الفصل الرابع

الحصاد النظري والعملي

ربما كان «التكرار» هو السمة البارزة على سياق هذا القسم، ولكنه تكرارٌ مقصود؛ إذ بواسطته تعرَّفنا على رقعةٍ واسعة من التناقضات المتصارعة في الفكر العربي حول قضية التراث، وليس تكرارًا أن نجملها فيما يلي:

أولًا: التيارات الإسلامية

  • (١)

    تيار يرى في التراث الإسلامي «مطلقًا إلهيًّا» منزهًا عن الفكر الإنساني؛ وبالتالي فهو يرى في «القرآن» — لا في التاريخ الإسلامي — الفكرة الأولى المجردة عن أية ملابسات اقتصادية واجتماعية وسياسية، لا علاقة لها بفكرة المسلمين أنفسهم، فضلًا عن فكر غيرهم، سواء في الماضي أو في الحاضر. وهذا التيار يؤدي عمليًّا إلى وجهتَي نظرٍ متناقضتَين؛ الأولى هي أن الطابع الإلهي للقرآن ينأى به عن أيدي البشر، وإنما يتطلَّب الأمر أشبه ما يكون بالتصرُّف من الينبوع الأول، فيتم الخلاص الذاتي للفرد بهذا التوحُّد، بغَض النظر عن موقف الدولة أو المجتمع من هذا الينبوع. إنه موقفٌ أشبه ما يكون بالرهبنة بغير دير، إنها رهبنةٌ داخلية. أصحاب هذا الموقف — عمليًّا — لا يفرضون على غيرهم شيئًا، إنهم — موضوعيًّا — يفصلون الدين عن الدولة، وإن انحصرَت حياتهم — الروحية على الأقل — بين أسوار الدين، شوقًا وذوبانًا ووَجدًا. وِجهة النظر الأخرى لا ترى في «المطلَق الإلهي» — وهو القرآن — مجرد صلوات، وإنما تراه تشريعًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا واجب التطبيق من جانب الدولة الإسلامية. أصحاب هذا الموقف يرون في الإسلام خلاصًا اجتماعيًّا — أحيانًا خلاصًا إنسانيًّا للعالم أجمع. إن الأرض المشتركة بين وجهتَي النظر هاتَين، هي أن التراث الإسلامي هو القرآن فحسب؛ وبالتالي فهو ليس تراثًا إنسانيًّا. ومن هنا كانت دعوتهم إلى تنقية التراث، أو إعادته إلى جوهره، هي إزالة ردود الفعل الإنسانية إزاء هذا التراث، سواء كانت حوارًا بين فلاسفة الإسلام والفلسفات الأخرى «البشرية»، أو كانت اجتهادًا في التفسير، أو كانت ربطًا بينه وبين روح العصر، أو أوهامًا من العادات الاجتماعية والتقاليد.

    إن التناقض الأليم الذي يقع فيه هذا التيار بشقَّيه، ليس بينه وبين نفسه؛ فلعلَّه من هذه الزاوية هو أكثر التيارات الإسلامية في فهم التراث تماسكًا واتساقًا، وإنما يقع التناقض بينه وبين طبيعة الحياة «الإنسانية». إن الذي يرى في القرآن خلاصًا لذاته محاصَر، كلَّ لحظة في حياته اليومية، بما يخدش حياء صوفيته هذه، بما يتناقض معها؛ لأنه لا يعيش في الفضاء المجرَّد، وإنما هو يحيا في إطار مجموعة من العلاقات الاجتماعية، التي لا تتفق في الكثير أو في القليل مع إيمانه ورغبته في السلوك وَفْق هذا الإيمان. إنه مضطرٌّ لأن يأكل ويشرب ويعمل ويُعالج، وغير ذلك من «أفعال» لا يملك ما ينشأ عنها من ردود أفعال، بل إن الآخرين أيضًا يملكون «أفعالهم» التي لا يستطيع أن يتحكَّم فيما يصدُر عنه إزاءها من ردود أفعال. وهكذا يتمزَّق بين مطلَقه الإلهي وإرادته في الخلاص الفردي وطبيعة الحياة من حوله. أما التناقض الذي يقع فيه أولئك، الذين يرون أيضًا في القرآن مطلقًا سرمديًّا واجب التطبيق، فهو بين الطبيعة الإلهية لمصدر التشريع والطبيعة البشرية لأدوات التنفيذ. إن الذين طبَّقوا أو يطبِّقون أو سيطبِّقون القرآن هم «بشر» بكل معنى الكلمة؛ فإما أن نفترض أنهم معصومون من الخطأ؛ بحيث إن العنصر الإلهي فيهم هو الذي سيتعامل مع النص الإلهي، وإما أنهم معرَّضون للخطأ. وفي الحالة الأولى يبرُز السؤال عمَّن هو الوصي الإلهي الذي سيختار مبعوث العناية الإلهية. وفي الحالة الثانية يبرُز السؤال عمَّن سننسبُ إليه الخطأ إذا وقع، وإذا تراكمَت الأخطاء فأين المنقذ من الضلال؟

    ولعل التناقض الأكبر الذي يعانيه هذا التيار، ليس بين المؤمن بالخلاص الفردي والمجتمع، أو بين النظرية والتطبيق فحسب، بل بين هذا النص الإلهي وبين تحديات العصر بتشريعاته المغايرة. ربما كان الحل هو أن «يُسْلم» العالم كله، ولكن حتى يتم ذلك، فإن تحديات العصر قد تكون أنجزَت مهمتها، وألقت بنا في مزبلة التاريخ.

    وتنحصر جهود هذا التيار غالبًا، في اكتشاف كل منجَزات التاريخ الإنساني، بين صفحات النص الإلهي، سواء كانت هذه المنجَزات مادية أو معنوية. ومن المفارقات الجديرة بالنظر أن من المحاور الرئيسية في الفكر الإسلامي ذلك الجدل الدموي القديم، حول ما إذا كان القرآن قديمًا أم حديثًا. وكما أن هذا الجدل تعبيرٌ عن الصراع الاجتماعي المحتدم في الدولة الإسلامية القديمة، فإن التبني المعاصر من جانب أحد التيارات الإسلامية، في فكرنا الحديث، لوجهة النظر الرجعية بمقاييس ذلك الزمن القديم، يجسِّد الموقع الاجتماعي لهذا التيار تجسيدًا دقيقًا. إنه الموقع المضاد للثورة على كافة مستوياتها الاقتصادية والسياسية. وإذا كان الجدل القديم قد ارتدى ثيابًا فقهيةً بالغة التعقيد، فإنه في زماننا يخلع هذه الثياب، وينزل الحلبة عاريًا صريحًا ضاريًا.

  • (٢)

    تيار يرى التراث الإسلامي أكثر شمولًا من القرآن، فيضم إليه الفكر الإنساني على مدى التاريخ؛ وبالتالي فهو يضع النص الإلهي جنبًا إلى جنب مع الجهود البشرية التي رافقَته منذ نضال الرسول حتى الآن. ومن هنا فهو لا يرفض مطلقًا المؤثِّرات التراثية الأخرى، التي تركَت بصماتها — بالتفاعل الحر الخلاق — على تاريخ الفكر الإسلامي. وهو لا يرفض الحوار المعاصر مع الإسلام من جانب التيارات الفكرية الحديثة. وهو يرى في التراث الإسلامي بهذا المعنى مرتكزًا لإقامة المجتمع الإسلامي الجديد، ولكن هذا التيار هو الآخر ينقسم إلى وجهتَي نظر؛ الأولى ترى أنه بالإمكان تطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقًا مرنًا يأخذ في اعتباره مقتضيات العصر، خصوصًا التكنولوجية منها، والمرونة المقصودة هي استخلاص القيم العامة من التراث الإسلامي دون التقيد الحرفي بالنصوص، التي لا يمكن فهمها حق الفهم إلا بوضعها في سياقها التاريخي. الاتجاه إلى الكليات دون الجزئيات هو منهج أصحاب هذا التفكير في التراث الإسلامي. ومن المبادئ الرئيسية التي تشملها هذه الكليات «الانفتاح» على العالم، وإن الله لم يستهدف أن يضُم القرآن علوم الأولين والآخرين؛ وبالتالي فإنه امتهانٌ لكتاب الله والعلم معًا أن نبرهن على أن القرآن احتوى علوم العصر وكل عصر، مشكلاتنا ومشكلات غيرنا. إن هذا الفريق يرى في القرآن وبقية عناصر التراث الإسلامي «منهجًا» في التفكير، أقرب إلى ما نسمِّيه الآن «دليل عمل». أما وجهة النظر الأخرى التي تنضوي تحت لواء الفكر العام لهذا التيار، فترى أيضًا أن التراث الإسلامي أوسع من أن يكون القرآن دعامته الوحيدة، وإن كان الدعامة الأساسية، ولكنها تركِّز على نقطتَين؛ أولاهما دور الفكر البشري في صياغة التراث الإسلامي، والثانية أن هذا التراث لا يُلزِمنا بشيءٍ فيما يخص «شئون دنيانا»؛ وبالتالي فهو يكاد يومئ بفصل الدين عن الدولة.

على أية حال، فإن هذا التيار بشقَّيه يجد صدًى واسعًا بين صفوف الجماهير — وبخاصة البرجوازية الصغيرة — وهو يُعد امتدادًا لتجديد الفكر الديني، وهو في جوهره إصلاحي، ولكنه يُعاني في محاجاة التيار الأول من افتقاره للتماسك المنهجي. إنه يعتمد على «التناقضات» التي يزخر بها التراث الإسلامي، وينتقي منها ما يدعم به وجهة نظره، ولكنَّ «الآخرين»، بموجب هذه التناقضات نفسها، يجدون ما يدعمون به وجهة نظرهم. والحق أنه ليس صراعًا لاهوتيًّا، وإنما هو صراع اجتماعي أولًا وأخيرًا؛ فالتيار تتبناه إلى نهاية الشوط الطبقات الرجعية الموغلة في التخلف، أما هذا التيار فتتبناه الشرائع المطحونة من البرجوازية، التي تحاول أن تجد حلًّا أيديولوجيًّا لمعاناتها الصعبة بين التقدم الاجتماعي والاتصال بروح العصر التي تدعم هذا التقدم، وبين عدم الانخراط في صفوف الثورة الشاملة.

ثانيًا: التيارات الليبرالية

  • (١)

    تيار «إنساني» ينظر إلى التراث على أنه التاريخ المادي والمعنوي للبشرية جمعاء، دون اعتبار الجنس أو اللغة أو الدين أو اللون، وأن الحضارة الغربية في الوقت الراهن هي «حضارة الإنسان»، كما كانت الحضارة الفرعونية أو اليونانية أو السومرية أو الإسلامية في يومٍ من الأيام. ويرى هذا الفريق أن أهم ما حقَّقَته الحضارات القديمة والوسيطة، ورثَته حضارة العصر الحديث؛ بحيث إنه لم يعُد مجديًا النظر إلى الوراء على أي نحوٍ من الأنحاء، بل علينا أن نأخذ من الحضارة الغربية مباشرةً إذا شئنا التقدم. أما التراث الديني فيراه أصحاب هذا الموقف مجموعةً من القيَم، التي اشتركَت في صياغتها، ولا تزال، كل الأديان والفلسفات والآداب والفنون، إلا إذا كان المقصود هو «العقيدة الدينية»، فحينئذٍ يقتصر أمر هذه العقيدة على العلاقة الشخصية بين الفرد وربه، ولكن شئون المجتمع والحياة لا علاقة لها بالدين؛ فهُم من كبار الداعين إلى فصل الدين عن الدولة، وفهمهم للحضارة الحديثة أقرب إلى التعميم؛ فهم لا يُفرِّقون بين «الحضارة» في الشرق الاشتراكي والغرب الرأسمالي، إنها في نظرهم مجموعة من القيم العلمانية القريبة من أفكار عصر التنوير الأوروبي. والمفارقة الجديرة بالنظر عند هؤلاء «الإنسانيين» أنهم يُولُون التراث الحضاري الإقليمي انتباهًا شديدًا، ولكن بغير حساسيةٍ عنصرية؛ فهم إذا كانوا مصريين مثلًا، يهتمُّون أبلغ الاهتمام بتاريخ مصر الفرعونية والقبطية والإسلامية.

    ولا شك أن هذا التيار يعبِّر عن الوجه الآخر للطبقة المتوسطة، إنه الوجه المقابل للتيار الإسلامي الأول، رغم وحدة الأرض الاجتماعية بينهما، إلا أن هذا التيار «الإنساني»، بمضمونه الليبرالي، يعبِّر عن الجناح الضعيف في البرجوازية، التي تخلَّت منذ أمدٍ طويل عن جوهرها الديمقراطي. ومن هنا كانت أيديولوجيتها الجديدة هي الثيوقراطية — الكهنوت الفاشستي المعادي للعلم والديمقراطية الليبرالية — ومن هنا أيضًا كان تأثير هذا «التيار الإنساني» ضعيفًا؛ لأنه يعبِّر عن «ذكريات» البرجوازية، لا عن البرجوازية التي تتربع على عرش السلطة الآن، وقد تركَت ذكرياتها في الظلال؛ هذا على الرغم من أن ممثلى «التيار الإنساني» من كبار قادة الفكر العربي وألمعهم، بينما ممثلو «التيار الإسلامي الأول» من أضعف العقول وأكثرها تهافتًا. ولو أننا تذكَّرنا الثقل الحقيقي لقادة «التيار الإنساني» في الماضي، لعرفنا أنهم كانوا يمثلون البرجوازية في عنفوانها الثوري، أما الآن فإن لمعة أسمائهم التاريخية لا تتفق مع الأرض التي ارتحلَت من تحت أقدامهم إلى برجوازيةٍ رجعيةٍ دكتاتوريةٍ لا يعبِّرون عنها، ولكنهم أيضًا لا يعبِّرون عن شيءٍ جديد، وتلك هي مأساتهم الحقيقية.

  • (٢)

    تيارٌ عربي يرى في التاريخ العربي — متضمنًا الإسلام — تراثنا المنفتح على الفكر العالمي قديمه وحديثه. ويركِّز هذا التيار غالبًا على الحلول الوسط متبنيًا الاتجاهات الليبرالية في التفكير الغربي، باحثًا عن نظائرها في الفكر العربي والإسلامي. إن «حرية الفكر» بصورةٍ تجريديةٍ ومطلَقة، و«العلم … التقني» هما محور المصالحة التي يقيمها هذا التيار بين أكثر عصور الحضارة العربية الإسلامية ازدهارًا والعصر الحديث. وتتمُّ هذه المصالحة على جسورٍ من الانتقاء والتوفيق بين العناصر المشتركة مجازًا — أو المتشابهة بمعنًى أدقَّ — في كلا التراثَين والحضارتَين. رؤية هذا الفريق التراث العربي والإسلام تبدو على هذا النحو، كما لو كان هذا التراث «شاهدًا» أو «وسيلة إيضاح» أو «دليل إثبات» على ضرورة الأخذ من الحضارة الغربية؛ أي إن الهدف الحقيقي هو الاتجاه بنا نحو الغرب، ولكن مرورًا بماضينا. وقلتُ «الغرب» — لا الحضارة الحديثة — لأن أصحاب هذا الاتجاه يقصدون الغرب الرأسمالي «أوروبا والولايات المتحدة»؛ فهما النموذج الليبرالي المتحقق، أما الحضارة الحديثة في الشرق الاشتراكي فلا يُعيرونها إلا التفاتًا عابرًا، حين يقولون بضرورة «العدل الاجتماعي». إن الحرية بشكلها الليبرالي ومضمونها البرجوازي التقليدي هي غايتهم، جنبًا إلى جنبٍ مع التقدم التكنولوجي بمعناه المعملي؛ لذلك فإن أوروبا الغربية وأمريكا يجسِّدان له الحُلْم، وهم في هذا السبيل لا يعبئون بما يزخر به التراث العربي الإسلامي من تناقضات، وإنما هم يختارون معه ما «يؤيد» وجهتهم نحو الغرب المعاصر. وغالبًا ما يكون المنطق الوضعي والفلسفة التجريبية البراجماتية هي أدوات بحثهم «العلمي» في التراث والحضارة والتاريخ؛ ولذلك فهم يُجسِّدون اجتماعيًّا، طموح البرجوازية المحلية لأن تكون على مستوى البرجوازيات العالمية؛ أي إنهم يمثلون على وجه التقريب نقيضًا للتيار «الإنساني» السابق الذكر من ناحية الشكل، فإذا كان التيار الإنساني هو «ذكريات» البرجوازية الثورية، فإن هذا التيار هو «الأحلام» التي تصطدم هي الأخرى بواقع أن البرجوازية المتربعة على عرش السلطة لم تعُد بحاجة إليها. وهكذا لا يشفع له الطابع العربي لمفهومهم عن التراث في أن يكونوا لسانًا صادقَ التعبير عن هذه الرحلة البائسة في حياة البرجوازية، وهي الرحلة التي لم يعُد يصلح لها منهج «الوسط»، سواء تمثَّل في «ذكريات» التيار الإنساني أو في «أحلام» التيار العربي؛ ذلك أن المضمون الليبرالي لكلَيْهما لا يتفق مع السياق التاريخي للبرجوازية الراهنة؛ فحرية الفكر والتقنية التي كانت «صوتًا ثوريًّا» للبرجوازية في وقتٍ من الأوقات يهدِّدها في الصميم هذه الأيام. إن علاقات القوى الاجتماعية الآن غير ما كانت عليه فيما مضى، لم يعُد الإقطاع والفئات العليا من الرأسمالية والعناصر الكمبرادورية هم الطرف القوي المقابل للبرجوازية، وإنما أضحت القطاعات العريضة من البرجوازية الصغيرة والطبقة العاملة والمثقفين الثوريين وجماهير الفلاحين في هذا الطرف، حتى وإن لم يكن منظمًا ولكن فعاليته الاجتماعية تتعاظم؛ بحيث تصبح الديمقراطية مطلبًا شعبيًّا لمصلحته لا لمصلحة البرجوازية. وهذا هو التناقض الفاجع بين الحلم والواقع في تفكير التيار الليبرالي العربي، وهو التناقض الذي يدفع به دفعًا «خارج الصورة» البرجوازية الحاكمة، رغم انتمائه الأصيل إلى الفكر البرجوازي؛ ومن ثَم فتأثيره هو الآخر ضيِّق كالتيار الإنساني؛ لأن الميدان يجب أن يخلوَ لأكثر التيارات اتساقًا مع البناء البرجوازي الحالي، وهو «التيار الإسلامي الأول».

ثالثًا: التيارات اليسارية

وهي يسارية من حيث تبنِّيها منظورًا طبقيًّا في رؤية التراث والعصر، ولكن هذا المنظور يترواح بين التفكير الراديكالي حينًا والتفكير الماركسي أحيانًا، بين الاقتراب من «روح» العصر أكثر من اقترابه من «روح» التراث، والعكس أيضًا صحيح، بين النظرة التوفيقية للأمور والنظرة التركيبية. وقد اتجهَت الدراساتُ اليسارية في هذا الصدد عدة اتجاهاتٍ أهمها:

  • (١)

    تيار يدرُس التراث في سياقه التاريخي، على ضوء المنهج الاجتماعي في التحليل، وقد أكَبَّ هذا التيار على دراسة المرحلة العربية الإسلامية من تراثنا، كرد فعلٍ لمناورة الرجعية ومبادرتها في تدعيم وجهة نظرها بهذا التراث، الذي تستولي أشكاله ومضامينه على جماهيرَ عريضة من شعوب الوطن العربي. وقد أدى «رد الفعل» هذا لأن تتحول بعض هذه الدراسات إلى محاولاتٍ توفيقية بين الاشتراكية والإسلام مثلًا، أو بين العلم الحديث والفكر الإسلامي. وقد ارتَكبَت هذه الدراسات التي أُشير إليها خطأً منهجيًّا فادحًا حين فَرضَت على السياق التاريخي مصطلحات العصر الحديث، ولو من قبيل المجاز. إن استخلاص القوانين العلمية المُضمَرة في السياق التاريخي للتراث الإسلامي لا يحتاج إلى المصطلح المعاصر، وإنما يحتاج إلى أدوات البحث العلمي، إلى «المنهج». غير أن هناك نوعًا آخر من الدراسات اليسارية التي حققَت هذا المعنى بنجاحٍ باهر، دون توفيقية ودون تعسُّف في فرض المصطلح الحديث على السياق القديم. وقد أثمَر هذا الأخير «وعيًا عميقًا» بالتراث والعصر معًا. إن التعرف العميق على التراث، وهو تعرُّف في الوقت نفسه على المناخ الاجتماعي والسياسي الذي رافقه؛ أي إنه تعرُّف على التاريخ وقوانينه الجدلية، التي توجز العلاقة بين التكوينات الاقتصادية والاجتماعية والبناء الفوقي لها. والتعرف على التراث — أو الوعي به — في إطار هذا المعنى يستكمل رؤيتنا، بوضع أيدينا على جذوره الغائرة في المجتمع والفكر على السواء، وهذا ما أنجزَتْه بحقٍّ بعض الدراسات اليسارية القليلة التي اهتمت بتاريخ الفكر الإسلامي، عصوره وشخصيَّاته وحوادثه، من وجهة نظر ماركسية.

  • (٢)
    تيار كان اهتمامه — ولا يزال — بالتراث الديني مباشرة دون لَف أو التواء، لم يكن التراث «الإسلامي» مصدر اهتمامه بقَدْر ما كانت «العقيدة الدينية» نفسها هي جوهر حواره مع التيارات الإسلامية. وقد كان كتاب «نقد الفكر الديني» للدكتور صادق جلال العظم رائدًا في هذا الاتجاه، بالرغم من كل ما يمكن رصده — منهجيًّا — على هذا الكتاب من تحفُّظات. كان كتابًا شجاعًا حين قال: «إن الدين كما يدخل في صميم حياتنا، وكما يؤثِّر في تكويننا الفكري والنفسي، يتعارض مع العلم ومع المعرفة العلمية قلبًا وقالبًا، روحًا ونصًّا.»١ وقد دلَّل الكاتب على هذه النتيجة تدليلًا صحيحًا بمقارنة المنهج الديني بالمنهج العلمي، سواء في رؤية كُلٍّ منهما للكون أو الوجود، أو في رؤيتهما للعلاقات الاجتماعية بين البشر، إلى أن يقول: «في الواقع أصبح الإسلام الأيديولوجية الرسمية للقوى الرجعية المختلفة في الوطن العربي وخارجه، والمرتبطة صراحةً ومباشرةً بالاستعمار الجديد الذي تقوده أمريكا. كما كان الدين المصدر الرئيسي لتبرير الأنظمة الملكية في الحكم؛ لأنه أفتى بأن حقَّ الملوك نابعٌ من السماء وليس الأرض، ثم أصبح اليوم الحليف الأول للأوضاع الاقتصادية الرأسمالية والبرجوازية، والمدافع الرئيسي عن عقيدة الملكية الخاصة وعن قداستها، حتى أصبح الدين وأصبحَت المؤسسات التابعة له من أحصن قلاع الفكر اليميني والرجعي؛ فالدين بطبيعته مؤهَّل لأن يلعب هذا الدور المحافظ، وقد لعبه في جميع العصور بنجاحٍ باهر عن طريق رؤياه الخيالية لعالمٍ آخر تتحقق فيه أحلام السعادة٢ ثم ينتهي إلى نتيجة يناقشها تفصيلًا، ولكنه يوجزها قائلًا: «إن محاولة طمس معالم النزاع بين الدين والعلم ليست إلا محاولةً يائسة للدفاع عن الدين، يُلجأ إليها كلما اضطُر الدين أن يتنازل عن موقعٍ من مواقعه التقليدية، أو كلما اضطُر لأن ينسحبَ من مركزٍ كان يشغله في السابق.»٣ ويمكن القول — استكمالًا لرأي الدكتور العظم — إن العكس أيضًا صحيح؛ فالمحاولة نفسها من جانب الاشتراكيين تعكس تنازلًا من جانبهم عن موقع الاشتراكية العلمية. ويتطرَّف في التعبير عن هذا الاتجاه الكاتب المغربي مصطفى النهيري في كتابه «أزمة الفكر العربي»، الذي يرى في الإسلام انقلابًا للفكر العربي «من الرؤية البسيطة الطبيعية للحياة والإنسان إلى أيديولوجية ثيوقراطية تُخضِع، بمضمونها الثقافي والنفساني، كل أشكال التصور والسلوك الجاهلي، إلى أسلوبٍ مؤطَّر مقنَّن من التحرك النظري والسلوكي، من زاغ عنه فهو هالك في الأرض والسماء؛ ذلك أن عنف الجانب الميثولوجي في القرآن قد سطا على أكبر مساحة من فكر الإنسان العربي، ونسف بالتالي جوانبه العقلية الاحتجاجية الأصلية بيولوجيًّا في النوع الإنساني.»٤ ويستخلص الكاتب من هذه أن سلوك الإنسان العربي قد انتقل منذ إسلامه «من مجال التلقائية الصامتة والتعبير الواقعي عن بساطة الحياة العربية، إلى سلوك متقولب متوارث على عكازات النفاق والخوف، الخوف من بضاعة المفاهيم الغيبية التي بطشَت بالوعي الجمعي العربي ومسخَتْه إلى مومياء، الإنسان العربي في نومه وصحوه، بينه وبين ذاته، بينه وبين الآخرين.» إن التطرف الذي تنطوي عليه هذه الأفكار أبعد ما يكون عن الفهم اليساري الصحيح لمشكلة التراث عامة والتراث الإسلامي خاصة؛ ذلك أنه الرد على مصطفى النهيري، ببساطة، أن عقائد العرب قبل الإسلام لم تكن أقل غيبية، ولكن الإسلام يتميز عنها بأنه اشتمل على مجموعة من التشريعات الاقتصادية والاجتماعية تُعَد إنجازًا تقدميًّا بمقاييس ذلك الوقت. إن المشكلة الحقيقية تبدأ من القول بأبدية هذا التراث فضلًا عن أزليته، أو القول بصيغةٍ أخرى إنه تراثٌ إلهي لا يقبل التجاوز. غير أن هذا لا ينفي صحة ما ذهب إليه الكاتب المغربي، من أنه سرعان ما تحوَّلَت «الفتاوى الفقهية والأحاديث النبوية والمفاهيم الغيبية» إلى مبرراتٍ عقائدية للقهر السلطوي من جانب الحكومات الدينية، مما أدى إلى «انتكاس الفكر العربي عن أي جدلٍ أو عطاءٍ انقلابي خارج حصار المقولات الدينية.»٥ ويُعمِّم الكاتب بعدئذٍ نتائجه بقوله إن الرؤية للأمور — بغَض النظر عن تفاصيل هذا الدين أو ذاك — هي التي تطبع الثقافة العربية والمجتمع العربي كله بهذه المجموعة الهائلة من المحرَّمات، وتلك التنويعات المذهلة في تعدُّدها على لحنٍ واحد هو الدكتاتورية والفاشية؛٦ ومن ثَم «فإن الأداة المعاصرة القادرة اليوم على تحرير الفكر العربي من المخاوف الطابو-عقيدية، والفوبيا السياسية، هي الفكر العلمي:
    «الديناميت العقلي الناسف لكل صور هيمنة الروح الرجعية، والمحطِّم للعضلات البوليسية، من أجل تحرير الإنسان العربي، وتخليصه من مخالب جلَّادي مجتمعنا العربي البوليسي، وإعادة بناء الشخصية العربية بناءً عمليًّا إنسانيًّا خلاقًا».»٧
ربما كان الفصل الممتاز الذي كتبه عفيف فراج تحت عنوان «نحو فهمٍ ماركسي للمسألة الدينية: الأرضية المادية التي يرتكز عليها الفكر الديني» بكتابه «دراسات يسارية في الفكر اليميني» هو الذي يقيم القضية على قدمَيها بدلًا من وضعها السابق المقلوب؛ حيث كانت — تقريبًا — تقف على رأسها. إنه يبدأ من «الواقع» قائلًا «مرةً أخرى تلبَسُ السلطة العمامة وثوب الكهنوت، وتشهر سيف السلطة الدينية، ومرةً أخرى تنزل السلطة الدينية شاهرةً سيف السلطة السياسية. هذا التحالف التاريخي المأساوي بين السلطتَين، لم يُنتِج إلا المجازر للحريات؛ فإذا كانت السلطة الدينية ترغب رغبةً حقيقية في حماية الدين الحقيقي، فما عليها إلا أن تفُك ارتباطها بالسلطة، وتخاطبها من موقع الشعب البسيط المؤمن القادر على تسييجِ أيِّ إيمانٍ يرفع صوتَه هو، ويجسِّد مطالبَه هو، وذلك بدل أن تخاطب الشعب من مواقع السلطة. وإذا كانت السلطة مخلصة في حرصها على الوحدة الوطنية، فما عليها إلا أن تُلغيَ الحاجة المادية للأيديولوجية الغيبية، بتحويل نفسها من دولة امتيازات إلى دولة حقوقٍ متساوية لبشرٍ متساوين رغم كل شيء وفوق كل قوة. إن هذا الانقسام الذي تُعطيه الدولة اسمَ الوحدة الوطنية لتصويره طائفيًّا وليس اجتماعيًّا لن يُطيل عمره المجازر ومطاردات «الملحدين» أو المؤمنين الحقيقيين بالإنسان.٨ والمنهج الذي يتبع أصولَه عفيف فراج طيلة البحث، هو أن نقد الفكر الديني بأداةٍ ماركسية، عليه أن ينطلق من الشروط المادية التي يعيش في ظلها الإنسان وهذا الفكر الذي أثمره؛ لأن التركيز على مقارعة الحُجة بالحُجة «ينتهي بموعظة علمانية لا تقل غيبية عن الفكر التبشيري»؛٩ ومن ثَم يتعيَّن على الباحث الماركسي في الفكر الديني أن يتجه مباشرةً إلى «الأوضاع الواقعية». وهكذا يرى الكاتب في الأديان انعكاسًا للاستلاب الإنساني «في ظل وجود استغلالي قهري» وانعكاسات لاغتراب الوجود النوعي للإنسان «الوجود الطبقي الحيواني التراكمي»؛١٠ لذلك فإن السماء — عند عفيف فراج — «تتمة لواقعٍ لا يسمح للإنسان بأن يعيش إنسانيته العليا إلا في عالمٍ وهمي، لا تعودُ للأرض بمجرد أن يعيَ الإنسان ضياعه ذاتيًّا، وإنما بإعادة خلق العالم خلقًا جديدًا تأنس نفس الإنسان إليه، بدل أن تفرَّ من قسوته ووحشيته إلى عالَمٍ من صُنع الوهم.»١١ إن الشقاء الواقعي — على حد تعبير ماركس — هو مصدر التطلع الغيبي إلى خلاص ما ندعوه الدين؛ لذلك فإن نقد الفكر الديني لدى الكاتب، يجب أن يكون نقدًا للأبنية الاقتصادية والاجتماعية التي يزدهر فيها، وبزوال الأصل يزول الفرع. وهو يتابع اليهودية والمسيحية والإسلام متابعةً تاريخية ليؤكد هذه الفكرة الأساسية، حتى يصل بنا إلى القول بأن الإسلام كأيديولوجية «اكتسب تأثيرًا ماديًّا فائقًا كان أحد أسبابه الهامة تبنِّي السلطة السياسية له تبنيًا لم ينقطع تاريخيًّا بعد»، و«حين تهاجم أنظمة البيروقراطية والعسكريتاريا عندنا الماركسية بسلاح الإسلام والتراث، فإنما تقوم بهجومٍ سياسي في الأصل، ضد مبادرة الثورة الشعبية البادئة بتلمس أيديولوجيتها، وسط عتمة التضليل الطبقي، وتعبِّر عن مصالح الطبقات التي سخَّرتها لخدمة انتصاراتها الخاصة وهزائمها القومية والوطنية العامة.»١٢ و«لقد تحوَّل الإسلام، وخاصة بعد سقوط الحضارة العربية، إلى أداة تضليل وتجهيل من شتى القوى الطبقية والاستعمارية.»١٣ ولعل النتائج التي توصَّل إليها عفيف فراج تقوده إلى تعديل المقدمات قليلًا؛ فإذا كان نقد الأرض الواقعية للفكر الديني صحيحًا، فإن هذا لا ينفي ضرورة التصدِّي للفكر الديني في الوقت نفسه. إن تِبْيان الأسس الاقتصادية والاجتماعية لهذا الفكر لا يترتب عليه أن ننتظر حتى يتم تغيير من هذه الأسس؛ فالعلاقة بين القاعدة المادية وبنائها العلوي علاقةٌ جدلية؛ لذلك فإن مهمة التغيير هي في جوهرها مهمةٌ مزدوجة، خاصة وأن البناء العلوي لا يتغير غداة تغيير المجتمع. إن النضال على جبهة «العمل» السياسي والاجتماعي لا ينفصل عن النضال على جبهة الفكر؛ فقط أن يظل البعد الواقعي للمأساة حاضرًا ونحن نناضل بالكلمة.
ولعل كتاب «نقد الفهم العصري للقرآن» للدكتور عاطف أحمد١٤ من أبرز العلامات الدالة على ضرورة النضال بالكلمة؛ فحواره العلمي الدقيق مع الدكتور مصطفى محمود في كتابه «القرآن، محاولة لفهمٍ عصري» يُعد إضافةً ثوريةً خلَّاقة للوعي العربي المعاصر. وهو الوعي الذي ستُشكل تراكماته العديدة برفقة ما تضطرم به أرض الواقع من صراعات «كيفًا» جديدًا، هو الانتقال بالوطن العربي والثقافة العربية إلى مرحلة الثورة الحقيقية. وسوف أَستشهِد هنا من كتاب الدكتور عاطف أحمد بفصلٍ واحد لا يغني عن بقية الفصول، ولكن دلالته «التطبيقية» تؤكد أهمية ارتباط الفكر بالواقع من ناحية، وضرورة الوعي بالمفارقة الكامنة في الفكر التلفيقي من ناحيةٍ أخرى. تحت عنوان «النظرية الأخلاقية في القرآن» يقول الكاتب «وتفرفة مصطفى محمود بين أخلاق الذكاء النفعية وأخلاق القلب المتعالية على المنفعة، هي في حقيقتها تفرقة بين نوعَين من أخلاق المنفعة؛ أخلاق المنفعة الواقعية المباشرة، وأخلاق المنفعة البعيدة الأجل؛ إذ إن أخلاق القلب بالصورة المجرَّدة المتعالية التي يُقدِّمها بها مصطفى محمود هي أخلاقٌ ذهنية افتراضية لا وجود لها في الواقع الإنساني. وهي في حقيقتها أخلاقٌ بلا قلب إذا أخذنا «القلب» هنا لا بمعناه الشائع المرتبط بالعواطف الإنسانية الخالصة، وإنما بمعناه الحقيقي؛ فهي أخلاقٌ بلا قلب؛ لأنها أخلاق بلا جهاز يغذيها بدماء الحياة، بلا جذور في واقع الإنسان ككائنٍ فسيولوجي نفسي اجتماعي مفكِّر؛ فهي تجرِّد الإنسان من محتواه البشري، وتتصوره كطاقة من الحب المطلَق للآخرين، والتجاوز المطلَق لذاته، وليس هنالك كائنٌ بشري واحد تتمثل فيه هذه الصورة الرومانسية. ولئن بدا لنا أنها ممكنة في حالاتٍ خاصة، فهي حينئذٍ ليست أكثر من حالة انفعالٍ صوفي، ينشأ عن عملياتٍ نفسيةٍ هروبية معقَّدة وغير سوية، تعبِّر عن عجز في مواجهة مشكلات الواقع، وإيجاد حلولٍ إيجابية واقعية لها، ثم هي في صورتها الواقعية الفعلية، متمثلة في تعاليم الدين الأخلاقية، أخلاقٌ نفعية بعيدة الأجل؛ فهي تستبدل المنفعة الدائمة بالزائلة، وتؤجل الحصول على الملذَّات الصغرى في الدنيا لتحصل على الملذَّات الكبرى في الآخرة، وتحلُّ الأنانية الكبرى ذات العائد البعيد الأجل محلَّ الأنانيات الصغرى ذات العائد القريب الأجل.»

ويكشف الدكتور عاطف أحمد بعدئذٍ عن تهالك الفكر التلفيقي وتهافته، حين يتعالم أصحاب هذه الفكر، ويتطوعون لتبرير «المحرمات» في الدين على أسسٍ علميةٍ عصرية، كالقول مثلًا بأن تحريم لحم الخنزير لم يكن تحريمًا عشوائيًّا، وإنما بسبب احتوائه على الدودة الشريطية، وتسبُّبه في مرض الأنفلونزا. هنا يردُّ الدكتور عاطف أحمد قائلًا «فإذا كان لحم الخنزير قد حُرِّم لأنه قد يُوجد به فيروس الأنفلونزا والدودة الشريطية، فقد كان من الواجب أيضًا تحريم لحوم الماشية والأسماك لإمكان احتوائها على أنواعٍ عديدة من الطفيليات الضارة، والتي يستطيع قارئ أي كتابٍ في علم الطفيليات أن يُعِد قائمةً كاملة بها، وهل وجد مصطفى محمود إحصائياتٍ تُثبِت أو تُشير إلى أن آكلي لحم الخنزير، وهم كثرة الأوروبيين، أكثر تعرضًا للأنفلونزا، وللإصابة بالدودة الشريطية، أو بأنواعٍ أخرى من الاضطرابات الهضمية الناتجة عن كون لحم الخنزير أغلظ أنواع البروتينات؟ أو أن المستوى الصحي العام للشعوب الإسلامية أكثر ارتقاءً منه في شعوب أوروبا التي تتعاطى الخمر وتأكل لحم الخنزير؟ وهل لو تم فحص لحم الخنزير طبيًّا قبل إعداده للطعام، وثبَتَ خلوُّه من الطفيليات، يصبح حلالًا؟»

أما النقطة الأخيرة التي سوف أستشهد بها من كلمات الدكتور عاطف أحمد، فربما كانت أخطر النقاط لأنها تمسُّ صميم النظام الاجتماعي مباشرة؛ يقول «إن القرآن ينظر إلى الغنى والفقر على أنهما امتحان من الله؛ فقد سلب الله المال من الفقراء، وأعطاه للأغنياء، ليرى ماذا يفعل كلٌّ منهم فيما سلب منه أو منح له، هل يتصدق الغني أم لا وهل يصبر الفقير أم لا، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً (الأنبياء: ٣٥). ومعنى ذلك أن الفقر والغنى هما من صُنع الله، وما صنَعه الله لا يغيِّره بشر، وأنهما بذلك وضعان تمتد جذورهما إلى الإرادة الإلهية، وليس إلى واقع أسلوب الإنتاج وعلاقاته.»

إن كتاب الدكتور عاطف أحمد نموذجٌ رفيع المستوى على أهمية الحوار — بل والصدام — مع الفكر التلفيقي، ولكنه بالطبع ليس النموذج الوحيد؛ فسلسلة المقالات التي كتبها الدكتور محمود إسماعيل، في مجلة «روز اليوسف» المصرية تحت عنوان «الحركات السياسية السرية في الإسلام» هي «نموذجٌ آخر لضرورة الحوار — والصدام — مع الفكر التلفيقي؛ فما إن بدأ الدكتور محمود إسماعيل يكتب مقالاته١٥ حتى بادر أحمد موسى سالم بالرد عليه ردًّا هستيريًّا محمومًا يستعدي عليه سلطات الدولة. ولم يكن الدكتور محمود إسماعيل قد صنع أكثر من تحليل بعض الأفكار والتنظيمات الثورية، في تاريخ الإسلام، تحليلًا طبقيًّا بعيدًا عن الشوفينية، قائلًا بأن التراث الإسلامي يعكس صراعًا اجتماعيًّا واضحًا، وأنه كان يتفاعل دومًا مع تيارات الفكر الأجنبي، وأن الاتجاهات الثورية قد تعرَّضَت للإجهاض نتيجة عواملَ كثيرة، من بينها سيطرةُ الاتجاهات الرجعية في تفسير الإسلام سيطرةً سياسيةً مباشرةً على الحكم. أما أحمد موسى سالم فاكتفى بالقول إن هذه الأفكار «خاطئة وخطرة من وجهة نظر مسلم ومؤمن، وإن الحركات الثورية التي أشار إليها الكاتب «تخلقات طفيلية وعدوانية للإسلام»، وإن تحليل الكاتب ليس أكثر من «أفكار ومعتقدات شعويبة قديمة وحديثة»، و«إسقاط ساذج وعقيم للفكر المادي على الإسلام»، و«الإسلام عند الله ليس يمينًا في حقيقته أو يسارًا»، وإن الحركات التي يشير إليها الكاتب ثوراتٌ مضادة للإسلام، وليس صحيحًا أن الإسلام تأثر بأية أفكار من خارجه … إلى آخر ما في جَعْبة هذا التيار الرجعي المتطرف في رجعيته.

وربما كانت نقطة الضعف المنهجية في مقالات الدكتور محمود إسماعيل — والتي يشترك فيها مع بعض من تصدَّوا للتراث الإسلامي من وجهة نظر يسارية — أنه حاول فرضَ مصطلحاتٍ معاصرة على سياقٍ تاريخي من التعسُّف قسرُه في إطارها، ولكن مما لا شك فيه أنه بذل مجهودًا رائعًا في استخلاص القوانين العلمية المضمَرة في هذا السياق. نقطة الضعف الثانية لا علاقة لها بالمنهج، وإنما برد الفعل الذي أُصيب به الكاتب من «إرهاب» أحمد موسى سالم؛ فقد راح يدلل على أنه ليس بالضرورة أن يكون الكاتب ماركسيًّا حتى يصل إلى نتائج يشاركه فيها الرأي الماركسيون وغير الماركسيين، وأن هناك «منهجًا علميًّا» في البحث التاريخي قد يتبنَّاه الماركسي وغير الماركسي. وتضخَّم لديه رد الفعل تضخُّمًا عنيفًا حين قال إن خصمه في الحوار قد «خلط بين الإسلام كعقيدةٍ سامية وبين النظام السياسي للعالم الإسلامي. هنا انزلق إلى تصورٍ خاطئ مؤدَّاه أن نقد الخلافة يعني مساسًا بالإسلام.» ولقد كان هذا دفاعًا مقبولًا من الشيخ علي عبد الرازق منذ حوالي نصف قرن، ولكنه علامة تخاذلٍ من مفكرٍ شاب وتقدُّمي كالدكتور محمود إسماعيل. على أية حال، هذا لا يقلل من أهمية النتائج الموضوعية لكتاباته، وهي نتائجُ ثوريةٌ دون ريب.

يتضح لنا في هذا العرض للتيارات اليسارية التي حاورَت التراث أنها تعدَّدَت بين التطرف والاعتدال والمحافظة وبين اقترابها من التراث أكثر من قربها من الماركسية أو العكس، وبين اهتمامها بالشكل أكثر من اهتمامها بالمضمون أو العكس، وبين إفراطها في تلفيق الأثر السياسي المباشر على حساب المستوى الأكاديمي العميق الأثر في المدى البعيد وبين عنايتها بهذا المستوى عنايةً فائقة، بالإضافة إلى تباين الماركسية ذاتها من تيارٍ لآخر، مما كان ينعكس بدوره على فهم التراث والعصر معًا.

هذه التناقضات في صفوف اليساريين يمكن تلمُّس أبعادها بين المواقف المختلفة لبعض الكُتاب إزاء الاتجاهات الفكرية الأخرى، كما حدث غداه ظهور كتاب الدكتور زكي نجيب محمود «تجديد الفكر العربي»؛ فقد بالغ في تقييمه أمير إسكندر بجريدة «الجمهورية» المصرية، بينما هاجمه أديب ديمتري بعنف في مجلة «الكاتب» المصرية، ووقف منه رشدي راشد موقفًا أقرب إلى الموضوعية والعلم في «الكاتب» أيضًا.١٦ وهذا إن دل على تفرُّد المفكر واختلافه الأصيل عن رفاقه في الفكر، إنما يدل أكثر من ذلك على طبيعة المرحلة المعقَّدة التي نعيشها، وضراوة الصراع الذي نكابده؛ بحيث إن بعضًا من أوهام الفكر البرجوازي تستطيع أن تسلَّل إلى عقول البعض منا، بالإضافة إلى طبيعة البرجوازية الصغيرة التي نشأ فيها معظم المثقفين اليساريين.

غير أن التيارات اليسارية في جملتها، سواء في حوارها وصدامها مع التيارات الأخرى، أو بعضها مع بعض، إنما تجسِّد تحولًا حقيقيًّا في فهم العلاقة بين التراث والعصر في الفكر العربي الحديث. وهي تحمل في أحشائها جنين المنهج الثوري المتكامل؛ ذلك أنه في الوقت الذي عجزَت فيه التيارات الليبرالية عن صد الهجمة الرجعية الضارية، أصبح المفهوم الماركسي للتراث والعصر هو المرشَّح الوحيد للنضال، لا لإنجاز المهام الاشتراكية فحسب، بل لإنجاز ما لم تستطع البرجوازية نفسها تحقيقه، كقيام الدولة العلمانية. إن فصل الدين والأخذ بأسباب الحضارة التكنولوجية الحديثة لم يعُد ممكنًا في ظل الأنظمة الاجتماعية الغالبة على الوطن العربي، ويتطلب تحقيقها تغييرًا جوهريًّا في بنية هذه الأنظمة هو التحول الاشتراكي. إن البرجوازية لم تعُد تقبل بأقل من الفكر الثيوقراطي؛ وبالتالي فإن الليبراليين — بذكرياتهم وأحلامهم — أعجز من أن يقيموا دعائم الدولة العلمانية الديمقراطية بمعزل عن التحول الاجتماعي العميق، بمعزل عن الاشتراكية. وعلى الاشتراكيين أنفسهم أن يفكِّروا — وهم بصدد صياغة فكرهم — على هذا النحو؛ أن يضيفوا إلى «جوابهم النظري» مشكلات الواقع الحي التي لم يستطع الليبراليون حلَّها.

•••

تلك هي أهم التناقضات في صفوف الفكر العربي حول قضية التراث، والفرق بين بعضها أحيانًا، والبعض الآخر ليست فروقًا رياضية حاسمة؛ فكثيرًا ما تشابكت المقدمات والنتائج، وكثيرًا ما تقاربَت بعض الاتجاهات في «سياقها»، رغم اختلاف المنابع والمصابِّ، ولكن الجدير بالنظر حقًّا أن التراث الإسلامي كان محور الاهتمام الواسع بين جميع هذه التيارات، ربما كان ذلك انعكاسًا موضوعيًّا لغلبة هذا التراث على الوجدان العربي من ناحية، ولتركيز الرجعية العربية على هذا التراث من ناحيةٍ أخرى. غير أن «محورية» التراث الإسلامي لا تعني أن مفهوم الجميع عن التراث كان مفهومًا إسلاميًّا، بل لقد كشفَت وجهات النظر المتعارضة حول التراث الإسلامي عن «خلفيات» ثقافية متعارضة في فهم التراث والطابع القومي والواقع، وكان أقربها للتكامل في تصور هذه العناصر الثلاثة، وصياغتها لمعنى الأصالة والمعاصرة، هو التيار اليساري باتجاهاته المختلفة. لقد كانت الرؤية الطبقية والقومية والإنسانية هي العمود الفِقْري لتفكير هذا التيار.

ولعل الملاحظة الأخرى الجديرة بالانتباه هو ذلك الاستقطاب العنيف بين اليمين واليسار في حقل التراث؛ فالاتجاهات الوسطية تتمزق تدريجيًّا لغياب الأرض المادية والموضوعية من تحتها، وهي في تمزُّقها تتطابر يمينًا، أو يسارًا، أو تظل عالقةً في الفضاء المجرد عاجزةً عن الفعل. لنتأمَّل المسافة التي قطَعها الدكتور مصطفى محمود بين عام ١٩٥٧م، حين نشر كتابه «الله والإنسان»، وما آلت إليه كتاباته اليمينية المتطرفة بعد حوالي اثني عشر عامًا، كان في ذلك الوقت البعيد يقول «إن الاستعمار في معركة مع الوعي في مصر والبلاد العربية، لتظل الفلسفة السائدة هي الفسلفة القدَرية المتواكلة، فلسفة الرضا بالذل وعدم مناقشة الاستعباد على أنه مصيرٌ مضروب على أعناق الملايين من قِبل قوة رهيبة اسمها الله. إن الله قد وزع الأنصاب والأرزاق، فخَصَّ الرجل الأبيض بالصحة والجمال والذكاء والسيادة، وخَصَّنا بالذل والعبودية والاستجداء، وعلينا أن نرضى؛ فليست لنا حيلة، وثورتنا على أوضاعنا إلحادٌ لا يليق بماضينا العريق في التدين، وهم لا يكتفون بالتزييف وباختلاق أديانٍ جديدة، وإنما يُصدِّرون إلينا أنواعًا غريبة من العلوم؛ فأمثال أدنجتون وجينز من العلماء يستخدمون العلم الموضوعي في تشويه الحقائق الفلكية، وفي تأكيد قوًى غيبية مجهولة تسيطر على مقدَّرات البشر. وأمثال فندلاي من فلاسفة الأرواح يقدمون لنا أدلةً كاذبةً على وجود خرافي نصفه من الأرواح ونصفه من الشياطين والملائكة، وكل هذه الكتب تتسلل كالمخدرات، وتجد أرضها الخصبة في أذهان الكثرة من القُراء، ودخان التصوف ما زال يُعمي أبصار الشرقيين عن الحقائق. والتصوف في هذا الوقت العصيب جريمة؛ فنحن في حاجة إلى الوضوح لنفضح المؤامرات الثقافية التي تحيط بعقولنا كل يوم، ولنكشف السم في كل كتاب، والأفيون في كل نشرة، والتصوف لا يخدمنا، إنه أسلوبٌ حدْسي تخميني يفسر الواقع بالشعر والخيال، ويُخضِع الحقيقة للحالات الوجدانية، ويعتبر العقل عاجزًا عن فهم الكون، وهو ينتهي بأصحابه إلى الخلط والتشويش والذهول، ويُلقي بهم في مستشفيات الأمراض العقلية في النهاية.»١٧ وقد صُودر هذا الكتاب في حينه، بينما أُتيح لكتابه الآخر الذي تنكَّر فيه لكل ما كان يؤمن به أن يوزِّع عشرات الألوف من النسخ. هذا نموذج لتحوُّل شاب صغير السن، فلنتأمل نموذجًا آخر — هو توفيق الحكيم — كان على النقيض في صدر شابه يحاول التوفيق بين العقل والدين، وبين الإسلام والحضارة الحديثة، إلى غير ذلك من ثنائياتٍ استهوَتْه في الثلاثينيات من هذا القرن. أما في أواخر عام ١٩٧٢م، فهو يكتب هذا الحوار — تحت عنوان فرعي «مسئولية الفكر» — بينه وبين أمه «الأرض».

– حقًّا، إن مسئولية الفكر الإنساني جسيمة.

– وحركة هذا الفكر المستمر هي فرصة الإنسان الوحيدة في الحياة.

– ولهذا تُقاس قيمة الافراد والشعوب وقوَّتها بمقدار حركة الفكر فيها.

– هذا صحيح؛ ولهذا تختفي حضارات وتظهر حضارات، تبعًا لجمود الفكر أو تحرُّكه.

– تقول تختفي؟ أين تختفي؟

– أقصد تُبتلع، لا شيء يختفي نهائيًّا أو يزول، ولكن كل شيء، ومنها الحضارات إذا ضعفَت وجمدَت، ابتلعَتْها حضارة أسرع حركة وأقوى مَعِدة، فتهضم ما عندها من كنوز، ولا تُبقيها إلا نُفاية، وتتقدم هي متوردةً سمينةً مزدهرةً لتحمل عنها مِشْعل القوة الإنسانية.

– أليست كل حركة مقترنة بالاتجاه؟ فما هو الاتجاه المطلوب لحركة التفكير؟

– الاتجاه إلى الأمام طبعًا؛ أي التقدم بالإنسان في طريق التطور إلى الأقوى والأفضل؛ لأن الاتجاه إلى الخلف هو رجعة إلى موضعٍ سابق مَر به الإنسان وتركه، سائرًا مع الزمن المتغير والعصور المتلاحقة، ولا يمكن للغد أن يصبح الأمس إلا إذا انقلبَت دورة القمر من حولي دورتي أنا أيضًا.

– ألا يمكن أن يكون في ماضي الإنسان شيءٌ ذو قيمة يرى من الأفضل له استعادته؟

– هذا شيءٌ آخر. هناك فرق بين الإنسان الراكب في قطار الزمن والعصر، ويريد أن يرجع بقطاره كله إلى محطة سابقة يمكث فيها، وبين الإنسان الذي يستعيد من هذه المحطة الشيء ذا القيمة، وينفض عنه ترابه، ويصلحه، وينتفع به وهو سائر بقطار الزمن والعصر في اتجاه المحطات التالية المتقدمة.

– ما دمتَ قد ذكرتَ القطار، فإلى أي مدًى يستطيع أن يسير إلى الأمام …؟

– لا أدري، كل ما أعرف أنه سيظل يسير ويتحرك بحركة الفكر الخلَّاق، هذا الوقود الضروري لتشغيل عجلاته، فإذا نَفِد هذا الوقود وقَف.

– إنها لكارثة هذا الوقوف …!

– ما دام هناك وقودٌ يدفع العجلات فلا خوف.

– وكيف نأتي بهذا الوقود؟!

– إنه ينبُت في البيئة الصالحة والمناخ الملائم.

– مثل كل نباتٍ طيب.

– نعم، بالضبط، ومثل كل نباتٍ طيب يحتاج في نموه وازدهاره إلى الهواء الطلق، وإلى ضوء الشمس.

– هل هو ينبُت من تلقاء نفسه أو يُزرع زرعًا؟

– قد ينبُت من تلقاء نفسه إذا تُرك حرًّا، ويُزرع زرعًا إذا وجد من يزرعه ويأتي له بخير البذور، ويُسَمده بخير السماد، ويسخو عليه في الإنفاق، وأهم من كل ذلك ألَّا يَسُد عليه منافذ الهواء والنور.

– البذور والهواء والنور؟! أتظن هذه أشياء من السهل توفُّرها في كل حين؟!

– ولِم لا؟

– هناك ظروفٌ وموانعُ تمنع؟

– تمنع ماذا؟!

– الهواء والنور.

– وما هي هذه الموانع؟

– أولًا.

– نعم، أولًا؟

– لا، لا داعي.

– تكلَّم.

– كفاية، أظن أنك تعبت من طول الحديث. والوقت متأخر، ويحسُن أن تسمح لي بالانصراف.١٨

بالرغم من طول هذا المقطع؛ فإنه لا يفي بمهمة التعبير الأمثل عن التطور الكبير الذي حدث في تفكير الحكيم، هذا الشيخ الذي تجاوز السبعين، وهو التطور النقيض لتفكير الدكتور مصطفى محمود الذي شاخ قبل الأوان. وإنما هو الاستقطاب العنيف الذي يغربل الاتجاهات الوسطية غربلةً عنيفةً إبَّان نقاط التحوُّل ومراحل الانتقال. وفي هذا المقطع لا يضيف توفيق الحكيم أفكارًا جديدة على الفكر العربي الحديث، ولكن «الجديد» حقًّا هو انحيازه شخصيًّا إلى جانب القول بمادية الكون، وأسبقية الوجود على الوعي، وجدلية العلاقة بين المجتمع والفكر، وتاريخية التراث — وإنسانيته — في اتجاه التقدم. إن الوزن الخاص الذي يمثله توفيق الحكيم في حياتنا الثقافية، هو الذي يمنح تطوُّره الأخير قيمةً خاصة في الصراع الفكري الدائر حول قضية التراث، حتى إن الأزهر قد اهتزَّ غداة نَشْر هذه القطعة، واحتَجَّ على الأهرام احتجاجًا شديدًا، وطالب أن يتولى الرقابة على مثل هذه المواد، تمامًا كما فعل منذ أكثر من عشر سنوات برواية نجيب محفوط «أولاد حارتنا»، التي ما زالت مصادرةً حتى الآن. إن أهمية هذه الأعمال أنها ليست ضد الدين بصورةٍ تجريدية، وإنما هي موقفٌ علمي من الصراع الاجتماعي الدائر. لقد كانت «أولاد حارتنا» استلهاما معاصرًا للتراث في طريق التقدم، وكذلك تجيء مقالة الحكيم الحوارية، ومن هنا تتحالف السلطة الدينية مع السلطة السياسية ضدهما.

بل إن الاستقطاب العنيف يترك بصماته على التيارات الإسلامية نفسها، تلك التيارات التي حملَت لواء تجديد الفكر الديني. إنها الآن تصل إلى أقصى مداها في موازاة المتغيرات الاجتماعية، فيقول الدكتور محمد أحمد خلف الله، بشأن «مسائل الحياة الدنيا»، إن القرآن تركها لاجتهادات البشر «لأنها من حقوق الإنسان؛ فالشعب هو الذي يختار رئيس الدولة، وليس النبي أو القرآن.»١٩ ويحدِّد رأيه بالنسبة للتراث الإسلامي عامة، بقوله: «كما أن حكم القرآن على الوجود بأنه خلقٌ يزداد ويترقى بالتدريج، يقتضي أن يكون لكل جيلٍ الحق في أن يهتدي بما ورثه من أسلافه، من غير أن يعوقه ذلك التراث في تفكيره وحكمه وحل مشكلاته.»٢٠ ويتحلى الدكتور خلف الله بأكبر قدْرٍ من الشجاعة والأمانة الفكرية حين يقرر «إن النصوص مختلفة متعارضة؛ فهي سبب الخلاف في الأحكام، والخلاف فيها مذموم.»٢١ وأن الله «قد هدانا، بما وضع فينا من عقلٍ قادرٍ على إدراك المصلحة العامة، أن نجعل هذه المصلحة العامة الأساس الأول في كل تشريع نقرِّره.»٢٢ وهكذا يصل أحد تيارات الفكر الإسلامي — موضوعيًّا — إلى فصل الدين عن الدولة، وهو الركيزة الأولى لقيام دولة علمانية ديمقراطية، أصالتها الحقيقية في معاصرتها، ومعاصرتها في أصالتها، حين ينبع الإثنان عن مصدرٍ واحد هو «الواقع» باحتياجاته الفعلية إلى عناصر التقدم التاريخي.
وليس هذا ما تعمل على هُداه البرجوازية المتربعة على عرش السلطة. إنها تستلهم في صياغاتها الفكرية التيار الإسلامي الأول، ذلك الذي يرى في التراث الإسلامي مطلقًا إلهيًّا مجردًا، يمكن بتطبيقة، اقتصاديا واجتماعيًّا، أن يتم الخلاص الاجتماعي والقومي والإنساني عامة. هكذا جاءت التوصية الأولى للمؤتمر الوطني الأول للاتحاد الاشتراكي بليبيا (الذي عُقد في ٢٨ / ٣ / ١٩٧٢م) تقول «يؤكد المؤتمر أن الإسلام هو المنبع الوحيد للقيم والحضارات الإنسانية. وهو رسالةٌ سماوية ذات زادٍ فكري لا ينضب إلى البشرية كافة، يطرح بعمق ووضوح نظريةً شاملة، فشلَت كافة المذاهب في طرحها، وهو رسالة تحلُّ تناقضات الشعوب وتُذيب فوارقَها.»٢٣ ولربما كان المعنيان البارزان هنا بالنسبة لقضية التراث، التي نحن بصددها، هما المعنى العنصري الوارد في تعبير «المنبع الوحيد للقيم»، والمعنى الآخر المضاد للعلم والتاريخ يكمن في العبارة التالية مباشرة «والحضارات الإنسانية»؛ فليس صحيحًا أن الإسلام هو المنبع الوحيد للقيم، إلا على ضوء رؤيةٍ عنصرية لا ترى ما حولها من فلسفاتٍ عديدة وأديانٍ أخرى، تنبع عنها القيم التي تتفق أو تختلف مع الإسلام (ألا يقود هذا التصور إلى الفتن الطائفية والسلوك العدواني بين أبناء الشعب الواحد، الذي يدين مثلًا بأكثر من دين؟ ابحثوا عن الجذور تجدوها في نصوصكم، ولا تتوفقوا على السطح فتدهَشوا أو تبتسموا في خبث). أما أن يكون الإسلام منبعًا لكل الحضارات الإنسانية فجهلٌ فاضح وتناقضٌ مرير؛ لأن منطقة الشرق الأوسط وحدها عرفَت من الحضارات السابقة على الإسلام ما لا يحتاج إلى إشارة، ولأن بعض هذه الحضارات كانت «وثنية» (فما رأيكم يا سادة يا كرام؟). والطريف حقًّا أن تقرير اللجنة الخاصة باستظهار الحقائق في الحوادث الطائفية التي وقعَت بمصر، سجَّل في مقدماته تحت رقم ٢ ما نصُّه «وحينما بدأَت مرحلة تصحيح مسار الثورة في ١٥ مايو ١٩٧١م، ودُعيَت الجماهير إلى المشاركة في إعداد الدستور الدائم، كان من الواضح مما قُدم إلى اللجنة المختصة بإعداد الدستور الجديد، التي طافت أنحاء البلاد وقتئذٍ، بروز تيارٍ متدفق يدعو إلى اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرَ التشريع، تقابله دعوةٌ أخرى من المواطنين الأقباط إلى التمسُّك بحرية العقيدة والأديان، وخاصة إلغاء التراخيص المقررة لإقامة الكنائس. ولم يكن التوضيح كافيًا بأن الدعوة إلى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية لا يتنافى مع حرية العقيدة، وممارسة الشعائر الدينية التي كفلها الدستور لجميع المواطنين، وأن رسالة الإسلام والمسيحية رسالتا تسامُح ومحبة يُدينان التعصُّب الدين.» ولنتوقف قليلًا عند هذا النص الخطير، وما يقابله على أرض الواقع الاجتماعي من أحداث. لم يُشِر النص إلى أن الدعوة إلى اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرًا رئيسيًّا للتشريع لم تُوضع عبثًا؛ فقد تضمن الدستور المصري الجديد لأول مرة في تاريخنا مادةً ثانية إلى جانب «الإسلام هو دين الدولة الرسمي» محتواها أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع؛ وبالتالي فقد نجح ذلك «التيار المتدفق» الذي أشار إليه تقرير اللجنة، في أن يصل إلى الصياغة الدستورية العليا للدولة التي تُعد — موضوعيًّا — قد انحازت إليه، إذا لم تكن بعض عناصرها قد شاركَت في أن يكون «تيارًا متدفقًا»، سواء بأجهزة الإعلام أو الأوقاف، أو بضغطٍ عربي يتبنى هذا التيار في وثائقه الرسمية. والجدير بالنظر حقًّا في النص هو موقف الأقباط؛ فقد كان امتدادا لموقفهم خلال ثورة ١٩١٩م، موقفًا واعيًا بالمصالح الوطنية العليا على الصعيد السياسي، وموقفًا ديمقراطيًّا على الصعيد الحضاري؛ فقد طالبوا بحرية العقيدة، ويُبرِّر التقرير الأحداث الطائفية المؤسفة بأن «التوضيح» لم يكن كافيًا بأن اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرًا أساسيًّا للتشريع لا يتنافى مع حرية العقيدة، والحق أنه تبريرٌ سطحي ومفتعل؛ لأن اختيار دين الدولة أصلًا لا يؤدي في التطبيق مطلقًا إلى مساواة بين المواطنين، فضلًا عن اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرًا أول للتشريع، الذي يمسُّ الحياة اليومية للمواطنين مسيحيين ومسلمين، بما قد يتعارض مع عقيدة أحد الفريقَين. ولا يفيد في ذلك الشعارات العامة، كالقول بأن المسيحية والإسلام رسالتا «تسامح»؛ لأن من يملك حق التسامح يملك حق العقاب. لقد وضع التقرير يده على جوهر المشكلة، ولكنه بررها بعدئذٍ تبريرًا شعاريًّا. إن «الإيضاح الكافي» الذي طالب به — لو أن الدولة لم تتبَنَّ التيار المتدفق، ولو لم تشارك بعض عناصرها في تكوينه — لم يكن مطلوبًا للتوفيق بين الإسلام والحرية، وإنما كان يجب أن يكون مطلوبًا للحرية وحدها، ولا حرية مهما ردَّدنا من شعارات مع انحياز الدولة مقدمًا لدينٍ من الأديان. إن الدولة الدينية دولةٌ ظالمةٌ وإرهابيةٌ متعصبةٌ بالضرورة، والدولة الديمقراطية لا دين لها، وكل الأديان لديها سواء. وربما يتذكر واضعو التقرير — وهم جميعًا أعضاء في مجلس الشعب — أنه حين اقترح البعض في مجلس الشعب هذا العام — ١٩٧٢م — أن يُضاف تشريعٌ بقطع يد السارق أسوةً بالقانون الليبي المستحدث، فقد كانت الأغلبية الساحقة مع هذا النص، لولا تدخُّل رئيس المجلس ورئيس اللجنة التشريعية في اللحظة الأخيرة، بتأجيل النظر في هذا الموضوع (أي إن الدولة تستطيع أن تتدخل)، ماذا لو أن هذا القانون جرى تنفيذه فعلًا، وليس هناك نصٌّ، مشابه في المسيحية هل يُفلِت لصٌّ مسيحي من العقاب على هذا النحو، بموجب شريعة تغاير عقيدته الدينية؟ أوليس القانون الجنائي الوضعي هو الحل؟ أوليس الفصل بين الدين والدولة هو البديل الديمقراطي لما ندعوه مجازًا بالفتنة الطائفية، وهي في جوهرها أحد أشكال غياب الديمقراطية. ولو أننا تصورنا لحظاتٍ أن المجتمع المصري يخلو من المسيحيين تمامًا، هل تنتهي المشكلة، أم أن النص على دين للدولة في الدستور سوف يستحدث مشكلاتٍ من نوعٍ جديد هي مشكلات التناقض بين الدولة المتدينة والواقع الاجتماعي؟ لذلك فإني لا أرى في مصر — مثلًا — مشكلةً حقيقية بين المسيحيين والمسلمين، وإنما أراها صراعًا خافيًا وعميقًا بين التخلف والتقدم، بين الرجعية والمستقبل، بين اليمين واليسار. إن بروز التيارات الدينية — مسيحية وإسلامية — بعد الهزيمة في ١٩٦٧م، له دلالته التي يجب ألَّا تغيب عن ذاكرتنا في التحليل، لقد كان الدين، ولا يزال، هو البديل عن البرجوازية، عن التحول الاجتماعي والتحرر الوطني، وربما كانت تصريحات بعض المسئولين في هذا الصدد بالغة الشجاعة، حين قالوا «نفرِّط في سيناء، ولا نفرِّط في عقيدتنا.»٢٤ على أثر طرد الخبراء السوفييت (الحق أن مسئولًا لم يعترف حتى الآن بأن الاتحاد السوفييت قد طالبنا بتغيير عقيدتنا، ولكن المؤكد أن الرئيس الليبي قد طلب من السوفييت أن يدخلوا الإسلام. وهذا من حقِّه)، ولكن العبارة المذكورة لا تقصد «عقيدتنا» بقَدر ما تقصد البناء الاجتماعي للبرجوازية؛ أي إنها على استعداد في معاداتها للتحول نحو الاشتراكية أن تتنازل عن التحرر الوطني!
ولكى يتكامل موقف الدولة في هذه القضية، فإنه لا يقتصر على النص الدستوري الذي يهم السلطة التنفيذية بالدرجة الأولى، وإنما يتجاوز هذه الخطوة إلى دستور التنظيم السياسي الوحيد؛ فقد جاء بمشروع «دليل العمل السياسي الفكري والتنظيمى» في الجزء الثاني «اشتراكيتنا» وتحت عنوان «أبعاد نظريتنا (رقم ١) ما نصه بعد الديباجة»: «فنظرتنا تجد بُعدها الروحي في الدين الإيمان بالرسالات السماوية التي أكملها الإسلام بسماحته وقيمه الإنسانية ومثله وتشريعه.»٢٥ ويكرر الدليل بعد ذلك بصفحة واحدة «إن تراثنا ودينيًّا قبل أي فكر حديث، وما يؤكده وجود قوانين أساسية تحكم الكون والحياة لخير الإنسان في كل زمان ومكان.» ويعود في (ص٢٧) إلى التأكيد على أن «اشتراكيتنا تستبقي الأصول والجذور من شريعتنا» ويستشهد في هذا الصدد ببعض الآيات القرآنية وهي:

وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ.

إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه.

إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا.

وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ.

وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ.

من هذه الأيات الخمس التي يمكن أن يضعها رأسمالي كبير باحترام شديد على أبواب مصانعه وشركاته، يقيم «الدليل» بناءه العقائدي حول الاشتراكية، ومن الغريب حقًّا أن يدعوها «عربية»، بينما القرآن للمسلمين جميعًا، فكان الأولى أن يدعُوَها باسم «الاشتراكية الإسلامية» وإن كانت الدقة العلمية تستوجب أن يحذف كلمة «الاشتراكية».

وقد دأب بعض كبار المسئولين على «توعية» المواطنين بهذا المعنى للتراث، وخاصة وزير الأوقاف وشئون الأزهر — الدكتور عبد الحليم محمود — الذي كتب في «الأهرام» عدة مقالات، برهَن فيها على أن أساس البلاء هو الفلسفة اليونانية، وبالذات أرسطو، والفلسفة الأوروبية عامة، وبالذات ديكارت، والمتفلسفة العرب، وبالذات ابن رشد. إن هؤلاء جميعًا وغيرهم قد أفسَدوا التراث الإسلامي، الذي قيَّض له الله من يذود عنه كالإمام الغزالي. إن القرآن عند الدكتور الوزير هو «كل» تراث المسلم «فرسالته مستمرة أبدية خالدة. إنها الصراط المستقيم، وهي الهداية الدائمة.»٢٦ يقرِّر السيد حسين الشافعي، نائب رئيس جمهورية مصر العربية، في حديث صحفي٢٧ عقب الأحداث الطائفية — وهذا ما يدعو للتأمل الشديد — أن «الجهاد ضد اليهود جهادٌ مقدَّس في سبيل الله، وأنه «إذا أراد المسيحيون» أن يأمنوا شر اليهود الذين هم أعدى أعداء المسيحية، وأعدى أعداء المسيح، فإن عليهم أن يعلموا أن نجاتهم في ترابط المسلمين»، و«أن المجتمع الوحيد الذي يستطيع ذلك «التصدِّي لإسرائيل» هو مجتمع لا إله إلا الله. وهكذا تعود القضية برمتها إلى إطارها المعروف في الوثائق الأساسية للإخوان المسلمين. ويضع وزير الشباب — الدكتور أحمد كمال أبو المجد — القضية في وضعها الصريح — وليس الصحيح — حين تتحول على يدَيه صراعًا بين اليمين واليسار، فيقول إن «أخطر عناصر الفكر الماركسي في تقديري عنصران؛ (١) المادية الرافضة للأديان، والمصرة على تفسير الحياة والتاريخ تفسيرًا واحديًّا مبسطًا، لا يستطيع العلم اليوم أن يسلم به. (٢) الانطلاق في علاج المشكلة الاجتماعية من موقف الحقد المنفعل، ومن منهج تعميق التناقضات بين الفئات سعيًا إلى تفجير الصراع. والعنصر الأول يرفضه مجتمعنا بواقعه وتاريخه الحضاري، والعنصر الثاني رفضَه مجتمعنا ورفضته ثورة ٢٣ يوليو.»٢٨ هذه هي الحقيقة إذن، وقد تبلورت على أقلام وألسنة بعض كبار المسئولين في «الدولة»، أن التراث عمومًا، والتراث الديني على وجه الخصوص، ليس أكثر من مشجب يعلقون عليه رموز الصراع بين اليمين واليسار في المجتمع. ولا قيمة على الإطلاق لمراجعة «الوقائع» غير الصحيحة فيما تقدمه الرجعية من تحليلات؛ لأن الديماجوجية — بالتجهيل والتضليل — من أمضى أسلحتها.

•••

ربما كانت الملاحظة الثانية — بعد التكرار المقصود — على هذا الجزء من «وجهات النظر» هي غلبة الرؤية الاجتماعية والسياسية للدرجة التي يبدو معها البحث وكأنه انحرف عن التراث إلى المجتمع والسياسة. والحق أن الإجابة على هذا التحفظ مرهونة بالزاوية التي نُبصر منها المشكلة. إن التراث، نظريًّا وعلميًّا، ليس قضية مجردة، إنما هو خيطٌ رئيسي في نسيج حياتنا الاجتماعية شئنا أو لم نشأ. ولقد كانت متابعتي لفعل التراث ورد الفعل الاجتماعي «عنصرًا منهجيًّا»، في رؤية العلاقة بين التراث والعصر والواقع الذي نعيش فيه.

ولعلنا نتذكَّر أن بعضًا من النتائج التي يمكن التوصل إليها خلال السياق، كانت من المعاني المستقرة في الضمير الوطني قبل خمسين عامًا أو يزيد، فنحن — موضوعيًّا — لا نعود للوراء، بل إلى ما وراء الوراء، إلى تلك المرحلة المظلمة من تاريخنا الحضاري، حيث التدهور والانحطاط.

ولو أننا فتحنا عيوننا على آخرها، حتى نلتمسَ أبعاد المسافة بيننا وبين العالم من حولنا، لاستطعنا أن نشمَّ رائحة الفجيعة الماثلة أمامنا، ولأدركنا هول الكارثة المُروِّعة التي تنتظرنا، كارثة السقوط والانقراض والتلاشي.

وإذا كانت الثورة المضادة في الوطن العربي لا تعبأ من أجل اعتباراتٍ آنيَّة عارضة بمصير أمةٍ كاملة، فإن مسئولية الثورة العربية لهذا السبب تتجاوز مشكلات التحول الاجتماعي إلى ما هو أشمل؛ إنقاذ حضارة من الفَناء.

١  راجع الطبعة الثانية، ص٢١، عن دار الطليعة، بيروت، صدرَت الطبعة الأولى عام ١٩٦٩م.
٢  المصدر السابق، ص٢٤.
٣  المصدر السابق، ص٢٤.
٤  راجع الطبعة الأولى من الكتاب، ص١٠، ١٩٧٢م، مطابع دار الكتاب، يذكر المؤلف في الصفحة الأخيرة أنه طبع الكتاب على نفقته.
٥  المصدر السابق، ص١٥.
٦  المصدر السابق، ص٣٦، ٣٧.
٧  المصدر السابق، ص٤٥.
٨  الطبعة الأولى، ص١٤٣، دار الطليعة، بيروت، ١٩٧٠م.
٩  المصدر السابق، ص١٤٧.
١٠  المصدر السابق، ص١٤٩.
١١  المصدر السابق، ص١٥٢.
١٢  المصدر السابق، ص١٨٩.
١٣  المصدر السابق، ص١٩٢.
١٤  صدرَت طبعته الأولى عن دار الطليعة، بيروت، ١٩٧٢م.
١٥  راجع أعداد المجلة المذكورة بين ٩ / ١٠ / ١٩٧٢ و٢٧ / ١١ / ١٩٧٢م.
١٦  راجع أعداد المجلة المذكورة بين ٩ / ١٠ / ١٩٧٢ و٢٧ / ١١ / ١٩٧٢م.
١٧  راجع الطبعة الأولى، ص١٣٣، ١٣٤، سلسة «كتب للجميع».
١٨  راجع «حديث مع الكوكب»، لتوفيق الحكيم، الأهرام، ١٧ / ١١ / ١٩٧٢م.
١٩  راجع كتابه «القرآن ومشكلات حياتنا المعاصرة»، مكتبة الأنجلو المصرية، ص٢٦، ١٩٦٧م.
٢٠  المصدر السابق، ص٣١، ٣٢. والنص يتبنَّاه المؤلف من صاحب «تجديد التفكير الديني في الإسلام».
٢١  المصدر السابق، ص٣٣.
٢٢  المصدر السابق، ص٣٥.
٢٣  راجع جريدة الأهرام»، ٥ / ٩ / ١٩٧٢م، ص٧.
٢٤  العبارة لمحمد عثمان إسماعيل، أمين التنظيم بالاتحاد الاشتراكي العربي، في مصر، ومستشار رئيس الجمهورية لشئون مجلس الشعب، وقد أدلى بهذه التصريح في ندوة أقيمت بالمقر المركزي للاتحاد الاشتراكي حضرها — معارضًا هذا الرأي — محمد حسنين هيكل.
٢٥  يعتمد الباحث هنا على الأصل الرسمي الصادر عن اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، بالقاهرة، ص٢٣، مؤسسة دار التعاون للطبع والنشر، ١٩٧٢م.
٢٦  راجع مقاله «سراب … وماء»، بجريدة الأهرام، ٢٩ / ١٠ / ١٩٧٢م، ص٧.
٢٧  راجع جريدة «الجمهورية»، ٢٢ / ١١ / ١٩٧٢م.
٢٨  راجع العدد الأول من مجلة «الشباب» المصرية، ٥ / ١٢ / ١٩٧٢م، ص٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥