شعرنا الحديث بين الأصالة والمعاصرة
وتتعدد أشكال استلهام الفن للتراث باتخاذه المواقف التاليه منه:
-
(١)
أن يجيء العمل الفني تفسيرًا جديدًا للتراث (لأحد عصوره أو أحد أشكاله أو إحدى شخصيَّاته أو مضامينه وغير ذلك) وتحكم هذا التفسير عادةً رؤيةٌ جديدة تستمد عناصرها من روح العصر الجديد الذي يحياه الفنان.
-
(٢)
أو أن يتخذ العمل الفني من التراث ديكورًا لأحداث معاصرة، قاصدًا بذلك إلى المقابلة بين القديم والجديد؛ أي إن المادة التراثية حينئذٍ تصبح رمزًا بالتضاد أو الترادف والتوازي.
-
(٣)
أو أن يقوم العمل الفني بتطويع الشكل التراثي لمضمون جديد. والشكل هنا لا علاقة له بالأحداث والأسماء التي حملها التراث، وإنما هو الصياغة الجمالية نفسها، كالسامر الشعبي والموال والملحمة والأراجوز وخيال الظل، وما يقابل ذلك في فنون الرقص والموسيقى والنحت والتصوير.
-
(٤)
أو أن يستعير العمل الفني من التراث مضمونًا معينًا يرى الفنان ضرورة استمراره في شرايين العصر والمجتمع الجديد، بغَض النظر عن «الموضوع» الذي جسَّد هذا المضمون في العصر والمجتمع القديم، وبغض النظر — بطبيعة الحال — عن الشكل الذي صيغ فيه.
-
(٥)
أو أن يقوم العمل الفني بدور وسيلة الإيضاح التربوية المعروفة، فيقدم المادة التراثية كما هي في ثوبٍ عصري كالمسرح والراوية، ويبقى جوهرها ثابتًا دون حذف أو إضافة أو تعديل، إلا بمقدار ما يتطلبه «الإعداد» الحديث. وذلك بقصد توصيل هذه المادة إلى الناس في صورة بعيدة عن القالب المعقد الذي وصلتنا، فيه سواء كان التعقيد لغويًّا أو كان مثقلًا بالهوامش والإحالات الصعبة.
-
(٦)
أو أن يقدم العمل الفني التراث كأوعية زجاجية صماء جامدة (أقصد الاحتفاظ بالأسماء والملابس والأحداث)، غير أن ما بداخلنا لا علاقة عضوية ولا جدالية بينه وبين هذه الأوعية التي عُبئ فيها.
هذه الأشكال المتعددة لاستلهام التراث قد تنطبق بجملتها على الفن الأدبي، ولكنها قد لا تنطبق بحذافيرها على بقية الفنون، ربما أتاحت لها طبائعها المختلفة أشكالًا أخرى، في أسلوب حوارها مع التراث.
•••
ولقد حاولت الفنون العربية الحديثة في مجموعها أن تستلهم تراثنا وتراث غيرنا، من بداية يقظتنا القومية من أواخر القرن الماضي وأوائل القرن العشرين. وقد كان من الطبيعي في مصر — على سبيل المثال — أن تكون مصر الفرعونية هي مصدر الإلهام عند ذلك الجيل الرومانسي التائه بين التراث العربي والحضارة الغربية. التراث العربي الإسلامي يكاد يخلو من الكثير مما نعُده الآن بديهياتٍ ثقافية، والحضارة الغربية تُطِل علينا بوجهَين؛ أحدهما بالغ الدمامة والقبح وهو الوجه الاستعماري، والآخر بالغ الرقي والتعقيد وهو الوجه الفكري والعلمي والفني. والذات القومية المحاصَرة بالقديم الميت والجديد الحي تحاول بالصواب والخطأ أن تكتشف طريقًا بديلًا للضياع. وكانت مصر الفرعونية بأمجادها العتيدة هي «الحل» التراثي عند قطاعٍ مهم من جيل الرواد، في المسرح والقصة والفنون التشكيلية. على أن هذا لا ينفي أنه كانت هناك قطاعاتٌ أخرى جرَّبَت نصيبها مع التراث الإسلامي والمسيحي والوثني، ولكن القضية هي أنه لم تكن قد تبلورَت في ذلك الوقت نظرةٌ ديناميكية شاملة للتراث، وإنما كانت مركبات النقص إزاء هذه المرحلة من مراحل تراثنا وتراث غيرنا هي التي تفعل فينا، فكان استلهامنا للتراث مبتسرًا ومشوهًا ومبتورًا. غير أن هذه الحال قد تغيرت وئيدًا وإن لم تختفِ تمامًا. وتظل الفنون العربية الحديثة، رغم كل ما شاب إحياءها للتراث من سلبيات وثغرات، أكثر أشكال التعبير الإنساني عن حياتنا إيجابية، في حوارها مع قديمنا وقديم غيرنا.
وسوف يقتصر الحديث هنا على الأدب، ومن بين الأنواع الأدبية المعروفة سوف أقتصر على الشعر والمسرح، وذلك أنني لستُ متخصصًا في الفنون التشكيلية والرقص والموسيقى، ونقادها يستطيعون تلمُّس الأبعاد التراثية فيها. على أنني كمتذوق لهذه الفنون أتابع بقَدْر ما يتيح لي الزمن تطور نظرتها إلى التراث، وأرى أن فنانين موهوبين من كافة الأقطار العربية يحاورن التراث في أعمالهم الفنية حوارًا جادًّا ومخلصًا ومن موقع العصر. لقد رأيتُ في أعمال الفنان العراقي الكبير جواد سليم فهمًا لتراث النحت أعمق وأكثر تطورًا من فهم الفنان المصري الكبير مختار. كان جواد سليم يتمتع بهذه النظرة الديناميكية الشاملة للتراث، فامتص واستوعَب وتمثَّل أيات النحت السومري، جنبًا إلى جنب مع تطور الفن البابلي إلى أحدث خبطة إزميل في الفن العالمي المعاصر. أما مختار الذي أراد أن يُجسِّد فنًّا مصريًّا، فقد اقتصر عمله على المادة الخام المصرية — كتمثال نهضة مصر — أما التشكيل الفني فقد جاء به من النحت الروماني والفرعوني؛ الأمر الذي يُحدث شرخًا في عين المتلقى بين الموضوع وروحه، هو انعكاسٌ طبيعي لغياب النظرة الديناميكية الشاملة للتراث، وهو قبل ذلك غياب لأرض الواقع الصلبة من تحت قدمَي الفنان. ولستُ أقصد بهذه التفرقة بين جواد سليم ومختار أن أُقلِّل من أهمية الإنجاز الذي حقَّقه الأخير في تاريخ النحت المصري، بل أردتُ أن أوضِّح الفرق في النتائج، بين مقدمتَين مختلفتَين. ولقد تبلورَت هذه النظرة العميقة للتراث في الفن التشكيلي العراقي المعاصر على أيدي مجموعة ممتازة من الفنانين الشباب، كما أن النظرة المضطربة للتراث ظلت سارية في الفن التشكيلي المصري المعاصر. حتى إن المقارنة المنصفة بين أعمال فنان عراقي شاب كضياء العزاوي، وأعمال فنان مصري كرفعت أحمد، توضح لنا إلى أي مدًى ينجز العمق والشمول في فهم التراث فنًّا أصيلًا ومعاصرًا لدى الأول، بينما يثمر الاضطراب والاهتزاز والسطحية فنًّا سياحيًّا وإعلانيًّا لدى الثاني. وتقف المدرسة السورية في هذا المضمار موقفًا باهرًا؛ إذ هي تمثل في غالبيتها ذلك المنحى الديناميكي في استيعاب التراث والعصر. ولقد أخذَتني روعة المزاوجة الحية بين التراث المسيحي ومأساة فلسطين في أعمال الفنان السوري إلياس زيات. وربما كانت أعمال الفنان الفلسطيني مصطفى الحلاج من الأمثلة البارزة في الفن العربي الحديث على هذا الحوار «التاريخي» بين الفنان والعصر.
ويبدو أن الفن التشكيلي العربي المعاصر، بين بقية الفنون غير الأدبية، هو أكثرها تفاعلًا مع التراث والعصر؛ أي أكثرها اقترابًا من الواقع. ولستُ أعرف في مجال الموسيقى والغناء — باستثناء الأخوَين رحباني وفيروز في لبنان وسيد مكاوي والشيخ إمام في مصر — من قام بمثل هذه المحاولة الخصبة الخلَّاقة. لقد أجهض كبار المطربين والمطربات ذلك الجنين العبقري الذي تركه لنا سيد درويش. وأصبح الفولكولور مضغةً في أفواه صغار المطربات والمطربين والملحنين، يفعلون به كما يفعل البعض باليتيم وابن السبيل، أو بعزيز قومٍ ذل. وفي ميدان الرقص كانت «فرقة رضا» المصرية محاولةً رائدة في بدايتها، ولكنها سرعان ما شاخت وترهلَت منذ تحولَت إلى فرقة حكومية، وإن كانت «الفرقة القومية للفنون الشعبية» حاولَت الكثير. وفي السينما حاول المخرج المصري الموهوب شادي عبد السلام أن يُقدِّم شيئًا في فيلمه القصير «الفلاح الفصيح»، ولكن المحاولة لم تنجح إلا في فيلمه العظيم «المومياء».
غير أننا — إنصافًا للحقيقة — ينبغي أن نضيف فرقًا جوهريًّا بين الفنون التي تعتمد على الموهبة الفردية وحدها كالأدب، والفنون التي تعتمد على الموهبة الجماعية من ناحية وعلى عناصر غير فنية كالصناعة والتجارة من ناحية أخرى. من الأيسر حقًّا على الشاعر أن يستلهم تراثه وتراث الإنسانية كلها دون أن يُكلِّفه ذلك سوى معاناة الفهم الصحيح للواقع والتراث معًا. أما السينمائي والمسرحي والفرقة الغنائية والراقصة، فإنها تتكلف من العناء ما لا تتحمله طاقة الأفراد، فإذا دخلَت سراديب الروتين الحكومي ودهاليز الأسواق، فإنها تلقَى من المصاعب والأهوال ما ينبغي أن يُوضَع موضع الاعتبار في أي تقييمٍ دقيق لإنجازاتها، فيما نحن بصدده الآن — وهو التراث — أو فيما يختص بعلاقتها بغيره من إلهامات الفن.
سوف أقتصر في حديثى إذن على الأدب العربي الحديث وعلاقته بالتراث، ومن بين الأنواع الأدبية المعروفة سوف يقتصر الحديث على الشعر والمسرح؛ ذلك أن الرواية والقصة القصيرة لم تقدم كلتاها إسهامًا ما، يرتفع إلى مستوى «التنظير» لعلاقة الأدب بالتراث. لقد سلكَت الرواية في هذا السبيل أحد منعطفَين؛ إما أنها جاءت روايةً تاريخية، كتلك التي كتبها في صورةٍ بدائية جرجي زيدان، ثم كتبها في صورةٍ متطورة نجيب محفوظ، ثم في صورة أكثر تطورًا أبو المعاطي أبو النجا. أولهم استقى مادته من التاريخ، والثاني من تاريخ مصر القديمة، والثالث من تاريخ مصر الحديث، وإما أنها جاءت صياغةً حديثة للسيرة الشعبية، كما فعل فاروق خورشيد وعباس خضر. وفي القليل النادر ابتعدَت الرواية عن هذا التبسيط، الذي يصبح فيه القالب الروائي مجرد ثوبٍ عصري، واقتربَت من التركيب الذي يرى في التراث عنصرًا عضويًّا من عناصر تكويننا الروحي، كما هو الحال في «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، و«أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ، وأحزان نوح» لشوقي عبد الحكيمو«الشراع والعاصفة» لحنا مينا، و«نجمة ياسين»، و«ليس ثمة أمل لكلكامش» لخضير عبد الأمير، و«العنقاء» للويس عوض، و«موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح. أما استلهام التراث في القصة القصيرة فهو أندر من الندرة، وأكاد لا أرى سوى بضعة أمثلةٍ ناضجة في هذا الصدَد للكاتبَين الأردنيَّين غالب هلسا وجمال أبو حمدان، والكاتب السوري زكريا تامر، والكاتب المصري جمال الغيطاني. على أية حال، فالرواية والقصة القصيرة في الأدب العربي الحديث لم يقدما «انتظامًا» لرؤية شاملة للتراث. وهو الأمر الذي يتوفر على نحوٍ من الأنحاء في علاقة كُلٍّ من الشعر والمسرح بالتراث.
•••
ولعله من أعظم القيم التي تنوِّع التجرية الحديثة للشعراء العرب المجدِّدين هو أنهم يفتتحون صفحةً جديدةً في علاقة الشعر العربي بالتراث؛ ذلك أن الشعر قبلهم كان يستلهم «عَظْم» التراث لا لحمة ودمه، كان يعتمد على الخليل أبن أحمد فحسب، ولا علاقة له بسر الإبداع والخَلْق والحياة. هكذا ظل الشعر العربي طيلة القرون السابقة أسيرًا لمفهومٍ مغلَق للتراث، فكانت القافية وحرف الروي والبحور الستة عشر هي الدائرة التراثية الضيقة التي جمدَت — ولا أقول تحركَت — داخلَها تجارب الشعر العربي جيلًا بعهد جيل. ولم تكن هذه خطيئة الأباء والأجداد الذين أعطَوا وأجزلوا العطاء في العصر الجاهلي والعصر العباسي مثلًا. وإنما هي خطيئة الأبناء والأحفاد الذين فهموا «التراث» فهمًا سطحيًّا عابرًا؛ إذ إنهم لم يتعمقوا واقعهم الخاص كما فعل الأولون، وحينئذٍ كان هذا الواقع هو الذي سيرشدهم إلى ما يمكن وراثتُه عن الأقدمين وما ينبغي رفضه، ما يمكن أخذُه التراث الإنساني وما ينبغي رفضُه. لقد أكبَّت أجيالٌ عديدة في تاريخ الشعر العربي على «التراث» بأكثر معانيه جمودًا وتخلفًا. إنها — مثلًا — لم ترَ سوى رصيدنا العربي من التراث، وأهملَت أرصدتنا السابقة على المرحلة العربية من تاريخنا وأرصدتنا التي تحولَت مع الزمن إلى عملات «أجنبية»، وحين توقفت هذه الأجيال طويلًا عند تراثنا العربي وحده في الشعر، لم تكن وقفتها متوازنة في طولها وعمقها. لقد توقفَت طويلًا حقًّا، ولكن عند حدود السطح والقشرة الخارجية عند المفاتيح الموسيقية واللغوية، ولم تنفذ إلى الروح والجوهر اللذَين عكسَتْهما اللغة والموسيقى. لو أنها فعلَت لاستطاعت أن ترى الصلة الوثيقة بين عالَم الشاعر القديم وشِعْره، ولتعلمَت بالتالي أن عظمة الشعر الحقيقي أن يكون صادقًا في التعبير عن ذات الشاعر أصيلًا في تجسيد عالمه؛ هذا هو الدرس الأول والرئيسي الذي يمكن أن يفيد أولئك، الذين كان همهم الوحيد في التراث هو اتخاذه عكازًا يستندون عليه بالتقليد والمحاكاة، حتى إذا أثمر هذا التقليد وتلك المحاكاة شيئًا بعيدًا عن الصدق مع النفس ومع العالم. ولأن هؤلاء الشعراء الذين يزخر بهم تاريخنا الأدبي للأسف قد سجَنوا أنفسهم في مرحلة تراثية بعينها، وأغفَلوا تطور الوجدان العربي في تراثنا السابق على الإسلام من ناحية الزمن، والأكثر اتساعًا من شبه الجزيرة العربية من ناحية المكان، بما نعبر عنه الآن في قولنا من المحيط إلى «الخليج»؛ أقول إنه لهذا السبب المزدوج فقد خلا شِعرهم من الحس التاريخي، وما يعنيه هذا الحس من حركة حية ديناميكية. ولأن هؤلاء الشعراء قد حاصَروا أنفسهم بجدران عالية من الإقليمية والثبات والسكونية، وغضُّوا أبصارهم عما يضطرم به تاريخ الإنسان في أماكنَ أخرى من تراثٍ شعريٍّ عظيم، فقد خلا شعرهم من الرؤية الإنسانية الرحبة والمعاصرة لأعمق هموم القلب البشري.
وليس غريبًا بعد ذلك كله أن يتفق هذا الشعر، في شكله ومعناه، مع التدهور الأليم الذي آلت إليه الحضارة العربية خلال القرون العشرة الماضية. وليس غريبًا أيضًا أن تقترن يقظتنا القومية منذ أواخر القرن الماضي بمفهومٍ جديدٍ للتراث أيًّا كان حظه من التوفيق؛ فقد كان إرهاصًا ومؤشرًا حاسمًا للاتجاه الثوري الغالب، منذ أكثر من عشرين عامًا، على شعرنا الحديث. وهو الشعر الذي يفتتح صفحةً جديدة لعلاقة شعرائنا بالتراث؛ ذلك أنه لا يتوقع داخل مرحلةٍ تراثية بعينها هي مرحلة الشعر «العربي»، فضلًا عن أنه حين ينهل من معين هذه المرحلة لا يتوقف عند السطح الخارجي، بل ينفذ إلى لب اللباب، إلى سر الإبداع الفني عند الأسلاف، وأنه لا يتوقف عند حدود هذه المرحلة؛ فهو يعيد صياغة وجداننا الحضاري صياغةً تاريخية، تنظر إلى بابل وآشور وفينيقيا ومصر القديمة، كما تنظر إلى الأسفار الشعرية في التوارة والإنجيل والقرآن نظرتها إلى الشعر في العصر الجاهلي والعباسي وغيرهما من عصور الشعر العربي. وحين يعمد شعراؤنا المحدَثون إلى فتح صفحات تاريخهم كله، فهم يستعيدون «الحس التاريخي» الضائع، بكل ما تعنيه هذه الاستعادة من حركة ديناميكية حية. وينظر شعراؤنا الجدد إلى التراث الإنساني في الشعر نظرةً كانت غائبةً تمامًا عن وعي مئاتٍ من الشعراء العرب الذين عاشوا وماتوا في زمن الانحطاط. لقد فتح شعرنا الحديث كل النوافذ على الوجدان البشري أينما كان في أثينا القديمة أو في باريس، في موسكو أو في لندن أو في نيويورك. واتضح الفرق بين شعرائنا هؤلاء وشعراء اليقظة القومية، الذين ظنوا أن حل معادلة الأصالة والمعاصرة يمكن في التوفيق بين العمود الخليلي المتواث وصور شيلي وبيرون ووردزورث من الشعراء الإنجليز، وصور فيرلين ولامرتين وبودلير ورامبو من الشعراء الفرنسيين، أو فيما أقاموا من «معارضات» شعرية، أو فيما سرى في قصائدهم من «تضمين». كان شعراؤنا الجدد أكثر جرأة في تبنِّي المفهوم الصحيح للأصالة والمعاصرة، فجاءت رؤيتهم للتراث انعكاسًا لرؤيتهم للواقع من الذي يعيشون فيه.
على أية حال ليست هذه المشكلة، اليوم، وإنما يعنينا من النص الذي اخترته فيما سبق أن الرجعية في الفن، كما هو حالها في الفكر السياسي والاجتماعي، تطرح التراث بمعنى الماضي الإسلامي، وتطرحة بديلًا للحاضر، وتطرح أكثر جوانبه سلبيةً وظلامًا، وتطرحه خارج سياقه التاريخي، كلحظة مطلَقة ساكنة خارج الزمان والمكان، وكأنها قدَرٌ ميتافيزيقي مسلَّط على رءوسنا ولا قِبل لنا بمقاومته. إن هذا المفهوم الذي أثمر، على الصعيد السياسي والاجتماعي، ما نحن فيه من تخلف وقهر وهزائم، هو نفسه على الصعيد الفني الذي أثمر أسوأ نماذج شعرنا العربي على مَر العصور.
أقول ذلك حتى يتصور النقد والفكر العربي الحديث الدور الباهر الذي قام به الشعر، وهو دورٌ تاريخي بحق على كافة المستويات. لقد كان الفرع شبه الوحيد من فروع المعرفة الإنسانية الذي سد فجوات الانقطاع الحضاري في تاريخنا؛ أي إنه استعاد لنا ذاكرتنا الحضارية التي استُلبَت زمنًا طويلًا بمخدرات الرجعية العنصرية، سواء في أرديتها الإقليمية، أو في ثوبها القومي، أو في أهدابها الدينية. بالشعر العربي الحديث الذي كتبه بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وأدونيس، وخليل حاوي، ويوسف الخال، وصلاح عبد الصبور، وأحمد المعطي حجازي، وغيرهم ممن جاءوا معهم وبعدهم، موجة إثر موجة، أمست حضارتنا باتساع المسافة الحقيقية من المحيط إلى الخليج، وعمق المسافة بين السومويين والفينيقيين والفراعنة والعرب المعاصرين، وطول المسافة بين الوثنية واليهودية والمسيحية والإسلام والفكر العلمي الحديث، بشعر أولئك الرواد أمسينا شركاء أصلاء في بناء الحضارة الإنسانية أيًّا كان مركزها الجانب في اليونان القديمة أو في أوروبا المعاصرة. بشعرهم نتعرف على أبعاد واقعنا المتخلف المقهور، ونتزود بأدوات تغييره نحو التقدم والديمقراطية والحياة العصرية، فنردم الهوة السحيقة التي تفصلنا عن العالم الذي نعيش فيه.
ولم يكن موقف الشعر العربي الحديث من التراث رد فعل لموقف الرجعية في حقل الأدب والفن. وإنما كان فعلًا ثوريًّا متكامل السمات. وكان رؤيا شاملة للوجود من قبل أن تتجسد في شكل بعينه كالشعر. وقد انعكسَت هذه الرؤيا على إبداع الشعراء من مختلف الزوايا؛ أي إن موقفهم من التراث من شك في أنه ليس هناك موقفٌ واحد مشترك بين جميع شعرائنا المحدثين، بل إنه ليس هناك موقفٌ واحدٌ مستمر لكل شاعر على حدة، ولكن ما لا شك فيه أيضًا أن رصد الملامح المشتركة بين شعراء هذا الجيل، والإمساك بالخيوط الرئيسية التي انتظمَت إبداعهم، يهدينا إلى القول بأنه منذ أواخر الأربعينيات قد داهمهم الشعور بموات الحياة العربية وعمقها، وأن التخلف بكافة معانيه، والدكتاتورية بمختلف أشكالها، ينخران كالسوس في العمود الفِقْري لوجودنا. وأنه لا سبيل لاستمرار هذا الوجود إلا إذا كنا نطمح لأن نتحول إلى أمة منقرضة في ذمة التاريخ، وإنما لا بد من «بعث» نحترق في أتونه لنتطهر ونُولَد من جديد؛ أمة فتية لا قيمة لأمجادها القديمة إلا إذا حققَت أمجادًا جديدة، بل إننا حتى لا نخون المجد القديم، وحتى لا نخون الإنسانية فينا، علينا أن نحرق التخلف والقهر إلى مستوى العصر؛ هذا هو الإطار العام لموقف رواد شعرنا الحديث. وقد كان تراثنا وتراث غيرنا عامرًا بركائز وجدانية لفكرة البعث، كأساطير تموز والفينيق والعنقاء وأوزوريس والمسيح. وكان طبيعيًّا — مرة أخرى — أن تكون هذه الرموز هي الهيكل العام لتجربة هؤلاء الشعراء. بعد ذلك تختلف وجهات النظر وزوايا الرؤية؛ فهناك مَن رأى في الاشتراكية ذلك الطريق إلى بعث الأمة من رقادها الطويل، ومَن رأى في الليبرالية منقذًا من الموت، ومَن رأى في القيم المسيحية خلاصًا، ومَن رأى في العلم الحديث مأوًى، كلٌّ حسب تكوينه الفكري وانتمائه الاجتماعي، ولكن الحد الأدنى من الاتفاق كان قائمًا حول فساد الواقع العربي، وضرورة تغييره، وأن هذا التغيير لا يمكن أن يتم بغير تضحيةٍ ما وبطولةٍ ما. وهكذا، فالأرض الخراب هي الصورة الرئيسية التي تطالعنا في شعر هؤلاء الرواد. ولكن ما أبعد الأرض الخراب التي صوَّرها إليوت عن أرضنا! إن أرض إليوت هي الحضارة الصناعية المتقدمة، ولم يدرك إليوت — أو لم يشأ أن يدرك — أن تركيب النظام الرأسمالي هو الأب الشرعي لآفات هذه الحضارة، وأمراضها، وظن أن الكنيسة الكاثوليكية والعصر الوسيط هما البديل الأنقى من هذه الأرض الخراب. وهكذا وبدلًا من أن يضع يدَيه على أسباب الخراب، ويدعو إلى تغيير الأرض نحو الممكن الوحيد، وهو الاشتراكية، تشبَّث بمظاهر الخراب، ورأى في الصناعة نفسها والعلم ذاته مصدر الشقاء، ومَن كان الماضي السحيق هو حُلمه الذهبي وإن كان مستحيل التحقيق، استحالة العودة إلى الوراء. هذا الرأي في «تفكير» إليوت لا يتعارض مطلقًا مع إيماني العميق بعظمة فن هذا الشاعر العظيم؛ ذلك أن الصدق لم يغبْ قط عن شعوره وإحساسه بأن ثمة شيئًا ما خطأ في هذا العالم، ثم أردف صدقه بالاحتجاج الصارخ حتى ولو اتخذ هذا الاحتاج صورة العودة إلى الماضي. إن «ضرورة التغيير» هو لب اللباب في تجربة إليوت الفنية، ولقد بلغ صدقه في التعبير عن هذه الضرورة فيما أحدثه ببناء القصيدة الإنجليزية من تغيراتٍ جذرية. وقد كانت استجابة الشعر الأوروبي بأكمله لهذه التغيرات شهادةً من الإنسانية لإليوت بصدق معاناته الروحية الهائلة. ولقد جاء من بعده من اتخذ لنفسه مسارًا مختلفًا في التفكير يكاد يكون نقيضًا لوجهة نظر إليوت في التغيير، ولكنه ورث من اليوت إنجازه الفني الذي جسَّد — أكثر من فكره التقريري المباشر — خراب الأرض الرأسمالية، وضرورة مطلقًا تغييرها.
أقول ذلك مقدمًا؛ لأن إليوت ظل زمنًا طويلًا — وربما لا يزال — من الموروثات الفنية العميقة الأثر في توجيه شعرنا الحديث. ومن أكثر العناصر الموروثة من إليوت في شعرنا إيجابية موقفه من التراث، ثم موقفه من فكرة الخلق الفني. وكم توقف الكثيرون حيارى بين الانتماء الفكري لإليوت وإزرا باوند — وهو انتماءٌ رجعي متطرف — وبين تجديدهما الذي لا يقل تطرفًا في هيكل القصيدة الشعرية. إنني هنا أفصل تمامًا بين إليوت كمفكر وإليوت كشاعر، تمامًا كما فعل ماركس وإنجلز في تقيمهما بلزاك. إن الفنان الموهوب فضلًا عن العبقري، يتوفر لتجربته الإبداعية من الصدق ونفاذ البصيرة ما قد لا يتوفر لتجربته الاجتماعية والسياسية. وهناك الكثير من نماذج الأدب الأوروبي والأمريكي تُدين المجتمع البرجوازي بضراوة وعنف، ولا ينتمي أصحاب هذه النماذج فكريًّا واجتماعيًّا إلى الاتجاهات التقدمية. بالطبع يظل «الشرخ» في بنائهم الإنساني قائمًا وفاجعًا بين إبداعهم الفني وحركتهم الاجتماعية، مما يعبِّرون عنه عادة بالاغتراب أو اليأس؛ أي إنه لا سلام داخليًّا أو انسجام بين روحهم المبدعة وتكوينهم الاجتماعي والسياسي. ومعنى هذا أن الفن العظيم — أقصد الفن الحقيقي — هو بالضرورة فنٌّ إنساني يقف إلى جانب التقدم؛ فالدلالة الكبرى لأرض إليوت الخراب لا تكمن في أن صاحبها يحلُم بالعصور الوسطى بقَدْر ما يجسد هذا الحُلْم نفسه خللًا عميق الغور في البناء البرجوازي للمجتمع، يستوجب التغيير أو الفرار. إن هذا الخلَل العميق هو مصدر التجديد الخصب، والخلَّاق، في شعر إليوت ومن جاءوا بعده، ولكن هذا التجديد الذي أصاب موسيقى القصيدة؛ وبالتالي طريقة الوزن واختيار اللفظ، لم يتخلَّ مطلقًا عن التراث بأوسع معانيه؛ فالصور المختارة من الحضارات القديمة، والعبارات المأخوذة عن تراث الشعوب المختلفة، والأحداث المعروضة بين صفحات التاريخ الغابر، تزدحم كلها في القصيدة الإليوتية حتى لتخلق مهرجانًا حيًّا للتراث. غير أن هذا يتم جنبًا إلى جنب مع روح العصر التي تسري في شرايين القصيدة، سواء بالروح العامة التي تخيِّم على التجربة الشعرية من بدايتها إلى نهايتها، أو بانتهاج لغة الحديث في الحياة اليومية بكل طرحها وابتذالها لغة شعرية؛ أي إن تغييرًا جوهريًّا قد طرأ على معجم الشاعر، فاتسع ليضُم مفردات لغاتٍ منقرضة في وقتٍ واحد مع مفرداتٍ عامية شائعة على كل لسان؛ هذا الذي يقيمه إليوت بين التراث والعصر، وعلى هُداه يقيم العلاقة بين الأثر الفني الجديد والتقاليد الأدبية المنحدرة عبْر العصور.
والنقطة الثانية هي أن إليوت قد بلور في علم الجمال الاتجاه الموضوعي، كما دعاه روَّاد النقد الجديد في إنجلترا وأمريكا. وهو الاتجاه القائل — بتعبير إليوت — إن الأثر الفني هروب من شخصية صاحبه، أو هو تجسيمٌ يعادل موضوعيًّا مشاعر الفنان، وتُحدث عناصر هذا التجسيم في مجموعها هذه المشاعر لدى الملتقي؛ أي إن الفنان لا ينقل ذاته مباشرة، إلا أعطانا شيئًا قليل القيمة، وإنما هو يصهر تجربته الذاتية في عقله الخالق؛ حيث يكتشف بديلها الموضوعي، وهو العمل الفني الحقيقي. وقد كانت الأساطير والمأثورات الشعبية والتراث الأدبي للحضارات الأخرى من المواد الأساسية في بدائل إليوت الموضوعية؛ أي في أعماله الشعرية. هذا لا ينفي أنه كثيرًا ما التقط تجسيماته من مواد الحياة المعاصرة، وذلك هو الوجه الآخر لحوار التراث والعصر في شعره.
لقد ركزتُ على إليوت — أكرر من جديد — لتأثيره البالغ على شعرنا الحديث، وبخاصة فيما نحن بصدده الآن؛ أعني قضية التراث، ويجب أن نعترف أن بعضًا من شعرائنا المحدَثين قد بهرَهم إليوت، فأغشى بصرهم عن واقعهم، ولم يدركوا أن أرضه الخراب ليست أرضهم، فما أعظم الفرق — بل ما أفظعه! — بين الحضارة الصناعية المتقدمة، رغم كل آلامها وعذاباتها، والحضارة التي تئن من وطأة الفقر والجهل والخوف. إن أرضنا خرابٌ حقًّا، ولكنه من نوعٍ مختلف كيفيًّا عن الخراب الأوروبي المُترَف؛ لذلك فإن الذين تبنَّوا مضمون شعر إليوت تبنيًا مطلقًا سقطوا في تناقضٍ صارخ، بين إيمانهم بضرورة البعث وبين عودتهم إلى قيمٍ قديمة تقوم بدور المُخلِّص. إننا لم نرتقِ بعدُ إلى المرحلة الحضارية التي احتج عليها إليوت؛ فخراب أرضنا على النقيض من خراب أرضه، إننا نعاني من التخلف وهو يعاني من التقدم. ولعل قصيدة «البحار والدرويش» لخليل حاوي من أعمق التجسيدات الشعرية لهذا التناقض. لقد رأى إليوت واقعه بقَدْر ما أُتيح له من الضوء، والذين ينقلون رؤياه بكاملها في شعرنا لا يرون واقعهم بأي بصيصٍ من الضوء. وكذلك مَن بهرَتْهم أضواء إليوت التكنيكية، فآثروا نقل أدواته الفنية دون التعرف الدقيق على وظيفتها داخل القصيدة، ولا على تفاعلها الجدلي مع التجربة الشعرية. هؤلاء وأولئك ممن حاصرَتْهم القصيدة الإليوتية بالانبهار لم يُسهِموا جديًّا في حوار التراث والعصر الذي خاضه شعرنا الحديث، خاضه وقد أفاد بلا أدنى ريب من القوانين العامة التي يمكن استخلاصها من تجربة إليوت والشعر الأوروبي الحديث عامة. أفاد على وجه الخصوص من فهمه للتراث وتصوُّره للخلق الفني. إن الخلل العميق الذي ارتعش له وجدان إليوت كان بين ما أحرزه المجتمع من تقدُّمٍ مادي وما تورَّط فيه من مأزقٍ روحي. أما الخلل الذي اهتزَّت له وجدانات شعرائنا، فقد كان بين حالة الموت المادي والمعنوي التي تخيِّم على المجتمع وبين الوعي الوليد من تحديات العصر على الشاطئ الآخر؛ أي إن أوروبا المعاصرة التي كانت مصدر شقاء إليوت كانت، بصورة أو بأخرى، هي مصدر التحدي للشعر العربي الحديث، وبالعكس فالعصور الوسطى التي كانت عزاءَ إليوت كانت ولا تزال هي نبع الشقاء للأمة العربية.
كانت هذه المجموعة من التساؤلات واجتهادات الجواب صدًى شغوفًا بإنجاز الشعراء، الذي تخطى من ناحية الفعل كل ردود الفعل. وكما أنني لستُ أميل في العادة إلى إطلاق صفه الريادة لشاعرٍ محدَّد بين أولئك الشعراء، ليقيني التام بأن الحركة الحديثة في جوهرها حركة جيل وليست ظاهرة فردية، فإنني أيضًا لست أميل إلى تصور شاعرٍ بعينه قد ارتاد الطريق المجهولة نحو التراث؛ ذلك أن حوار شعرتنا مع التراث لم يكن نزوة شاعرٍ فرد، بل إنه رغم التأثر البالغ بإليوت، لم يكن هو الذي أثمر الاتجاه. وإنما كان الحوار بين التراث والشعر العربي الحديث ظاهرةً حضارية تعكس جوًّا أصيلًا في بنائها القومي كله للبدء في هذا الحوار. الشعر كان رائدًا وليس شاعرًا بعينه. وتجربة الشعر الناجحة كانت، ولا تزال، نداءً لمختلف عناصر حياتنا، المادية والمعنوية على السواء، أن تحذُوَ حَذْوه في محاورة التراث والعصر.
ولأنني لستُ أميل إلى القول بأن هذا أو ذاك من شعرائنا كان الرائد الأول في فتح هذه الصفحة الجديدة في علاقة شعرنا العربي بالتراث، فإنني أقول إن السياب، وحاوي، والخال، والبياتي، وأدونيس، وعبد الصبور هم روَّاد الموجة الأولى، التي ارتادت التجربة. ومن بعدهم أصبحَت التجربة تقليدًا أدبيًّا رفيعًا، يطور في أبعاده بالحذف والإضافة والتعديل كلُّ شاعرٍ موهوب.
•••
هذه القصيدة نموذج لاستخدام الأسطورة كإشارات تُومِض كالبرق؛ فهي ليست صياغةً جديدة لأسطورة قديمة، كما أنها ليست خلقًا لأسطورة جديدة. إننا نستطيع أن نُحصيَ هذه الأسماء «البعل، الفصح، تموز، العنقاء»، وكلها تبلور فكرة الصراع ضد الموت، والبعث من جديد. وفي قصيدة «السندباد في رحلته الثامنة» يضيف خليل حاوي إلى معجمه الأسطوري والتاريخي أسماء «موسى، سدوم، المعري، لوركا، ديك الجن»، وتتحول القصيدة من شكل الصلاة إلى شكل المغامرة المروية بضمير نبي.
وفي قصيدة «لعازر عام ١٩٦٢م» يستلهم فكرة القيامة من بين الأموات، لا عبْر ومضاتٍ أسطورية كالبرق، وإنما ليضيف إلى معجزة المسيح ما قبل الموت بعد القيامة. إن المبعوث من الموت هنا ليس هو المسيح أو العنقاء أو الفينيقي؛ حيث يصبح بعثه هو المعجزة، وتصبح قيامته هي الحياة. إن المبعوث هنا هو إنساننا، الذي يستوي لديه الغياب والحضور في هذا الوجود:
وتتحول القصيدة — من ثَم — عن شكل النبوءة إلى المونولوج الداخلي، ولكنه ليس مونولوجًا فرديًّا، وإنما هو أقرب إلى المونولوج الجمعي؛ لأن المشكلة التي يعانيها لعازر الجديد قبل موته وبعد قيامته ليست مشكلةً فردية، وإنما هي أزمة جيل، ومأساة أمة، ومسئولية حضارة، وعلى هذا النسق استطاع شاعر، كخليل حاوي، أن يحاور في شعره تراث هذه الأمة بكامله، من أقدم حضاراتنا إلى أحدثها، واستعاد بذلك ضميرًا ثاويًا موصولًا للإنسان العربي، وعليه أن يستيقظ من رقاده الطارئ — وإن طال — لأن استمرار الرقاد هو الموت، ولقد استتبع ذلك تغير شكل القصيدة مرتَين؛ الأولى من مرحلة السكون والمطلقات الميكانيكية الصماء إلى الحركة والنسبية والديناميكية. والثانية من مرحلة الثبات على صوره واحدة — ولو كانت جديدة — إلى مرحلة التغير والتنوع والتعدد؛ بحيث أصبح من الممكن أن يُقال إن لكل قصيدة شكلَها الخاص والفريد ضمن الإطار العام للتجديد. وأخيرًا فقد أثمر هذا الحوار مع التراث التحاما عميقًا بين الذات والموضوع؛ بحيث لم يعُد الهروب من الشخصية — على حد تعبير إليوت — هروبًا من الذات بمعناها الأكثر اكتمالًا؛ أي بمعناها القومي والحضاري والإنساني، وإنما أصبحَت الرموز والإشارات والإحالات التراثية مجموعة من «المجسمات» الموضوعية لمجموع عواطف الشاعر وأفكاره، وهي مجسمات بجذور المسائل التي يثيرها عبْر التاريخ؛ أي إنه ليست هناك مسافةٌ عازلة بين المجسمات التراثية وبين ذاتية الفنان، وإنما هي أقرب لأن تكون «مطهرًا» تتكون عناصره مما عرفته الحضارة من قضايا مماثلة. وهكذا يَسُد الشاعر فجوات الانقطاع الحضاري المتسعة في تاريخنا، ومن ناحية أخرى يقترب بتجربته الشعرية من جوهر الفن؛ حيث لا يعود انطباعًا وخواطر وأهازيج لا قيمة لها لغير قائلها، وإنما يتحول إلى كيانٍ موضوعي مستقل عن صاحبه، رغم صدوره عنه؛ هذا الكيان — وهو أرقى مراحل الخلق الفني إذا تحقق — يعدِّل قليلًا أو كثيرًا في النظام الأدبي للأمة؛ أي إنه يُحدث تغييرًا في مسار تقاليدها الأدبية.
ليس هذا الإنجاز خاصًّا بخليل حاوي، وإنما هو إنجاز الجيل الشعري الذي ينتمي إليه بأكمله. إن يوسف الخال في «البئر المهجورة» مثلًا لا يعمد إلى الإشارات الأسطورية الوامضة كالبرق، ولكنه يخلق أسطورةً جديدةً من وحي أساطير البعث القديمة. إننا في هذه القصيدة نصادف بالطبع يولسيس والابن الضال والخروف والخاطئ الفاقد البصر، وكلها إحالاتٌ رمزيةٌ مستوحاة من الأساطير اليونانية والإنجيل، ولكن العمود الفقري للقصيدة — أي هيكلها العام — ليس جماع هذه الإحالات. وإنما قصة إبراهيم، هذه البئر المهجورة، هي هذا الهيكل. ويوسف الخال يرى في الفداء، وربما بمعناه المسيحي، منقذًا مما تردَّينا فيه من وحل وعفن:
•••
ربما كان إبراهيم هو المسيح في مخيلة الشاعر، هذا لا يهم. وربما كانت الطفولة البريئة النقية من أوشاب الخطيئة هي إبراهيم، هذا أيضًا لا يهم؛ فلو كان المسيح هو الذي تراءى لشاعرنا لكانت دعوته بالقطع هي مسيحية جديدة، ولو أنها كانت الطفولة البريئة، لكانت الخطيئة التي يقصدها أبعد ما تكون عن الخطيئة الأصلية؛ ذلك أن جوهر القصيدة يتركز في ثلاث نقاط أساسية؛ أولها أن إبراهيم يتقدم للأمام، وأن الغالبية الساحقة تنهره عن المضي في طريقه؛ لأن الأمان كل الأمان في «الخلف والوراء»؛ وبالتالي يمكن لدعوة إبراهيم التي يتبناها الشاعر أن تكون عودة إلى الماضي؛ لأن مبرر وجوده — حتى ولو مات — هو عدم النظر للوراء والتقدم للأمام. النقطة الثانية هي أن الفداء هو الطريق الوحيد للخلاص، للبعث؛ أي إن الموت هو طريق الحياة. والنقطة الثالثة هي أن «سائر البشر» يعرفون هذا الطريق، ولكنهم يعزفون عنه، بل إن بعضهم يحذِّر إبراهيم منه، ولم يكن يوسف الخال غامضًا تمامًا في إيحائه بطريق إبراهيم؛ لأنه يقول وهو سبيل للموت المؤكد:
•••
ولقد آثرتُ أن أقتطف مقطعًا من بداية القصيدة ومقطعًا من نهايتها حتى أؤكد على هذا الخط الموصول بين المقدمة والنتيجة، رغم كافة الانعطافات والتعاريج التي نصادفها مع يهوذا والجند والبندقيات. إن الشاعر هنا يُركِّز على ضرورة الفداء، كما ركَّز عليه يوسف الخال في «البئر المهجورة»، ولكن الفرق بينهما أن رؤيا الخال بالغة القتامة؛ فإبراهيم يفتح صدره للرصاص، والجميع يهرولون إلى الوراء، و«سائر البشر» يمرون بالبئر لا يرمون بها «حتى حجر». أما السياب فهو يرى بعينَي المسيح الثاقبتين — وفي لحظة الموت لا في لحظة المجد — أن فداءه يسبغ في قلوب الناس ويزهر في أرضهم، وها هي المدينة قد ازدحمَت بالصلبان والأمهات الحزينة كمريم. ومعنى ذلك أن أبناءها قد عرفوا طريق الخلاص، عرفوا أن الفداء بالدم هو البديل الوحيد للموت الحقيقي. وهو ليس فداءً فرديًّا، كبطولة إبراهيم الأسطورية في «البئر المهجورة»، وإنما الفداء الأعظم أن تتلُوَ خطواتِ الرائد الفرد خطواتُ الأمة كلها والإنسانية بأَسْرها. ليس هناك مخلِّص هو يسوع المسيح.
وإنما هناك طريقٌ للخلاص كان للمسيح وأوزوريس وبعل والفينيق والعنقاء فضل ريادتها فحسب؛ أي إن بطولة «الثورة» لا تتحقق عند السياب بقيادتها القادرة على التضحية، وإنما هي تتكامل بقدرة قاعدتها العريضة، بجماهيرها المسحوقة، على معاناة الفداء الكبير.
وقد جرَّد أدونيس هذا المعنى تجريدًا شعريًّا باهرًا، وإذا كانت قصيدته «الفراغ» بمثابة التصوير التراجيدي النائح على الأرض الخراب، فإن قصيدته العلامة هي «البعث والرماد»، التي يشدو فيها الطائر الأسطوري فينيق بملحمة العذاب المقدس، حين يحترق ليلد من رماده طائرًا جديدًا لا يكُف عن الموت والحياة. إن فينيق عند أدونيس، كما هو في التراث هو «طائر مؤَلهٌ بموته»:
أيًّا كانت المواد الأولية التي ألهمَت أدونيس أن يجسد الشعرية عبْر فينيق المحترق، كأن يُشار إلى موت والده بحادثٍ مفجع أو موت زعيمه السياسي محكومًا بالإعدام، وكان كلاهما على الصعيد الشخصي من أقرب الأفئدة والعقول إلى وجدانه وفكره، فإن ذلك كله يظل كامنًا في خلفية صاحبه، لا يجوز تفسير عمله الشعري على هداه، وإنما تبقى أمامنا القصيدة دليلَنا الوحيد على تصوُّر عالَم هذا الشاعر المبدع، بل إنها حينئذٍ تصبح دليلًا إليوتيًّا — إن جاز التعبير — على قدرة عقله الخالق في إيجاد البديل الموضعي لهذه الذكريات الشخصية الموغلة في تلافيف الذات. فماذا تقول «البعث والرماد» وطائرها المحترق؟ تقول:
وهي غربة لها مِهَادُها الذي تدُلنا عليه إشارات الشاعر إلى البيئة الفقيرة التي وُلد فيها مطحونًا بين حجرَي الرحا؛ أمه ووالده من ناحية — حيث الحب الغامر — وجارته العجوز التي كفَر بها. وربما كانت هذه الجارة هي أولى الدلالات على الهرم والشيخوخة والبوار. على أن هذا الطائرَ الفارَّ من عُشه وجذوره، الغريب في وطنه، ظل مطاردًا منذ اللحظة التي جرؤ فيها على هدم سجنه الكبير. هكذا يقبع له الموت في بداية الطريق المأهولة بالوحوش من كل نوع، ولكن ها هو ذا «واحد» من دنيانا يموت على صليبه بغير أن يهتزَّ له جَفْن؛ ذلك أنه أحسَّ — كفينيق — أنه لكي يعيش عليه أن يموت. غير أن الموت الحقيقي هو ذلك الذي تجسِّده جارته العجوز عائشة:
•••
ولقد أمست هذه الصورة الجنائزية لأرضنا الخراب، بعد قصيدة أدونيس، تقليدًا أدبيًّا ساريًا في شعرنا، ولستُ أعتقد أنها تحتاج إلى اجتهاد في التأويل؛ فالتخلف الضارب في الأعماق هو الملمح الرئيسي في الصورة الحزينة، يقابله على الشاطئ الآخر مطاردة الطائر المحترق بسلاسل الدكتاتورية العمياء. وهكذا فقد أوجز الشاعر «خطيئتنا الأصلية» فيما ألَمَّ بحضارتنا من تدهورٍ وانحطاطٍ وجمود؛ لذلك يناشد أدونيس فينيقه ويبتهل إليه أن يموت، أن يزداد موته، أن يتأكد «لتبدأ الشقائق – لتبدأ الحياة». والبطل الفادي المنشود هو المدينة الجديدة؛ فالفداء ليس ميسورًا لسكان مدينة النوم الطويل، المدينة القديمة. إن الشاعر يُحس حتى النخاع — وتلك هي إضافته إلى تراث الفداء عند القدامى والجدد على السواء — أن مدينته الراهنة ليست أهلًا للقيام بهذا الدور التاريخي:
إذن فمَن يكون فينيق الذي يضع الشاعر عليه كل أمله في البعث الجديد؟ إنه في تلك المرحلة الباكرة من مراحل تطوره هو الصفوة الممتازة، أو الطليعة النادرة التي استطاعت تجاوز واقعها المثقل وتخطيه، و«الصفوة الممتازة» هنا ليست بالمعنى الطبقي للتعبير المألوف. كما أن «الطليعة» كلمة لا تمُت بصِلة قرابة إلى المعنى السياسي الدراج، وإنما يقصد الشاعر هذه النفوس الفذة في تعإليها على الآني والمعارض، والقادرة حتى على الموت، على اختراق الجحيم نشدانًا للفردوس. ربما كان صاحبه الذي مات «يلامس» واحدًا من هؤلاء، ربما كان الشاعر نفسه واحدًا من هؤلاء، ربما كان الشاعر نفسه واحدًا منهم، كما تُوحي الأبيات التي يتوجه بها إلى مدينته «العجوز» فيما أرى:
ويتبقى أن حوار أدونيس الأعمق مع التراث لم يكن مقصورًا على استلهام هذا الرمز التارخي أو ذاك، هذه الأسطورة الشعبية أو تلك. وإنما كان مفهوم الشاعر للتراث هو أثمن الكنوز التي أعطاها. إنه الشاعر الذي يمكن القول إنه من أكثر الشعراء تراثية، ومن أكثرهم معاصرةً في آنٍ واحد. وليس في ذلك من تناقض، بل إن هذا التركيب الجدلي هو ما يمنح شعره وحدةً فنيةً فريدة. إن التراث الإسلامي، وخاصة مجاهدات المتصوفة، هي النسغُ البارز في عمل أدونيس، ولكنه ليس معزولًا عن تراثنا السابق على الإسلام والتالي له، ولا محصورًا في جزيرة بعيدة عن تراث الإنسانية خارج ديارنا. وكإليوت يلتحم التراث في شعره مع أقصى درجات التجديد في بناء القصيدة؛ لأن القضية لم تكن لديه — بصورة مسبقة — قضية التراث والتجديد، وإنما كانت قضية الواقع الحي الذي يعايشه ويعانيه؛ هذا الواقع بكل أهواله وتمزُّقه هو الذي كان يهديه إلى استلهام التراث من ناحية وإلى تجديد القصيدة من ناحيةٍ أخرى. ولعل الوحدة الديناميكية بين وجهها التراثي في القصيدة الأدونيسية ووجهها المعاصر، هي الانعكاس الأصيل لصدق الشاعر — لا لموهبته الإبداعية الكبيرة فحسب — مع واقعه المعذب.
إذا كنا نستطيع أن نكتشف خيطًا رئيسيًّا ينتظم حوار التراث مع شعرنا الحديث، الذي كتبه خليل حاوي، ويوسف الخال، وبدر شاكر السياب، وأدونيس، هو أن وجودنا المادي والمعنوي أرضٌ خراب يستلزم بعثها الري بالدم، فإن هذا الخيط يظل ساريًا في أعمال عبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور، ولكنهما ينعطفان به نحو وجهةٍ جديدةٍ جديدة لا تتجسد في أساطير البعث المعروفة ورموزه الشائعة؛ أي إن هيكل القصيدة عندهما لا يلتزم بالصورة التراثية المألوفة لقصة الموت في الحياة والحياة في الموت. وإنما هما يحاوران التراث والعصر — كلٌّ من وجهة نظره — حوارًا لا يرتبط بمعادلةٍ جاهزة في الوجدان والعقل الجمعي القديم، أيًّا كانت الإضافات والتحويرات التي أدخلها عليها شعراء البعث — إن جاز عما يقصده أسعد رزوق بالشعراء التموزيين — فإن القصيدة في خاتمة المطاف هي استلهامٌ مباشر لجوهر فكرة البعث وإطارها الأسطوري، سواء كان الشاعر يائسًا منه أو آملًا فيه.
وإذا كان البياتي وعبد الصبور يتجهان في حوارهما مع التراث وجهةً جديدة، فإنهما لا يشتركان بعد ذلك في خطوةٍ واحدة نحو هذه الوجهة، وإنما هما يسلكان طريقَين مختلفَين أشد الاختلاف.
يفتتح البياتي «عذاب الحلاج» بمخاطبة الصوفي العظيم «سقطت في العتمة والفراع»، ثم يضع كلتا يدَيه على وحشة الليل وسيادة الظلام، ويمسك بأعناق أولئك «الذئاب» الذين أكلوا «خبز الجياع الكادحين». تلك هي بقعة السواد الأولى. وحين انفرجَت شفتاه عن قوله العدل، لم يجد شهود الزور والسلطان يرقصون في «وليمة الشيطان». وتلك هي بقعة السواد الثانية. وكان لا بد من الصلب والإحراق حتى الموت لمن تجرأ على السلطان، لمن تجرأ للفقراء، ولكن المأساة تظل ماثلة:
هنا نلمح الانعطافة الفذة التي أحدثها البياتي في حوار الشعر مع التراث؛ فهو لا يعيد بعث الحلَّاج من جديد، بل إن الشك يساوره في أن يكون الباب المغلَق على صاحبه قادرًا على محو الخراب من ظهر الأرض. إنه لا يعارض الحلَّاج؛ فهذا تبسيط للأمور، وإنما هو يستكمل ثوريته حتى يصبح لصَلبه معنى البعث الحقيقي. إن الصَّلب في ذاته، رغم احتوائه على الشجاعة كلها، ورغم إدانته للوضع بأكمله، لا يكفي لإشعال الثورة؛ فالشاعر لا يتلبس مُسُوح الحلَّاج، وإنما يحاوره حتى لا يكون نهاية لقصة، وإنما بداية لها. إن الشهادة من أجل العدل والحرية أروع آيات الاستشهاد، على أن تخرج من وراء الأبواب المغلَقة إلى الشارع، إلى عروق الأرض اليباب. عندئذٍ تكاد فكرة البعث الجديد عند البياتي أن تكون تجاوزًا وتركيبًا لفكرة السياب في «المسيح بعد الصلب» وفكرة أدونيس في «البعث والرماد». لقد اطمأن المسيح في قصيدة السياب لأن المدينة كلها ازدحمَت بالصلبان والأمهات الثكالى؛ أي إن أهلها جميعًا أصبحوا شهداء، وهذا هو الطريق. وقد اطمأن قلب أدونيس في قصيدته لأن نور المدينة الجديدة القادرة على الاستشهاد بدأ يبزغ مع دماء القلة النادرة من الصفوة الممتازة أو الطليعة، ولكن البياتي يرى في ثورة الجموع أمله الوضيء، مهما ازدحمَت المدينة بالصلبان:
إن الحلَّاج في التاريخ والشعر على السواء ليس رمزًا للبعث، والبياتي لم يستخدم على طول القصيدة إشارةً واحدةً من أساطير البعث. وإنما هو قد زاوج بين موقف الحلَّاج الداخلي ووضع المدينة خارجه، واستخلص موقفًا جديدًا هو موقف «الثوري المعاصر» الذي تتلاحم بطولته الفردية مع بطولة الجموع؛ فالحلَّاج هنا ليس تاريخيًّا للشاعر، والبعث هنا ليس هيكلًا أسطوريًّا في القصيدة. وإنما الحلَّاج نقطة في سياق التاريخ الذي يستكمل شاعرنا الجدل معه، لا من خلال أبنيةٍ نظريةٍ محبوكة الأطراف، وإنما من خلال الحركة الحية الفاعلة، سلبًا وإيجابًا، في باطن الأرض الخراب؛ ذلك أن الأرض عند البياتي ليست كتلةً سديمية، وإنما هي تيارٌ دافقٌ بالتناقضات، وإذا كان الخراب طاغيًا على ظهرها، فإن هذا لا يُعْمينا عن الزهور القليلة مهما بلغَت ندرتها؛ فهذا الوجه الآخر للعملة هو الذي يحمل في أحشائه رائحة المستقبل. ولا يمكن لأرض خرابٍ مطلَق أن تثمر شيئًا في الغد ما دامت خلَت تربتها من البذور. هكذا يُعيد البياتي فكرة البعث من سمائها الميتافيزيقية، التي حوَّلَت بعضًا من أروع قصائد شعرنا الحديث إلى تعاويذ وتمائم وصلوات وطقوس، إلى أرض الواقع الحية بتناقضات؛ فرغم سيطرة أحد النقائض وأهواله لا ينبغي أن نهمل البحث عن النقيض الضعيف المختفي عن الأنظار. وإلا إذا كان أرضنا الخراب سديمًا ساكنًا، فإن استبدال قدَرنا بقدَرٍ مفارق للطبيعة، كما توحي أحيانًا أساطير البعث، يستدرجنا إلى دائرة المطلَقات، التي تحتاج إلى قدرة الله لا إلى إرادة الإنسان.
أما صلاح عبد الصبور فقد كان بُعده عن أساطير البعث والفداء، وتراث الخلاص بالألم، نتيجة فقدانه الإيمان أصلًا في أن هناك بعثًا بإمكانه أن يحيل الأرض الخراب إلى مروجٍ من النرجس. منذ كتب «رحلة في الليل» في صدر ديوانه الأول «الناس في بلادي» إلى أحدث بكائياته في «شجر الليل» وصلاح عبد الصبور يرى الفساد في بذور الثمرة لا في قشرتها، حتى إن الأرض الخراب لا تعني لديه مدنيته أو حضارته وحده، وإنما تعني الكون بأَسْره. ورغم ما قد يصادفنا من قصائد تغني الحب أو تنشد للنضال، فإن معجم الحس العدمي هو معجم الشاعر. ومن هنا لم يكن من المتصور أن يفيد صلاح عبد الصبور كثيرًا أو قليلًا من أفكار البعث والتجدد عبْر الموت صلبًا أو احتراقًا. حتى إنه حين كتب قصيدته الدرامية الطويلة «مأساة الحلَّاج» كان الصراع بين الكلمة والفعل هو مشتهاه الحقيقي من استيحائه لقصة هذا الصوفي العظيم. منذ «رحلة في الليل» في ديوانه الأول، و«الظل والصليب» في ديوانه الثاني، إلى «أحلام الفارس القديم» في ديوانه الثالث، و«رؤيا» و«مذكرات رجل مجهول» في ديوانه الرابع، وصلاح عبد الصبور يرى ليلَه بلا فجرٍ ويومه بلا غدٍ، وإنما يرى المصير الفاجع قابعًا في قلب كل فرحة، ولا يرى من «المسرحية» كلها سوى إسدال الستار على الفصل الأخير.
•••
وهكذا تجاوز شعرنا الحديث اجتهادات النقاد الذين واكبوه في تفسير حواره مع التراث. إنه لكي يكون أصيلًا، ومعاصرًا لم يرَ في التراث العربي مرادفًا للأصالة، ولا في الحضارة العربية مرادفًا للمعاصرة. وإنما كان «الواقع» هو البوصلة التي وجَّهَته نحو تعريفٍ عميق للتراث، يشمل التراث العربي وغيره من تراثات المنطقة التي تعيش فيها، جنبًا إلى جنب مع التراث العالمي. وكانت هذه البوصلة هي التي وجَّهَته نحو ما ينبغي قبوله ورفضه من تراثنا وتراث غيرنا؛ لذلك جاء حواره مع التراث، سلبًا وإيجابًا، أغنى الإنجازات التي حققها الإنسان العربي الحديث في مجال الفن. كان التزامه بالواقع الحي، أيًّا كانت وجهة نظر هذا الشاعر أو ذاك، هو مصدر تحديه الرائع للسلفيين القدامى والجدد، وربما كانت الواجهة الرسمية للمجتمع العربي ما زالت تحمل نجوم الرجعية؛ فمنذ أن حوَّل العقاد شعر صلاح عبد الصبور «إلى لجنة النثر للاختصاص»، إلى حرمان أمل دنقل من جائزة الدولة التشجيعية، تتشبَّث الرجعية الأدبية في مصر والوطن العربي عامة بمواقع أقدامها، ولكن الوجه الآخر للصورة هو أن الشعر الحديث قد ثبَّتَ أقدامة في وجدان الإنسان العربي؛ بحيث إن أرقام التوزيع تُعَد شهادةً تاريخية لأصالة هذا الشعر ومعاصرته. والتوزيع يعبِّر عن الاختيار الحر للقارئ، بينما أجهزة الإعلام ومؤسَّسات الثقافة الرسمية تجسِّد إرادة السلطة في قهر الوجدان. ولا ينبغي التهوين مطلقًا من هول الأثر الذي تُحدثه هذه الأجهزة والمؤسَّسات في برامج التربية والتعليم والإذاعة والتليفزيون، وغيرها من وسائل الانتشار الجماهيرية النافذة المفعول. إن النجاح الأكيد الذي حقَّقَه الشعر الحديث لا يزال نجاحًا رمزيًّا، ما لم تُحسم المعركة نهائيًّا بينه وبين الرجعية، التي ترفع شعار التراث بينما تمثل هي وجهَه القبيح. لقد نجح شعرنا في زلزلة هذا الوجه المشوَّه، وبقي عليه ترسيخ الوجه الأكثر نضارةً وحضارة.