرب من تدهور القيَم، ونحتفظ بالجذور الثقافية الغائرة في أعماق نفوسنا (ص٢٧٤)، وحينئذٍ تنقلب المثالب التي أدانها الكاتب في البداية، إلى ركائزَ أصيلة يُقام عليها البناء الجديد؛ فالأدب والشعر الذي قال فيه ما قال يُعيد (ص٣٢٢)، تفسيره — أو اعتباره — بما يسمح له أن يكون ركنًا ركينًا في النهضة الجديدة. ولا يلبث الدكتور زكي نجيب محمود أن يعثُر على «حلول وسطية» في تراثنا يمكن الإفادة منها في تشكيل نظرتنا المقترَحة (ص٣٢٧).
-
النقطة الرابعة يمكن إيجازها في هذه العبارة التي يقول فيها الكاتب «كان للعقل أعظم القيمة عند أسلافنا» (ص٣٢٩)، وهي جملة يتناقض مضمونها تناقضًا حادًّا وقاطعًا مع كل ما جاء في الكتاب من تقييمات لتراثنا اللاعقلي، بل هو يعود إلى القول مرةً أخرى: إن «قطب الرحى عند فلاسفة الغرب هو أحكام العقل، وقطب الرحى عند الفكر العربي هو قيَم السلوك. والخير كل الخير أن تُضَم هذه إلى تلك» (ص٣٨٣).
من الواضح أن الليبرالية هي الإطار الفكري لهذه المجموعة من القيَم والآراء التي يبديها الدكتور زكي نجيب محمود، ولا ريب أن هذا الإطار الرحب يستقطب قطاعًا عريضًا من الجماهير القارئة، وعلى هذا الصعيد فهو يُسهِم إيجابيًّا في تنشيط العقل العربي، بطرح التساؤلات الأساسية من جديد، ومحاولة الإجابة عليها بمنطقٍ علماني يدافع عن حرية الفكر وحقوق الإنسان، ويُدين الروح التواكلية والسلوك الثيوقراطي، ويدعو إلى قيَم العلم والصناعة والانفتاح على الحضارات الأخرى. هذه المجموعة من الأفكار — وهي تشكل العمود الفِقري للكتاب — تأخذ موقعها التقدُّمي بجدارة، في حلبة الصراع الدائر الآن بين قوى التخلف والدكتاتورية وقوى التقدُّم والديمقراطية، وتزداد أهميتُها البالغة في الوقت الراهن بالذات والرجعية العربية ترفع لواء التراث، كما تتبلور قيمتها المؤكَّدة وسط الجماهير العريضة، التي تُقبِل بنهَم لا نظير له على كتابات مصطفى محمود وأنيس منصور، وغيرهما من الذين يرتدون أزياءً جذابة، ويبطِّنونها بمضمونٍ يفاقم التخلف، ويدعم التقاليد غير الديمقراطية في أسلوب الحكم. إن الأهمية السياسية والاجتماعية لهذا الكتاب بين الجماهير تفوق بغير شك أهميته الفكرية على الصعيد الفلسفي بين المثقفين. ولا عبرة لأن يُقال عن صاحب الكتاب إنه ينهل من معين الفكر البرجوازي الغربي، أو إن غيره من المفكرين العرب في أوائل هذا القرن قد سبقوه إلى هذه الدعوة أو تلك؛ فبالرغم من صحة هذا القول، إلا أنه يبقى صحيحًا بنفس المقدار أن المجتمع العربي، في غالبيته الساحقة، ينتمي فكريًّا إلى العقلية الزراعية والبدوية والعشائرية والقبَلية؛ حيث تصبح بعض الأفكار البرجوازية المغيِّرة لهذه العقلية إنجازًا تقدميًّا لا غش فيه. ويتبقى صحيحًا كذلك أن بعض الأفكار التي دعا إليها رواد فكرنا الحديث، قد لقيَت نكسةً خطيرة خلال السنوات العشرين الأخيرة؛ بحيث يصبح إحياؤها وبعثُها من جديد مهمةً جليلة لا غُبار عليها.
إننا على الصعيد الفكري الخالص — بعيدًا عن الأثر السياسي والاجتماعي المباشر — نختلف مع الدكتور زكي نجيب محمود في النقاط التالية:
-
(١)
نختلف معه في المنطق الوضعي للغة، باستبعاده أن تكون اللغة نفسها ظاهرةً اجتماعية متغيرة، إنها ليست ظاهرةً طبقية، ولكنها بالقطع ظاهرةٌ قومية تتأثر بكل ما يطرأ على الأمة من تغيُّرات في بنيتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
-
(٢)
أن تكون في مرحلة تحوُّل، فهذا لا يعني بالضرورة تحولًا في القيَم، ولكن هذا لا ينفي أن هناك «ثوابت» يمكن استخلاصها من مجرى التاريخ. إن التاريخ لا يعيد نفسه أبدًا، ولكن قوانين التاريخ التي تصوغ ظواهره الأساسية من تجارب الشعوب هي قوانينُ ثابتة، لا بمعنى القدَر الميتافيزيقي المستقل عن إرادة البشر، وإنما على العكس، بمعنى تجسيد إرادات البشر في حقبةٍ معيَّنة من التاريخ، وزوال القانون مرهون بزوال الظروف التي صاغها. إن الدعوة إلى التغيير صحيحة في جوهرها، ولكن اقترانها بالدعوة إلى أنه ليس هناك من «ثوابت» يؤدي إلى العفوية والتلقائية، ربما إلى التمرُّد والفوضى ولكن ليس إلى الثورة.
-
(٣)
وهنا يَرِد الحديث عن الماركسية؛ فالكاتب يوجِّه لها الاتهام التقليدي في التفكير الغربي، والموجَز في نقطتَين؛ الأولى أنها تُغفِل إرادة الإنسان، وترشِّح قدَرًا جديدًا على مصائر البشر هو «التطور التاريخي». والنقطة الثانية أن نبوءة ماركس لم تتحقق في الدول المتقدمة. وكنتُ أرجو من الدكتور زكي نجيب محمود أن يتحقَّق من خطأ هذا الاتهام بنفسه من المصادر الأصلية للماركسية، لا فيما جاء عنها في الأدبيات الغربية. إنه حينئذٍ يكتشف أن «الإرادة الفاعلة» من صُلب النظرية الماركسية. وهي الإرادة التي تفسِّر نضال الماركسيين والطبقة العاملة في جميع أنحاء العالم نضالًا مريرًا لدرجة الاستشهاد. ولو كان التطور التاريخي قدَرًا مجاوزًا لإرادة البشر لاستكان الماركسيون في أحضان الحلم الجميل، وكفُّوا عن النضال حتى الموت. أما نبوءة ماركس فإن تحقُّقَها في بلدٍ متخلفٍ لا ينفي سلامتها الفكرية، بل هي دعوة للماركسين أن يتعمَّقوا واقعهم. وتلك هي الإضافة اللينينية إلى الماركسية. وفي حالتنا نحن فإن الدعوى التي يقيمها الكاتب ضد الماركسية، باسم إخفاق النبوءة، يمكن استخدامها ضده هو؛ لأننا — باعترافه — متخلفون؛ وبالتالي فبلادنا مرشَّحة لقبول الماركسية.
-
(٤)
بالرغم من أن الدعوة إلى العلم والصناعة دعوةٌ صحيحة في جوهرها، إلا أن الدكتور زكي نجيب محمود يركز على العلم بمعناه الفيزيقي؛ الأمر الذي لا يرفع القضية المطروحة إلى مستوًى أرقى؛ فالمعامل والمصانع تملأ ساحة الوطن العربي، وهي بغير شك تفعل فعلها البطيء في عقولنا ووجداننا، ولكن المعمل شيءٌ والمنهج العلمي شيءٌ آخر. إن ما نحتاج إليه جنبًا إلى جنب مع الأنابيب والماكينات والعقول الإلكترونية هو «المنهج العلمي»، الذي يتجاوز أسوار المعمل الطبيعي إلى العلوم الإنسانية وحياة البشر.
-
(٥)
إذا كان التخلف الحضاري المرعب، والتقاليد غير الديمقراطية في أسلوب الحكم، يشكِّلان أبرز سمات الانحطاط العربي المعاصرة، فإن الاشتراكية هي البديل الأقدر على اختصار الطريق، بل واختزاله نحو الدولة الديمقراطية العصرية، ولا يكفي في هذا الصدد ما يدعو إليه المؤلف، في خطوطٍ عريضة، من حرياتٍ سياسية واجتماعية غامضة الملامح ناقصة التكوين. إن تجارب البلدان الاشتراكية التي كانت مثلًا على التخلف في يومٍ من الأيام، ينبغي أن تكون دليلَنا إلى التقدم والعصرية والديمقراطية.
-
(٦)
والتقسيم الجغرافي الذي آثره المؤلف لفلسفات العالم المعاصر، يجانبه الصواب، وأبعد ما يكون عن المنهج العلمي؛ فهو أقرب إلى الصورة التي التُقطَت من طائرة، فأوضحَت سطوح الأشياء لا أعماقها. إن سيادة فلسفةٍ معيَّنة على السلطة السياسية في غرب أوروبا وأمريكا، لا يعني غياب فلسفاتٍ أخرى تموج بها حركة الفكر الأوروبي والأمريكي المعاصرَين. ولعله من المفارقات الجديرة بنظر الكاتب أن أهم الأبحاث النظرية في الماركسية تجيئُنا من غرب أوروبا وأمريكا، ومن ناحيةٍ أخرى فهناك فلسفاتٌ ليست مادية ولا جدلية في بعض جامعات ومنابر أوروبا الشرقية. إن خطر التعميم هنا هو أن الكاتب ينظر إلى «فلسفة السلطة» لا إلى مجرى الحياة الدافق بتنوع القوى الاجتماعية واتجاهاتها الفكرية سواء كانت شرقًا أو غربًا.
-
(٧)
ولعل هذه النقطة هي أخطر النقاط، وإن لم تكن الأخيرة؛ فالدعوة إلى فلسفةٍ عربية تتجاهل أولًا ما هو مشترك وعام بين جميع البشر، وتتجاهل ثانيًا محور العلاقة بين الدرجة الحضارية التي يبلغها أحد المجتمعات وميلاد «الفلسفة» فيه، ويتجاهل ثالثًا أن الطابع القومي للفلسفة هو جماع عناصر «الواقع» الذي وُلدَت فيه أو طُبقَت عليه، وأن الطابع المطلَق للفلسفة هو جوهرها كتعميمٍ لنتائج العلوم في زمانٍ معين لا في مكانٍ معين.
غير أن هذه الملاحظات جميعها — وغيرها كثير — لا تقلِّل بحال من الأهمية العظمى لكتاب «تجديد الفكر العربي»، الذي يجيء في أوانه مُعبِّرًا أروعَ تعبير وأخلصَه عن موقف الفكر الليبرالي العربي المعاصر من قضية التراث والتجديد، وهي القضية التي تُناوِر بها الرجعية العربية لأسبابٍ سياسية واجتماعية؛ لهذه الاسباب نفسها — بعيدًا عن الفكر الفلسفي الخالص — يقف الدكتور زكي نجيب محمود وقفته الشجاعة إلى جانب التقدم والديمقراطية.
(٢) الوجهة الثورية
- والنقطة الأولى: في البناء المنهجي للبحث عند الدكتور تيزيني هي «المادة» التي توفَّر على دراستها؛ فقد اتجه إلى الأصول المتاحة، ولم يلجأ إلى ما قيل «عنها» إلا في القليل النادر، حين يُضطَر لمناقشة فكرة بعينها، مستنيرًا بالآراء المختلفة التي شاعت حولها، خاصة إذا كان شيوع بعض هذه الآراء يسبِّب ضررًا بالغًا للفكرة الأصلية. لقد أكبَّ الباحث على المادة الأولية لبحثه بوجهَيها؛ «الأصول والخصوم» من ناحية، وتطوُّر النظر إليها بالاتفاق والاختلاف عبْر العصور من ناحيةٍ أخرى. وقد كان حجم هذه المادة كافيًا للتعرف على أكبر قدْرٍ من «الحقيقة» المجردة المباشرة.
- والنقطة الثانية: هي أن الدكتور تيزيني قد تجنَّب منذ البداية الذاتيةَ والحدْسَ والتخمينَ في وقفته الصبورة المتأنية للمادة الأولية، كانت الموضوعية القريبة من روح العلم الطبيعي هي أداته الرئيسية الأولى في الفرز والتبويب؛ فلم يهمل جزئية من الجزئيات تتنافى مع تصوُّره المسبق عنها، أو رغبته فيما كان يجب أن تكون عليه، أو لضآلة في السياق العام، وإنما هو آثر أن يتحرى الدقة المرهفة في التعامل مع مادته الأولية، رغم كل ما صادفه من تناقضاتٍ وتعقيدات تُغري بالهرب نشدانًا للسلامة إن «الاكتشاف» هو المهم الذي كان يؤرقه، وليس تقديم الرأي، أو التحليل لمادة جاهزة، تعرَّف عليها الباحثون من قبلُ، جيلًا بعد جيل، حتى إنها اتخذَت لطول الاستعمال «وضعًا» — من هذه الناحية أو تلك — تصعُب الإضافة الخلَّاقة إليه بتقويمه تقويمًا سديدًا.
- والنقطة الثالثة: هي أن المؤلف قد تابع العلاقة بين الفكر والواقع متابعةً ميكروسكوبية مذهلة. وأُضطَر هنا للقول مرةً أخرى إن النظرة المحايدة الفاحصة كانت رايته في الإمساك بالفعل ورد الفعل، بالصوت والصدى؛ فلم يكن ييسِّر على نفسه الأمر «بالتنبؤ»، و«الحسم» بأن العلاقة بين هذه الفكرة أو تلك والواقع من حولها «لا بد» أن تتخذ هذا الشكل أو ذاك، وإنما هو قد رصد وأحصى مجموع التفاعلات المعقَّدة المتشابكة بين الفكرة والواقع؛ دخل دهاليز التاريخ، وسراديب المجتمع، ومنعطَفات الأنظمة السياسية، وخفايا النفس الإنسانية، وخبايا العصبيات والقبائل والعشائر، ثم واكَب مراحل تطور الفكر من الأرض التي أنبتَتْها، إلى العقل الذي حمَل بها وولدَها، إلى القوى البشرية التي استثمرَتْها، إلى النتائج الواقعة التي حقَّقَتها.
هذه، بإيجازٍ شديد، الأسس «الشكلية» للمنهج الذي آثره الدكتور طيب تيزيني. وقد شيَّد عليها بناءه الفريد في باب البحث الفلسفي العربي عامة، وباب الفكر العربي الإسلامي على وجه الخصوص، وباب «الموقف اليساري» المعاصر من التراث بصورةٍ أكثر خصوصية. إن هذا «الشكل» العلمي الدقيق هو الذي أثمر النتائج العلمية الدقيقة، التي أتت بدَورها برهانًا ساطعًا على صحة القوانين الأساسية للفكر المادي التاريخي الجدلي. وهو الفكر الذي اعتمد عليه الباحث في إنجاز الأعباء التالية للشكل الأكاديمي؛ عبء التحليل، والتقييم، والاختيار؛ أي إن الدكتور تيزيني في كتابه كان «تراثيًّا» بالمعنى العميق المسئول لهذا التعبير؛ إذ كانت له نظرته القاتمة «من داخل» التراث، كما كان في الوقت عينه «معاصرًا» غاية المعاصرة باستخدام المنهج الثوري في التفكير، وقد ظلت المشكلة زمنًا هي أسلوب استخدام هذا المنهج، حتى إن الأسلوب السيئ كان يُلقي بظلال نتائجه الباهتة السطحية على المنهج نفسه عند معظم القارئين. كانت غالبيتهم ترى في بعض الأبحاث «الماركسية» مجموعةً من المعادلات التي يتم تصويرها على نحوٍ ميكانيكي مُبتذَل، يكشف في الحقيقة عن جهل بالقضية المطروحة، يوازيه الجهل بالماركسية ذاتها. إن الدكتور تيزيني قلَب هذه الفكرة عن المنهج الثوري رأسًا على عقب، حين «عانى» معايشة التراث معاناةً مضنية، حين لم يتنكر لتقاليد البحث العلمي العريقة، بما فيها مساهمات المناهج الأكاديمية البرجوازية، وحين اكتشف في خاتمة المطاف مجموعةً من القوانين الأساسية في علاقة الفكر بالواقع، تُطابق جوهر التحليل الماركسي للمجتمع والطبيعة، وتُغني هذا التحليل بما استخلصه من قوانينَ نوعية خاصة بهذه المرحلة العظيمة من مراحل التراث الإنساني، مرحلة الفكر العربي الإسلامي في العصر الوسيط. ولعل أهم هذه القوانين هي أن التراث الإسلامي لا يختلف عن أي تراثٍ آخر في أنه «البناء العلوي» للتركيب الاقتصادي والاجتماعي، ومن هنا تنبع أصالته التي لا تتناقض مع «حواره الحي» مع التراث الإنساني عامة؛ فمن أعظم تقاليد الفكر الإسلامي في ذلك العصر الانفتاح على العالم، وتلك هي معاصرته. وكذلك فإن الأفكار التقدمية بمعيار عصرها، كانت تجسيدًا لطموحات وأحلام وأشواق الطبقات الثورية، بينما كانت الأفكار المتخلفة بالمعيار نفسه سلاحًا في أيدي الطبقات الرجعية القاهرة. على أن العلاقة الجدلية بين البناء الفوقي وقاعدته الاقتصادية والاجتماعية أبعد ما تكون عن الآلية والسكون؛ فليس الفكر مرآةً صمَّاء لما يجري على أرض المجتمع، ليس عدسةً فوتوغرافية، والفكر أيضًا ليس ظاهرةً متكاملةً بذاتها تعلو القمة الباردة تُطِل من عليائها كآلهة الأوليمب، وإنما الفكر حركةٌ حية دينامية متفاعلة دومًا مع الواقع الاجتماعي، تأخذ منه وتعطيه، على نحوٍ بالغ التشابك والتعقيد؛ هذا التصور لعلاقة الفكر بالمجتمع يحرم الباحث العلمي من اليسر والتبسيط والتسطيح والتطبيق الأعمى لمقولاتٍ جامدة تطبيقًا ميكانيكيًّا ساذجًا. وقد حرَم الدكتور تيزيني نفسه من هذه النعمة؛ لأنه اعتبرها نقمةً على المنهج الثوري، من جانب الأدعياء والكُسالى.
هذا «الكثير» يركِّز عليه الكاتب تركيزًا منهجيًّا في القسمَين الأول والثاني من الكتاب؛ حيث يدرُس «الجذور التاريخية والمعرفية للفكر الفلسفي المادي والمثالي»، و«معالم المشكلة الفلسفية في شكلها المبكِّر اليوناني». في هذَين القسمَين يتابع الباحث مجموعة الروافد التي تبادلَت التأثير مع الفكر الإسلامي، ثم يصاحبنا في رحلته في المجتمع الجاهلي إلى المجتمع العربي في العصر الوسيط، فيدعو المجتمع الأول «قبَليًّا بطريركيًّا». على أن المجتمع الجديد لم يتخلَّ نهائيًّا عن ظلال القبَلية البطريركية بالرغم من تطوُّره إلى مرحلة الإقطاع دون المرور بالمرحلة العبودية. لقد اكتسب الإسلام ملامحه الأولى الأساسية من حيث هو تعبيرٌ عن الحاجات والمصالح المتنامية للحركة التجارية الواسعة، التي كان يكبح من نموها الاقتتال العنيف بين المجموعات القبَلية المختلفة (ص١٩٢). وهكذا بدأَت العلاقات الاجتماعية في التفكير الذي عبَّر عن نفسه في النهوض بالمستوى الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للرقيق والعوام الأحرار وأنصاف الأحرار، وبالرغم من التكوينات الرأسمالية الوليدة لم يتخلص المجتمع العربي الإسلامي من بعض الأشكال العبودية والعلاقات الإقطاعية، بل إن هذه العلاقات الأخيرة قد أخذَت في التعاظم ابتداءً من العصر الأموي، وأمست الشكل الرئيسي للإنتاج في العصر العباسي. ويعني هذا أنه ليس هناك خطٌّ مستقيم للتطور الاجتماعي الإسلامي، وإنما كانت هناك منعطفاتٌ ومنحنياتٌ ومتعرجاتٌ كثيرة، انعكسَت بدَورها على الخريطة الفكرية والفلسفية «وقد تم هذا ليس فقط انطلاقًا من قانونية التطور الداخلية، مع أن هذه قد مارسَت في ذلك التأثيرَ الحاسم، بل أيضًا تحت تأثير الحضارات القديمة الشهيرة في بيزنطة وما بين النهرَين؛ هذه الحضارات التي تجاوزَت في الحقل الاجتماعي-الاقتصادي، التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية القائمة على العبودية، من خلال إقامتها للإقطاعية كأساسٍ حاسم لبنائها. إن احتكاك المجتمع العربي-الإسلامي الوسيط بهاتَين الحضارتَين العريقتَين في مجموع الحقول كان له أثره العميق في اتجاهات التحرُّك الاجتماعي والثقافي» (ص١٦٣).
وقد أفرد الباحث جزءًا مهمًّا من كتابه حول الشخصيَّات المهمة التي عبَّرت عن هذا التحرك الاجتماعي والثقافي، سواء في اتجاه التقدم أو اتجاه التخلف. وسوف نلاحظ أن العصر الوسيط — لأسبابٍ عديدة أوردَها المؤلف — قد اشتمل أساسًا على «منعطف تقدمي»، بينما لم يكن التخلف إلا تجسيدًا للردة اللاعقلية التي واكبَت تدهور الدولة الإسلامية وانحطاطها. والكاتب يلتفت إلى «ابن خلدون» التفاتًا بارزًا على طول الكتاب؛ لأنه من ناحيةٍ حقَّق خطوةً رائدة في علم الاجتماع التاريخي، على صعيد الفكر البشري عامة، لا على صعيد الفكر الإسلامي فحسب. ومن ناحيةٍ أخرى فهو قد «أتى بفتحه الكبير في عصرٍ لم يكن أصلًا قادرًا على الإحاطة بهذا الفتح وتطويره إلى أمام، من قِبل ممثلين آخرين له» (ص٢٣٣)؛ ذلك أن صياغة الفعل التاريخي لم تستكمل أبعادها في قانونٍ اجتماعي إلا بدخول المجتمع العربي الإسلامي الوسيط مرحلة الانحطاط، وهكذا يصبح ابن خلدون «هو الحصيلة الحقيقية لفترة ازدهار المجتمع العربي الإسلامي الوسيط في ازدهاره وفي انحطاطه في آنٍ واحد». ولأن ابن خلدون يمثل بإنجازه العلمي حلقةً جوهرية في تاريخ الفكر الاجتماعي، فإن بعث تراثه يقتضي «توحيد الجوانب العلمية الثورية فيه مع الشكل الأكثر تطورًا أو تقدمًا من أشكال علم الاجتماع والتاريخ المعاصر» (ص٣٩٧). وقد كان المقريزي هو الاستثناء المجاور لابن خلدون إبَّان ذلك العصر في محاولة تفسير الظواهر التاريخية تفسيرًا اقتصاديًّا اجتماعيًّا مضادًّا للجبرية الطبيعية والجبرية، القائلة بأن الأزمات الاجتماعية سببُها «غضب قدرةٍ غيبيةٍ ما». لقد وقف المقريزي عند الشكلَين من أشكال الجبرية؛ لأنه رأى في نشوء وتطور واضمحلال المجتمع قانونًا تاريخيًّا يمكن اكتشاف تفاصيله، ولكنه مع هذا لم يستطع التعرف على البناء الفوقي للمجتمع، الذي يتبادل التأثير والتأثر مع قاعدته المادية، كذلك لم يستطع أن يشمل الطبيعة بفهمه المادي لحركة المجتمع؛ فلم تكن معطيات عصره في المستوى الذي يؤهله للانفلات من أَسْر التصورات الميتافيزيقية للكون (ص٤٠٣، ٤٠٤). ومن هنا فإننا حين نطلق على ابن خلدون أو المقريزي صفة المادية يجب أن نحاذر — كما حاذر الدكتور تيزيني — التقريب بين ماديتهما والمادية المعاصرة، إنهما رائدان بحق على طريق الفلسفة المادية العلمية، ولكنهما لم يتجاوزا مقتضيات التاريخ؛ ولذلك فإن الاستفادة الحقيقية منهما هي توحيدهما بما استحدثه المنهج العلمي في دراسة المجتمع والتاريخ من أدواتٍ أكثر تقدمًا.
لقد تمكَّن ابن رشد، في ذلك الوقت البعيد، من أن يعمِّق الفهم الفلسفي للعالم بتأكيده على وحدة الوجود المادي من ناحية، واستبعاده مفهوم «الإله» كقدرة مفارقة للطبيعة من ناحيةٍ أخرى، بل أصبح الله «عقل العالم» غير المنفصل عن الطبيعة. غير أن هذا التصور الذي ينجز خطوة «مادية» في نظر المعرفة، أبعد كثيرًا عن تصور اسبينوزا مثلًا (ص٣٨٨)؛ وبالتالي فهو أبعد من حدود الفهم المادي المعاصر بما لا يُقاس. إن إنجاز ابن رشد هو في تجاوزه «الثنائية» التقليدية بين الإله والعالم، بين المادة والصورة. وحين نبعث ابن رشد إلى وجودنا المعاصر، فنحن نضيف إليه منجزاتٍ كثيرة للعلم الطبيعي والعلم الاجتماعي، لم تتوفر لعصره، كما نضيف إليه «مناخًا سياسيًّا» مغايرًا للمناخ الذي شكَّل إحباطًا حقيقيًّا لروح الاكتشاف، التي كانت تملأ كيانه الفلسفي. وهو الأمر الذي يمكن أن نصف به، على نحوٍ مختلف، محاولة الكندي في طرح مشكلات الوجود بعيدًا عن النص الإيماني، ولكن وجهة نظره الأساسية حول «الخَلْق من عدمٍ مطلَق» (ص٢٨٢) قد حالت دون الانطلاق بالمحاولة من قيود التماسك النظري الذي ابتغاه، كتلك المحاولة التي أرادها الفارابي في التوحيد بين أفلاطون وأرسطو؛ فإنه على الرغم من فسادها منذ البداية، إلا أن هذا لا ينفي أن الفارابي قد أنقذ، على نحوٍ أوَّلي، فكرة المادة، أو بشكلٍ أدق رفضه فكرة خَلْق المادة (ص٣٠٠)، وهي الفكرة التي اغتنت عند ابن سينا، قبل أن تصل حدها الأقصى على يدَي ابن رشد، وقد كان ابن سينا طرفًا أساسيًّا في الصراع الفكري لعصره، وكان يقف في مقدمة الجبهة العقلانية شبه المادية ضد الجبهة الإيمانية النصية الغيبية. وهو قد تابع إنجاز الفارابي متابعة أكثر تطورًا، تناولَت العالم المادي على ضوء أرسطو، كما تناولَت الموقف من «الحركة»، و«العناية»، و«العلوية»، و«المفارقة» في مواجهة فكرة الخلق من عدمٍ محض (ص٣٠٢). ولقد رفض ابن سينا التصور الميتافيزيقي القائم على التسلسل في الموجودات، الذي ينتهي أخيرًا بموجودٍ أعلى «أن التسلسل مطلَق، بمعنى أن لا يوجد سببٌ واحد للوجود، بل أسبابٌ لا تُحصى؛ ذلك لأن كل حلقة من حلقات الوجود هي في نفس الوقت سببٌ ومسبَّب» (ص٣٢٨).
إذا كانت هذه النماذج العظيمة للتراث الإسلامي التقدمي، في العصر الوسيط، قد استطاعت أن تحقق نجاحًا لهذا التراث على صعيد العالم، فإن ذلك كان مصدره الأول هو انطلاقها الأصيل من أرضها الاجتماعية، ومعاصرتها بالحوار مع التراث البشري عامة واليوناني خاصة. غير أن الوجه الآخر للصورة هو تفكير الإمام الغزالي، الذي يراه المؤلف «قمة الاتجاه الإيماني» (ص٣٣١)، وقد نصَّب الغزالي من نفسه العدو الأول للفلسفة والعلم من حيث المبدأ في كتابَيه الأساسيَّين «تهافت الفلاسفة»، و«المنقذ من الضلال»، وكلاهما حملةٌ ضارية على الفلسفة والفكر العقلاني عمومًا، والمادي خصوصًا؛ بحيث إنه تطوَّع بتكفير الفلاسفة السابقين واللاحقين؛ فالمعرفة في ذاتها هي عدو الغزالي، مستكملًا تجارب الاتجاهات السابقة في معاداة الحركات العقلية في الإسلام.
والدكتور تيزيني على طول كتابه يؤكد على نقطتَين؛ أولاهما أن الفكر الإسلامي في العصر الوسيط كان تعبيرًا موضوعيًّا عن المجتمع العربي في ذلك الوقت، والثانية هي أن هذا الفكر — في أبهى نماذجه وأكثرها أصالة — كان منفتحًا على رياح الفكر الإنساني، لا من قبيل الترف وشهوة المحاكاة، وإنما تجسيدًا لاحتياجاتٍ فكرية أصيلة في تكوين المجتمع «إننا في الوقت الذي نرى فيه أن الثقافة العربية الإسلامية الوسيطة، والفلسفة والعلوم الطبيعية منها خصوصًا، قد تكوَّنَت إلى حدٍّ كبير تحت تأثير الثقافات الأجنبية، فإنها ظلت محتفظة بكونها ثقافة المجتمع العربي الإسلامي الوسيط، إنها لم تكن هجينة، كما يؤكد البعض من المثقفين العرب المعاصرين؛ ذلك لأن التأثر بعوامل أجنبية لا يعني إطلاقًا الوقوع في واقع «هجين» إذا استطاع ممثلو هذه الثقافة استيعاب هذه المسألة بعمق، إن واصل بن عطاء، والنظَّام، والجاحظ، والكندي، والفارابي، وابن سينا، والحلاج، وأبا العلاء المَعرِّي، وابن طفيل، وابن رشد، وابن خلدون هم جزءٌ جوهري من تراثنا الثقافي. هؤلاء لم يكونوا أبدًا نسخةً عن الثقافة اليونانية، أو الهندية، أو الفارسية، بل هم بالضبط مفكِّرو المجتمع العربي الإسلامي الوسيط» (ص٢٢٣).
ربما كان المنهج هو أهم عناصر كتاب الدكتور طيب تيزيني؛ فليس من شك أنه سيعود مرةً ومراتٍ إلى تفصيل ما أوجزه، وتوضيح ما غمُض عليه وترك أثرًا على بناء المصلطح الفلسفي إلى غير ذلك من ملاحظات الوقفة الصبورة للكاتب والكتاب. غير أنه يتبقى «المنهج» بمقدماته ونتائجه ونسيجه العام هو أثمن الكنوز في هذه الدراسة الرائدة بحق. لقد استطاع الكاتب بهذا المنهج أن يبتعد عن التعميم والتجريد والوقوف على السطح السياسي المباشر، ونجح في أن يحاور الفلسفة الإسلامية حوارًا فلسفيًّا، وقد عانينا فيما مضى كثيرًا من بعض الدراسات «التقدمية»، التي تتصور أنها قادرة، ببضعة مفاهيم مجرَّدة عن التاريخ والمجتمع، على مناقشة كافة مستويات المعرفية الفلسفية، مثل تلك التي لها خصائصها النوعية المستقلة، والتي تحتاج — حتى نكون على الخط لا نخلط — إلى المستوى الفلسفي في الحوار. هذا لا يعني فحسب أن يحتشد الكاتب لبحثه بركام مخزون من «المعلومات» الفلسفية، وإنما يعني في المقام الأول ألا يخلط بين المستوى الفلسفي والمستوى السياسي والمستوى والاقتصادي. إن هذه المستويات جميعها تظل في خلفية الصورة تشارك منهجيًّا في عملية التحليل دون أن تطفو على السطح، دون أن تتحول بالبحث الفلسفي أو النقد الفني إلى مقالٍ سياسي مرصَّع ببعض الأسماء والتعبيرات الفلسفية. كان الدكتور تيزيني في كتابه باحثًا فلسفيًّا، أولًا، دون أن ينال ذلك لحظةً واحدة من رؤياه الفكرية، التي صاغتها علومٌ أخرى كثيرة غير الفلسفة.
والنقطة الثانية في منهج هذا الكتاب المهم، أن تحليله اليساري للتراث الإسلامي لم يكن يستبق النتائج بمصادراتٍ عقائدية، وإنما كان يُتابع التفاصيل في تفاعلاتها المعقَّدة المتشابكة؛ بحيث إن الدراسة في جوهرها تُعد «خريطة فكرية» دقيقة للمجتمع العربي الإسلامي الوسيط، وقد اهتدت الخريطة برؤية ثورية في التفكير، ولكنها أضافت إلى هذه الرؤية رصيدًا غنيًّا من الشواهد «الخاصة» على صحة قوانينها العامة. لقد تجنَّب الدكتور طيب تيزيني، بثقافته وتكوينه، منزلقات التسطيح والفهم المُبتذَل للمادية التاريخية والمنهج الجدلي، فقدَّم وثيقةً تقدمية باهرة في مجال العلوم الإنسانية، وشارك في الحوار الدائر حول قضية التراث والعصر، من موقع الثورة.
(٣) التراث الشعري بين أيدي المجددين
عن الاتهامات التقليدية للشعراء المجددين أنهم أعداء التراث، وأنهم يلجَئون إلى ما يُسمُّونه «التجديد» عجزًا عن فهم التراث واستيعابه. وكان بعض الشعراء المعنيين يردُّون على الاتهام بأنهم قادرون على النَّظْم التقليدي، مستشهدين في ذلك بقصائدهم القديمة، أو أنهم ينظمون قصائد «جديدة»، على النسق العمودي، برهانًا على هذه القدرة. وفي تقديري أن هذا كان ردًّا ضعيفًا؛ لأن شعراءنا الجدد — كما سنتبيَّن ذلك في الفصل الخامس من هذا الكتاب — قد افتتَحوا صفحةً جديدة في تاريخ الشعر العربي، وأن هذا الفتح قد تضمَّن مفهومًا حديثًا للتراث يغاير جذريًّا المفهوم القديم؛ أي إن شعرهم الجديد نفسه هو شهادة ارتباطهم بالتراث، ولكن على نحوٍ مختلف عن ارتباط الشعراء التقليديين بهذا التراث. وسوف نتبيَّن أن مفهوم شعرائنا المحدَثين للتراث هو أعمق ارتباطًا به وأكثر وفاءً وتقديرًا له، لأنهم رفضوا أن يكون التراث مجموعةً من القيَم الشكلية، ورفضوا أن يكون الخليل بن أحمد هو الألف والياء في اكتشاف موسيقى الوجود، ورفضوا أن تكُف الحياة عن التطور فيتوقف نبض الشعر بأهازيج جديدة تتطلب أشكالًا جديدة، ورفضوا أن يكون الشكل منفصلًا عن المضمون، في إطارٍ من القيم الوزنية الثابتة، التي لا تتغير مهما تغيَّرت الدنيا داخل القصيدة. وقد كان كافيًا للشعراء المجدِّدين أن يكون شعرهم هو شهادة ارتباطهم الأعمق بالتراث، ولكنَّ بعضًا منهم أراد أن يقدِّم برهانًا لا يقبل الشك من جانب السلفيين، فقدَّم لتراث الشعر العربي مباشرةً أجلَّ تحية يمكن أن تُقدَّم له، وهي دراستُه وتبيان مدى أصالته ومعاصرته، بمقاييس فنية خالصة، لا تغفُل عن المراحل التاريخية التي أثمرَت هذا التراث، ولا تسهو عما يمكن أن يُغالبَ منه الزمن ويبقى.
وكان علي أحمد سعيد «أدونيس» من أوائل شعرائنا المجددين، الذين اهتموا بتقديم تراثنا الشعري تقديمًا مغريًا بالتذوق للأجيال الجديدة، التي لم تنَلْ في ظل أنظمتنا التعليمية الرديئة قدْرًا من المعرفة اللغوية وإرهاف الحس، يؤهلها لإدراك خبايا ذلك التراث. والمعروف أن أدونيس ورفاقه من الشعراء الجدد طليعة المتهَمين بمعاداة التراث، وإذا به ينجز عملًا تاريخيًّا هو «ديوان الشعر العربي»، الذي أكَبَّ فيه على استخلاص أروع الكنوز المخبوءة في شعرنا القديم، وهو الأمر الذي لم تتوفَّر عليه أجهزة ومؤسَّسات الوطن العربي التي جنَّدَت لتعليم الأدب العربي — في الأغلب الأعم — أقدر الأساتذة على بث الكراهية للتراث العربي. ولم يدَعْ أدونيس قارئ «ديوان الشعر العربي»، بأجزائه الثلاثة، يغرَق في دوَّامة المعاني المكثَّفة، بل أنار له الطريق بثلاث مقدماتٍ ضافية تدل على استبصارٍ عميق بروح الشعر، وفهمٍ تاريخي لوظيفته، ونسبٍ شرعي إلى هذا التراث.
ولقد أثمر المنهج الانطباعي الذي عمَد إليه أدونيس، في تحليل «الماضي»، بدءًا من القصيدة الجاهلية حتى مشارف العصر الحديث، نظراتٍ نافذةً فاحصة لشعرنا تجذبنا إلى قراءة هذا الشعر حقًّا، وقد استولى هذا الهدف النبيل على الكاتب، لدرجة لم تسمح له ولنا بأن نستنبط قانونًا عامًّا، أو قوانينَ نوعية، تفسِّر روح الإبداع التي رفرفَت على أعظم آيات هذا التراث، و«جوهر الانحطاط» الذي ران عليه إبَّان عهود التخلف. لقد عزل أدونيس كافة العناصر التي تُسهِم في عملية الخَلْق الفني من خارجه، وأطال التأمل داخل القصيدة بحيث استغرقَته إيماءاتها الفكرية وشحناتها العاطفية الوهَّاجة. وكان ذلك — دون ريب — على حساب أشياء كثيرة:
هذه مجرد عناوين للملاحظات التي يمكن أن يُبديَها المرء على هذا الكتاب «الحيوي»، والذي قدَّم صاحبه لتراثنا الشعري أجلَّ تحية يمكن أن تُقدَّم له.
ولولا طابع العجلة التي اتسم بها هذا الكتاب، لجاء تقييمًا شاملًا للشعر العربي القديم، إنه لم يتجاوز بشكله الراهن مرحلة «النواة»، لتأليف كتابٍ أكثر تفصيلًا وعمقًا، ولكن يظل «المنهج» عند صلاح عبد الصبور، مؤشرًا حاسمًا على صحة الطريق الطويل، الذي بدأه بخطوة واحدة.
بعد هذا، فإن كلا الكتابَين «مقدمة للشعر العربي»، و«قراءة جديدة لشعرنا القديم» يُعَد برهانًا لا يقبل الشك، على أن شعراءنا المجدِّدين كانوا أكثر وفاءً للتراث العربي، من أولئك الذين يفضِّلون البكاء على الأطلال.
(٤) الأدب المقارن: غربال التراث
ولولا الرؤية السياسية الرجعية والعنصرية، التي سادت ردود محمود شاكر، لاستفاد لويس عوض من بعض الآراء التي أُبديَت حينذاك حول المادة المطروحة للنقاش. ولن أخوض هنا في غمرة اللجاج الذي حدث، وإنما أودُّ أن أتوقف عند جوهر ما حدث، إن الأدب المقارن، فوق أنه أحد العلوم الأدبية المتقدمة، هو أداةٌ منهجية في التعرف على مدى أصالة الظواهر الأدبية، ورصد التفاعلات التي تقوم بينها وبين غيرها من الظواهر المتشابهة أو المتعارضة؛ ومن هنا، فإن مجرد استخدام هذه الأداة في تقييم تراثنا يصيب السلفيين بهلع وذعر بالغَين؛ لأنهم يتصورون هذا التراث بمعزل عن المؤثرات «الأجنبية»؛ فهو مكتفٍ بذاته، يملك القدرة على العطاء، ولكنه يمتنع عن الأخذ. إنها رؤية تجعل من التراث «مطلقًا تجريديًّا ومقدسًا إلهيًّا» إن جاز التعبير. وهي رؤيةٌ عنصرية حين لا ترى في تراثات الآخرين ما يستحق الأخذ، رغم أنها تراثاتٌ إنسانية؛ هذا بيت القصيد، كما يُقال، في تلك الحملة الضارية التي أشعلَها الإسلاميون المتطرفون ضد لويس عوض؛ فالقراءة الموضوعية للكتاب لا تُبرِّر، بأية حال، حجم هذه الحملة، التي توازت آنذاك مع النشاط الرجعي المتطرف في مصر، والذي بلغ ذروته في أحداث ١٩٦٥م.
إن كتاب لويس عوض، على النقيض من الصورة المضلِّلة التي أُعطيَت له، يؤكد تأثر دانتي في كوميدياه الإلهية بقصة المعراج في مصادرها الإسلامية من ناحية، وبرسالة الغفران للمعَري من ناحيةٍ أخرى. وهو في هذا الصدد يلتقط الدقائق والتفاصيل الصغيرة، ليؤكد أسبقية المعَري والقصة الإسلامية على كوميديا دانتي (راجع ص١٢٠ وما بعدها)، ولكن هذا لا ينفي، من جهةٍ ثانية، أن المعَري قد أفاد من التراث الإنساني عند اليونان واللاتين الشيء الكثير. وقد أفرد لويس عوض فصولًا عديدة من كتابه، استعرض فيها مشاهد العالم الآخر في الآداب القديمة، الإغريقية والرومانية، وقد سبقَت بكل تأكيد عمل المعَري. والمقارنة بين العالمَين تؤكد أن المعَري كان مثقفًا كبيرًا وعقلًا عظيمًا تفتَّح على التراث البشري. والتفاعل بين تراثات العالم لا يحرم الفنان العظيم من الأصالة، بل يؤكدها ويدعمها. هكذا كان دانتي شاعرًا إيطاليًّا عظيمًا، رغم تأثره بالتراث الإسلامي، وهكذا كان المعَري شاعرًا عربيًّا عظيمًا، رغم تأثره باليونان والرومان. بل علينا أن نحذف كلمة «رغم» هذه ونستبدلها بكلمة «بسبب»؛ لأن التأثر هنا كان تعبيرًا أصيلًا عن احتياج هذه الثقافة أو تلك إلى أودية وشرايين الثقافة الإنسانية العامة، وربما كان قانونًا نستطيع استخلاصه من تاريخ الثقافة — والأدب المقارن — أداة نهجية في هذا المضمار هو أن أصالة الظاهرة في معاصرتها، ومعاصرتها في أصالتها، ما دامت الأصالة والمعاصرة كلتاهما تجسيد للاحتياجات الموضوعية في «الواقع». يقول لويس عوض عن دانتي «إن الفكرة الأساسية عن النعيم، كفكرته الأساسية عن الجحيم، ليست مأخوذة عن التراث اليوناني والروماني الذي تثقف به، ولا عن التراث المسيحي الذي نشأ فيه، ولكن مأخوذة عن التراث الإسلامي الذي درَسه، وتمثَّله، وانتفع بأهم رموزه، مهما كان قد حوَّره هنا وهناك ليناسب معتقداته المسيحية. ولا شك أن مصدر دانتي الأول كان قصة المعراج، والراجح أيضًا أنه كان دراسًا للقرآن الكريم، وليس بمستبعد أنه كان عارفًا برسالة الغفران على نحوٍ ما، وربما بغيرها من عيون أدب الدنيا والدين في العالم العربي» (ص١٦٨).
وبعد أن استعرض التفاصيل المشتركة بين المعري وبعض أدباء اليونان والرومان القدامى يكتفي بالتساؤل «أليس من حقِّنا بعد كل هذا أن نتساءل من أين جاء المعَري بكل هذه المواقف والمشاهد والصور، ما دام لم يَرِد لها ذكر في المصادر الإسلامية؟ ثم أليس من حقنا بعد كل هذا أن نفترض أن المعَري كان مثقفًا في تراث اليونان القديمة، شأنه في ذلك شأن الكثيرين من أدباء عصره، وأنه قرأ هوميروس وأرسطو فانيس وأوسيان على أقل تقدير، سواء في ترجماتٍ عربية ضاعَت أو في نصوصها الأصلية؟ بل أليس من حقنا أن نشتبه في أن المعَري كان عارفًا بلغة اليونان، يقرأ فيها أدب اليونان، بعد كل ما رأيناه من وصف البيئة المحيطة به ومن وصف نشأته وتعليمه الرسمي» (ص١٣٧)، هل هذا التقييم افتئاتٌ على المعَري أم أنه تقديرٌ عميق؟ وهل يقلِّل من قيمة دانتي — مرةً أخرى — أنه تأثر بالأدبيات العربية الإسلامية، أم أن هذا مصدر فخَارٍ له ولقوَّته؟ إن جوهر الأدب المقارن هو أنه قائم على الإيمان العميق بإنسانية التراث وتاريخيته؛ فهو علمٌ مُعادٍ للعنصرية؛ لذلك كانت ثائرة الرجعية عند صدور كتاب لويس عوض، وليس بسبب خطأ هنا أو هناك من أخطاء الشكل الأكاديمي.
(٥) صراع المتناقضات في صفوف الفكر العربي
لا شك أن «تأليف» كتاب، أو «تدبيج» مقال، يختلف عن الحوار المباشر في ندوة أو حفلةٍ دراسية أو مؤتمر. وبالرغم من الأهمية البالغة لصدور الكتب ونشر المقالات، إلا أنها في خاتمة المطاف هي التعبير «البارد» عن آراء أصحابها، بمعنى أنها فازت بفرصة النظر والترتيب وإعادة الترتيب؛ بحيث باتت لا تجسِّد فحسب رأي الكاتب، وإنما «حساباته» أيضًا مع المجتمع والسلطة، وظروفه الخاصة، إلى غير ذلك من مواضعات تشارك في عملية «التأليف» الهادئ المستقر بين أربعة جدران مغلقة.
أما الندوات والحلقات والمؤتمرات، صغر حجمها أو كبر، فبالرغم من طابع الارتجال الذي يسودها في الغالب — أو بسببه — فإنها تُمد الحوار بحرارةٍ حقيقية، هي حرارة الصدق في التعبير عن النفس، مهما احتاط صاحبها وحاذَر؛ فالمفاجآت التي تتوالد تلقائيًّا أثناء النقاش تخلع كافة القفازات والأقنعة، وتكشف إلى حدٍّ كبيرٍ عن الاتجاه الحقيقي للمتكلم. حتى إذا أعد ما يُسمَّى بورقة العمل، فإن سؤالًا من هنا أو هناك يقلب المائدة أحيانًا كثيرةً رأسًا على عقب، خاصة وإذا كانت الندوة أو الحلقة أو المؤتمر مفتوحًا لجمهورٍ واسع.
ولقد أُتيح لي أن أشهد بنفسي، وأعيش هذا الجو الحار حول قضية التراث، في أكثر من ملتقًى؛ لهذا أرى من المفيد القيام بجولة بين أبرز معالم هذه اللقاءات، حتى نزداد قربًا من الصورة الحقيقية — بقَدْر المستطاع — لصراعات الفكر العربي، في هذا الميدان المليء بالألغام والأسلاك الشائكة.
(أ) التراث للتراث أم التراث للحياة؟١٠⋆
وأولى إيجابيات هذه الحلقة أنها بداية الأسلوب العلمي السليم في إحياء «الحياة الأدبية» من مواتها، وذلك بأن ندخل مرحلة الحوار الموضوعي المؤسَّس على العلم بدلًا من المهاترات الشخصية المؤسَّسة على العاطفة. وفي أحيانٍ قليلة غلب الانفعال العاطفي على لهجة بعض المحاضرين — ولا أقول مادتهم — سواء عن حرصٍ حقيقي على التراث أو عن مواقف شخصية، ولكن المناخ العام للحلقة كان مناخًا علميًّا أصيلًا، وإن تعدَّدَت الاتجاهات الفكرية التي تضبط إيقاعه بين المحافظة والتجديد؛ فبالرغم من أنه لم يكن هناك مناقشاتٌ للأبحاث التي أُلقيَت، فإنه كان يسيرًا أن ندرك تعدُّد وجهات النظر وتنوُّعها. والحلقة بذلك أقرب ما تكون إلى «الصورة الموضوعية» لقضية التراث. وكان من الممكن أن تكون أكثر قربًا من هذه الصورة، لو أن هناك من أصحاب الاتجاهات الأخرى متخصصين في هذا الفرع أو ذاك من فروع التراث.
والنقطة الإيجابية الثانية هي أن الحلقة خلَت من مؤشرَين خطيرَين؛ أولهما «البكاء على الماضي»، والآخر «التشنُّجات الشوفينية»؛ فالخطر الأول يهدد بأسوأ ألوان الرومانتيكية، التي تُدغدِغ الحواسَّ بما يشبه استعذاب الألم، والاستكانة على جدار من الذكريات يقف حاجزًا منيعًا بيننا وبين رؤية الحاضر، فضلًا عن المستقبل. والخطر الثاني يُهدِّد بأسوأ ألوان التعصُّب، الذي يدغدغ الحواس أيضًا بتضخيم الذات، والتورم القومي، والاستناد على أوهام متخلفة من الحسب والنسب، تقف حاجزًا منيعًا بيننا وبين رؤية ذاتنا على حقيقتها. ولا شك أن الانفصال عن الحاضر بالتباكي على الأطلال، وجنون العظمة بالتعصب القومي، هما أخطر الأخطار التي يمكن أن تواجه أمةً كأمتنا في محنةٍ كمحنتنا. ولا أقول إن جميع الأبحاث خلَت من هذَين المؤشرَين، ولكني أركز على المناخ العام للحلقة، وقد نجح فيما أعتقد بالتخلص المعقول منهما.
والنقطة الإيجابية الثالثة أن الباحثين، في مجموعهم، أقدموا على ما يُسمَّى بالنقد البنَّاء لموقفنا السلبي من التراث، وكان من الممكن امتدادًا لهذا النقد أن تناقش الحلقة سلبيات التراث، لولا أن التخطيط للحلقة فيما أتصور كان يستهدف المناقشة من زاوية «التراث للتراث»، لا من زاوية «التراث للحياة». وفي تصوري كذلك أن هذا ليس عيبًا من الناحية العملية؛ إذ لا بد من مرحلة «التراث للتراث»، التي تشتمل على محاولة اكتشافه، والعثور عليه، وتوثيقه، ونشره على الكافة، ولا بد أن تأتي بعدئذٍ مرحلة «التراث للحياة»، التي تشتمل بدورها على تقييمه واستلهامه، بإقامة الصِّلات غير المفتعَلة بينه وبين الناس. ومن الناحية الموضوعية تحتاج هذه القضية إلى حلقةٍ جديدة وتخطيطٍ مختلف. أما في حدود الهدف العام المفترض — من جانبي — لهذه الحلقة وهو «التراث للتراث»، فقد أوفَى معظم الباحثين هذا الجانب حقه، من النقد لموقفنا السلبي المسرف أحيانًا في سلبيته.
هذه الإيجابيات العامة، وغيرها كثير، مما يصادفنا خلال عرضنا للبحوث التي أُلقيَت، لا تخرج عن دائرة المنهج الشامل في مناقشة «التراث للتراث»، منهج الانحصار في مادة القضية المطروحة للبحث داخل الإطار الوصفي التقريري، ولما كانت بعض البحوث تخرج عن حدود هذه الدائرة الأكاديمية، كانت تنتفي عنها على الفور هذه السمات الإيجابية التي تميزَت بها الحلقة في مجموعها. ومن اليسير كما قلتُ أن نتبين الاختلافات المنهجية بين الباحثين، وهي الاختلافات التي تكاد تشكل تياراتٍ فكريةً متعددة بين أبناء القضية الواحدة.
وفي حدود الهدف العام من الحلقة، كان ضياع التراث العربي بين مكتبات العالم ومتاحفه، أهم النقاط التي أُثيرت؛ فقد أعلنَت الدكتورة عائشة عبد الرحمن أنها اكتشفَت، في مكتبة فيينا وحدها، وجود مائة برديةٍ مصرية قديمة، وعشرة آلاف برديةٍ إسلامية حول الفتح العربي لمصر. ولما تصفَّحَت دفتر الزيارات لهذه المكتبة لم تجد سوى اسمَين عربيَّين مرَّا بها مرور الكرام. وأبرزَت الباحثة دور الجهل لدى شيوخ المساجد وخدَم المدارس والكنائس، الذين باعوا أغلى الكنوز العربية من المخطوطات بأبخس الأثمان. ولم نحاول إلى الآن استرداد هذه المخطوطات استردادًا مجازيًّا، بتصويرها وتحقيقها وترجمتها، إن تعذَّر وجود النسخة العربية ثم نشرها. وأضافت أنه بدلًا من ذلك أفسحنا الطريق واسعًا أمام الموسوعات «العربية» الصادرة عن المؤسسات الأجنبية ذات الأغراض المشبوهة، حتى ترتبط الأجيال العربية جيلًا بعد جيل بعجلة وجهات نظر الآخرين أطولَ فترة من الزمن، بينما لا تزال دائرة المعارف الإسلامية، التي بدأ تدوينها عام ١٩٣٤م، في ضمير الغيب، لا أحد يدري ماذا تم بشأنها بعد مُضي ٣٥ عامًا، كل ما ندريه أنها لم تُنشر بعدُ لسببٍ بسيط، هو أن علماءنا والأجهزة المشرفة عليها لم تصل بها إلا عند حرف الطاء. وفي هذا الصدد ذكر الدكتور عز الدين فودة أن كتابًا يتيمًا مجهول المؤلِّف يهمُّ الباحثين، عن قضية الخوارج، حول فرقة «النجدات»، لا تُوجَد منه سوى نسخةٍ واحدة في جامعة ليننجراد، ولم تكلِّف جامعاتُنا نفسَها بتصوير هذا النص وتحقيقه ونشره. وبالرغم من أن المجمع العلمي في دمشق قد نشر في مجلته «عدد يوليو ١٩٤٣م» قائمةً بأهم مخطوطات تراثنا في الفكر السياسي بإستانبول، فإن جهةً ثقافيةً عربيةً واحدةً لم تتحرك، منذ ذلك الوقت، بحثًا وراء هذا التراث. بينما قامت الجامعة العبرية في إسرائيل بعمل أول معجَم مفهرَس للشعر العربي منذ الجاهلية إلى الآن. وأخرج الدكتور فودة من حقيبته كتابًا بالفرنسية لشاعرٍ عربي يهودي هو «أبو الحسن العلوي» نشرَتْه إسرائيل، باعتباره واحدًا من الذين حمَوا التراث العبري من الضياع. وقال الدكتور محمود أحمد الحفني إنه تُوجد أكثر من ١٥٠٠ مخطوطةٍ عربية بإحدى دور الكتب الأوروبية، في مختلف العلوم والفنون، لم تُدوَّن في فهارس، ولا يعلم بها أحد. وذكر الدكتور كمال بشر أن معجمًا عربيًّا تقوم عليه إحدى الجهات، منذ سنين، لا يزال عند حرف الهمزة، ولو أن الأمور سارت على هذا النحو، فأغلب الظن أننا سنصل عند حرف القاف بمناسبة «يوم القيامة»، كما علَّق ساخرًا. أما الدكتور عبد الصبور شاهين فيقرِّر، في حزنٍ عميق وصادق، أنه «لو سارت عملية نشر تراثنا المخطوط بهذا المعدَّل البطيء، فأغلب الظن أن أجيالًا كثيرة من بعدنا سوف تنقضي دون تحقيق الأمل. لا بد من معاهدَ متخصِّصة وأقسامٍ علمية تقوم على دراسة تراثنا ونشره، بإمكانياتٍ سخية تبذلها الدولة للجامعات والمعاهد المختلفة، لترغيب شباب الباحثين في مواصلة الشوط إلى نهايته، والاستمتاع بلذة العمل في خدمة التراث.» ليس عيبًا أن يدرس الآخرون — ومنهم اليهود — تراثنا، ولكن العيب ألا نشاركهم هذه الدراسة؛ فنحن أولى بها، أما الجدارة فمعيارها العلم وحده. إن إحياء التراث يتخذ مدلوله الحقيقي ابتداءً من حصر ما لدينا ولدى العالم من تراثنا، ثم فرزه وتبويبه وتصنيفه إلى تيسير قراءته — كما هو — لعامة المثقفين وكافة طبقات الشعب، إنْ كان ذلك ممكنًا، ثم تقييمه في حلقاتٍ دراسية كهذه، وبحوثٍ مستقلة فردية وجماعية، تقييمًا دقيقًا في متناوَل اليد، وأخيرًا استيحاؤه في الأعمال الفنية، ليُسهِمَ في تشكيل الوجدان الشعبي المعاصر.
ولا مانع بطبيعة الحال من أن نسلك في تطبيق هذا المنهج سلوكًا يتسم بتعويض ما فات؛ فلا ضرورة لأن يتم على مراحل، ولكن لا بد من التمييز بين كل عملية وأخرى، حتى لا تختلط الأمور وتضيع القضية الحقيقية؛ فاكتشاف المخطوط، وتوثيقه بالتصوير والتحقيق والنشر، مهمةٌ تختلف في الكثير عن دراسة المخطوط دراسةً اجتماعية أو فلسفية أو سياسية أو تاريخية أو فنية؛ فالأولى مهمة المحقِّقين، والأخرى مهمة المفكِّرين والنقَّاد والفلاسفة. المهمَّتان معًا تختلفان عن الخَلْق الفني الذي يستوحي النصوص ويتجاوزها بالتفسير الخاص والخيال المشروع، وتلك هي مهمة الأدباء والفنانين من شعراء وروائيين ومسرحيين وموسيقيين وتشكيليين.
وبعيدًا عن قضية «توثيق» التراث اختلَفت مناهج الباحثين في هذه الحلقة إزاء ثلاث مشكلاتٍ رئيسية؛ الأولى هي قضية التفاعل الحضاري بين الشعوب، والأخرى هي الموقف من المستشرقين، والثالثة هي الموقف العلمي من التراث المتداوَل فعلًا، وكان واضحًا منذ البداية أن هناك بالنسبة للقضية الأولى تيارَين؛ أحدهما يرى الدنيا أخذًا وعطاءً لا ينقطعان، والآخر يرى أننا أعطينا النور ولم نأخذ سوى الظلام. وإلى التيار الأول ينتمي الدكتور إبراهيم بيومي مدكور، الذي يقول تحت عنوانٍ دالٍّ هو «الفلسفة الإسلامية حلقة في سلسلة الفكر الإنساني»: إن «الثقافة الإنسانية ذات موارد متعددة بين شرقية وغربية، وما أشبهَها بنهرٍ جارٍ تصب فيه فروعٌ مختلفة، وهو في مجراه يتغذى آفاقًا جديدة، ويبعث طاقاتٍ شابة، وتحرص الحضارات المختلفة على تعرُّف أمجاد الماضي والأخذ عنها، بصرف النظر عن أصولها ومصادرها.» وقديمًا قالوا: «العلم لا وطن له»، وإحياء التراث ليس وقفًا على جيل أو على أمة بعينها. «ويوم أن آمنَت الإنسانية بتراثها تضافرَت على إحيائه، دون تعصُّب لجنس أو تحيُّز لقومية»؛ «ومن هنا كان تعاقُب الثقافات وأخذُ بعضها عن بعض»، بهذا التأكيد على فكرةٍ واحدة في مواضعَ مختلفة من بحث الدكتور مدكور، ينتفي في مخيِّلتنا على الفور، طيلة الرحلة التي يصطحبنا فيها مع تأثيرات ابن سينا وابن رشد على الثقافة اللاتينية، أية التباساتٍ من شأنها أن تُغمِضَ عيوننا عن حقيقة الدورة الجدلية، دورة الأخذ والعطاء، بل إن هذه الدورة التي تكاد في بعض تطبيقاتها أن تتحول إلى ما يشبه القانون العلمي، هي التي تخفِّف عن وجداننا وطأة الشعور بالنقص أمام التفوق الحضاري الراهن للغرب، لعلمنا أن حضارتنا قد أسهمَت يومًا بعُصارتها في تغذية الحضارة الأوروبية، فمن حقنا اليوم أن نستمد من هذه الشجرة ما نحتاج إليه من عُصاراتٍ قادرة على تغذيتنا وتطويرنا. إن عالمية الثقافة وإنسانية الحضارة هما وحدهما اللتان تدفعاننا إلى الإيمان بقيمة وأهمية التفاعل الحضاري بين تراثات الشعوب. وفي هذا الصدد قال الدكتور أحمد هيكل في بحثه عن «تراثنا الأدبي والأدب الأوروبي»: «إذا كان أدبنا العربي يتأثر اليوم بالآداب الأوروبية، ويستمد بعض الخصوبة والنماء، فقد أثَّر بالأمس في تلك الآداب تأثيراتٍ منحَتْها القوة، وأكَّدَت أن الآخذ مسبوق بالعطاء»، «وقد كان الدارسون الأوروبيون أنفسهم أول من أدرك هذه التأثيرات العربية الخِصْبة في الآداب الأوروبية، يدرُسونها ويُشيدون بها منذ القرن الثامنَ عشَر. ومن الطريف أن يكون أهم هؤلاء المسجِّلين لفضل التأثيرات العربية من رجال الدين المسيحي الأوروبيين، من أمثال الأب خوان أندريس، القس والعالم الأوروبي المُنصِف».
يؤكد الباحث على هذا المعنى حتى تخلوَ وجداناتنا من العُقَد ومركَّبات النقص، فإذا رافقنا الدكتور هيكل في بقية البحث إلى الأندلس، فلن يستخف بنا الطرب بما أثَّرنا به في الآداب الأوروبية شعرًا ونثرًا، وإنما سوف ندرك حقيقةً مهمة، هي أن ما نتأثَّر به اليوم من منجَزات الآداب الأوروبية وتجديداتها، هو من بعض جوانبه جزءٌ منا، وليس غريبًا علينا؛ وبالتالي فليس «نقلًا»، ولا «اقتباسًا» ما نُدخِله على أدبنا من تجديداتٍ استحدَثها الغربيون المعاصرون، وإنما هو استكمال الدورة الجدلية للتفاعل الحضاري بين الشعوب. وعلى غير هذا المنهج سار فريقٌ آخر من الباحثين في أبحاثهم، كالدكتور بدوي طبانة، الذي تكلم عن «تراثنا النقدي» فحمَّله أكثر مما يحتمل، حين جعل لكافة المناهج الغربية الحديثة في النقد الأدبي أصولًا واضحةً في التراث العربي. هكذا يصبح الالتزام وحرية الفن كلاهما فكرتَين «قال بهما نقاد العرب منذ زمنٍ بعيد». ويسبق الدكتور طبانة عبارته بهذه الكلمات الفاصلة: «والذي نقوله في غير تحفُّظ»، ثم يتعسَّف مع النصوص تعسفًا ظالمًا للنقَّاد العرب، وغيرَ منصفٍ لنقَّاد الغرب، حين يستشهد بآراءٍ لقُدامة سبق بها بيرك الإنجليزي وكروتشه الإيطالي، وآراءٍ للجاحظ سبق بها فولتير. وقد نسي الباحث أن معايير «الاكتفاء الذاتي» لا تنطبق على الحضارات والثقافات، ولا يمكن لمفاهيم شديدة الحداثة والمعاصرة، كالالتزام والشكل والمضمون وحرية الفن، أن تكون ذات أصولٍ واضحة في التراث العربي، لاختلاف العصر الحديث وهمومه عن العصور القديمة لشيءٍ آخر؛ فالحق أنه إذا كان الأدب العربي قد أثَّر في الأدب الأوروبي بالموشَّحات الأندلسية وأقاصيص ألف ليلة وليلة وغيرها، فإنه بعيدٌ عن ظن العلم حتى الآن أن يكون للنقد العربي أية تأثيراتٍ على مدارس النقد الغربي الحديثة والقديمة؛ ذلك أن التراث اليوناني والروماني كان سخيًّا في هذا الميدان على وجهٍ خاص، ويُعد أرسطو بالذات أبًا شرعيًّا لمختلف اتجاهات النقد الأوروبي أمدًا طويلًا من الزمن؛ فقد ظل هذا النقد مجرد تفريعات وتهميشات على كتاب الشعر لأرسطو حتى ما يُعرف بعصر التنوير. وإذا كان علماء الثقافات المقارنة قد حسَموا الكثير من مؤثِّرات الثقافة العربية على الثقافة الغربية، فإنهم حتى الآن لم يطرحوا للبحث — فضلًا عن أن يحسموا — قضية التأثير بالنقاد العرب. ولما كان الدكتور بدوي طبانة لم يأتِ في بحثه بشاهد أو بدليل على هذا التأثر، فإن المرجَّح هو أن الباحث ممن يرفضون فكرة «التفاعل» ويُؤثِرون فكرة «العطاء» بغير أخذ. وهي الفكرة المنطلقة من تصوُّر «الاكتفاء الذاتي» عند العرب، على الصعيد الحضاري.
والقضية الثانية التي أفصحَت عن وجود أكثر من تيار بين الباحثين، هي الموقف من الاستشراق والمستشرقين. وقد قادت الدكتورة بنت الشاطئ تيارًا ضاريًا في عنفه وهجومه على المستشرقين، فاتهمَتْهم بالتُّهم التقليدية المعروفة، التي تبدأ من التبشير بالمسيحية، إلى العمالة الصريحة للاستعمار؛ أي الجاسوسية. وحاول بعض الباحثين أن يكونوا أكثر موضوعية، فقالوا بأن المستشرقين في أغلبهم علماء أجلاء، ولكنهم ذوو نوايا خبيثة تغلِّف كل ما يكتبون؛ فهم يشكِّكون عن طريق العلم في قيمنا ومقوماتنا الأساسية، وتفاوتَت الحملة على الاستشراق في درجات عنفها، حتى كاد الدور الذي قام به — ونتباهى نحن بنتائجه، حين نقول إننا أثَّرنا في الحضارة الغربية بكذا وكذا — أن يختفيَ تمامًا وراء ضبابٍ كثيف. إلا أن أساتذةً آخرين، كالدكتور بيومي مدكور، وقف ليشيد بجامعة أكسفورد، التي قامت في الربع الأول من هذا القرن بحركةٍ موفَّقة، ترمي إلى تسجيل التراثات القديمة، بما فيها التراث المصري عامة والإسلامي خاصة، وتم لها ذلك في حوالي عشرين عامًا، وكذلك جامعة هارفارد، التي أوكلَت إلى جورج سارتون مهمة تسجيل العلم منذ نشأته إلى اليوم، واضطلع ثور ندايك في جامعة كولومبيا بتاريخ السحر والعلوم التجريبية. ولا يختتم الدكتور هيكل بحثه قبل أن يذكُر بكل تقديرٍ وإجلالٍ عشرات الأسماء التي أسهمَت، في حيادٍ دقيق وموضوعيةٍ صارمة، في توثيق التراث العربي ونشره ودراسته. ويقول الدكتور محمود حنفي إنه «كما ظهر فضل المستشرقين من علماء الآثار في الكشف عن أسرار الحفريات وكنوزها التاريخية، فقد كان للمستشرقين أيضًا فضل البحث عن التراث العربي في مختلف النواحي، فنقَلوا الكثير من المصنَّفات العربية القديمة إلى لغاتهم، حتى ليمكن القول بأن أهم ما أنتجَه الفكر العربي أصبح معروفًا لدى كثيرٍ من الشعوب.» بل إن الدكتورة بنت الشاطئ نفسها تذكُر قصة المستشرق الروسي، الذي أمضى سنوات عمره بحثًا وراء كتاب ابن ماجد الذي كان يقود سفينة فاسكو دي جاما.
ولا ريب أن هناك عواملَ نفسيةً كامنةً في لاوعينا تشارك في تقييمنا لدور الاستشراق والمستشرقين؛ فالحروب الصليبية وغياب الدولة الأندلسية كان لهما أسوأ الأثر في تشكيل نظرتنا إلى الغرب عامة. ولعل هذا ما يفسر ظلال الشك التي تسيطر على أعصابنا كلما طرحنا أو طُرحَت أمامنا إحدى العلاقات الثقافية بيننا وبين أوروبا؛ فإما أن نقول إنهم أخذوا عنا كل شيء، وإما أن نَدمغَ بعض الأدوار المضيئة لفريقٍ مهمٍّ من المستشرقين بالعقم والبطلان. ولعل هذا أيضًا ما يفسر التطرف في الجانب المقابل؛ أي في التبعية الكاملة لكافة ما قالوا به من أفكار حول تراثنا. والطريق الصحيح إلى تقييم الاستشراق على مدى تاريخه هو الاستنارة بالظروف الخاصة بنا، وبكل اتجاه من اتجاهات الاستشراق على حدة؛ فلا ريب أن بعض هذه الاتجاهات كان يرمي إلى تشويهنا، ولكن البعض الآخر أدى لنا أجلَّ الخدمات، بل إن هذا البعض الآخر يشكل الغالبية العظمى من المستشرقين. ويجب أن نفرِّق جيدًا ودائمًا بين الخطأ الذي يمكن أن يقع فيه المستشرق، كأي عالمٍ معرَّض للخطأ لسببٍ أو لآخر — وأهم الأسباب أنه يعالج تراثًا أجنبيًّا عنه — وبين سوء النية والخبث والتضليل المتعمَّد. وكذلك يجب أن نفرِّق بين معاهد الاستشراق في بعض البلدان الاستعمارية؛ حيث تتحول الدراسات العربية إلى أقنعةٍ جاذبة للتسلل إلينا، ومعاهد الاستشراق في العالم الاشتراكي؛ حيث تتحول هذه الدراسات إلى دعاماتٍ حية للعلاقات الصحية بين الشعوب.
والقضية الثالثة التي أوضحَت الأبحاث فيها الاختلافَ المنهجي الحاسم بين بعض الباحثين، هي قضية الموقف العلمي من التراث؛ فتحت عنوان «التراث العربي ودوره في إصلاح الإنسانية» تحدث الدكتور أحمد شلبي في المجال السياسي قائلًا إن الإسلام قضى على التوارث في الحكم، وأسَّس نظام الشورى حتى تصبح العصمة للأمة في مجموعها لا في الفرد أيًّا كان. وقد منع الإسلام الحاكم وأعوانه من أن يدخلوا الصفقات العامة بائعين أو مشترين، كما حرَّم عليهم قبول الهدايا «وكان المعروف قبل الإسلام أن المالك هو الحاكم؛ ففي النظام الإقطاعي بأوروبا كان مالك المقاطعة هو حاكمها، وفي الجزيرة العربية كان شيخ القبيلة هو محورها في السياسة والاقتصاد، فلما جاء الإسلام قطع بين السياسة والمال، ولم يجعل المال قط وسيلة للوصول لكراسي الحكم، وشهدنا طبقةً من الحكام المسلمين هم إلى الفقر أقرب منهم للغنى، كالنبي محمد وأبي بكر وعلي، ولم يصبح المُلَّاك حكامًا في الإسلام بسبب غناهم إلا في عهد ضعف التفكير الإسلامي، بسبب الهزائم التي مُنيَت بها مبادئ الإسلام أمام زحف التيارات الثقافية الخارجية.» وكانت الضرائب قبل الإسلام واجبةً على الفقراء يؤدونها للأغنياء، فقضى الإسلام بالتسوية بين الجميع في دفع الضريبة لبيت المال. واستطرد الدكتور شلبي في ذكر مآثر الإسلام على التربية والأسرة والعلاقات الاجتماعية. أما الدكتور عز الدين فودة، فقد افتتح محاضرته بقوله إنه لم تكن هناك نظريةٌ سياسية عند العرب، وإنما يمكن القول إن هناك فكرًا سياسيًّا عند المسلمين. ونحن نكتشف أصول هذا الفكر في مصدرَين أساسيَّين هما مقدمة ابن خلدون وكتاب «سياسة نامة» لنظام الملك الفارسي. وأوضح الدكتور فودة أن المسلمين قد عرفوا النظرية الدستورية من ناحية، والعلاقات الدولية من ناحية أخرى؛ الأولى عن طريق فكرة السيادة «الخلافة والإمارة»، وتبرير السلطة الفعلية. والأخرى عن طريق «دار العهد»، وإقامة السفارات الدائمة والمتجولة بين الدولة الإسلامية والدول الأخرى، وتوقيع المعاهدات بين المسلمين وغيرهم. ولعل تحويل يثرب إلى «المدينة» كان أول عملٍ سياسي في الإسلام يحمل فكرًا مُحدَّدًا، في رأي الدكتور فودة، ثم قال إننا لا نستطيع، بالرغم من ذلك كله، أن ندَّعي أن هناك «نظرية في علم السياسة» بمعناها الحديث، وهو الصراع من أجل السلطة. وإنما هناك أفكارٌ تحتاج إلى عملية «ترشيد» حتى في تميزها في سياقها عن المواعظ الأخلاقية والفلسفة والدين، وغير ذلك مما نجده مختلطًا ببعضه في كتابٍ واحد، وليس ذلك وقفًا على التراث العربي؛ فإن كتاب «أرسطو» المسمَّى بالسياسة يندرج في هذا الباب من أبواب التأليف الجامع، والذي لا يقدم في النهاية «نظرية» سياسية. وأشار الدكتور عز الدين فودة إلى أن العديد من المخطوطات، التي تفيد المفكرين السياسيين العرب في هذا الشأن، ليست تحت أيديهم؛ فهو لا يشُك لحظةً واحدةً في أن جماعة سياسية كالخوارج لها فكرها السياسي المحدَّد، ولكنه لا يستطيع كعالم أن يستخرج هذا الفكر من بطون الكتب المعادية لها، وناشَد في النهاية علماء اللغة العربية والتاريخ العربي في دار العلوم وكليات الآداب وجامعة الأزهر أن يُولُوا هذا الجانب ما يستحق من أهمية، بالبحث عن المخطوطات الضائعة وتصويرها وتحقيقها ثم نشرها، حتى تنالَ بعدئذٍ ما تستحقه من دراسة وتقييم.
وبينما نرى أن الدكتور فودة قد سيَّج بحثه بحدود الدائرة المرسومة لمناقشة «التراث للتراث»؛ أي إنه لم ينتقل إلى مرحلة التفسير بالتأويل التي تثير الخلاف أو لا تثير، نجد أن الدكتور شلبي قد آثر أن يقدم التراث السياسي في الإسلام كمصدرٍ وحيدٍ نستطيع أن نحتكم إليه في كافة شئون حياتنا المعاصرة. والفرق بين الباحثَين جوهري وعميق؛ فالدكتور فودة لا يحيد عن المنهج الأكاديمي في أسلوب البحث، مهما كانت النتائج؛ لأن رائده الوحيد هو العلم. أما الدكتور شلبي فقد أراد، في صفحاتٍ معدودة، أن يخطط للمجتمع المعاصر تخطيطًا سياسيًّا. وليس هذا فيما أعتقد هو الهدف من الحلقة، وليس هذا أيضًا هو المنهج الأكاديمي والأسلوب العلمي؛ فقد تناول بقية الباحثين تلك النقاط التي عالجها الدكتور شلبي في أسطر قليلة، بصورة أكثر تفصيلًا من ناحية، ومن زاوية «التراث للتراث» من ناحيةٍ أخرى. وهي الزاوية التي تضيء لنا واجباتنا العملية والمُلِحَّة نحو هذا التراث. أما «التراث للحياة» فيحتاج كما قلت إلى حلقةٍ جديدة وتخطيطٍ مختلف. والموقف العلمي من التراث لا يستحق من الدكتورة عائشة عبد الرحمن والدكتور سعيد عاشور التعريض بتراثات الآخرين؛ فالقضية العادلة التي يدافع عنها كلاهما لا تستوجب تجريح التراث اليوناني أو الإنجليزي أو الاشتراكي؛ فليس عيبًا أن نهتم بتراث الآخرين «من أساطير اليونان إلى ساحرات مكبث إلى كتابات ماركس»، ولكن العيب ألا نهتم بتراثنا أيضًا! بل إن دراستنا لتراث الآخرين هي التي تضع أيدينا على أول أبعاد التراث — كل تراث — وهو البعد الإنساني العام. ودراستنا لتراثنا تضع أيديَنا على البُعدين الآخرَين؛ البعد القومي بعيدًا عن البكاء على الأطلال والتعصب الشوفيني، والبعد الاجتماعي من موقع التطور التاريخي والتقدم.
إن قضية انتقال تراثنا إلى أوروبا — على سبيل المثال — تحتاج إلى عديد من التساؤلات حول ما نعنيه بالضبط بهذه القضية، حتى لا نقع في أحبولة الرضا القانع المخدِّر للوجدان، أو نتورط في شِباك التعصب القومي المذموم. إننا نحتاج إلى معرفة الفراغ الذي كان موجودًا في الحياة الأوروبية وقد سده التراث العربي بالفعل. ألا يعني هذا — مثلًا — أن هناك تشابهًا إنسانيًّا محضًا في كلتا الحياتَين الأوروبية والعربية، ولمَّا تصادف تعاصُر ازدهار حضارتنا مع ظلام حضارتهم، فقد تحتَّم أن نسُد الفراغ الأوروبي، ضمن الدورة الجدلية التي لا تنتهي من الأخذ والعطاء؟ ومن الناحية الأكاديمية البحتة ينبغي التساؤل عمَّا تأثَّر به الغربيون فعلًا، لا بما نقلوه إلى لغاتهم ومتاحفهم، حتى نصبح على وعيٍ كامل بما نردِّده من أننا أعطيناهم هذا أو ذاك من فروع المعرفة. ولا يفوتنا في قضية انتقال التراث أن نتساءل عما إذا كان التراث العربي قد انتقل إلى أماكنَ أخرى، وأزمنةٍ أخرى، غير أوروبا والعصر الوسيط، وذلك حتى نسترشد بانعكاسات تراثنا على بيئاتٍ مختلفة وأزمنةٍ متباينة، على القيمة الحقيقية لهذا التراث، وجوهره الذي لا يتعثر من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان، وعناصره التي يصيبها التغيير حتمًا في عملية الانتقال أو التأقلم والتكييف والتزيي بأرديةٍ جديدة في أماكنها الجديدة. وقبل أن ينتقل تراثنا إلى غيرنا ما هو تأثيره الفعلي على أسلافنا؟ ماذا رفضوا منه وماذا قبلوا؟ وما هو تأثيره على معاصرينا؟ إن الجواب الشامل الموضوعي على هذه التساؤلات هو الذي يباعد بيننا وبين التركيز على نقل الغرب لتراثنا «بروح الثأر» من عدوانهم التاريخي علينا، لا «بروح العلم»، وإن امتلأَت قلوبنا بمرارة العلقم؛ هذا الجواب الشامل أيضًا هو الذي يحمينا من إقرار فكرة عربية أصيلة أخذها الغرب أو حاكاها، ثم رفضنا لها عند التطبيق.
ولعله من الواضح لنا في هذا العرض هو أن كلمة «التراث» تعني عند الكثرة الغالبة التراث العربي الإسلامي، وأنها تعني عند الفريق المحافظ مجموعةً من القيم الثابتة في هذا التراث، ولكنها تعني عند فريق آخر القيم المتغيرة مع الزمن. كذلك عنَت السلفية عند الفريق الأول في تعميم لفظة التراث تعميمًا مطلقًا حتى يشمل الغث والسمين، بينما عنَت عند الفريق الآخر ما استطاع أن يبقى من التراث من غربال الزمن الواسع الثقوب. وقد غاب من الندوة اتجاه يقول — خارجها — بأن هذا الذي تبقَّى يحتاج إلى الفحص والتنقيب، حتى نستطيع اختيار ما يُسهِم في تقدمنا واستبعاد ما يعوق هذا التقدم. وكان من الطبيعي أن يرى السلفيون في تراثنا العربي الإسلامي الألف والياء والبداية والنهاية، وأن يرى فيه الآخرون ثمرة التفاعل بين الواقع العربي والحضارات الأخرى؛ ومن ثَم ضرورة الانفتاح الدائم على هذه الحضارات.
(ب) لقاء مباشر مع الفكر الغربي
درجَت مجلة «الطليعة» المصرية على استضافة عدد من كبار مفكري الغرب، بهدف إقامة حوار بينهم وبين المثقفين العرب. وقد كان المفكران الفرنسيان روجيه جارودي ومكسيم رودنسون من بين هذه العقول الغربية الكبيرة، التي التقت بالعقل العربي المعاصر لقاءً مباشرًا، في قاعة الاجتماعات بدار الأهرام، في أواخر عام ١٩٦٩م، وقد ألقى جارودي ثلاث محاضرات، من بينها اثنتان تتصلان بقضية التراث، وهما «أثر الحضارة العربية على الثقافة العالمية»، و«الاشتراكية والإسلام»، وقد ألقاهما وتمَّت المناقشات حولهما في ٢٤ و٢٥ نوفمبر (تشرين الثاني) عام ١٩٦٩م. أما رودنسون فقد ألقى محاضرتَين؛ أولاهما عن «صورة العالم الإسلامي في أوروبا منذ العصور الوسطى حتى اليوم، والثانية عن الماركسية ودراسة العالم الإسلامي»، وذلك في ٢٧، ٢٨ ديسمبر (كانون الأول) عام ١٩٦٩م.
على هذا النحو نتابع — ونتأمل — ما أثارته محاضرة جارودي الأولى، فقد تبلورَت أوجه الخلاف معه في ثلاثة آراء؛ الأول، للدكتور بدوي عبد اللطيف؛ فقد قال إن الإيمان بالله والقرآن هو السبب في انتشار الإسلام، وليس التنظيم الاقتصادي والاجتماعي الذي تحدث عنه المحاضر، وإن حضارة الإسلام ذاتيةٌ خاصة لم تأخذ عن أية حضارة أخرى لأنها من صنع الله، أما الحضارات الأخرى فمن صنع البشر. وإنه كانت هناك معابرُ أربعة وليس معبرًا واحدًا للحضارة العربية إلى أوروبا، هي إسبانيا وصقلية وجنوب إيطاليا والشرق الأدنى والحروب الصليبية. أما الرأي الثاني للدكتور عبد العزيز كامل، فيقول إن المحاضر عُني بالجوانب التطبيقية للإسلام، ولم يُعْنَ بالأصول النظرية، وفي رأيه أن الإسلام منفتحٌ على بقية الحضارات القديمة والمعاصرة، وكل كشفٍ علمي جديد؛ ذلك أن طلب العلم فريضةٌ إسلامية، وقد كان إرسال البعوث العلمية أمرًا مقررًا منذ أيام الرسول. وأما الرأي الثالث للدكتورة بنت الشاطئ، فيقول إن حضارتنا إسلامية وليست عربية إلا بمقدار إسلامها، وإن ابن خلدون ليس ظاهرةً شاذة في التاريخ الإسلامي، وإنما هو نبتٌ طبيعي في مناخ الإسلام.
وحول المحاضرة الثانية لجارودي تقاربَت الآراء تقاربًا شديدًا؛ حيث تبلورَت في أن الاشتراكية لا تتعارض مع الإسلام، بل إن الإسلام يدعو إليها من خلال مبادئ عامة وكلية للعدالة الاجتماعية، ومن خلال مواقف عملية، كالموقف من الربا، وتقديس العمل كمصدرٍ وحيدٍ للرزق، وأن علاقة المؤمن بجوهر الاشتراكية (وهو إقامة سلطة الفلاحين والعمال المثقفين الثوريين) لا يتعارض مع إيمان المسلم والمسيحي العربي، كما قال خالد محيي الدين. غير أن رأيًا آخر لكمال الدين رفعت قد أراد أن يحدد علاقة الاشتراكية بالإسلام تحديدًا عن العموميات فقال: «نحن هنا في بلدنا نفهم الاشتراكية على أنها منع استغلال الإنسان للإنسان. إننا نريد أن نقيم مجتمعنا على أساسٍ من الكفاية والعدل، دون أي ناحية من نواحي الاستغلال، ونحن في هذا نستطيع أن ننفتح على أي فكرٍ عالمي نستفيد منه ونُثري منه، ونشعر أننا في انفتاحنا على هذا الفكر العالمي لا نفقد أنفسنا، بل إننا نزيد أنفسنا ثراءً في نفس الوقت؛ فنحن يمكن أن نكون مسلمين صحيحي الإسلام، وفي نفس الوقت ينبغي أن نكون اشتراكيين، إذا كان ما نتفق عليه من الاشتراكية هو أنها منع استغلال الإنسان للإنسان، أو منع استغلال طبقة لطبقة، أو سيطرة طبقة على بقية الطبقات، نفهمها على أساسٍ من تحالف قوى الشعب العاملة في مجتمعنا، ونفهمها على أساس من العمل الدائب، على أساس ليس فيه استغلال، وإنما فيه الخير لكل الذين يعملون في ذلك المجتمع.»
أما الحوار مع مكسيم رودنسون فقد أثار مجموعة قضايا من نوعٍ مختلف، ولكنه يتفق مع طبيعة الموضوعات التي طرحَها للبحث، وطبيعة الزوايا التي تناول منها هذه الموضوعات. ولم تكن الخلافات حول محاضرة رودنسون الأولى كثيرة، وإنما كان أبرزها الرأي القائل بأن العصور الوسطى في العالم كله لم تكن على درجةٍ واحدةٍ من الضوء أو الظلام، وإنما كانت هناك — والحديث للدكتور عبد العزيز كامل — مدن كبيرة وحضارات كثيرة في هذا العالم، حتى إن كُتَّابًا أوروبيين، ومنهم الفرنسيون مثل «فيدال دي لابلاج»، الذي قال إن هذه المدن الإسلامية في آسيا وأفريقيا وحول الصحراء إنما تمثل خطًّا من النجوم المضيئة على حافة هذه المنطقة، ورسم لها خريطة في كتابه «من أجل هذا لا نستطيع أن نصور هذا العهد بأنه كان عهدًا مظلمًا. قد يكون فيه استظلام في بعض الأماكن، وقد تكون عندنا أيضًا بعضُ جوانبَ مظلمة، ولكن التراث العلمي بطبيعته كان موجودًا وكان مثمرًا، ثم حدث بعد هذا انتقال المشاعل الحضارية من العالم العربي إلى العالم الأوروبي، ورغم هذا ظلت هناك بعض المناطق الحية اليقظة التي بقيَت محافظة على شعلة الحياة فيها.» وإلى هنا ينتهي رأي الدكتور عبد العزيز كامل، ليستأنف الحوار بعده الدكتور عثمان أمين؛ حيث نفى عن القرن التاسع عشر أنه قرن المعارضة والتضاد للإسلام، وطالبَنا أن نتذكَّر لامرتين في كتابه «تاريخ تركيا» وبه صفحاتٌ رائعة عن الرسول. واستطرد قائلًا إن الدور الفكري للثقافة الإسلامية لم يكن التنظيم الاجتماعي والاقتصادي فحسب وإنما كان الفكر الإسلامي نفسه، كما هو الحال في ابن خلدون وابن رشد، له دورٌ كبير في تطوير الفكر الأوروبي، ثم طالبَنا من جديد أن نتذكَّر دانتي في «الكوميديا الإلهية»، وجوته في «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي» حتى ندرك الأثر الضخم للتراث الإسلامي على الروح الأوروبية. واستكمل الدكتور محمد أحمد خلف الله هذا الرأي بقوله إن أثر الإسلام في المسيحية بالغ الوضوح في الحركة اللوثرية للكنيسة البروتستانتية، التي آمنَت ببشرية الرسل، وحق الإنسان العادي في تفسير الكتاب المقدَّس دون وسيطٍ كهنوتي، وإلغاء الرهبنة.
وقد أثارت المحاضرة الثانية لرودنسون جدلًا حادًّا؛ حيث اختلفَت معه الآراء في اتجاهين أساسيين. ويمثل الدكتور محمد شوقي الفنجري الاتجاه الأول خير تمثيل؛ إذ قال إن الإسلام أيديولوجيةٌ كاملة في التنظيم السياسي والاقتصادي، وليس مجرد عقيدةٍ دينية وعبادات. وأوضح أنه لا سبيل للقاء بين الماركسية والإسلام للفروق الجوهرية بينهما؛ فالماركسية ملحدة والإسلام دين الله، والماركسية تُلغي الملكية الخاصة والإسلام يحافظ عليها، والماركسية تذكي صراع الطبقات بهدف تسويد طبقة العمال، والإسلام يؤمن بتعاون الطبقات، وتحالُف قوى الشعب العاملة. أما الاتجاه الآخر فإنه على النقيض من هذا الرأي؛ حيث يقرر أن العقيدة الصحيحة لا تُبنى إلا بعد تغيير المفاهيم الأساسية في أسباب الغنى والفقر، كما قال الدكتور عبد الغفار خلاف مستطردًا إنه يجب أن نعلم أن الرزق الذي قيل بشأنه «إن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر» معناه تقسيم الناس إلى طبقات في الفقر والغنى، وإنما الرزق هو كل مواهب الله كالصحة والقوة والذكاء «فنفرق بين الرزق بمعناه الواسع — وهذا كله لا بد من تفاوته — والرزق بمعناه المالي، وهو الذي يجب أن نتحكم فيه، لكي نبرئ عدل الله ورحمته من القسوة.» ويستكمل محمد عمارة تفكير هذا الاتجاه بقوله إن كثيرًا من الجزئيات في الفكر الاشتراكي يمكن العثور عليها في الفكر الإسلامي «ولعل المنهج الذي يفكر به الماركسيون هو الشيء الذي يحتاج له المسلمون، حتى يرَوا من خلال هذا المنهج تراثهم وفكرهم، ويمكنهم أن يقدموا جديدًا؛ فالمنهج الموجود بالفعل في الماركسية هو هذا الميزان الذهني، الذي يحتاجه المسلمون لتقييم تراثهم من جديد، حتى يقدِّموا نتائجَ جديدة.»
•••
ولعله من المفيد القول بأن جارودي ورودنسون ليسا غريبَين عن التراث العربي الإسلامي؛ فالأول قد ألف كتابًا مبكرًا عن «الحضارة العربية»، بالإضافة إلى تجربته الرائدة في إقامة حوار بين الماركسية والمسيحية في فرنسا. أما الثاني فله كتابان شهيران أحدهما عن «الإسلام والرأسمالية»، والآخر عن الرسول. ومن الواضح على طول المناقشات أن المثقفين العرب قد وقفَت غالبيتهم من المحاضرَين موقفًا متعاليًا، لا ينم عن كبرياء شخصية بقَدْر ما يجسِّد مفهومهم للتراث، وكيف أنه أعظم وأروع وأول وأفضل وأكمل من «هذا» التراث الذي ينتمي إليه الأستاذان الفرنسيان، وعلى النقيض من ذلك جارودي ورودنسون يستقبلان أي تصحيحٍ في هذه التفصيلة أو تلك استقبالًا لا ينم عن تواضعٍ شخصي بقَدْر ما يجسِّد مفهومًا مغايرًا للتراث، هو الانفتاح العقلي الخلَّاق على تراثات الآخرين.
والنقطة الثانية الجديرة بالنظر الطويل والعميق هي أنه رغم الخلاف بين الاتجاه الإسلامي والاتجاه اليساري في المناقشات، إلا أن الاختلاف الحقيقي كان بين النظرة المنهجية المتماسكة والنظرة التوفيقية، وهما نظرتان يمكن التعرف عليهما عند الإسلاميين واليساريين على السواء، حتى إن القول بأن «تحالف قوى الشعب العاملة» فكرة إسلامية قد جاءت على لسان يميني قُح ولسان يساري في وقتٍ واحد؛ ذلك أن الرؤية التوفيقية للأمور كانت العمود الفِقري لفكرهما، أيًّا كان لون الثوب الذي ارتداه هذا «الأبيض» أو ذاك «الأحمر». لا علاقة للثوب ولونه في الحقيقة بالجلد واللحم والدم والعظم. إن التماسك المنهجي عند القائل بأن القرآن تراث كامل بذاته؛ لأنه تراثٌ إلهي لا يتصل في كثير أو قليل بالحضارة الإنسانية، جدير بالاحترام والرفض القاطع. وكذلك التماسك المنهجي عند القائل بأن التراث الإسلامي أيديولوجية اقتصادية واجتماعية وسياسية متكاملة وصالحة للتطبيق في كل عصر وليست مجرد عقيدةٍ دينية وعبادات جدير هو الآخر بالاحترام والرفض القاطع. أما التوفيقية اليمينية واليسارية على السواء حين تقول بأن الإسلام قد دعا إلى تحالف قوى الشعب العامل، أو أنه لا تناقض بين الاشتراكية والإسلام، فإنها تكاد تكون نكتةً سخيفة؛ فكأن التجربة المصرية خلال السنوات العشرين الماضية هي التطبيق السياسي الأول للإسلام، وكأن الإسلام يحتاج إلى شفيعٍ عصري كالاشتراكية حتى تتأكد أهميته كتراثٍ روحي للأمة العربية. والحقيقة هي أن القائلين بهذه التوفيقيات — أو التلفيقات — إما أنهم يمالئون السلطة بتأصيل فكرها وإجراءاتها تأصيلًا مفتعلًا تمتد جذوره إلى التراث الإسلامي، تمامًا كأولئك الذين أوهموا الملك السابق بأنه من سلالة النبي — مع الفارق في التشبيه وإن كان المنهج واحدًا — وإما أنهم يمالئون عامة الشعب ومعتقداته الدينية؛ فهم يرَون مصلحة الجماهير في الاشتراكية، ويحذرون في الوقت نفسه المساسَ بتراثها الديني، فتتحول الاشتراكية على أقلامهم إلى «نظام اقتصادي» فقط لا علاقة له بالقيم والأخلاق والعقل والوجدان؛ هذه كلها التي يمكن ضمها في «نظامٍ روحيٍّ» منفصل. ولا فرق في واقع الأمر بين هؤلاء وبين الذين يقولون بأن لا تعارض بين الإسلام والعلم الحديث، أو أن الإسلام قد تضمَّن العلم القديم والحديث معًا. إنهم جميعًا يحاولون التوفيق بين عناصر لا سبيل إلى التوفيق بينها، لأسبابٍ أبعد ما تكون عن العلم، ويَنْسَون أن جارودي حين أقام حوارًا بين الماركسية والمسيحية لم يكن يستهدف بحال أن يعقد قرانًا سعيدًا بين فكرَين مختلفَين، ولم يكن يقيم بناءه على أرضٍ خراب. لقد سبقه المئات من بُناة عصر النهضة وعصر التنوير وعصر الثورة الفرنسية في الحوار مع المسيحية حوارًا جذريًّا عميقًا شاملًا، نقَدوا فيه الإنجيل والمسيح والكنيسة نقدًا تفصيليًّا، نقدًا اغتنَت به كافة المناهج في التفكير؛ فقد كان حينًا من الوقت نقدًا تاريخيًّا، وحينًا آخر نقدًا فلسفيًّا، وحينًا رابعًا نقدًا أنثروبولوجيًّا، وحينًا خامسًا نقدًا ميثولوجيًّا، وحينًا سادسًا نقدًا سيكولوجيًّا. وتقلَّب هذا النقد بين العصور المختلفة وما استجد فيها من أدوات البحث العلمي. وحين أقبل جارودي ليحاور المسيحية باسم الماركسية كان يستند على تراثٍ عقلي ضخم شائع في أوردة الإنسان الأوروبي وشرايينه. وكان من أهم عناصر هذا التراث أن ليست هناك مقدَّسات تعلو على النقد. وأضاف عصر جارودي ظاهرةً جديدة من الواقع الحي للنصف الثاني من القرن العشرين؛ إذ رأى على اتساع المسافة بين أحراش فيتنام إلى أحراش أمريكا اللاتينية رهبانًا وقساوسة يقيمون صلواتهم بالدم في ميادين القتال ضد أشرس الإمبرياليات العالمية، أديرتهم السلاح الذي يعرف أن هدفه الوحيد هو قلب الولايات المتحدة الاستعماري، يقيمون كنائسهم من المدافع الرشاشة والقنابل التي يحرقون بها الاحتكارات الأجنبية في بلادهم؛ هذه الإضافة من عصرنا، وغيرها كثير، دعت جارودي وغيره من المفكرين الماركسيين لأن يُشيِّدوا الجسور النضالية بين جماهير المؤمنين بالمسيحية والحزب الثوري في مناخٍ حضاري، يتمتع بنور العقل، وترفرف عليه روح النقد لكل شيء، وتمتد في أرضه أعرق التقاليد الديمقراطية إلى عمق الأعماق.
والحوار بين الماركسية والإسلام لا يمكن أن يتخذ المسار نفسه؛ لأن أرضنا الفكرية خلت من هذا الرصيد العظيم من النقد الشجاع للتراث الديني. إن أقدم وثيقةٍ ليبرالية ناقشَت هامش الموضوع لا صلبه يعود تاريخها إلى عام ١٩٢٦م، وأقصد بها كتاب «في الشعر الجاهلي»، وقد تم إجهاض المحاولة. وكان شبلي شميل وفرح أنطون وسلامة موسى يحرثون في البحر؛ لأنهم مسيحيون — بحكم شهادة الميلاد — والكثرة الغالبة من جماهيرهم مسلمون، وكان كتاب «الله والإنسان» للدكتور مصطفى محمود، عام ١٩٥٧م، بارقة أمل في استئناف الحوار، ولكنه صودر وانتكس صاحبه. ولم يكد صادق جلال العظيم وعفيف فراج وعاطف أحمد ينيرون الشعلة المنطفئة، حتى كان التوفيقيون من اليسار واليمين قد أمسكوا زمام السلطة الفكرية، تبريرًا للسلطة السياسية وأنظمة الحكم، التي رأت في الحلول الوسيطة خير منقذ من التقدم. في هذا المناخ الذي تُعربد فيه الرجعية، وتسايرها التوفيقية، لا يمكن أن تكون البداية حوارًا بين الماركسية والإسلام، وإنما تصلُح الماركسية — كما قال محمد عمارة بحق — أن تكون منهجًا لدراسة تراثنا وتقييمه من جديد. إننا بحاجة إلى عدة عصور في وقتٍ واحد، بحاجة إلى التراث العقلي لعصر النهضة الأوروبية وعصر التنوير والعصر الحديث، حتى نروِّض العقل والوجدان العربي على نقد «المقدَّسات»، وحتى نرسِّخ فصل الدين عن الدولة، ونقيم أركان المجتمع العلماني الديمقراطي، وحتى نرى المشايخ والقساوسة يتسابقون إلى تحرير سيناء والجولان والقدس. وما أبعد المسافة بين هذا الحُلْم وما نكتوي بناره من فتنٍ طائفية تحتاج إلى حوار أعمق — ومتصل — مع تراثنا الديني!
(ج) القديم والجديد في الأدب والفن
من القضايا المهمة التي ناقشها المؤتمر الثامن للأدباء العرب في دمشق (بين ١١، ١٤ نوفمبر (تشرين الثاني) ١٩٧١م) قضية التراث والتجديد. ومن البديهي أن هذه القضية تهم الأديب والفنان بصورة خاصة؛ لأن الأدب والفن كانا رائدَين في استلهام التراث، جنبًا إلى جنب، مع اتصالهما المستمر بالحضارة العالمية في أحدث منجزاتها الفكرية والتكنيكية. وقد كان هذا الموضوع جديرًا بأن يكون المحور الوحيد للمؤتمر لولا طغيان الشعارات — ولا أقول القضايا — السياسية المباشرة، وتعددها. وأقول إن هذا الموضوع كان جديرًا بأن يكون المحور الوحيد للمؤتمر؛ لأنه من ناحية ليس منفصلًا عن السياسة — بمشكلاتها الضاغطة في الوقت الراهن — ولأنه من ناحية أخرى يحتاج إلى وقت وجهد يستوعب نشاط مؤتمر بكامله؛ فالتراث والفن الأدبي قضية لها تاريخ يرجع بنا إلى بداية يقظتنا القومية، وقد سار بنا هذا التاريخ في منعطفات ومنخفضات ومنحنيات متعرجات، تستحق البحث والاستقصاء الدقيق، حتى نضع أيدينا على أبرز المعالم الدالَّة على تطورنا أو انتكاسنا، فيما يخص هذه القضية الشائكة.
وكان من نتيجة الهرولة، واختزال الوقت والجهد، أن اتجهَت أبحاث المؤتمر اتجاهًا تجريديًّا أو نظريًّا بمعنًى أدق؛ فلم تحاول على اختلاف اتجاهاتها الفكرية أن تقرن النظر بالتطبيق، حتى نتعرَّف على «التفاصيل الواقعية» التي تصلح لأن تكون مختبرًا حقيقيًّا لصحة الرأي المجرد أو خطئه. وقد كان واضحًا منذ البداية ازدهار ثلاثة اتجاهاتٍ رئيسية؛ أولها سلفي يُمعن في الرجعية والجمود، ويمثله الكاتب الجزائري حنفي بن عيسى، والثاني يميل إلى التوفيقية، ويمثله الكاتب المصري عبد العزيز الدسوقي، والثالث يميل يسارًا، ويمثله المغربي الدكتور عباس الجراري والكاتب السوري أحمد يوسف داود.
أما حنفي بن عيسى فقد ربط بين بناء الفعل الماضي في النحو العربي وطبيعة التراث، فقال: «وكما أن الفعل الماضي في عُرف النحو مبني — أي ملازم لحالةٍ واحدة — فكذاك التراث الثقافي يمثل القيم الثابتة التي لا تتغير، ومن واجب الإنسان أن يحافظ عليها، وأن يقاوم كل محاولة لطمس معالمها؛ لأنها بمثابة الأساس في بناء صرح الحضارة.» أما الانفتاح على العالم الخارجي، الذي يتمثل من أحد جوانبه في حركة الترجمة، فإنه يدل على «استيراد الفكر الأجنبي، بقصد الاستهلاك المحلي، على غرار ما نستورد من السيارات تمامًا.» ويتفكَّه الكاتب بدعوة القائلين بالمعاصرة؛ لأنها لا تخرج عن كونها انخراطًا جنونيًّا في سباق الإعلانات المحبوكة الصنع عن الأفلام والأسطوانات والكتب والصحف، التي تحجُب عن أبصارنا ذاتَنا القومية الأصيلة.
وبالرغم من حرص عبد العزيز الدسوقي على القيم الثابتة من التراث، فإنه يحدد هذه القيم بأنها «أكمل وأنضج ما ورثنا عن الآباء والأجداد في مجال الأدب والفن والعلم والحضارة»، ويرى أن الصراع بين القديم والجديد قد حسم انتصار «التيارات التي كانت تجمع بين الماضي والحاضر في مركَّبٍ جديدٍ متطور. وسارت الآداب والفنون في طريق التطور الخلَّاق الذي قاده هؤلاء المبدعون والمفكرون الذين يتذوقون تراث الماضي، ويدركون عمق ما فيه من كنوز، وفي الوقت نفسه يقفون على ثقافة العصر، ويدركون ما يجيش به من تيارات واتجاهات.» ويفسر عبد العزيز الدسوقي غلَبة هذه التيارات على ما عداها من ثبات عند القديم، أو جنوح بالجديد بما يتمتع به الأديب المبدع من «حاسةٍ فنية تمزج الماضي بالحاضر، وتصهر ما ينفعل به من ثقافة العصر وقيمه بصورةٍ دائمة لا شعورية، فتتحول الأصالة والمعاصرة إلى مزاجٍ جديد يصوغه عقله وذوقه وشعوره.» ويستشهد بأولئك المبدعين الذين جدَّدوا الحياة العربية فكرًا وفنًّا؛ لأنهم كانوا مزوَّدين بهذه الحاسة الفنية التي تعمل بطريقةٍ لا شعورية «هذه العملية المعقدة المستمرة، وهي مَزْجُ الماضي بالحاضر، واستخراج مركَّبٍ جديدٍ مختلف عن الاثنين.» ومن هذا كان الصراع بين القديم والجديد في رأي عبد العزيز الدسوقي قضيةً وهمية «أثارها أناسٌ لم يتذوقوا التراث، ولم يدرُسوه بعمق، ولم يدركوا تيارات العصر وثقافته إدراكًا حقيقيًّا، أو أناسٌ تنقصهم القدرة على مزج ثقافة الحاضر بتراث الماضي، أو لا يدركون النِّسَب التي تشكِّل المركَّب الجديد الذي يضُم عناصر الماضي والحاضر والمستقبل.»
وكان من الطبيعي أن يتفق الدكتور عباس الجراري وأحمد يوسف داود في تعريف التراث والموقف منه اتفاقًا عامًّا، فيقول الدكتور الجراري إنه «ليس كل الماضي أو ما صدر عن الأجداد دون تحديد، ولكنه الجانب المضيء منه، الذي يكشف عن الظواهر الثقافية التي وصلَت على مَر الأجيال، عبْر فتراتٍ طويلة تطورية كانت تتجذر فيها وتتجدد وتتغير بخصوبة وتلقائية، متأثرة بما تعانق أو يعانقها من ظواهر ثقافية وحضارية أجنبية.» ويقول أحمد يوسف داود إن تراثنا «كان صورةً صادقة عن المعطيات التاريخية المستجدة والعقلية المتراكبة من جماع التأثيرات الناجمة من تلك المعطيات.» وقريبٌ من هذا المعنى ما وصف به الدكتور الجراري التراث العربي بقوله إنه «يمثل أنماطًا من وعي الإنسان العربي، ومراحل من واقعه ووجوده الفردي والاجتماعي خلال التاريخ. ويعبِّر عن الذات العربية وتجربتها، ويعطيها مميزاتها، ويذكِّر بوجودها، ويبرز ملامح شخصيتها وأصالتها الذاتية، ويحدد منظورها القومي الخاص. هو بهذا ملك للأمة، وجزء من وجدانها، به نستطيع التعرُّف إلى التغيُّرات التي طرأَت عليها، وإلى الشروط التي يمكن أن تصنع فيها تاريخها أو تستمر في صنعه. ويقترح الباحث عندئذٍ صيغةً للملاءمة بين التراث والمعاصرة، مؤدَّاها «أن نعيَ ذاتنا، ونعرفَ من نحن، ونحصُرَ قدراتنا وإمكاناتنا، ونرسم على ضوء ذلك الوسائل إلى تحقيقها، من خلال تحليلٍ فكري لواقعنا، وللمرحلة التاريخية والحضارية التي تجتازها أمتنا، ومن خلال البحث الأصيل عن تراثنا، ليس بما يجعله عامل تجميد لنموها الحضاري والثقافي، بل لدعمه وتطويره وإدماج الصالح منه مع حاضرنا، في وحدة نكيف بها المستقبل، ونشرف منه عليه.» ثم يرى أنه يتعيَّن علينا أن نأخذ الفكر الغربي وكافة الثقافات الأخرى قديمها وحديثها «ما من شأنه أن يقوِّيَ فكرنا الثوري، ويدفع بنا إلى الأمام.» غير أنه يتبقى — عند الدكتور الجراري — أن تراثنا مليء بالتقاليد الثورية الديمقراطية الجديرة بالإحياء، لتقوم بدورها في إغناء أيديولوجيتنا المعاصرة. ويضيف أحمد يوسف داود أن «المعاصرة ليست موضة، إنها إبداعٌ مستمر لقيمٍ جديدة أصيلة دافعة لمسيرة التقدم إلى الأمام، إنها ليست — إطلاقًا — ارتداء ثياب الآخرين؛ وبالتالي ليست سرقة الآخرين ومفاهيمهم وأساليبهم الأدبية والفكرية، وحشرها في أمكنة لم تُخلق لها.»
وقد كانت التوفيقية والنظرة الوحيدة الجانب من «الرواسب» العالقة في التكوين المنهجي للكاتبين اليساريَّين؛ الدكتور عباس الجراري وأحمد يوسف داود. وأقول «رواسب» لأنني أتفق معهما في مجمل نظرتهما إلى القضية المطروحة للبحث. ويبدأ اختلافنا القليل في التفاصيل؛ حيث إنني لا أرى في التراث ما استطاع أن يقاوم الزمن ويصل إلينا أو أنه الجانب المضيء من تاريخنا الحضاري. إن تراثنا هو «كل» تاريخنا الفكري بسلبياته وإيجابياته، وما وصل إلينا ليس كله «مضيئًا» بل تتجاور فيه الظلمة والنور. ومهمة الثوري الأولى هي دراسة السياق التاريخي لهذا التراث، لاستنباط القوانين الموضوعية المضمَرة باطنه، التي تلخص لنا شكله ومحتواه، مقدماته ونتائجه. وبهذه القوانين يبدأ وعيُنا بالتاريخ. ومهمة الثوري الثانية هي استخلاص الجوانب الإيجابية بالمنظور الطبقي والقومي والإنساني بهدف استلهامها في حياتنا المعاصرة. وسوف ينبئنا التاريخ وقوانينه أن تراثنا يوجز صراعًا اجتماعيًّا خاضته شعوبنا في القديم، وسوف ننبئ أنفسنا بأننا ما زلنا في أتون هذا الصراع وإن اتخذ أشكالًا أرقى، وأن هذا الصراع هو همزة الوصل التي تمتد بين مختلف تيارات فكرنا المعاصر وشرائح التراث القديم؛ فالفكر الرجعي الحديث يتجه مباشرة إلى الفكر الرجعي القديم يستلهم زاده ومقوماته، والفكر الثوري الحديث يتجه مباشرة إلى «الواقع المعاصر» أولًا يسترشد بمعرفة احتياجاته للتقدم على ما ينبغي استلهامه من قديمنا أو قديم الأمم الأخرى، من تراثنا أو تراث الحضارات الأخرى. إن الدليل الموضوعي لما دعاه عبد العزيز الدسوقي بالحاسة الفنية، هو إدراك واقعنا إدراكًا علميًّا عميقًا، والبحث عن دعائم تطوره الثوري في كل زمان وكل مكان.
(د) التراث موقع السلطة وموقع الفكر
لم يكن هدف ندوة «الأهرام» مع الرئيس الليبي معمر القذافي هو التراث، وإنما كانت «الثورة الليبية» هي العنوان الذي وُضع في البداية لهذه الندوة. غير أن الحوار قد اتخذ مسارًا مختلفًا؛ بحيث أصبحَت قضية التراث هي المدار الرئيسي للمناقشات. وقد نشرَت «الأهرام» بعددها الصادر في ٧ / ٤ / ١٩٧٢م، ملخصًا مركزًا لهذه الندوة؛ وبالتالي فإن دوري هنا هو التقاط بعض الصور — عن قرب — من موقع يختلف بعض الشيء عن مواقع الذين اشتركوا إيجابيًّا ومباشرة في هذا الحوار.
وربما كانت اللقطة الأولى الجديرة بالتأمل على مائدة المناقشات، هي أن ضيف الندوة شابٌّ صغير السن، يجلس على قمة أحد أقطار الوطن العربي، يرتدى البزة العسكرية، يتميَّز بالحماس في كل ما يقول وما يفعل، وصورته في أذهان الحاضرين ليست واضحة تمامًا، ولكنها تثير فيهم جميعًا حاسة الفضول؛ لأنه اقتحم ساحة السياسة العربية، على هيئة فارس من العصور الوسطى، بسلسلة من المفاجآت. وكانت المفاجأة الأولى أن تقوم حركته في بلدٍ ينام نومًا عميقًا على سطح بحر من البترول. وكانت المفأجأة الثانية هي شخصه وتكوينه المتفجر بالمتناقضات.
واللقطة الثانية هي أن الذين أتيحت لهم مناقشته — أو محاورته — في هذه الندوة، يمثلون تقريبًا الاتجاهات الرئيسية للفكر المصري المعاصر، ومن ناحية أخرى فهم يمثلون هذه الاتجاهات من موقع القمة؛ فغالبيتهم «أقطاب» الحركة الفكرية، وليسوا من أواسط الكُتَّاب أو صغارهم.
واللقطة الثالثة هي أن الندوة مالت على الأكثر لأن تكون مجموعةً من المونولوجات، وفي الأقل كانت حوارًا؛ أي إنها ببساطة كانت تعبيرًا عن آراء المجتمعين حول القضية المطروحة، لا تجسيدًا للتفاعل بين هذه الآراء.
على ضوء هذا التصور الواضح للتراث الإسلامي ودوره في المجتمع المعاصر، سواء كان المجتمع الليبي أو المجتمع الإنساني، فإن الرئيس القذافي لم يختلف مع كافة الدعوات الإسلامية المتطرفة التي عرفها العصر الحديث، في باكستان وإندونيسيا ومصر وغيرها، مهما اختلفَت الأسماء من الإخوان المسلمين، إلى الميثاق الإسلامي، إلى غير ذلك من العناوين، ولكن الإضافة الحقيقية هي أن المرة — هذه المرة — مشمولة بالنفاذ، وأن الداعية ليس واحدًا من رجال الدين أو الفكر، وإنما هو رجلٌ عسكري يشتغل بالسياسة؛ لذلك فإن التناقضات التي تشغله ليست هي تناقضات الفكر المجرد، كما نتبيَّن ذلك في سياق الندوة، وإنما هي تناقضات الحياة الواقعية من حوله. إنه كرجلٍ سياسي في قمة السلطة مُضطَر إلى التعامل، سلبًا وإيجابًا، مع حكومات ودول وشعوب تحكم العلاقات فيما بينها، ثم بينها وبينه، مجموعة من الضوابط والمعايير التي لا تخضع غالبيتها الساحقة لإيمانه الشخصي أو تفسيره الخاص. وإنما تتحكم في العلاقات الدولية وتطورات الشعوب مجموعةٌ من القوانين الموضوعية المستخلصة من تجارب التاريخ والصراع الإنساني وسياق الحضارة؛ بحيث إن التناقض بين مفهوم الرئيس الليبي للتراث والعصر وبين المسار الواقعي للحياة في مختلف مستوياتها، داخل وطنه وخارجه، سوف يتضح يومًا بعد يوم. بل إن التناقض بين هذا المفهوم وبقية المفاهيم التي سمعَها في الندوة من خلاصة الفكر المصري الحديث، تؤكد اتساع المسافة بينه وبين الاتجاهات الرئيسية الغالبة على العقل العربي المعاصر.
ونتبيَّن من سير المناقشات ثلاثة تياراتٍ أساسية؛ أولها نستطيع أن ندعوه تيارًا حضاريًّا، أي إن الحضارة عند أصحابه هي القيمة الأولى الجديرة بالحماية، وإن حضارة الغرب الآن هي ذروة التقدم الإنساني، وهي تحمل في تضاعيفها تاريخ الفكر والعمل الإنسانيَّين منذ طفولة البشرية حتى الآن، ويمثل هذا التيار في الندوة توفيق الحكيم وحسين فوزي ولويس عوض وأحمد بهاء الدين، مع تفاوتٍ نسبي بين كُلٍّ منهم في التركيز على هذا العنصر أو ذاك من عناصر الحضارة الحديثة، وهم على اختلاف أفكارهم السياسية والاجتماعية ينتمون، بصورة أو بأخرى، إلى القيم العلمانية والديمقراطية. والتيار الثاني تستطيع أن تدعُوَه تيارًا دينيًّا مستنيرًا؛ أي إنه يرى في الإسلام دعامةً راسخةً في البنيان الفردي والاجتماعي العربي، ولكن دون الانغلاق على النفس والاكتفاء بالذات. ويمثل هذا التيار في الندوة الدكتور عبد العزيز كامل والدكتورة بنت الشاطئ، على ما بينهما من اختلاف في زاوية الرؤية. التيار الأخير نستطيع أن ندعوه تيارًا يساريًّا رغم عدم وضوح ممثله — وهو محمد سيد أحمد — في الفكر والتعبير. وقد كان محمد حسنين هيكل أكثر وضوحًا وقدرةً على التعبير من ممثل هذا الاتجاه، حين ردَّ على الرئيس الليبي مرتَين قائلًا إن الدخول في جبهة عالمية ضد الاستعمار، تضُم المعسكر الاشتراكي، ليس لونًا من ألوان التبعية، وإن رخاء العالم الرأسمالي هو ثمرةُ النهب الاستعماري للشعوب، وإن الماركسية قد تطوَّرَت مع الزمن. وحين استوقفه الرئيس القذافي قائلًا «أمريكا ثرواتها أمريكية، من الأنهار، من أمريكا الحديد، من أمريكا النحاس … ماحدش يقوللي والله أمريكا كونت رأسمال عشان هي مين بيقول لأمريكا تديني كل هذا إذا جابت بعض مواد أولية من أفريقيا أو من أي حتة، دي أمريكا ثرواتها من أمريكا، نهبَت العالم … هذا مش صحيح … أمريكا كانت موجودة مستعمرانا لكن كانت بتديني قمح … بتعطينا مساعدات سنوية، ماكنتش بتأخذ مننا ثروات أبدًا … كانت بتستخدم ليبيا كقاعدة لحلف الأطلنطي لمواجهة روسيا، كان استعمار بهذا الشكل، لكن بترد لنا شحنات من القمح من أمريكا، مش أمريكا اللي كانت بتأخذ ثروات ليبيا.» أجاب هيكل بأن أمريكا سرقَت أولًا قارة بأكملها، وذبحَت شعبًا كاملًا، ولا تزال أمريكا اللاتينية ترزح تحت عبء النهب الأمريكي بشركاته الاحتكارية المنظمة، والقمح الذي أعطاه الأمريكان لليبيا — قبل ظهور البترول — لم يكن لوجه الله، كان مسروقًا من النهب الأمريكي في شبه الجزيزة العربية، وللمحافظة على استراتيجية أمريكية — وليست عربية — في المنطقة.
هكذا يتصل الحديث عن التراث بالحديث عن السياسة، حتى عندما لاحظ توفيق الحكيم أن الندوة تكاد تتحول إلى مناظرة بين الإسلام والشيوعية والرأسمالية، وأن المحور الذي ينبغي أن تدور من حوله المناقشات هو حاضر المجتمع الليبي ومستقبله، إنما كان يتحدث في السياسة. وقد كانت الدكتورة بنت الشاطئ من موقعها الخاص أشجَع «الإسلاميين»، وأكثرهم استنارة؛ إذ توجهَت بالحديث إلى الرئيس الليبي قائلة «المشكلة يا أخي معمر أنك حين تقدم الإسلام بديلًا لهذه التيارات التي تتصادم على منطقتنا وفي أمتنا، أنت تقدم الإسلام مجهولًا، بمعنى أنك لا تثري فهم المسلمين للإسلام، الإسلام هنا غير الإسلام في ليبيا، غير الإسلام في المغرب، غير الإسلام في السعودية؛ كلٌّ يفهم الإسلام بشكل خاص، وأنا شهدتُ معك وفي ضيافتكم الطيبة ندوة علماء المسلمين، أو مؤتمر الدعوة الإسلامية، وكنا نحو ٥٠ شخصًا، كلنا نتكلم باسم الإسلام، ولا يُوجد نمطان متشابهان منا في التفكير والعقلية والرؤية والموقف من الكون والحياة، الخمسون الذين لقيتهم معي في مؤتمر الدعوة الإسلامية في العام الماضي ما كان يُوجد اثنان منا متشابهان، فما هذا الإسلام الذي نقدِّمه اليوم؟» وشنَّت الدكتورة بنت الشاطئ هجومًا ضاريًا على الذين يَرون في القرآن كتابًا أزليًّا أبديًّا في كل العلوم والمعارف التي ظهرت والتي تظهر بعدُ «فيه ناس عاوزين يطلعوا العلوم من القرآن، هذا عجيبٌ جدًّا لأنه لا يوجد إطلاقًا، علوم التكنولوجيا هذه لا أجدها، القلب العضوي لا أجده في القرآن، مرض القلب عندي هو الفساد والنفاق.» وتضرب الدكتورة مثلًا فكهًا على أحد الذين يؤمنون بأن القرآن قد اشتمل على علوم الأولين والآخرين؛ فقد سأله سائل: كم رغيفًا نحصل عليه من إردب القمح؟ فما كان من صاحبنا إلا أن أمسك سماعة التليفون وسأل بدوره المختص، فضحك الآخر قائلًا: أليس هذا واردًا في القرآن؟ فأجابه جادًّا: نعم «اسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون»، وقد سألتُ أهل الذكر!» وتُوجز الدكتورة بنت الشاطئ مفهومها عن التراث فتقول إنها مصرية تنتمي إلى عدة حضارات، تفاعلَت فيما بينها على نحوٍ غاية في التعقيد، إنها تنتمي إلى مصر الفرعونية ومصر القبطية ومصر الإسلامية ومصر العربية الحديثة «شخصيتي تنتمي لمصر من عشرة آلاف سنة»، والرسول نفسه لم يتنكَّر لتاريخه قبل الإسلام «ده تاريخي ما قدرش أقطعه وأرميه بره وأبدأ من نقطة الصفر.»
ولعله بات واضحًا أن الدكتورة بنت الشاطئ لم تكن تردُّ على الرئيس القذافي وحده، حين استفسرَت عما يعنيه بالضبط من أن يكون الإسلام نظامًا للدولة (فالدولة ليست كائنًا علويًّا فوق البشر، وإنما هو يتجسَّد في رجال يفهمون الإسلام بطرقٍ بالغة التباين)، وإنما هي أيضًا كانت تردُّ على أمثال عبد الرازق نوفل ومصطفى محمود وغيرهما ممن يضلِّلون عامة المسلمين، بأن القرآن احتوى كل ما في الدنيا وما ليس فيها. كما أنها تردُّ على الذين يبترون التاريخ ويُزيِّفونه ويجعلون بدايته هي الفتوحات الإسلامية؛ وبالتالي فاتساقًا مع منطقهم لا يعرفون من تراثهم سوى التراث العربي الإسلامي. وهو فهمٌ أبعد ما يكون عن العلم من ناحية، وهو الأب الشرعي لضيق الأفق القومي والحساسية العنصرية والفتن الدينية والطائفية، التي استشرت في الوطن العربي نتيجة غزو هذه المفاهيم للعقل والوجدان العربي.
وقد استكمل الدكتور عبد العزيز كامل هذا الخط الذي بدأَته الدكتورة بنت الشاطئ، فأكَّد على انفتاح الإسلام منذ البداية على التيارات الفكرية والدينية المحيطة به وبعصره. كانفتاحه على التراث اليوناني والروماني والهندي؛ هذا بالإضافة إلى اعتراف الرسول بالأنبياء السابقين (اعترافًا فكريًّا برسالاتهم يحتل من القرآن ثلاثة أرباعه على الأقل)، وقد يرى البعض في هذا التفاعل بين الإسلام وتراث الأمم الأخرى مصدرًا للضعف — وهو التشتُّت والتناحُر بين الفرق الإسلامية المختلفة — ولكن الدكتور عبد العزيز كامل يراه أولًا انعكاسًا لاحتياجٍ فعلي من جانب الواقع المحلي الذي عاش فيه المسلمون، ويراه ثانيًا مصدر قوة وثراء للإسلام، حتى إن التراث الإسلامي في جملته يُعد ثمرة الحوار والجدل، وليس مونولوجًا داخليًّا. ويستنتج الدكتور عبد العزيز كامل أن هذه المقدمة تؤدي إلى نتيجةٍ يجب المثول لها بدلًا من قطع الوشائج بين المقدمات والنتائج، فنعيش في فوضى فكرية مدمِّرة؛ هذه النتيجة تقول بأن «الانفتاح على كل جوانب الحضارة الإنسانية ينبغي أن يكون قائمًا.» ويبرهن الدكتور على صدق نظريته من الفن الإسلامي، الذي يمكن للمؤرخ أن يكتشف أصولَه وفروعَه، ومنابعَه ومصابَّه من الحضارات القديمة والحضارات الحديثة؛ بحيث توفَّرَت له الأصالة والمعاصرة في آنٍ. وحتى يضع كل النقط على كل الحروف يقول: «إن الفكر الإسلامي لا يعتبر نفسه بديلًا من حضارةٍ قديمة، ولا بديلًا عن دينٍ قديم، وإنما يعتبر نفسه امتدادًا طبيعيًّا لكل جهدٍ إنساني فاضل، ومن أجل خير الإنسانية وأصالة الفكر الإسلامي»؛ لذلك لا تتأتى من كونه «الأول والآخر»، بل لأنه «كان منفتحًا على كل هذا الفكر الإنساني الموجود، ولم يكن هناك أي نوع من الانغلاق». وهكذا — يقول الدكتور عبد العزيز كامل — «لا أستطيع أن أفرق بين فكر إسلامي وفكر إنساني.» هذا على وجه التقريب هو موقف الفكر الديني المستنير من التراث؛ فالإسلام دعامة المركزية، ولكنه يتخطى الأسوار الجامدة، ويحاول اللحاق بركب العصر.
أما التيار الحضاري العلماني، فقد بدأ بكلمات للدكتور حسين فوزي، قال فيها إنه فوجئ منذ سنوات قليلة باليابان تحتفل بمضي مائة عام على انتهاجها طريقَ الحضارة الغربية، بينما كانت مصر أحق من اليابان بهذا الاحتفال وقد مضى على لقائها بالحضارة الغربية أكثر من ١٥٠ عامًا، ويستخلص من ذلك دلالةً خطيرة هي أن اليابانيين قد تخلَّوا في فترة قصيرة عن العُقد ومركَّبات النقص، بينما نحن لا نزال نعاني من رواسبَ دينية وقومية عنصرية، لا تعترف بما حققه الآخرون لأنفسهم وللعالم ولنا، بل لا تعترف ضمنًا بأننا تاريخيًّا جزء لا ينفصل عن سياق هذه الحضارة. ويلتمس الدكتور حسين فوزي بكلتا يدَيه ظاهرةً بالغة الأهمية في أوروبا، وهي أنه لا اختلاف بين شرقها وغربها رغم تباين النظام الاجتماعي في كُلٍّ منهما. وهو يستدل من وحدة خيوط المظلة الحضارية التي تغطيهما معًا أن الحضارة في جوهرها «إنسانية» بالأخذ والعطاء، وأن التنوع يُخصب هذه الحضارة ولا يُفقرها. هناك «نظام حضاري» يستمد منه النظام السياسي والاجتماعي أيًّا كانت تقاليده العامة المشتركة. وأولى هذه التقاليد هي فصل الدين عن الدولة «نقطة الدين دي بين المرء وبين ربه، دي مسألة تهم الشخص بينه وبين ربه، المجتمعات الحديثة لا يسيِّرها الدين اليوم، في العصر الحديث لا يمكن أبدًا أن يُسيِّر الدين الدولة.» وينتقل الدكتور حسين فوزي إلى نقطةٍ أخرى هي أن الحضارة الإسلامية ليست كلها من ثمار الفكر العربي «إلا أن النبي والخلفاء كانوا من العرب» — على حد تعبيره — والواقع أن الحضارة الفارسية والهندية واليونانية هي التي كوَّنَت ما يُسمَّى بالحضارة الإسلامية. ويعود إلى نقطة الدين والدولة فيقول: «إن أوروبا هي الأخرى في زمنٍ من الأزمان لم تكن تفصل بين الدين والدولة، ولكن التاريخ يُسمِّي هذا الزمن بالعصور المظلمة، في وقت كان العرب والمسلمون يرفعون مشاعل العلم والفلسفة الدافقة بالنور والحياة. ويتساءل: لماذا تكون امتدادًا لعصر نهضتنا ونُصِرُّ على أن نكون امتدادًا لعصور الظُّلمة؟ ويجيب بأننا أَوْلى الشعوب بالحضارة التي ندعوها غربية، وهي في الحقيقة حضارة الإنسان أينما كان، هناك حضارةٌ واحدة، مركزها الآن في أوروبا، ولكنها حضارتنا نحن أيضًا. هذه الحضارة الواحدة هي التي نشأَت في عهد الإحياء أو عصر النهضة كما يقول البعض. وهي الحضارة التي قامت على علوم اليونان وفلسفة اليونان وفنون اليونان عن طريق الحضارة الإسلامية. هذا ما حدث، واحنا نعيش اليوم بفضل هذه الحضارة، ثم مصر آخر بلد يحق لها أنها تقول أنا ما أخدش الحضارة الغربية دي، حاجة غريبة عني، غريبة عني ليه يا مصري؟ غريبة عنك إزاي؟ ده أنت ثلاث مرات في تاريخك كنت ضالع في هذه الحضارة. التاريخ الفرعوني، اليونان شهدت للفراعنة بأنهم هم مصدر كبير جدًّا من مصادر الحضارة بتاعتهم. إذا احنا كنا في العصر الفرعوني مؤسسي حضارة، في العصر المسيحي دي مجهولة حتى لبعض المسيحيين عندنا، كل ما يُسمَّى حياة الدير التي تُتبع في الأديرة الأوروبية بدأَت في الصحراء المصرية، عندما هاجر المسيحيون تحت ظلم بيزنطة المسيحية؛ لأن العقيدة القبطية في مصر تختلف عن عقيدة البيزنطيين. تعترف أوروبا لمصر اليوم بفضل عظيم جدًّا على تطور الفكر المسيحي عن طريق البطاركة في أوائل العصر المسيحي، أدي المرتين اللي كانت فيهم مصر ضالعة في الحضارة. العصر الإسلامي، من ينكر على مصر الإسلامية في كل تاريخها أنها كانت المركز الإسلامي العلمي بفضل الأزهر الشريف؟ فإذن ثلاث مرات في تاريخنا نحن ضالعون في الحضارة الغربية.»
والتقط الخيط أحمد بهاء بمهارة من الدكتور حسين فوزي، حين قال إن نكبة الإسلام والمسلمين سابقة على الماركسية بقرونٍ طويلة من الانحطاط المادي والمعنوي؛ لذلك فلا صحة لما يقال — خاصة بعد الهزيمة — من أن الماركسية هي التي تسبَّبَت فيما آلت إليه أمورنا من تدهور. وعلى النقيض من ذلك — يقول بهاء — إن عصور ازدهار التراث الإسلامي كانت تلك التي حفلَت بالحوار، أخذًا وعطاءً مع كافة المذاهب الفكرية والاتجاهات الاجتماعية، وإن هذا الاحتكاك المباشر بالثقافات الأخرى هو الذي بلور التيارات المتصارعة داخل الإسلام، فيما دعوه بلغة عصرنا يسارًا ويمينًا، ولقد ظل اليمين دومًا هو الحريص على غلق كافة النوافذ، كما كان اليسار دومًا هو الحريص على فتحها. وكان الانغلاق يعني بالإضافة إلى الركود وفساد الهواء احتكارًا لحرية الفكر والتعبير مما نُسمِّيه اليوم الدكتاتورية. وكان الانفتاح يعني بالإضافة إلى الحيوية والهواء النقي والحياة إشاعة حرية الفكر والتعبير، مما نسميه اليوم الديمقراطية، ولسوء حظ المسلمين عامة والعرب خاصة أن الرجعية اليمينية قد استولت على مقاليد الحكم أمدًا طويلًا من الزمن، سادت خلاله كل آفات الدكتاتورية، من تعفنٍ وتهرؤٍ وموتٍ حقيقي. ولا ضَير — يستطرد أحمد بهاء الدين — من مواجهة الدعوات الإسلامية في أيامنا مواجهةً شجاعة، بعيدًا عن اللف والدوران، فنقول إن الإسلام كغيره من الأديان يتضمن قيمًا خلقية، يمكن أن تستمر كنوعٍ من «وازع الضمير»، أما ما جاء فيه من أحكام وتشريعات دنيوية فقد كانت من قبيل «ضرب المثل، ومن باب تنظيم حياة نزلَت في مجتمعٍ بدائي إلى حدٍّ كبير»؛ ومن ثَم فهي لا تلزم عصرنا ومجتمعنا؛ لأنها لا تقبل التعميم، ولأن «الإسلام ترك لنا مجال الاجتهادات الاقتصادية والاجتماعية إلى حدٍّ كبير جدًّا.» ثم توقف بهاء عند ظاهرة مؤدَّاها أننا في حياتنا الاجتماعية نلتقي برجال الدين «مرتَين في التاريخ؛ مرة قبل التقدم يقولوا حرام، ومرة بعد التقدم يقولوا ده ربنا قال كده، تعليم المرأة قعدوا يفتوا ميت سنة إن تعليم المرأة حرام، لما كل الستات راحوا مدارس، وأصبح ده موضوع مش محل بحث، كلهم بيفتوا دلوقت إن السيدة عائشة كانت هي إحدى مصادر الحديث، طيب ما طلعتش الفتاوي ليه دي؟ إذن هنا فيه شيء غير الكتاب المقدَّس، الكتاب لا ينقد نفسه، ولكن فيه مجموعة قيم تندثر وتنهار؛ لذلك في التاريخ الإسلامي مراحل ازدهرَت فيها القيم دي فحصل التقدم والمدنية، وفيه مراحل كان فيها المجتمع الإسلامي إذا قلت إن القرآن مخلوق أو قديم يذبحوك، يحطوك في السلاسل.» ويقول بهاء إن «بعض الملوك دلوقتي بيلبسوا زي لبس الفاتيكان، والناس بتقبل أيديهم، ومبرر وجودهم هو الدين.» والحل الحقيقي إذن هو فصل الدين عن الدولة، أيًّا كان التحدي الذي يصادفنا من «التفسير المتخلف للإسلام، والطقوس القديمة التي علقَت به خلال مراحل الاضمحلال. التحدي الثاني هو احترام وتقدير القيم الحضارية العصرية، تلك القيم التي تسمح لنا بأن نتقدم كمجتمعٍ إنساني.»
ويتبنى الدكتور لويس عوض — قرب النهاية — أفكار الحكيم وحسين فوزي وأحمد بهاء الدين، ويضيف «إن المشكلة في العالم العربي في المقام الأول مشكلة أنظمة حكم»؛ فالصراع الاجتماعي الكامن في الأرض العربية يطفو على السطح، فيما تتخذه سلطات الحكم الرجعية من تعليمات وإجراءات، من شأنها تغذية الاتجاهات الفكرية الموغلة في التخلف، واعتبارها هي «الدين»، ولا يملك المثقفون المتحضرون سوى الصراع بالقلم، في ظروفٍ مريرة تُخيِّم عليها المشانق والسجون والمعتقلات، حتى تجديد الفكر الديني ظل دومًا عُرضة للإجهاض المستمر، من جانب الأمية الرهيبة، التي تدفع من ٨٠ بالمائة من شعبنا إلى رحاب الجهل النشيط، بالإضافة إلى مسائل التجهيل الجهنمية التي تبتكرها الأجهزة الحكومية والمؤسَّسات، حتى تُخضع لنفوذها وتدبيرها مَن فاز بمعرفة الأبجدية. ومن هنا تضيع الفرصة على أي مفكر، أو صاحب اجتهاد ديني، في معمعة الأصوات الزاعقة والمؤثِّرة للأسف، بأن هذا المجدِّد أو ذاك يقوِّض أركان الدين، بينما هو لا يفعل أكثر من تحطيمه لأفكار «متآكلة ورثناها من عصور الظلام.» ثم يركِّز الدكتور لويس عوض على ذلك الانفصال، الذي يقيمه بعضهم بين الآلة أو الماكينة والعقل المفكِّر الذي أثمرها، حتى أصبحنا مجموعةً شرهة من المستهلكين لثمار الحضارة لا مساهمين في إنتاجها. إن الفصل بين مقدمة الحضارة — من القيم والأفكار — ونتائجها التكنولوجية، يخلق منا شخصيةً مشروخةً منقسمةً على ذاتها، وهو مرضٌ حضاري يسبق الموت. وانفصالنا الحضاري مركَّب وليس انفصالًا بسيطًا؛ لأننا منفصلون عن تيار الحضارة العصرية من ناحية، ومنفصلون عن مكوِّنات حضارتنا نحن نفسها من ناحيةٍ أخرى. وأبرز الدلائل على هذا الانفصال المركَّب هو ترحيبنا الحار بالآلات والماكينات الغربية، واستنكارنا المريب لأفكار وقيم الحضارة التي أنتجَتها، ومن جهةٍ ثانية ارتكاز بعضنا على «سمعة» هذا الجد أو ذاك من أجدادنا الفراعنة أو الأقباط أو المسلمين، وكأن هذا الدرع هو الحماية الواقية، أو البديل لأجداد آخرين لا يتكلمون الفرعونية أو القبطية أو العربية. إن فصل الدين عن الدولة — عند الدكتور لويس عوض — هو المقدمة الأولى للاتصال الطبيعي بركب الحضارة إن شئنا ألا ننقرض، فإذا أقمنا على هذه الخطوة الأولى وضَعْنا القدم على أول الطريق الصحيح.
•••
وهكذا نجحَت الندوة، فيما أعتقد، بأنها بلورَت إلى حدٍّ ما صورةً تقريبيةً لما يعتمل في العقل والوجدان، وتكاد ملاحظاتُنا الأخيرة أن تنحصر فيما يلي:
وهنا تجيء النقطة الأخيرة في هذا السياق؛ فلقد كانت ندوة الأهرام كما قلتُ مجموعة من المونولوجات اتفقَت مع بعضها أو اختلفَت، ولكنها لم تكن قط حوارًا عقليًّا، حتى إن الرئيس الليبي خرج من القاعة دون أن يغيِّر قناعتَه الخاصة حرفٌ مما قيل، بالحذف أو بالإضافة أو التعديل. ولأن الرئيس الليبي شابٌّ صغير السن ومتحمس، رجلٌ عسكري ويملك السلطة، فقد نفَّذ معتقداته الخاصة في التراث والعصر تنفيذًا لا يخصه وحده، وإنما يخص جماهير الشعب الليبي، وربما بعض الشعوب الأخرى، مهما تعارض هذا التنفيذ تعارضًا حادًّا مع كل ما سمعه من الآخرين عن الإسلام والحضارة، ومهما بلغَت حدة هذا التعارض درجة الانفجار السياسي والاجتماعي، سواء في علاقاته الدولية أو علاقاته العربية، بل لعل هذا التعارض الحاد بينه وبين الواقع قد هزَّ صداه الفاجع أرجاء الدنيا، بما يحدث الآن فوق أرضنا من أحداث كنا نظن الماضي قد تكفَّل بها، وأمست ذكرياتٍ يحزن لها القلب، ويرتوي بدمائها العقل، حتى يشد العينَين إلى المستقبل.
(ﻫ) الأصالة والتجديد في الثقافة العربية المعاصرة
وأيًّا كان رأينا فيما اشتمله دليل المؤتمر من أفكار حول التراث والتجديد، فإن ما يعنينا هو البحوث التي أُلقيَت بالفعل، ومعظمها لم يلتزم — إلى هذه الدرجة أو تلك — بما أوحَى به الدليل من وجهة نظر إلى القضية المطروحة. وربما كان ذلك خيرًا؛ لأن الباحثين يُعبِّرون عن تياراتٍ متصارعة، قلما نجد أرضًا مشتركة كالتي أرادها الدليل. لقد حاول الدكتور شكري عياد — مثلًا — في بحثه «مفهوم الأصالة والتجديد والثقافة العربية المعاصرة» أن يتابع رحلة المصطلح في النقد المصري الحديث؛ أي إنه اتبع منهجًا تاريخيًّا في التعرف على الأرض الواقعية، التي بُذرَت فيها ونبتَت وازدهرَت قضية الأصالة والمعاصرة. وقد اكتشف أن الأصالة كانت تعني عند جيل الرواد — أمثال طه حسين والحكيم والعقاد وهيكل — معاداة التقليد، سواء كان هذا التقليد عن العرب أو عن الغرب، وأنها تعني في الوقت نفسه التزود بثقافة هؤلاء وأولئك. وهو لا يرى تناقضًا بين الأصالة الفردية والأصالة القومية؛ لأن ذات الكاتب ليست — ولا ينبغي لها — أن تكون بمعزل عن الخصائص الجوهرية لشعبه وأمته. وهو يصوغ هذا التعرُّف في «حقيقتَين»؛ أولاهما يدعوها بالحقيقة الأدبية، والأخرى بالموقف الحضاري. «أما الحقيقة الأدبية، فهي أن الموهبة الفردية لا يمكن أن تزدهر بعيدًا عن التراث؛ فالموهبة الفردية تعبِّر عن نفسها من خلال لغة، واللغة هي نظام من العلاقات خلقَته أجيالٌ طويلة، وتعاقَب عليها مواهبُ شتى، فأصبحَت تحمل عطر هذه المواهب جميعها، ولا يمكن أن يكون الكاتب أصيلًا — أي ذاتيًّا — في تعبيره إذا لم يعرف مداخل هذه اللغة ومخارجها، ولطائفها ودقائقها.» وأما الموقف الحضاري فربما كان — على حد تعبيره — أكثر تعقيدًا «فنموذج الأديب العربي في العصر الحديث هو نموذج الفرد الثائر على جمود التقاليد، الذي يحاول أن يعيش عصره، وأن يخلق رؤيته الخاصة؛ ومن ثَم فلا بد أن يكون له قدْرٌ من أصالة، إثباتًا لذاتيته في مواجهة الأنماط الموروثة، وأن يكون حامل دعوة تصطدم بالقديم، ولكنه من ناحيةٍ أخرى يعيش في عالمٍ مادي يخنق الفردية، ويضع البشر في قوالب؛ ولهذا فهو يفكر بهذا العالم، ويفرُّ إلى عالمٍ آخر أكثر إنسانية، إلى العالم الذي يُحدِّثه عنه تراثه، سواء كان تراثًا شعبيًّا أو تراثًا مكتوبًا، ويشعُر أنه أكثر صدقًا مع نفسه في ذلك العالم القديم، وهنا تكون أصالته في محافظته على تراثه.» ويستطرد الدكتور شكري عياد قائلًا إن مصطلح الأصالة قد برز في السنوات الأخيرة، مع اطراد الاتجاهات الفكرية والفنية الوافدة من الخارج؛ بحيث أصبحَت كلمة الأصالة معيارًا «تُقاس به قدرة الأديب على أن يحتفظ بذاته — الفردية والقومية — على الرغم من المؤثِّرات الخارجية.» وهو يرى أنه من الممكن أن نبحث عن الصفات الثابتة والصفات المتغيرة «بشرط ألا نفهم من الثبات معنى الجمود والمحافظة، وإنما هو مجازٌ نستعمله ونقصد به معنى الديمومة والاستمرار»، والباحث لا ينسى أن هذه المجموعة من الأفكار ليست مقصورةً على الأدب وحده، ولا على الثقافة وحدها، وإنما ترتبط بالموقف الحضاري الراهن للأمة العربية كلها، وهي تعيش — جنبًا إلى جنب — ماضيَها وحاضرَها ومستقبلَها. وهو يكاد يتفق على أن الحملة الفرنسية على مصر كانت بداية يقظتنا القومية، ولكنه يضيف أن الهزائم التي حلَّت بالوطن العربي في تونس ١٨٨١م، ومصر ١٨٨٢م، والسودان ١٨٩٨م، قد برهنَت للعالم العربي أنه يواجه تحديًا كبيرًا تستلزم مواجهتُه التجدد، وإن دعا هذا التحدي نفسه إلى الاهتمام بالتراث. إن تلك الهزائم قد عنَت أولًا أننا نيام، وعلينا أن نصحوَ، أن نعاصرَ عالمنا. وفي الوقت عينه لم يكن تخلُّفنا الحضاري وحده هو السبب في تلك الهزائم، وإنما كان الوجه الاستعماري للحضارة المعاصرة قد استغل هذا التخلُّف، وأراد طمسَ شخصيتنا القومية؛ ولذلك كان علينا أن نعمِّق الوشائح بيننا وبين تراثنا «وهكذا برزَت دعوة التجديد كما برزَت دعوة الأصالة».
وربما كانت الرؤية الأكاديمية للمشكلة هي التي انعطفَت بالدكتور شكري عياد هذا المنعطف التجريدي في البحث عن الأصالة والمعاصرة. وهو قد استبعَد منذ البداية التيار السلفي القائل بالعودة إلى التراث، كما استبعَد التيار القائل بالإبحار نهائيًّا إلى الشاطئ الغربي. عملية الاستبعاد المزدوج هذه تُوحي بتعاطفه إلى حدٍّ ما مع التيار الوسطي القائل بالتراث والتجديد معًا؛ فقد كانت رحلته مع مصطلحات هذا التيار محاولةً لتأصيله وتطويره، وترشيحه أخيرًا للسيادة على الثقافة العربية المعاصرة. ولا ضَيْر أن يكون هذا اختياره الأيديولوجي، ولكن عملية الاستبعاد التي قام بها قد جرَّدَت المسألة المثارة من ملابساتها «الواقعية»، التي كان الباحث — بمنهجه التاريخي — قادرًا على رصدها وإحصاء تفاعلاتها، سواء مع الواقع الاجتماعي الذي أثمرَها، أو مع الواقع الثقافي الذي عكَسَها، فيما نعرفه من جدلٍ عنيفٍ حول هذه القضية منذ بدايات القرن الحالي. إن المنهج التاريخي الذي آثره الكاتب قد خلا تمامًا من البعد الاجتماعي؛ ولهذا السبب كان عرضُه تجريديًّا حتى للتيار الذي ركَّز عليه؛ ومن ثَم جاءت النتائج تجريديةً هي الأخرى. إنني أرى مثله في تيار طه حسين وهيكل والحكيم، وغيرهم من بُناة الفكر المصري الحديث، إنجازًا تقدميًّا باهرًا، ولكن هذا الإنجاز في سياقه التاريخي الاجتماعي هو في جوهره «حلٌّ توفيقي» للمشكلة، وهو حلٌّ يساير إلى حدٍّ بعيدٍ بقيةَ الحلول التي قدَّمَتها البرجوازية المصرية في عنفوان ثوريتها لبقية المشكلات الاقتصادية والسياسية. على ذلك فإنني أرى في هذا التيار الوسطي إرهاصًا تقدميًّا بالحل الثوري. وهو الحل الذي ينتقل بنا من «التوفيق» إلى «التركيب»؛ فالقضية التي كانت في ضوء الفكر البرجوازي قضيةً «تراكمية» بالطرح والإضافة من التراث والحضارة الغربية، لم تعُد مع تطورنا الاجتماعي هي قضيتنا. وإنما أمست مشكلتنا هي الإجابة «الكيفية» على السؤال المطروح وفق الاختيار الأيديولوجي لدعاة التقدم. وهي إجابة لا تتأتى بالتوفيق بين قديمنا وجديدهم، وإنما تتأتى بالتركيب الخلَّاق بين عناصر «الثورة»، وهي العناصر المأخوذة من واقعنا المحلي والقومي والإنساني، ومن موقعٍ طبقي محدَّد، مستهدفةً التغيير الكيفي للمجتمع، مجتمعنا «نحن» الذين نعيش في هذا «العصر»، على هذا النحو ستكون «الأصالة والمعاصرة» معنًى واحدًا متكاملًا، أبعد ما تكون عن الازدواجية والانفصام الذي عرفَته البرجوازية، وما زالت تعرفه، في مرحلة انتكاسها بصورةٍ مأساوية حادة. وهو الانفصام السائد على رؤاها الفكرية وسلوكها الاجتماعي على السواء، وهي الازدواجية السائدة على ثقافتها وأبنيتها المادية ومؤسَّساتها جميعًا، وأخيرًا فإن هذا الانفصام وتلك الازدواجية لم ينجُ من انعكاساتهما التي تُمزِّق العقل والوجدان، الفردُ والمجتمع. ولعل الأدب العربي الحديث، بل الثقافة العربية المعاصرة، أكبر الشواهد على هذه الخاتمة التراجيدية.
وما زال اتهام المجددين في الأدب الحديث — الشعر خاصة — بالعمالة للصهيونية والاستعمار قائمًا، منذ بيان لجنة الشعر المصرية، عام ١٩٦٤م، إلى «بحث» الأستاذة فايزة سعد الدين — ممثلة «اتحاد الجامعيات» اللبناني في بيروت — حيث قالت بالحرف: «ولسنا ننكر التجديد على العباقرة والمستطيعين له، الممارسين للشِّعر في أعمالهم، وإنما ننكر على طائفةٍ وليدة، لا علم لها بالعربية، ولا بالتراث اللغوي والفني في شعر العرب ونثرهم، يهجمون هجوم المزاحمين لينشروا في الصحف والمجلات التي أخذوا يُسمُّونها شعرًا منثورًا أو شعرًا جديدًا، وإذا بها تفحُّ سمومًا خبيثة، وتعجُّ بالدعوة العارمة إلى المراهقة الوبيلة، التي تفتُّ في عضُد أمتنا العربية، التي وقفَت مجاهدةً من أجل أوطانها السليبة، فكان شعر هؤلاء أشد وبالًا على أمتنا من وجود عدوِّنا المتمكِّن وراء حدودنا، ولسنا نشُك بأن هذه النزعة ناتجة عن مرامٍ صهيونية أو استعمارية لهدم التراث العربي في شِعره المكين باسم التجديد الحديث، وهذه بعيدة كل البعد عن الأصالة؛ فإن هذه الأقوال التي يزعم أصحابها أنها جديدة، ليست سوى رصف كلماتٍ بغير قوامٍ شعري معروف.»
وبغَض النظر عن المستوى التكنيكي للبحوث، وقد تراوحَت بين التهافت المنهجي والركاكة في الاستقراء والاستدلال، وأحيانًا الجهل المخيف والتضليل المبتذل، فإن الأمر البالغ الوضوح هو انتصار الفكر الرجعي المتخلف في هذا المؤتمر، وهو انتصارٌ مجازي قصدتُ به أنه حقَّق لنفسه «حضورًا» يتفق مع حضوره السياسي بين جدران الدول العربية. وكان المثقَّفون العرب يأملون في المنظمة الثقافية الوليدة أن تكون منبرًا أكثر تقدمًا وديمقراطية، فإذا بها لا تقل سوءًا عن الأصل الذي تفرَّعَت عنه.
ولعل توصيات المؤتمر — أكثر من البحوث التي قُدمَت — خير شاهد على أن الأرض المشتركة التي يمكن أن تقوم بين التوفيقيين والسلفيين، لا بد وأن تثمر هذه التوصيات المضطربة إلى حدٍّ يثير اللوعة. إن توصية تنادي بضرورة تطهير الفكر الديني من «الأوهام التي لا تمُت إليه بصِلة» في القرية، كيف تتفق مع توصيةٍ أخرى تطالب بإبراز القاسم المشترك الأعظم من القيم والتقاليد والعادات الاجتماعية بين شعوب الوطن العربي؛ هذه القيم والعادات هي في جوهرها «الأوهام» التي لا تمُت إلى جوهر الدين بصِلة، أليس كذلك؟ ثم كيف يمكن البحث عن «المقومات الجوهرية» للأمة العربية بين رُكام هذه الأوهام التي كانت سببًا في تخلفنا، والتي كان الاستعمار يركِّز على بقائها حتى لا ننهض من رقدتنا الطويلة، وكيف يمكن أن تكون الفكرة الإسلامية الأولى — القرآن — النقية من الأوشاب هي عماد الشخصية العربية والإسلام هو العقيدة الدينية لمئات الألوف من غير العرب؟ أليس من التماسك المنهجي أن نقول بأمةٍ إسلامية، وإذا شئنا الإصرار على أن هناك أمةً عربية، ألا ينبغي أن نضيف إلى الإسلام مقوماتٍ أخرى تُميِّزنا عن بقية الأمم الإسلامية، كتركيا وإيران وباكستان وإندونيسيا وغيرها وغيرها؟ وما هي هذه المقوِّمات إذن؟ ربما كانت «المواقف المشتركة في شخصيتنا المعاصرة» التي قالت بها إحدى التوصيات، ولكنها لم تخبرنا: بين مَن كانت هذه المواقف مشتركة؟ هل هي مواقف الشعوب ضد الاستعمار ومن أجل التقدم الاجتماعي. أم هي مواقف السلاطين والحكام والملوك والأمراء والأئمة الموالين للاستعمار والمعادين للتقدم؟ واللغة دون شك من عناصر القومية الأساسية، ولكن ما هي طبيعة العلاقة بينها وبين الأصالة؟ هل تنطبق فكرة العودة إلى الينبوع، إلى الفناء الأول، على اللغة، فيصبح المطلوب — مثلًا — هو العودة إلى لغة العصر الجاهلي؟ لقد استخدم الباحثون كلمة «التطور» كثيرًا، ولكن دون تحديدٍ واضح لهذا المصطلَح؛ فقد تطوَّرَت اللغة العربية مثلًا عبْر العصور تطوراتٍ مذهلة؛ بحيث لو أن أحد أجدادنا الجاهليين أو العباسيين قد استيقظ من قبره، لما استطاع أن يقرأ صفحةً واحدة من كتابٍ معاصر لنا قراءةً جديدة مدركة لكل ما ظهر وما خفي من المعنى. تمامًا كما أن قراءة الديوان الجاهلي، أو كتاب في علم الكلام، أو الفقة الإسلامي القديم، لا يجيدها من المعاصرين سوى المتخصصين بعناءٍ شديد، فهل يمكن اعتبار الصحافة والإذاعة والسينما والتليفزيون — على سبيل المثال — من أمراض اللغة أو آفاتها المميتة؟ وما المقصود بالتطور إذن؟ وإذا كتب أحدنا باللغة العذراء التي لم تمسَسْها يد التاريخ بما يخدش بكارتها كلامًا ضد الأمة العربية فهل يُعتبر هذا الكلام أصيلًا أم مزيفًا؟ ألا يثير هذا السؤال قضية الوظيفة الاجتماعية؟ إن التعريب — أيضًا — في الأقطار العربية الناطقة بلغاتٍ أجنبيةٍ مهمةٌ نضالية مقدَّسة، ولكن هل من علاقة بين التعريب بهذا المعنى ومنع دراسة العلوم التكنولوجية باللغات الأجنبية؟ أليست «آداب» اللغة العربية هي المسئولة عن دعم وتطوير وازدهار هذه اللغة؟ ألم يفكر أحدٌ في العلاقة الوثيقة بين المنجزات التكنولوجية ولغتها الأصلية؟ وإذا أنشأنا أجيالًا من الأطباء والمهندسين لا يعرفون سوى العربية، فكيف يتابعون إضافات العالم في تخصُّصاتهم؟ بل وكيف نستفيد حتى بالمعنى الانتهازي من تقدم هذه العلوم في الخارج؟ وهل صحيح — أصلًا — أن «حضور» اللغات الأجنبية يُهدِّد لغتنا القومية، أم أن التفاعل بين اللغات يُثريها جميعًا، بغَض النظر عما يعكسه هذا التفاعل من قيمٍ حضارية؟ ألم تكن لغتنا بحاجة من السادة الباحثين إلى تقديرٍ أعمق من هذا الحماس السطحي، فيناقشوا مثلًا أساليب التربية والتعليم السائدة في الوطن العربي، والتي لا يمكن أن تُربِّيَ أو تُعلِّمَ أصول هذه اللغة تربيةً صحيحة، وتعليمًا سليمًا يدفعان النشء لعشق هذه اللغة، فيقرأ بها الإبداعات العبقرية التي أثمرَتْها في الآداب والفنون. وحينئذٍ يستطيع أن يكون الفتى طبيبًا ممتازًا بالرغم من أن مراجعه الطبية كانت بالإنجليزية، ومن أن يكون عربيًّا أصيلًا في وقتٍ واحد؟
لقد اكتفيتُ هنا بهذه المجموعة من الأسئلة التي لم يُجب عنها المؤتمر؛ ذلك أن الخلط والتناقض والاضطراب كان السمةَ البارزةَ لأعماله، حتى في إطار نتائجه الرجعية، فلم يكن أصيلًا ولا معاصرًا ولا بينَ بين.