الفصل السادس
المسرح المصري الجذور والولادة
يقترب بنا الحديث من تخوم المسرح، يقترب حتى بالتداعي؛ فالقصيدة العربية الحديثة قد
أضمَرَت في تكوينها الشعري نزعةً درامية لا يخطئها الحس، وكان التراث من العناصر الفنية
الواضحة التي حملَت هذا العبء؛ عبء التحول من المونولوج إلى الديالوج، من البساطة إلى
التركيب، من الذاتية إلى الموضوعية، إلى غير ذلك من مسمَّياتٍ تفيد معنى النقلة الكيفية
الخطيرة في تاريخ الشعر العربي. وهي النقلة التي تجسِّد حضاريًّا حوار الأمة مع نفسها
من ناحية ومع العالم من ناحيةٍ أخرى. بمعنًى آخر تجسِّد التحول في الروح العربية من
حالة الموات العظيم، حالة السكون والثبات، إلى حالة اليقظة بكل اضطرابها؛ فهي علامة
الحركة والحياة.
ويكاد المسرح يشترك مع الشعر في هذه الظاهرة، بالرغم من أسبقية المسرح في عُرف الزمن.
وسوف أقتصر هنا على المسرح المصري؛ لأن خط سيره التاريخي يشكل انتظامًا في رؤية التراث،
لا يتوفر كمًّا وكيفًا في المسرح العربي خارج مصر. ولو أننا تغاضينا قليلًا عن كافة
الاجتهادات الأكاديمية حول ما يُسمَّى بالجذور المحلية للمسرح المصري، سواء في التراث
الفرعوني أو في التراث العربي أو في التراث الشعبي، فإن ما لا يختلف حوله أحدٌ من مؤرخي
الأدب، هو أن ميلاد الدراما في الأدب العربي الحديث قد اقترن بالمؤثِّرات الغربية في
هذا الفن. يعترف بذلك كُتَّاب المسرح أنفسهم قبل النقاد والمؤرخين. ونستطيع أن نضيف أن
هذا التأثُّر كان أمرًا طبيعيًّا في موازاة يقظتنا القومية الأولى، التي كانت بدَورها
حصيلة اللقاء مع الحضارة الغربية؛ وبالتالي فقد كان ظهور فن المسرح — كفن الرواية —
ظاهرةً قوميةً أصيلة في مجال الفكر والوجدان، كما هو الحال في بقية المجالات المادية،
الاقتصادية والاجتماعية.
ولأن المسرح المصري وليد التفاعل الحر الخلاق
بين الاحتياجات الموضوعية للتربة المحلية والمؤثِّرات الفنية الغربية، فقد كان من
الطبيعي كذلك أن يُولد برفقته الحوار مع التراث؛ فالفنون والآداب الغربية — والشعر
والمسرح على وجه الخصوص — كانت تتضمن عبر عصوره المختلفة تقليدًا رئيسيًّا، أمسى مع
الزمن عنصرًا جوهريًّا من عناصر الخَلْق، هو الحوار مع التراث. إن الأساطير والحكايات
الشعبية والحواديت التي كانت شائعة في نسيج الحياة اليونانية، قبل أن ترتديَ ثياب الشعر
العظيم في ملامح هوميروس وغيرها، هي بعينها التي تناقلَتها الأجيال الأدبية، في اليونان
وغيرها من الأقطار الأوروبية، منذ أقدم العصور إلى الآن. وقد خلق هذا الانتقال من عصر
إلى آخر، ومن جيل إلى جيل تيارًا متصلًا دافقًا بالحياة، يحمل في طواياه جوهر الإنسان
الذي لا يتغير، جنبًا إلى جنب مع إضافات العالم المتجددة في كُلٍّ من مراحل التاريخ.
كان هذا التيار ولا يزال يشتمل على ما نسميه الآن بالمطلَق والنسبي. ولم تكن اليونان
وحدها هي المصدر الأول لإلهامات الكُتاب والفنانين عَبْر العصور، وإنما كان المسرح
اليوناني العظيم — والملاحم من قبله — صاحب الخطوة الرائدة والباقية لهذا المعنى؛ فالحق
أن تراث الإنسانية القديمة كلها أصبَح النبعَ الذي لا ينضُب معينُه للفنان الأوروبي،
ولكننا في العادة نُركِّز على التراث اليوناني والروماني؛ لأنهما كانا النبعَ الأساسي
في عصر النهضة لثورة الأوروبيين، ولكننا نلحظ على العصور التالية التفاتًا عميقًا من
كُتاب أوروبا وفنَّانيها إلى التراث البشري أينما كان. وهم بذلك روادٌ حقيقيون للرؤية
القومية والإنسانية للتراث. وكانت الرؤية الطبقية بالطبع في خاطرهم حين ناضلَت
البرجوازياتُ الأوروبية الإقطاعَ والكنيسةَ بهذه «العودة» إلى اليونان والرومان. وكلمة
«العودة» هنا أقرب إلى المجاز؛ لأننا نقصد بها امتصاص العصارة الكامنة في الجذور
لمواجهة التحدي الراهن، وتجاوُز الحاضر في الطريق إلى المستقبل.
وتتضاعف في نظري قيمة توفيق الحكيم التاريخية، في إدراكه النافذ لهذا المعنى في
المسرح الأوروبي الذي تأثر به، وأحدث بهذا التأثر نقطة التحول التاريخية في الأدب
العربي الحديث. ولقد سبقَت الحكيم إرهاصاتٌ عديدة مهَّدَت لهذا التحول في المسرح
والرواية على السواء، ولكنه، وهو وحده، الذي بلوَر هذه البدايات الأولى، وحدَّدها في
إطارٍ واضح، بعد أن كانت انفعالًا هلاميًّا بلا ملامح. في المسرح مثلًا كان شوقي أسبق
من الحكيم في الصياغة الدرامية للحوادث التاريخية والأساطير الشعبية. ومن المؤكَّد أن
شوقي قد تأثر في ذلك بالفترة التي أمضاها في فرنسا، ولكن غياب الخلفية الثقافية لمعنى
التراث في المسرح عند شوقي كان سببًا بارزًا في اهتزار صياغته الفنية بين مختلف
المذاهب، بالإضافة إلى غنائه المسرف الذي أدى إلى تمزُّق أبنيته الدرامية.
١ ويأخذ البعض على شوقي أنه اختار، فيما كتب من مسرحياتٍ شعرية، مراحل الضعف
والهزيمة والغروب في التاريخ المصري والعربي.
٢ ولا يرى البعض الآخر في ذلك موضعًا للمؤاخذة، بل يعُده نقطة قوة
٣ ولكن هذا كله يدخل في باب التفاصيل إزاء ما نحن بصدَده الآن، وأعني به
مفهوم التراث وعلاقته بميلاد المسرح المصري. إن شوقي هو رائد المسرح الشعري في اللغة
العربية بلا جدال، ولكنها نسبيةٌ للغاية، تتمثل أهميتها في أن شوقي بالذات هو الذي
جرَّب هذه الخطوة، وتلك هي ثورتُه بالنسبة لميراثنا منه، لا بالنسبة لتاريخ الأدب العربي.
٤ وفي هذه الحدود لا نتوقع منه — ولا ينبغي أن نتوقَّع — مفهومًا شاملًا
لحركة التراث داخل الدراما المصرية، وهو الموقف الذي ينبغي أن نأخذه من مسرح عزيز
أباظة، ونضيف أنه يختلف عن شوقي في أنه لم يكن رائدًا بل مقلد
٥ وأنه أقصر قامة في حقل الشعر بما لا يُقاس.
خطوة توفيق الحكيم إذن، دون غيرها، هي البداية التاريخية الجادة لمسرحٍ مصري أصيل
ومعاصر معًا. وقد أقبل التراث في مسرح الحكيم حصيلة هذه الأصالة، مقدمتها هو تلمُّسه
لأبعاد الواقع المصري من ناحية، وفهمه لما آلت إليه التقاليد الأدبية في حياتنا من
توقُّف وجمود؛ لذلك كان اتجاهه لترسيخ فنَّين جديدَين — هما الراوية والمسرح — رغم خُلو
التراث العربي منهما، على الأقل في صورتهما الحديثة، بمثابة «فلاحة للأرض الخصبة،
واستصلاح للأرض البور» على حد تعبير الدكتور علي الراعي.
٦ وهي خطوةٌ ثورية، سواء على الصعيد الفني الخالص، أو على الصعيد الاجتماعي.
في ميدان الفن كانت هذه الكتيبة من الأعمال المتتالية نهرًا شَقَّ مجراه في الصخر،
وتفرَّعَت عنه الجداول، وامتدت الوديان، حتى أصبح المسرح فنًّا رئيسيًّا في حياتنا
الفنية، يتجاوز خطوة توفيق الحكيم كل لحظة. في ميدان المجتمع كان المسرح، ولا يزال،
ناقوسًا ثوريًّا يدقُّ ساعة الخطر، وينبضُ في قلوب شعبنا بخفقات عذابه وأَسَاه. ومما
يؤكد دور المسرح في حياتنا الاجتماعية والسياسية هو موقف السلطة منه بالرعاية حينًا،
وبالرقابة في جميع الأحيان.
وأعود إلى القول إن الخطوة المسرحية الرائدة لتوفيق الحكيم، تكمُن فحسب في ترسيخ هذا
«الفن» الدرامي، بإدراجه ضمن تقاليدنا الأدبية الرئيسية — رغم أن هذا في ذاته ثورة —
وإنما تضُم هذه الخطوة في إهابها مفهومًا عميقًا وشاملًا للتراث، أقرب ما يكون إلى
المفهوم الأوروبي. ويتكوَّن هذا المفهوم من ثلاثة عناصر؛ أولها أنه يشتمل على التاريخ
المادي والمعنوي للشعب، تتجاور فيه أحداث التاريخ السياسية والعسكرية والاجتماعية مع
أحداث الروح الفكرية والوجدانية، يضُم جنبًا إلى جنب تاريخ العلاقة بين الإنسان
والإنسان، وبين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان والله أو الكون أو الطبيعة أو لغز الوجود؛
وبالتالي فالتاريخ الحقيقي — هكذا يُدعى! — والتاريخ الوهمي — هكذا يُسمى! — أي
الأسطورة والتراث الشعبي، وحدةٌ واحدة في هذا التراث، يتمايزان حقًّا ولكنهما لا
يفترقان. النقطة الثانية في المفهوم الأوروبي للتراث هي استمراريته التي أشرنا إليها
من
قبلُ، بمعنى سريان هذا التاريخ المزدوج في شرايين العصور والأجيال، بوعيٍ منها أو بغير
وعي، ولكن في الحالَين يضيف كل عصر وكل جيل رؤيته للماضي، على ضوء الحاضر، مستشرفًا
آفاق المستقبل. والنقطة الثالثة هي أن القسمات الأساسية للتراث — الطبقية والقومية
والإنسانية — تطبع كل عملٍ فني يستلهم التراث، ولكن هذه البصمة تختلف من فنان لآخر، ومن
مكان لآخر، ومن زمان إلى زمان، والضابط الوحيد الذي يحكُم هذا الاختلاف هو «الاختيار»،
الذي يقع عليه الفنان من ركام التراث. إن هذا الاختيار هو الموقف، ووجهة النظر التي
يتبناها، لا إزاء التراث فقط، وإنما إزاء الواقع أيضًا.
أرسَى توفيق الحكيم قواعد هذا المفهوم للتراث، فيما أرساه من قواعد لفن الدراما
المصرية، ولكننا هنا يجب أن نحتاط ونحن نضع الحدود ونقاط الانطلاق وخواتيم المطاف؛
فالمسار أمام رائد المسرح المصري لم يكن مستقيمًا، كما هو الحال مع الكاتب المسرحي
الأوروبي، بل كان مليئًا بالتعرُّجات والمطبَّات. كانت يقظتنا القومية متأخرة، وميلاد
هذه الفنون الحديثة، كالرواية والمسرح، أقبلَت هي الأخرى متأخرة. وإذا كانت اليقظة
القومية في المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية قادرة على استقطاب الجماهير
العريضة — أي استزراع أوسع مساحة من الأرض البور — فإن الفن الحديث لم يكن على الدرجة
نفسها من التوفيق؛ فتغيير الأبنية المادية أيسر بكثيرٍ من تغيير العقل والوجدان والقيم.
إن التغيير المعنوي لا يحدث غداة تغيير الاقتصاد والسياسة؛ لذلك لم يكن المناخ مهيَّأً
بالقَدْر الكافي لإحداث هذا التمرد على التقاليد الأدبية. ولنتذكَّر أن الدكتور هيكل
قد
نشر «زينب» لأول مرة بتوقيعٍ مستعار، وأن توفيق الحكيم كان يخفي ما «يقترفه» من أعمالٍ
أدبيةٍ عن أهله وذويه، وخاصةً أصدقاءه. هذا المناخ السلفي المحافظ كان مصدر «الإحباط»
في حياة الحكيم الفنية الباكرة. ومن ناحية أخرى كان الشعور الحاد والعنيف بالمسافة
الهائلة التي تفصلنا عن الحضارة الغربية، مصدر «الطموح»، دافعًا لأن يطويَ الزمن طيًّا،
أن يختصرَه بأقصى ما يستطيع من طاقة وجهد، أن يختزله لو استطاع. وقد انعكس هذا الإحباط
وذاك الطموح بجلاء، ووضح على صياغة الحكيم لمعنى التراث في المسرح، فحذف من المفهوم
الأوروبي وعدَّل وأضاف بما يتلاءم مع هذا المناخ المعقَّد؛ يتلاءم بتجاوُزه وبتفويت
فرصة الصدام معه في وقتٍ واحد. على أن العمود الفِقْري للمفهوم الأوروبي ظل كامنًا في
وعي الحكيم وفنه على السواء. لقد انعكس الإحباط في أعمال الحكيم حين استلهَم من التراث
اليوناني أساطير تتباين في محتواها الفكري مع العقيدة الإسلامية، وبعبارةٍ أدقَّ مع
تفسيرٍ رجعي لهذه العقيدة، مما دفعه إلى لَيِّ عنق النص اليوناني ليًّا لا يخدم التفسير
الجديد الذي أعطاه بقَدْر ما يخدم هذه العقيدة.
٧ وانعكس هذا الإحباط حين استلهم من التراث اليوناني، مرةً أخرى، ما يحتاج
إلى تعديل على ضوء العصر، أجراه الأوروبيون فيما بعدُ، ولكن توفيق الحكيم حافظ عليه هذه
المرة لأنه يتفق مع بعض القيم والتقاليد الاجتماعية الشائعة في وطننا.
٨ وانعكَس الطموح في طي الزمن هو الآخر فيما أقدَم عليه الحكيم من إنجازاتٍ
كان يتحتم أن يقوم بها جيلٌ كامل من الأدباء حتى يتم نضجها على مهل، إنجازات تلخص شكلًا
ومضمونًا رغبتَه ولهاثَه للحاق بالركب الأوروبي، فاستلهَم من اليونان والمسيحية
واليهودية والعرب والإسلام والحضارة الفرعونية والفارسية، وفكَّر في مشكلات القضاء
والقدَر والواقع والحقيقة والفن والحياة والفكر والعمل والحرب والسلام والعدل والحرية
وغيرها مما ينوء به — وقد ناء بالفعل — ظهر كاتبٍ واحد مهما كان كبيرًا. وهذا ما عبَّر
عنه هو نفسه في «سجن العمر» بقوله «جهدي أكبر من موهبتي»، إنه لم يكن أمامه من مفر إلا
أن يكتب ويكتب، ويُسوِّد الورق، ويملأ الصفحات بظلام المِداد، فيما لا جدوى منه ولا
نفع. وهذه الكلمات رغم قسوتها — خصوصًا إذا كانت اعترافًا لكاتب كبير — إلا أنها كلماتٌ
موحية؛ فقد كان طموح الحكيم أن يجاريَ في أقل من نصف قرن مسرحًا — في الغرب — عمره
عشرات القرون. دع عنك اختلاف الزمان والمكان اللذَين يكتب فيهما، وهما «الإضافة» التي
تميز بين النقل والإبداع.
على أننا رغم هذا الإحباط والطموح اللذَين كان لهما انعكاسهما السلبي الأكيد على
أعماله الفنية، فقد حقَّق الحكيم انتصارًا تاريخيًّا رائدًا في تأسيس المسرح المصري
وترسيخ معنى التراث، حقَّق لقاءً كريمًا بين التراث الوطني والحضارة المعاصرة، حقَّق
تفاعلًا أصيلًا بين مصر الجديدة ومصر القديمة، وبين مصر في عصورها المختلفة والإنسانية.
وهذا الإنجاز وحده هو انعطافٌ ثوري في تاريخنا الفني والاجتماعي.
ماذا فعل الحكيم؟ إن الإجابة الموضوعية على هذا السؤال يجب أن تكون إجابة «تاريخية»
بمعنى أننا لن نسلخ الحكيم عن تيار عصره الفني، بل لعلنا نستطيع أن نتابع تطوره في
موازاة تطور مجتمعنا من ناحية، وامتداداته الفنية من ناحية أخرى. إن المسرح المصري في
مجموعه يقدِّم الإجابة الحقيقية عن هذا السؤال، وحينئذٍ يتضح دور الحكيم الريادي
والمتطور ضمن إنجازات زملائه وتلامذته على الطريق.
وإذا كان اختلاف حول ما يُسمَّى بالتاريخ الحقيقي الذي يستلهمه الكُتَّاب في أعمالهم
محدودًا، فإن الاختلاف حول ما يُسمَّى بالتاريخ غير الحقيقي — أي الأساطير والحواديت
والحكايات والقَصص الشعبي — يتسع يومًا بعد يوم. وقد استلهم المسرح المصري النمطَين
كلَيهما؛ لذلك وقبل أن نتعرف على مناهج هذا الاستلهام، ينبغي أن نتعرف على أوجه الخلاف
حول التراث الشعبي من الأساطير، خاصةً لأن جانبًا مهمًّا من رصيدنا الدرامي يعتمد
عليها. ومنذ البدء نقول إن حقيقة «التاريخ» المعبَّر عنه بحوادث السياسة ليس أكثر
حقيقية من «الأسطورة» المعبَّر عنها بطقوس السحر. كلاهما تاريخٌ نسبي للإنسان بشطرَيْه
المادي والمعنوي، وتظل الحقيقة هنا وهناك حُلمًا يتوق الإنسان إلى الإمساك بتلابيبه،
دون أن يحصل إلا على «وجهة نظر» فيما يخص التاريخ المادي، وجهة نظر تحذف من الأحداث
وتعدل وتضيف ما لا سبيل إلى وصف نتائجه بالوقائع التاريخية الموضوعية الصِّرف، وكذلك
الأمر في الأسطورة — أو الحدوتة أو الحكاية والقصة الشعبية — فإن ما ندعوه بعقلية العلم
المعاصر «خرافة» كان حياةً حقيقيةً يحياها الإنسان في القديم، وما ندَّعيه الآن
«رموزًا» كان هو الواقع الخام الذي عاشته البشرية في المهد. إننا في العصر الحديث
نستثني أغاني العمل الشعبية، ونقول إن فنوننا في جملتها منفصلة — أو متمايزة — عن
العمل، أما الأسطورة عند الإنسان البدائي فكانت هي الفكر والحياة والعمل في وقتٍ واحد،
إنها من حيث الشكل مجموعة الكلمات المرتبطة بطقوسٍ معيَّنة، بلغة الدين هي الشعائر،
وبلغة الدنيا هي جوهر الحياة المادية والروحية. إنها لم تكن قَط «أداةً» للتسلية
والتثقيف، بل لم تكن «فنًّا» بالمعنى الذي عرفَته البشرية فيما بعدُ، وإنما كانت صياغةً
عقلية ووجدانية لموقف الإنسان من الوجود بأكمله؛ هذا الموقف الذي لا تنفصل فيه الذات
الإنسانية عن بقية الذوات، ولا تنفصل فيه مجموعة الذوات عن الطبيعة المحيطة بها. بل إن
كلمة «محيطة» هنا نستخدمها مجازًا للتقريب؛ لأن الإنسان والطبيعة، الفكر والعمل، الدين
والحياة كلها كانت شيئًا واحدًا. والأسطورة هي التجسيد الشامل لهذا المعنى البدائي القديم.
٩ إن ما فعلَه المسرح الأوروبي من اليونان إلى العصر الحديث لم يكن ليزيد عن
استكناه جوهر التاريخ أو الأسطورة، واستكشاف علاقةٍ ما تربط هذا الجوهر بعصر الكاتب،
فيُبقي على القيمة المطلقة للواقعة التاريخية أو الأسطورة من ناحية، ويضيف القيمة
النسبية الجديدة للعصر من ناحيةٍ أخرى. وكانت هذه العملية تقتضي دومًا تحويرًا في بناء
الأسطورة يتسق مع المجرى التاريخي، ولا يتعسَّف معه في فتح قنواتٍ جانبية لا تخدم
النبعَ الأول ولا المصَبَّ الأخير. نستقي هذا المعيار بطبيعة الحال من مجموعة الأعمال
العظيمة وحدها، كما نستقي نقيضه من الأعمال الرديئة التي تطفَّلَت على التراث، وأقحمَت
عليه عناصرَ دخيلة لا تمُت إلى التطور التاريخي للإنسان بأوهى الصِّلات.
لنحاول إذن أن نتتبع علاقة المسرح بالتراث متابعةً لا تلتزم بتاريخ تأليف الأعمال
المسرحية بقَدْر التزامها بالمراحل التاريخية — والتراثية عمومًا — التي استلهمَتْها.
وقد كان من الطبيعي أن يستحوذ العصر الفرعوني على اهتمام الكُتاب المصريين سواء في
ثلاثينيات هذا القرن؛ حيث سادت الرؤية الرومانسية لمأساة مصر مع الاستعمار الغربي، فكان
بعث الأمجاد القديمة من وسائل المقاومة السلبية وصورةً من صور التحدي، أو ما تلا هذه
الحقبة من مراحل بدت فيها الحضارة الفرعونية مصدرًا حضاريًّا، لا مصدرًا قوميًّا فحسب،
للإلهام الفني. ولعل «مسرحية أحمس الأول» لعادل الغضبان
١٠ ومسرحية «إخناتون ونفرتيتي» لعلي أحمد باكثير
١١ من أبرز العلامات الدالة على طبيعة العقد الثالث من هذا القرن في حياة
شعبنا؛ فقد صدرَت الطبعة الأولى من المسرحية الأولى عام ١٩٣٤م، وصدرَت الطبعة الأولى
من
المسرحية الثانية عام ١٩٤٠م، وإن كانت مقدمة الطبعة الثانية تشير إلى أن المؤلف كتبَها
عام ١٩٣٨م. كذلك فإن إعادة طبع هاتَين المسرحيتَين عام ١٩٦٧م، تحمل المعنى نفسه
تقريبًا، بالإضافة إلى المعنى الآخر، وهو استمرارية الشعور المصري بالحضارة القديمة،
الذي يتكشف لنا فيما تلاهما من مسرحيات، مثل «إيزيس» لتوفيق الحكيم (١٩٥٥م) وعُرضَت
«سقوط فرعون» لألفريد فرج عام ١٩٥٧م، وظهرَت «أوزوريس» لعلي أحمد باكثير ١٩٥٩م، و«خوفو»
لشوقي عبد الحكيم كُتبَت بين عامَي ١٩٦٤، ١٩٦٥م، و«الحرية والسهم» لمحمد مهران السيد
صدرَت عام ١٩٧١م؛ أي إن هناك تيارًا متواصلًا من التراث الفرعوني يتخلل المسرح المصري
منذ بدايته الشرعية إلى وقتنا هذا؛ ومن ثَم لا سبيل إلى تقدير هذا الاستمرار المتصل
بالسبب الأول الذي ظهر من أجله هذا الأدب في الثلاثينيات، وهو التحدي الرومانسي للحضارة
الوافدة بأمجاد الحضارة القديمة. والملاحظة الثانية هي أن التيار الدافق المتواصل لم
يكن موجةً واحدة من أي نوع، بل موجات عدة من الأجيال والاتجاهات ووجهات النظر، بالرغم
من أن الخيط الرئيسي الذي يَنظِم هذه المجموعة من المحاولات والتجارب هو الإيمان العميق
بمصر وترابها الوطني.
١٢ والملاحظة الثالثة هي أن شخصيتَين بارزتَين في التاريخ والتراث الفرعوني
كان لهما بالغ الأثر على انتباه الكُتَّاب، وهما إخناتون وأوزوريس. إن توفيق الحكيم
وعلي أحمد باكثير ومحمد مهران السيد قد اختار ثَلاثتُهم أسطورة أوزوريس هيكلًا فنيًّا
للدراما، بينما اتجه علي أحمد باكثير وألفريد فرج إلى إخناتون، وشوقي عبد الحكيم وحده
هو الذي آثر خوفو، وعادل الغضبان وحده هو الذي آثر أحمس، غير أننا كنا ندعو شخصيَّات
التاريخ أبطالًا؛ فإن شخصيَّات الأسطورة والتراث الشعبي عامةً أقرب لأن يكونوا تمثيلًا
لوجدان الجماعة، ويُعبِّر عن «وظيفة» أكثر مما يعبِّر عن «شخصية»، كما يقول هاريسون؛
فالبطل الأسطوري هو بطلٌ شعائري لا شأن له بأبطال التاريخ، كما يقول راجلان، والبطل
الأسطوري لذلك ليس أكثر من «نموذج» يعبِّر عن حياة الجماعة لا ذاتًا متميزة؛
١٣ ومن هنا كان التعبير المسرحي عن إخناتون أو خوفو مختلفًا، منذ البداية، عن
التعبير عن إيزيس وأوزوريس وطيفون، وبقية شخصيَّات هذه الأسطورة المصرية القديمة. إنه
الاختلاف النوعي بين البطل التاريخي والبطل الأسطوري.
يفتتح توفيق الحكيم بيانه الذي ذيَّل به مسرحية «إيزيس» بقوله «ليس المقصود هنا تصوير
الحياة الفرعونية، أو بسط العقائد المصرية القديمة، بل المقصود هو إبراز أشخاص الأسطورة
إبرازًا جديدًا إنسانيًّا، وتخريج معناها على النحو المفهوم الحي في كل عصر، وفي العصور
الحديثة على وجهٍ أخص.»
١٤ ويرى أن الفرق الخطير بين إيزيس المصرية، وبينلوب اليونانية، وكلتاهما
عاشتا مرحلة انتظار الزوج الغائب، أن إيزيس لم تكتفِ بالانتظار السلبي، فراحت تناضل في
البحث عن زوجها، ثم راحت تناضل ضد غريمه ست، ومن أجل ابنها حوريس. أما بينلوب فراحت
تنسج ثوبها الشهير عنوانًا للصبر. إيزيس تمثل المقاومة الإيجابية للزمن، وبينلوب تمثل
—
في رأيه — المقاومة السلبية. ويقول الحكيم إنه استهدف من مسرحيته أن يقول بأن «قوة
الشعب مثل قوة الشمس لا أثر لها إذا تفرقت أشعتها وتشتتت، ولكنها تعمل إذا تجمعَت وتكتلَت
وانتظمَت.» وهذا ما تصوغه الأحداث، بالإضافة إلى ما تطرحه من تساؤل حول مسئولية الكاتب
والفنان: هل هي الالتزام بالمبدأ المجرد أو الالتزام بالقضية الواقعية؟ وهو التناقض
الذي جسَّده الخلاف بين توت ومسطاط. وقد كانت إيزيس هي أولى مسرحيات الحكيم التي تطورت
فيها نظرته لدور الأسطورة في المسرح؛ بحيث أصبح يعنيه في المقام الأول ما تحمله في
تضاعيفها من همومٍ حية معاصرة. وهذه النظرة التي دفعَتْه للتخلي عن جلال الأسطورة
وبهائها القديم، هي التي نزلَت به إلى وحل الواقع المعاصر بكل تناقضاته؛ حيث تُفقد
الأسطورة وتُقتنى في وقتٍ واحد.
١٥ إننا إذا غضَضْنا البصر عما تحمله مسرحية «إيزيس» من مشكلاتٍ ثانوية كمشكلة
السلطة والحرية، ومشكلة الالتزام، ومشكلة السلام والاستسلام، ومشكلة الغاية والوسيلة،
فإننا نكتشف كون «نظرية الخلود»، عَبْر الموت والبعث، هي المحور الرئيسي الذي تدور من
حوله مسرحية الحكيم. وهو بذلك ينسج خيطًا واحدًا يبدأ من «أهل الكهف» إلى «يا طالع
الشجرة»، وخيطًا واحدًا يصل بين جوهر الأسطورة القديمة والمسرحية الحديثة.
١٦ ويقترب من هذا المعنى كاتبٌ من أحدث الأجيال الأدبية المصرية هو محمد مهران
السيد؛ حيث يُركِّز في مسرحيته «الحرية والسهم» على الصراع، لا بين مطلَقات الخير
والشر، ولا حتى بين مطلَقات الموت والبعث، بل الصراع الكامن في الحركة الاجتماعية بكل
تفاصيلها الدقيقة، وتناقضاتها الحية المرئية والخافية عن العين المجردة، ومهران السيد
يعيد صياغة أسطورة إيزيس وأوزوريس، على هذا الضوء الجدلي الباهر، صياغة تستغني عن
الكثير من أعمدة البناء الكلاسيكي للأسطورة، وتضيف إليها ما يثبت أركان جوهرها الحي.
لقد انطلق مهران من «انتكاسة الخير المؤقتة؛ ففي الفترة التي تتوسط هذا السقوط والبعث
تُعاد صياغة أشياء وأشياء، ويتغير مجرى الحياة كلية، ولا بد من رحم يحتضن الجنين، يضمه
إليه ويحميه، ويغذيه حتى يكتمل.»
١٧ هذا الفرق في الرؤية بين الكاتب الشاب والكاتب الرائد قد تبدَّى فنيًّا في
التجديد الشعري الجميل لأحداث مسرحية مهران، وفي اختياره للشخصيَّات، وفي بنائه
الدرامي. وهو فرق المسافة بين جيل وجيل من ناحية، وبين مقدمات ثورة ونتائجها من ناحية
أخرى، بينما كانت القضية عند باكثير هي الاستيلاء العادل على السلطة، وإذا كان الشعب
عند الحكيم «منضالًا» فهو عند باكثير بالغ الوفاء، حتى إنه يضيف إلى الأسطورة «أنصار»
أووزريس المتجمعين في شمال الدلتا. غير أن الصراع في مسرحية باكثير اقتصر على مطلَقات
الخير والشر والحكمة والقوة من ناحية المضمون، والنصوص الأكاديمية المبعثَرة في متاحف
أوروبا للأسطورة من ناحية الشكل، فجاءت «أوزوريس»
١٨ صياغةً دراميةً للأسطورة القديمة بكل نواقصها وتمزُّقاتها. أما الحكيم
فباعتماده على النص البلوتاركي، قد تمكن من بناء مسرحيته بناءً كلاسيكيًّا محكمًا لا
تغيب عنه كافة العيوب في هذا النص اليوناني الملفَّق،
١٩⋆ فإذا
تركنا إيزيس وأوزوريس واتجهنا نحو إخناتون، فسوف نلاحظ أن مسرحية باكثير الرائدة
«إخناتون، وأوزوريس ونفرتيتي» قد اعتمدَت أساسًا على كتب التاريخ المعتمد ولكن محتواها،
أولًا وأخيرًا، هو الذي دفع الكاتب لأن يركز على ثلاثة عناصر في القصة التاريخية في
«رسالة إخناتون»؛ أي ديانة التوحيد، والصراع ضد الكهنة، ودور المرأة في حياة البطل،
وسوف نلاحظ أن هذه العناصر قد رافقَت باكثير فيما استلهمه من التراث في أعماله الأخرى.
وهي عناصر مهمة بغير شك، إلا أنها تفيد البنية الدرامية، وتحجُب الحقيقة التاريخية
المتصلة؛ أي إنها لا تكشف جوهر المرحلة التي جسَّدها التاريخ الواقعي — وهو الصراع
الاجتماعي المحتدم آنذاك، وإن عبَّر عن نفسه، عقائديًّا، في عبادتي آتون وآمون — ولا
تصل بين هذا الجوهر وعصرنا الحاضر. إلا أن الثورة الحقيقية التي أنجزَتْها هذه المسرحية
هي أنها كانت إرهاصًا جادًّا لحركة الشعر العربي الحديث، لاعتمادها في أغلب الأحيان على
وحدة التفعيلة وإن لم تُغفِل وحدة البيت في بعض المواقف، وما لم ينجزه باكثير ولم يهدف
إليه أنجزَتْه مسرحية «سقوط فرعون» لألفريد فرج، وقد رأى مندور أن مأساة إخناتون عند
ألفريد هي أزمة الصراع بين السلام السلبي المسلَّح، بينما رآها لويس عوض في بذرة السقوط
الكامنة في بطولة إخناتون التراجيدية، بإعدامه لزوجته وقائد جنده. ولعل التفسير الذي
قدَّمه شكري عياد للمسرحية هو أدق تحليل لجوهرها؛ إن انطواء صدر إخناتون على الحقيقة،
وعدم إشراكه للشعب في احتضانها، هو سبب سقوطه، وحين شعر بضرورة إكمال الحقيقة التي تظل
ناقصة بغير معرفة الشعب ونضاله من أجلها؛ لأنها حقيقةٌ اجتماعية، كان الوقت قد فات.
٢٠ أما مسرحية «أحمس الأول» لعادل الغضبان، فهي تخليدٌ أدبي رائع لثورة
المصريين التحريرية الأولى، وبالرغم من حرص المؤلف على هيكل الوقائع التاريخية، فإنه
حاول بقَدْر ما أُتيح له من الضوء، أن يركِّز على عوامل الهزيمة ومقوِّمات النصر، وقد
استبعد على الفور «التخطيط العبقري للمعركة العسكرية» كمدخل لهذا النصر. وإنما أضاف
القوى الاجتماعية القادرة على إحرازه. وتلك هي الإيماءة التي تربط بين الماضي والحاضر
في العمل الفني.
٢١ وعلى غير هذا النحو كتب شوقي عبد الحكيم مسرحية «خوفو»؛ فهو قد استوحَى
التاريخ من بُعدٍ بعيد، وخلق تراجيديا خيالية من حيث تكوين الأحداث والشخصيَّات
والمواقف، تُركِّز أساسًا على فكرة «الملك العجوز» الشائعة في عقائد المصريين القدماء
والشرق القديم عامة. وقد حاول الكاتب، بقَدْر ما أتاحت له الموهبة والخبرة والثقافة،
أن
يغير من فكرة الشخصية وعلاقتها بالزمن، فراح يؤكد في بنائه الدرامي على فكرة أن
الشيخوخة ترادف العجز، أيًّا كان هذا العجز ومعناه؛ فقد يكون العجز عن العمل والإنجاز
والتجديد، وهو المعنى الذي تُؤثِره المسرحية داعيةً إلى بناءٍ اجتماعي ينبض شبابًا
وحيوية.
لقد خلَت معظم هذه الأعمال التي استَلهمَت التراث الفرعوني — تاريخًا وأسطورة — من
البطولة التراجيدية رغم مأساويتها، ولا يعني ذلك أنها أحلَّت مكان التراجيدي بطلًا
أسطوريًّا يجسِّم في بنيانه وجدان الجماعة. وإنما هي اضطربَت بين البطولة الكلاسيكية،
والبطولة الوطنية، وانحرفَت أحيانًا — أثناء الخَلْق الفني — عن مقصدها في بناء بطل
بعينه، فكان يطل علينا بطلٌ آخر بقامة أكثر طولًا. وقد نقلَت إلينا معظم هذه الأعمال
رائحة التاريخ لا جوهره، ورائحة العصر لا جوهره، ولكنها بشكلٍ عام وقفت إلى جانب الثورة
المصرية، سواء بإبرازها انتفاضات الروح وسريان الوجدان في شرايين العصور رغم الظلام
والقحط، أو فيما أنجزَتْه هذه الأعمال على صعيد الشكل الفني والبناء المسرحي، أهمها
النسيج الشعري المرسل عند باكثير، والشعر الحديث عند مهران، والصياغة الشعائرية عند
شوقي عبد الحكيم.
يلى العصر الفرعوني، تاريخيًّا، العصر اليوناني
الروماني، واعتناق مصر للمسيحية فيما يُسمَّى — تصحيحًا — بالعصر القبطي، وترتاد مسرحية
«أهل الكهف» لتوفيق الحكيم مجاهل هذا التاريخ، وتصل مسرحية «الراهب» للويس عوض إلى عمق
أعماقه. ويفتتح الحكيم مسرحيته بالآية القرآنية التي ورد فيها ذكر أهل الكهف، ثم تجيء
شخصيَّاته الواحدة بعد الأخرى من ظلام الوثنية واضطهاد المسيحيين الأوائل، ثم تصوغ
أحداثه وقد انتصرَت المسيحية وبنَت مجتمعًا جديدًا ليس فيه مكان للماضي. هذا هو الهيكل
العام لمأساة أهل الكهف، مأساة الزمن حين يباعد بين الذين شاركوا بالدم في بناء الدين
الجديد، ولكنهم آثروا الماضي الذي يعرفهم ويعرفونه على الحاضر الجديد كل الجدَّة.
ولعلنا نلاحظ أن مصر الوثنية ومصر المسيحية والقرآن، هي العناصر التراثية، التي جسَّدها
الحكيم، في تركيبٍ فني يغاير كلًّا منها على انفراد. وهو منهجٌ في التعبير نستطيع
متابعته فيما تلا هذه المسرحية الرائدة من أعمالٍ أخرى للكاتب، منهجٌ قصد به توحيد
التراث الحضاري للمنطقة التي نعيش فيها، ضمن سياقٍ تاريخي يقول بأن الماضي واجب
الاحترام، ولكنه لا ينبغي أن يرتفع جدارًا في وجه التقدم، ويقول إن تراثنا كان دومًا
في
خطٍّ أماميٍّ مستقيم، يُحرِّر مع كل فكرةٍ روحيةٍ جديدة خطوةً نحو المستقبل، ويقول إن
جوهر هذا التراث هو «البعث» من الموت، أو في الموت «الكهف هو الماضي، هو الزمن، ولا
حياة لأشباح الماضي إلا بين جدران الماضي»؛ تلك هي بلاغة الحكيم القريبة من الشعر: «الا
حياة إلا من التراث، لأولئك الأموات الأحياء. إن قيامتهم من بين الأموات ليست بعثًا
حقيقيًّا، إن بعثهم الحقيقي هو المجتمع الجديد، والفكرة الجديدة، والروح الجديدة، التي
انبثقَت من روح الشهداء.»
٢٢ وهو في ذلك لا ينتصر على الوهم والأسطورة والفكرة المجردة كما قال الباحثون.
٢٣ وإنما هو يقابل بين الأسطورة والواقع، فيكتشف وشيجةً قوية تربط الماضي
بالحاضر والمستقبل؛ تلك هي «روح» مصر التي قد تنام طويلًا ولكنها أبدًا لا تموت، فإذا
ماتت فلكي تُبعث من جديد. وربما كانت هذه «التيمة» هي محور تفكير الحكيم في غالبية
أعماله الأدبية. وكانت «عودة الروح» في مجال الرواية (١٩٣٣م) و«أهل الكهف» في مجال
المسرح (١٩٣٤م) بمثابة المؤشر الحاسم لهذا الاتجاه. ومن المفيد أن نؤكد على ازدواج
النتيجة الثورية التي أدت إليها مقدمتان ثوريتان هنا؛ إن مصر في ذلك الوقت — ومنذ ذلك
الوقت — تعاني تحديًا حضاريًّا ضاريًا يهددها بالموت، وإنها تبدو في كثيرٍ من الأحيان
كما لو كانت ميتة بالفعل. وإن توفيق الحكيم — وبعض أبناء جيله — كان ولا يزال يرى في
التراث المصري شهادةً روحيةً دامغة بأن موت مصر مؤقت، وخلودها ليس احتمالًا، بل يرتفع
إلى مستوى اليقين. هذا الفكر الذي يكاد يكون تهويمًا ميتافيزيقيًّا وحُلمًا خرافيًّا
قد
تمثَّل ماديًّا واجتماعيًّا في الوقوف إلى جانب الثورة الوطنية الديمقراطية في مرحلتها
الأولى، وفي مرحلتها الثانية على السواء. من ناحية الشكل — وتلك هي النتيجة الثورية
المزدوجة — فقد ولدَت الرواية المصرية والمسرح المصري ميلادًا شرعيًّا، حين حملَا هذا
الجنين الثوري، أو ما نسميه المضمون. وقد ولد معهما المعنى الأصيل والمعاصر للتراث؛ لأن
الواقع المصري كان البوصلة التي هدَتْهما إلى هذا المعنى؛ وهو فتح النافذة على الحضارة
الغربية في وقتٍ واحد، مع فتح النافذة الأخرى على تاريخنا الحضاري بأكمله.
حين كتب لويس عوض مسرحيته اليتيمة «الراهب» عام ١٩٦١م، كان هذا المعنى للتراث الذي
ارتاده الحكيم قد استقر في وجدان الفن المصري وعقله الخالق. كان التاريخ وليس الأسطورة
هو مدخل الكاتب إلى هذا العصر الغائب عن وعينا. لقد تلفَّع الحكيم بثياب الأسطورة في
تسلله إلى دهاليز ذلك العصر «القبطي»، فجاءنا منه بالنظرية دون الاستغراق في واقعه
الخام. أما لويس عوض فقد آثر أن يبلور نظرية الحكيم بلورةً نهائية فيما نسميه بالفداء،
دون أن تنفصل هذه النظرية لحظةً واحدةً عن كافة الجزئيات التاريخية الملموسة، التي تشكل
جوهرها الأعمق. وكما أن «أهل الكهف» قد حققَت بظهورها ميلاد مسرحنا القومي، فإن
«الراهب» حققَت بدورها ميلاد البطل التراجيدي المصري.
٢٤ إن أهمية «الراهب» في تقديري تتضاعف لأنها ملأت بالفن مساحةً تاريخيةً
مهجورة في حضارتنا، من جانب الثقافة الأكاديمية والرسمية، ولأنها اكتشفَت أكثر من غيرها
همزة الوصل بين هذه الثورة التي عالجتها والثورة التي نعيشها، أو بالأحرى بين الهزيمة
القديمة والهزيمة الجديدة، يتوسطهما إيمانٌ عميق بقدرة مصر على فداء روحها بجسدها؛ ومن
ثَم استطاعت البقاء والاستمرار حتى يومنا هذا رغم الهزائم. وربما كانت هذه الغاية
المزدوجة للويس عوض، وهي التأكيد على هذه الفكرة جنبًا إلى جنب مع بعث التاريخ، هي التي
كادت من ناحية أن تجعل من «الراهب» مسرحيةً فكريةً تتخذ من التاريخ إطارًا فنيًّا، ومن
ناحيةٍ أخرى اضطراب «أبا نوفر» بين البطولة الوطنية والبطولة التراجيدية.
٢٥ ولكن ذلك لا ينفي بأية حال أن المؤلف قد نجح في استيعاب جوهر المرحلة
التاريخية التي تناولها، وتمكَّن من إيجاد الخيط الذي يمتد عنها حتى يصل إلى جوهر
المرحلة التي نحياها، على غير ما قال به أحد النقاد
٢٦ كما كان لويس عوض موفقًا، إلى غير حد، حين اختار راهبًا لبطولة المأساة؛
لأن الرهبنة المصرية بالذات كانت في نشأتها نموذجًا حيًّا للمقاومة الوطنية من جهة، ومن
جهةٍ أخرى كان «أبا نوفر» راهبًا ثائرًا على الكنيسة، مما يفرق بين موقف الكنيسة وموقف
المسيحية من القضية الوطنية، وهذا ما لم يدركه بعض الدارسين.
٢٧ إن «لويس عوض يضع في خَلْق هذه الشخصية من مزاجه المصري — الديني —
الرومانسي ما يجعل للمسرحية كلها مذاقًا يختلف عن مذاق التراجيديات التي نعرفها؛ فموت
هذا البطل لا يثير في نفوسنا الشعور الفاجع الذي يثيره موت الأبطال في التراجيديات، بل
يبعث فينا شيئًا أشبه بنشوة الانتصار.»
٢٨ ولم أشأ هنا — بصدد هذه المسرحية العظيمة — أن أستشهد بكلماتٍ «ضخمة»،
قالها عنها من النقاد وكُتاب المسرح؛ ما يجعل منها «نقطة تحوُّل في تاريخ المسرح
المصري»، كما جاء في مقالات محمد مندور، وعلي الراعي، ويوسف إدريس، ولطفي الخولي،
وغيرهم، ولكني أشير فحسب إلى أن الرجعية المصرية قد تمكَّنَت، بصورة لا يدريها أحد
للآن، من حجب هذه المسرحية عن العرض، بحجة أنها مسرحيةٌ مسيحية، أو طائفية، أو غير ذلك
من مسمياتٍ يندى لها الجبين. ولعله من قبيل أضعف الإيمان أنه بغير هذه المسرحية كان
استلهام المسرح المصري لتراثنا الحضاري يظل ناقصًا هذه الحلقة المهمَلة — عمدًا عن حسن
نية — في بقية أشكال المعرفة الإنسانية في مصر، وهو الأمر الذي تتسم معه فجوات الانقطاع
التاريخي والحضاري، في عقل أمتنا ووجداننا، جيلًا بعد جيل.
ومن الطبيعي أن تستقيمَ بعدئذٍ الرؤية الدرامية في مصر للتراث؛ حيث إن التاريخ العربي
والإسلامي عامةً خامةٌ شائعة في ثقافتنا، ومليئة بالأحداث والشخصيَّات القادرة على
التجسُّد المسرحي. إن التراث العربي والإسلامي عامةً أقرب إلى وجدان ووعي الغالبية
العظمى من الشعب العربي. والرجعية العربية تحاور التقدميين انطلاقًا من أرض هذا التراث؛
لذلك كان واجبًا نضاليًّا على الثوريين من كُتَّابنا وفنَّانينا أن يستخرجوا من باطنه
الرموز والدلالات الموحية بالثورة، في مواجهة الصياغات الرجعية الموحية بالثورة
المضادة.
وبالنسبة للتراث العربي والإسلامي عامة، فإننا نميز في المسرح المصري بين ثلاث
مجموعات من أعماله التي استوحت هذا التراث؛ الأولى هي تلك الأعمال التي استوحت العصر
المملوكي أو التركي المملوكي، وغالبيتها ظهرَت في الستينيات من هذا القرن؛ حيث تعرَّضَت
التجربة الثورية للشعب المصري لتعقيدٍ بالغٍ في محاولتها تخطيَ المجتمع القديم ونظامه
السياسي. وكان أبرز سمات هذا التعقيد هو إخفاق التجربة في الجمع بين العدل والحرية؛ إذ
حاولَت الدولة أن تؤمم الحرية لمصلحة العدل، فكانت النتيجة أن ساد الإرهاب وتواضع
العدل؛ ومن ثَم تفاقَم التخلف، وترعرعَت الدكتاتورية. ويرى كُتَّابنا في العصر المملوكي
ديكورًا باهرًا لصياغة هذه التجربة الدامية من مواقعَ مختلفة في الفكر والانتماء
الاجتماعي والاتجاه الفني. أما المجموعة الثانية فقد استوحَت بعض الرموز الملهمة في
التراث العربي والإسلامي لرجالٍ ناضلوا من أجل ما يعتقدون أنه الحق لدرجة الاستشهاد،
كالحلَّاج والحسين وأبي ذر الغفاري وغيرهم. وكانت هذه الرموز في المسرح المصري دعوةً
لرجال الفكر والفن ألا يفصلوا بين القول والفعل، وألا يفصلوا السر عن العلن، أيًّا كانت
النتائج رغم بشاعتها. وإلى جانب هذه الدعوة كانت الرموز المستلهَمة تشير إلى السلطة
بأصبع الاتهام، أيضًا من مواقعَ مختلفة في الفكر والفن. والمجموعة الثالثة استوحت مُناخ
التراث الشعبي — العربي الإسلامي — بأحداثه البطولية، الملحمية والأسطورية، التي
يختزنها هذا التراث في ضمير السير والحواديت والحكايات والقصص. وربما كانت «ألف ليلة
وليلة»، التي يميل بعض المؤرخين إلى أنها ليست تراثًا عربيًّا خالصًا، هي مصادر الإلهام
لهذا الفريق من كُتَّابنا؛ ذلك أن الإضافات العربية والإسلامية إلى نصوصها الأصلية،
واستقرارها في الوجدان و«التأليف» العربي عصرًا بعد عصر، قد جعل منها تراثًا
أصيلًا.
تضم المجموعة الأولى التي استوحت من العصر المملوكي والتركي المملوكي ديكورها الفني
مسرحية «السلطان الحائر» لتوفيق الحكيم، و«الفتى مهران» لعبد الرحمن الشرقاوي، و«اتفرج
يا سلام» لرشاد رشدي، و«يا سلام سلم الحيطة بتتكلم» لسعد الدين وهبة. وتشترك هذه
الأعمال جميعها في أنها تكاد تكون إسقاطًا من الحاضر على التاريخ؛ بحيث أصبح التاريخ
قناعًا للحاضر وبوقًا له؛ أي إن أعلام التاريخ وحوادثه وأجواءه تتحول إلى استعاراتٍ
قريبة من أدوات التشبيه لا أكثر. ليس الأمر هنا استخلاصًا لجوهر التاريخ ووصله بجوهر
العصر كما حاول البعض أن يطبق هذا المعيار على مسرحية الشرقاوي، وإنما يستلهم هذا النوع
من المسرحيات أردية التاريخ ليُخفيَ داخلها أوجاع الحاضر وآلامه، التي تناظر من بعيدٍ
أوجاعَ الماضي وآلامه. وفي تقديري أن هذه انعطافةٌ جديدة في رؤية المسرح المصري للتراث،
لا علاقة لها بالبداية التي كانت تستهدف حوارًا جدليًّا بين التراث والعصر، بين الواقع
والتاريخ. والسبب المباشر في هذه الانعطافة هو تضييق الخناق على أقلام الكُتَّاب، وغياب
الحريات الديمقراطية من مجتمعهم. وقد خسر الفن بذلك اتصاله الأعمق بالتراث، ولكنه كسب
المشاركة المباشرة في نضال الشعب المصري من أجل الحرية والعدل الاجتماعي.
وربما كان اتخاذ التراث مجرد مِشْجبٍ يعلق عليه كُتَّابنا أفكارهم السياسية
والاجتماعية هو الذي أوضح أكثر فأكثر تبايُن اتجاهات هؤلاء الكُتَّاب الفكرية والفنية.
ولقد كان الحد الأدنى من الاتفاق بينهم هو أن «السلطان — أو الحاكم — ليس شريرًا، وإنما
يتأتى الشر من بطانته المحيطة به فيما يشبه الحصار.» ثم يختلفون بعد ذلك في تصوير الشعب
وعلاقته بالسلطة، برمزها الأكبر ورموزها الصغرى على السواء. ويختلفون في طبيعة الصراع
الدائر، وهل هو صراع بين السلطان الأكبر والسلاطين الصغار؛ أي إنه صراع القمة، أم أنه
صراعٌ اجتماعي تدور رحاه بين مختلف طبقات الشعب، وينعكس صداه على سطح القمة العلوية
للهرم الاجتماعي، وهو السلطة. وقد تأثرت الأبنية الفنية تبعًا لذلك من النمطية المجردة
كرموز قطع الشطرنج، إلى الحياة الدافقة بمختلف تناقضات الصراع الإنساني الحي، كثافةً
وشفافية. ومن الأبيض والأسود في لوحة الألوان الحاسمة إلى ما لا حصر له من درجات اللون
وظلاله المتدرجة بينهما. هنا لا يقتصر الأمر على رؤية الفنان الفكرية وانتمائه
الاجتماعي، بل يتجاوز ذلك إلى خبرة الحياة والثقافة والموهبة الفردية لذلك. وإن كان
غياب التراث كعنصرٍ عضوي في بنية هذه الأعمال الدرامية يتسبَّب في ارتهان بقائها على
الظرف السياسي الذي كُتبَت من أجله، فإن البقاء سيتفاوت طولًا وعمقًا من كاتب إلى
آخر.
تشترك «السلطان الحائر»
٢٩ للحكيم مع «يا سلام سلم»
٣٠ لسعد الدين وهبة — مثلًا — في أن كلَيهما يبني مسرحيته على أساس «وعقدة» أو
«لعبة» فنية هي المثير الأوَّلي للأحداث. كانت عقدة «السلطان الحائر» هي أن أحد الرعية
من سُلَطاء اللسان قد أشاع أن السلطان الحالي ليس شرعيًّا؛ لأنه ورث العرش من السلطان
السابق دون أن يتحرر بوثيقة عتق من العبودية القديمة؛ حيث كان قنًّا يُباع ويُشترى.
وكانت اللعبة في «يا سلام سلم» ذلك الحائط الذي اختفت وراءه المرأة لتتكلم بلسان الشعب
في الجزء الأول، وبلسان السلطان في الجزء الآخر، وهو الحائط الذي استغل فكرته الوزير،
فانتهَز فرصة غياب المرأة الأصلية، ودفع بامرأةٍ أخرى ليعزل السلطان، ويمسك بمقاليد
الحكم، لولا أن المرأة الأصلية كشفت للناس سر الحائط الذي يتكلم في اللحظات الأخيرة.
وما أقربَ الشبهَ بين هذه المرأة الفاضلة وغانية توفيق الحكيم في «السلطان الحائر»، بل
ما أشبه حاشية السلطان هنا وهناك! وأخيرًا هناك الفكرة القائلة — عند الكاتبَين — إن
السلطان نفسه رجلٌ طيب، وإن بطانته هي سبب البلاء، وإن الشعب يمكن تضليله بالشرع
والخديعة. تختلف المسرحيتان بعدئذٍ في أن الحكيم يركِّز على قضية الديمقراطية؛ فالخيار
المطروح أمام السلطان الحائر هو السيف أو القانون، فيختار القانون رغم علمه بألاعيب
رجاله، بينما يركِّز سعد الدين وهبة على قضية العدل الاجتماعي؛ حيث إن الناس لا يجدون
ما يدفعونه من ضرائب.
وتوفيق الحكيم في «السلطان الحائر» كان فنانًا معاصرًا غاية المعاصرة، رغم الثياب
المملوكية التي أغرق فيها شخصيَّاته، ورغم الحدوتة التي يكاد نسيجها الفني أن ينتسب إلى
جو ألف ليلة وليلة. إنه في هذه المسرحية «ينفُذ بحساسيةٍ عميقةٍ إلى جوهر ما تُعانيه
العلاقة بين الإنسان والنظام في مجتمعنا. ويعي أن ثمَّة مشكلاتٍ متراكمةً من الماضي —
السلطان القديم — قد ورثَها النظام الجديد مع صِعاب الحاضر المتجددة بتجدُّد الحياة.
غير أن الحل الثوري النموذجي لهذه المشكلات، هو المزيد من الديمقراطية بجناحَيْها؛
الدستور والقانون. سوف تجلب الديمقراطية العديدَ من العقبات، وسوف تجد من يستسهل السيف
على القانون، ولكي يبقى شيءٌ واحدٌ مهمٌّ وخطير. يبقى أن شعبية الحاكم لن تتأكد إلا
بتعميق التجربة الديمقراطية، وأن شرعيته لن تتدعَّم إلا بمقدار تمسُّكه بهذا المبدأ،
ويبقى أخيرًا أن الطريق الديمقراطي السليم هو الذي يكشف لنا عن إنسانية الإنسان، كما
اكتشَف السلطان حقيقة الغانية الفاضلة.»
٣١
وقد رأى بعض النقاد أن فكرة «القوة والحق» المطلَقة من حدود الزمان، هي التي تتجاوز
بالمسرحية أسوار الصراع المكشوف، بين السيف والقانون، إلى سلسلة من المفارقات الدرامية
— الصانعة للكوميديا الراقية — كمفارقة ظاهر القانون وحقيقته، ومفارقة استسلام القوي
وتطاول الضعيف، بل إن نقادًا آخرين رأَوا في المسرحية سؤالًا وجوابًا «لا يتناسب مع
اللحظة الراهنة»؛ لأنها تنادي بالحل السلمي للمشكلات في وقتٍ ما أحوجَنا فيه إلى السيف!
٣٢ ولكنَّ فريقًا آخر يردُّ على هذا الرأي دون قصد حين يستشهد بقول السلطان
«السيف يعطي الحق للأقوى»، ومَن يدري غدًا مَن يكون «الأقوى»؟
٣٣ فإذا أضفنا أن محور المسرحية لا يدور إطلاقًا حول حرب تحريرٍ ضد غازٍ
أجنبي، بل حول معركة الحرية داخل المجتمع، لاستطعنا أن نؤكِّد وجهة نظر الحكيم، ونضيف
إليها — عند الذين يقحمون مسألة التحرير الوطني — أن الإنسان الحر في وطنه هو وحده الذي
يقاتل حتى النفس الأخير دفاعًا عن هذا الوطن. إن «الإسقاط» حالةٌ نفسية وليس عيبًا،
ولكن الإسقاط الطبيعي الذي تثيره «السلطان الحائر» يكمن في أوجه التشابه بين «المعضلة»
التي تواجه المجتمع الخيالي الذي خلقه الحكيم، والمعضلة التي تواجه المجتمع الواقعي في
حياتنا نحن.
وكما اختلف الحكيم عن سعد وهبة اختلافًا نسبيًّا في «مضمون مسرحية كُلٍّ منهما
وشكلها»؛ حيث ركَّز الأول على الحرية الليبرالية في إطارٍ فانتازي من العصر المملوكي،
وركَّز الثاني على العدل الاجتماعي في إطارٍ مشابه. وكما اتفق كلاهما على أن مشكلة
السلطان — وأزمة الشعب معه — هي حاشيته لا شخصه، فإن اختلافًا، جذريًّا هذه المرة، يقوم
بين رشاد رشدي في مسرحيته «اتفرج يا سلام»
٣٤ وعبد الرحمن الشرقاوي في مسرحيته «الفتى مهران»
٣٥ رغم اتفاقهما على مقولة السابقين في أن السلطان رجل طيب، والحاشية هي
الطغمة الشريرة (وسوف نلاحظ سريان هذا المعنى في المسرح المصري، في تنويعاته
واستلهاماته التراثية المتباينة، مما يعكس إجماعًا — بالخوف أو الإيمان — على أن الأصل
الواقعي المقصود يتمتع شخصيًّا بخصالٍ جيدة لولا المحيطون به. وهي نغمة كانت كجواز
المرور عند الرقابة أحيانًا، ولكن الحيلة لم تكن تنطلي على الرقيب في أحيانٍ أخرى؛ هذا
بالإضافة إلى أنها كانت فكرةً مضلِّلة عند المستفيدين بشيوعها، وفكرةً سطحيةً عند
المؤمنين عن حسن نية بها؛ لأن مؤسسات السلطان وأجهزته تُمثِّل في جملتها مصالحَ
اجتماعيةً محدَّدة، وهي أخيرًا فكرةٌ خاطئة فنيًّا عند الخائفين من السلطان الواقعي،
بنسيانهم أنه مسئولٌ عن اختياره لأفراد حاشيته). المهم أن رشاد رشدي وعبد الرحمن
الشرقاوي لجأ كلاهما إلى العصر التركي المملوكي من موقعَين مختلفَين؛ أحدهما لا يؤمن
بالشعب، بل يتهمه بالنوم والغفلة — وهو رشاد رشدي — ويكاد يُحرِّضه على ثورة مضادة، وهي
القيمة التي حوَّرها تحويرًا طفيفًا في مسرحيته التالية «بلدي يا بلدي»، التي استلهم
فيها سيرة السيد البدوي، والآخر يؤمن بالشعب إيمانًا عميقًا — وهو عبد الرحمن الشرقاوي
— ويختار رمزه البطولي من بين صفوفه. ولقد فرح ناقدٌ كبير كالدكتور لويس عوض، بتحول
رشاد رشدي عن مآسيه الفردية مع الحب والجنس، إلى أزمات المجتمع مع العدل والحرية، وأنه
استطاع أن يخلق «بوابة شعبية» لها في التراث الدرامي المصري جذور وجذور.
٣٦ بينما رأى ناقدٌ أكثر شبابًا — هو رجاء النقاش — في هذه المسرحية عدوانًا
سافرًا على حقيقة الشعب المصري، بل تمكَّن من النفاذ إلى ما وراء تصوير المؤلف للحكام
المستبدين تصويرًا يشي بأنهم ضعفاء، ليرى أن رشاد رشدي قد أراد، بطريقٍ غيرِ مباشر، أن
يُمرِّغ هذا الشعب في وحل الاستكانة والامتهان، لصمته المزري عن طغيان حكام بمثل هذا
الضعف.
٣٧ والحق أن مجرد انتقال رشاد رشدي من مناقشة أزماته الفردية، إلى دائرةٍ أوسع
هي أزمات المجتمع، لا يُعد إنجازًا على الإطلاق، حتى إذا صاحبه من الناحية الفنية
استلهامٌ مزدوج لتراث العصر المملوكي من ناحية، والبابة الشعبية من ناحيةٍ أخرى، إن
موقف رشاد رشدي لم يتغير بتغيُّره للموضوعات وأساليب الفن؛ فهو شكلًا ومضمونًا لا يتخلف
فحسب عن نبض أمته وتراثها الفني، ولا عن روح العصر وتراثه الإنساني، بل هو يقف عمدًا
ومع سبق الإصرار إلى جانب الثورة المضادة للفن والمجتمع على السواء. أما الشرقاوي، فرغم
كل ما يمكن أن نسوق من تحفُّظات على مسرحه الشعري، فقد كان — بثوريته في الفكر — نقلةً
تاريخيةً على صعيد الفن من دنيا شوقي وعزيز أباظة إلى العصر الحديث. ولقد اختلَّت — ولا
أقول اختلفَت — معايير التقييم لمسرح هذا الشاعر الرائد (وهنا يجب أن نُنوِّه بأن
ريادته سابقة على مسرحه الشعري؛ فقد كان الشاعر المصري الأول الذي فتح الطريق لوحدة
التفعيلة في شعرنا، بتمثُّله الأصيل لإرهاصات هذا التحول، وتجارب رفاقه السابقة عليه
في
الوطن العربي. ثم إنه كان الشاعر العربي الأول الذي مهَّد الطريق للشعر نحو خشبة
المسرح). ومع هذا اختلَّت موازين التقييم لا بالنسبة لمسرحيته الأولى «مأساة جميلة»،
وقد كانت عيوبها الفنية وليدة ريادتها للمجهول، وإنما بالنسبة لمسرحيته الشجاعة «الفتى
مهران»، وهي المسرحية التي لم يجنح فيها كاتبها إلى التجريد رغم الديكور المملوكي، بل
هو قد بعث إلى الوجود الفني إحدى حلقات المقاومة الفلاحية، ووضع كلتا يدَيه على جِراح
هذا الشعب الغائرة في وجدانه؛ عزلة الأمير عن الشعب، وفساد اختياره للمسئولين عن أمن
هذا الشعب وعافيته، والعدو الذي يهدد الحدود. وبرغم ضعف البناء المسرحي في صياغة
الشخصيَّات وحركة الأحداث وبلورة المواقف — بسبب الإسراف في الغناء المونولوجي أحيانًا
— فقد خلق الكاتب بطلًا متصل الجذور بالأرض؛ فهو من أصلٍ فلاحي وعميق الارتباط بأحزان
المثقف الوطني في مجتمعنا، وقد جعل منه الفنان شاعرًا. إن المشكلة الفنية التي صادفَت
الشاعر حقًّا، ولم يجد لها حلًّا، هي التناقض بين رغبته في خلق بطلٍ ملحمي وطموحه لخلق
بطلٍ تراجيدي في الوقت نفسه (لعلها نفس المشكلة التي واجهَت لويس عوض في «الراهب» من
قبلُ على نحوٍ مغاير). ولكننا بعد ذلك نصادف بطلًا يجسم الأبعاد الثلاثة الرئيسية
للشخصية الدرامية الحية. وهي البعد الإنساني والبعد القومي والبعد الشخصي. إن صورة اللص
الشريف التي عرفَتها تراثات العالم الفنية لم تكن غائبة — يقينًا — عن مخيلة الشرقاوي،
وهو يخطط صورة هذا البطل الذي يسرق غلال الأمير ويهبها للفقراء، ولكن الخيال الشعبي —
كما يقول رجاء النقاش بحق — لا يعرف التركيب والتعقيد؛ لذلك كان البطل الشعبي شجاعًا
نموذجيًّا كاملًا، لا يعرف التردد والتذبذب، وهو حين يسقط فبسببٍ خارجي لا يتصل بالذات
القوية الكاملة، كالخيانة والغَدر «أما الشرقاوي فقد أراد أن يمنح بطله قوةً أخرى، وهي
قوة تجعل من البطل أكثر إنسانية، وذلك بأن يضع فيه بذرةً مختلفة تمامًا عما يفكر فيه
الخيال الشعبي. لقد أراد الشرقاوي للفتى مهران أن يكون إنسانًا، يحزن ويخاف ويحب
ويتنازل ويضعُف.»
٣٨
وهو التكوين الذي لم يدرك أبعادَه ناقدٌ آخر راح يبحث في تفاصيل العصر المملوكي،
فلم
يجد سلطانًا حاول أن يتحالف مع التتار، ولم يكتشف سلطانًا مملوكيًّا تحالف مع الشعب ضد
أمراء المماليك، ولم يعرف سلطانًا مملوكيًّا خرج ليفتح بلادًا اسمها السند لا يعرف لها
مكانًا على الخريطة. وكان من اليسير على هذا الناقد الجاد، بغير شك، أن يستشهد بكتب
المؤرخين المعتمَدين للعصر المملوكي على صحة ما يذهب إليه.
٣٩ ولكن ما فاته حقًّا هو أنه لم يجد — أيضًا — فتًى يُدعى مهران، ولا غجريةً
تُدعى سلمى، ولن يجد بالقطع هذه الحدوتة التي رواها لنا الشرقاوي بشعره العذب الأسيان؛
ومن ثَم كان من الطبيعي أن تاهت عنه الحقيقة التاريخية التي استلهَمها الشرقاوي من ذلك
العصر، وأسقطَها فنيًّا على عصرنا ومجتمعنا بالتحديد. هذا الإسقاط الذي دفع ناقدًا
كبيرًا كمحمود أمين العالم — بنية حسنة لا ريب، ومن وجهة نظرٍ سياسية تختلف وتتفق معها
كيفما شئتَ ولكنها واجبة الاحترام — أن يقول عن المسرحية غداة عرضها إنها «توحي لبعض
الإيماءات التي تبذر التشكك والريبة في أن اللقاء الثوري يتم في بلادنا بين مختلف القوى
الاجتماعية المؤمنة بالتقدم «والاشتراكية».» ولكن محمود العالم يعرف في اللحظة عينها
بأن «المسرحية في الحقيقة تعبِّر عن مرحلة من حياة المجتمع سادت فيها الاتجاهات
الإدارية، وانتعشَت العناصر المتخلفة، وعانت الديمقراطية في التطبيق الاجتماعي،
والمسرحية كذلك قد تعرض لبعض القيم بالتجريح والتشريح، وقد تحذِّر من التلاقي والتهادن
بين بعض القوى الاجتماعية، وقد تحذِّر من التحالف والمساومة مع قوى العدوان الخارجي.
وقد تُعبِّر عن سخطٍ مشروع من عزلة القادة عن الجماهير.»
٤٠ وهذا صحيحٌ تمامًا، أيًّا كانت استجابة الناقد للمسرحية مغايرةً لاستجابة
الجماهير، التي كانت تشكِّل ظاهرةً ومظاهرةً كل ليلة أثناء العرض. وهذا صحيحٌ أيضًا
أيًّا كانت درجة التخلف عن رؤية المدى الذي وصلَت إليه بصيرة الفنان؛ فلم يكَد يمضى
عامٌ واحد حتى كانت الهزيمة في تفاصيلها وجوهرها كل ما قال.
والمجموعة التي ينتمي استلهامها إلى التراث العربي الإسلامي هي تلك الأعمال التي
اتخذَت من حياة بعض رجال الإسلام الأفذاذ رموزًا مضيئة للحاضر، كما فعل الشرقاوي في
مسرحيته «ثأر الله»، متمثلًا حياةَ الحسين وموتَه في كتابَين؛ الأول عنوانه «الحسين ثائرًا»
٤١ والآخر عنوانه «الحسين شهيدًا».
٤٢ وكما فعل الدكتور عز الدين إسماعيل بصورةٍ أخرى في مسرحيته «محاكمة رجل مجهول»؛
٤٣ حيث تجلَّت لنا في بعض المواقف شخصية أبي ذر الغفاري، وكما فعل على نحوٍ
مختلفٍ صلاح عبد الصبور في قصيدته الدرامية «مأساة الحلَّاج».
٤٤ مستوحيًا هو الآخر حياة الحلاج وموته. وعلى النقيض من مجموعة «العصر
المملوكي»، إن جاز التعبير، لا يكتفي كُتَّاب هذه المسرحيات بإسقاط المعنى السياسي
المعاصر على الحدث أو الشخصية أو الموقف القديم، بل هو يُحاور هذا التراث حوارًا
صميميًّا، حيًّا وخلَّاقًا، يقترب به من المنهج التعبيري، الذي تعرفنا عليه في الأعمال
التي استهلمَت التراث الفرعوني، ومن بعده التراث المسيحي. إن الشرقاوي في مسرحية «ثأر
الله»
٤٥ لا يتوه بنا في دوامات الطقوس الدينية، ولكنه أيضًا يتوغل داخل شخصية
الحسين بأبعادها التاريخية الواقعية. وكذلك الدكتور عز الدين إسماعيل في مسرحيته
المعاصرة لا يستخدم قناع أبي ذر، بل يتعمق في بناء هذه الشخصية من الداخل والخارج. غير
أن «مأساة الحلاج» لصلاح عبد الصبور هي وحدها التي بلغت درجةً عاليةً من التوفيق
والإجادة الفنية في فهم شخصية الحلاج وبلوَرَة مأساته. لقد كنا نستطيع بيسر أن نكتشف
الشخصيَّات الواقعية المعاصرة وراء الأقنعة المملوكية، ولكننا هنا — سواء مع الحسين أو
الحلاج — لا نقابل بين الشخصية التاريخية وأية شخصية واقعية، بالرغم من أن شخصيَّات
العصر المملوكي في المسرح المصري هي في الأغلب شخصيَّاتٌ وهميةٌ تقبل التعميم — أو بسبب
ذلك — أما شخصيَّات التاريخ الإسلامي فهي في الأصل شخصيَّاتٌ حقيقية وإن أحاطتها
الأحداث والعصور والعقائد بما يشبه الجو الأسطوري. إن المقابلة التي يمكن للكاتب أن
يُومئ بها في مثل هذه الحال ليست بين الشخصية القديمة وأية شخصيةٍ معاصرة، بل بين
«موقف» الشخصية التاريخية والموقف الواجب التجسيد في حاضرنا. وهذا في رأيي ما نجح فيه
صلاح عبد الصبور، أيًّا كانت نوعية البناء الدرامي الذي صاغه شعرًا؛ فهو أقرب إلى ما
دعوتُه من زمن بالقصيدة الدرامية الطويلة
٤٦ وما عبَّر عنه ناقدٌ آخر بقوله المهذب إن المسرحية جاءت «سمينة كعمل فكري،
نحيلة كعمل درامي»،
٤٧ ولكن هذا لا ينفي أن الشاعر قد استطاع أن يستوحي الكثير من تاريخ الحلاج
الحقيقي ومأساته الواقعية، وهو تاريخ الشيخ الصوفي الذي عرفه النصف الثاني من القرن
الثالث الهجري؛ حيث كان التصوف صدًى عميقًا لما أصاب الدولة الإسلامية حينذاك من خلل
اقتصادي، واختلال سياسي، وانحدار اجتماعي من ذروة المجد الذي تألقَت في بهائه الحضارة
العربية زمنًا. ويبدو من اسمه أنه نشأ عاملًا — حلَّاجًا — ثم راح يطلب العلم إلى أن
ارتدى الخِرْقة الصوفية على يد الصوفي الكبير عمر بن المكي، غير أنه تتلمذ على يد
صوفيٍّ آخر لا يقل شهرة هو الجنيد. ويبدأ «التحوُّل التاريخي في حياة الحلَّاج عندما
يخلع خرقة المتصوفة، ويدعو إلى نوعٍ من العدل الاجتماعي لا يتعارض مع مذهبه الصوفي،
ولكن الفقراء يتجمعون حوله فيما يشبه التنظيم السياسي — بلغة عصرنا — فيستقطب ضدَّه غضب
السلطان، وحقد الفقهاء، وذعر رفاقه الصوفيين. ولا تلبث المؤامرة أن تكتملَ بالقبض عليه،
وسجنه ثمانية أعوام، والحكم بإعدامه صَلبًا في نهايتها»؛
٤٨ ذلك هو تاريخ الحلاج ومأساته باختصار، كما ترويه المصادر المعتمدة. ولم
يتصرف شاعرنا في هذا التاريخ الواقعي إلا بحذف بعض التفاصيل والجزئيات والدقائق الصغيرة
التي لا يتسع لها بناؤه الفني، وإضافة شخصية السجين الهارب الذي التقى به الحلاج في
السجن؛ حيث تأثر بتعاليمه، وحاول إنقاذه من الموت، ولكنه مات هو أثناء المحاولة. ولقد
كان شغل صلاح عبد الصبور الشاغل أن يجسد هذا «التحول» الذي حدث في حياة الحلاج،
باعتباره حنينَ المأساة، كما كان همه الرئيسي أن يُبلوِرَ هذه المأساة في إطار التناقض
بين «معرفة» الحلَّاج باطنه وضرورة شيوع هذه المعرفة خارجه؛ لأن الإيمان بالشعب لا
يتكامل إلا بالالتحام بهذا الشعب، ولكن المأساة فيما يبدو كانت بين التركيب الصوفي
لشخصية الحلاج؛ حيث يصبح اختزان المعرفة «سرًّا»، وبين نوعية أو طبيعة المعرفة التي
أرَّقَت ضميره، ونشَّطَت روحه للحق والعدل. إن الوجد الصوفي المطلَق الذي تتوحد فيه
الذات البشرية مع الذات الإلهية يستهدف خلاصًا فرديًّا للذات العارمة المغلَقة على السر
المقدس؛ وبالتالي فهناك اتساق بين وسيلة التصوف وغايته، بين أداة المعرفة وهدفها، بين
شكل السر ومضمونه. أما حين «تتحول» شخصية المتصرف عن معرفتها القديمة وسرها القديم إلى
معرفة جديدة وسر جديد، فإن الوسيلة والأداة والشكل هنا تتناقض تراجيديًّا مع الغاية
والهدف والمضمون. إن معرفة أحزان الشعب وآلامه لا تتسق مع الخلاص الفردي الذي كان
ممكنًا بالمعرفة الصوفية. وهكذا فإن الخلاص الجديد للحلَّاج لا يتحقق إلا من خلال
الخلاص الاجتماعي، وهو الفرق الجوهري بين أن تكون السماء هي الأفق الذي تتطلع إليه
الروح بالحدْس، وأن تكون الأرض هي المدى الذي تتحفز الطاقة البشرية لتحريره بالممارسة
النضالية. وقد حوَّم شاعرنا حول هذه المعاني تحويمًا، ولا أقول هوَّم تهويمًا؛ لأنه
لامس الكثير منها في مقابلته بين الكلمة والفعل، في حياة الحلاج، وفي حياتنا نحن أيضًا؛
أي إنه استطاع برغم حواره المباشر مع التاريخ — أو بسبب ذلك — أن يرادف موقف المثقف
الثوري بموقف المثقف الثوري المعاصر. ولم تكن القضية على الإطلاق أن الحلاج تخلى عن
الثورة، وأبقى على الفكرة؛ فليست هذه مأساة الحلاج القديم ولا مأساة الحلاج الحديث، كما
ظن أحد النقاد.
٤٩
وعلى النقيض من الحوار الخصب والخلاق بين التراث والعصر، في عمل صلاح عبد الصبور،
كانت مسرحية «بلدي يا بلدي»
٥٠ لرشاد رشدي؛ حيث يستلهم سيرة أحد أولياء الله الصالحين، هو السيد البدوي،
استلهامًا استاتيكيًّا جامدًا، لا يستكشف أعماق الشخصية المتصوفة، ولا يعطي تفسيرًا
فنيًّا أو تاريخيًّا للمرحلة التي وُجدَت فيها، ثم يتعسف مع النماذج البشرية بقَسْرها
في قوالبَ سياسية وعاطفية لا علاقة لها بالتاريخ أو العصر، ويخلط بين النمط والرمز
خلطًا فاضحًا من جانب أستاذ للدراما كرشاد رشدي، ويتسبَّب هذا الخلط في اضطراب
الاستيحاء الفني من «المولد الشعبي»، كظاهرة دينية وظاهرة اجتماعية في وقتٍ واحد، وطموح
المؤلف الواضح لتحويله إلى ظاهرة فنية مسرحية، وينعكس هذا الاضطراب في رؤية القائد
المعزول عن شعبه أو «الغائب» عن الدنيا بمعنًى أدق، رؤية الشعب التائه في غيبوبة لا تقل
عن غيبة الزعيم. ولا خطر على بال المؤلف بالطبع أن يدين الاتجاه التواكلي الغيبى عند
الجماهير المضلَّلة والمخدَّرة — حينذاك — كان يبدو مناضلًا ضد التخلف، ولكنه يؤمن
إيمانًا قاطعًا بأن هذه الملامح هي جزءٌ لا ينفصل من طبيعته ونظرته، لا علاقة لها
بالظروف. أي إنه جوهريًّا كاتبٌ عنصري، وأيديولوجيًّا هو مفكِّر «الصفوة المختارة بالحق
الإلهي» يعادي الديمقراطية رغم كل الموتيفات الرامزة إلى استشراء الفساد في
المجتمع.
وتنتمي المجموعة الثالثة والأخيرة من الأعمال التي حاورَت التراث العربي والإسلامي
عامةً إلى عالم ألف ليلة وليلة والسير الشعبية. وهو عالم يختلف عن استيحاء العصر
المملوكي؛ حيث اقتصرَت مسرحيات كُتَّابنا على إسقاط مظالم عصرهم على مناخ ذلك العصر،
ويختلف عن استيحاء التاريخ الواقعي للرجال الأفذاذ الذين استُشهِدوا في سبيل الحق؛ حيث
مدَّت مسرحيات كُتَّابنا خيطًا من المواقف المتشابهة التي واجهها هؤلاء الرجال،
والمواقف التي تواجه المناضلين المعاصرين. تختلف ألف ليلة وليلة والسير والحواديت
والحكايات الشعبية عن هاتَين الصورتَين من صور الاستلهام، بأنها حرَّرَت كُتَّابنا من
التزامات الإسقاط الحرفي وما يثيره سياسيًّا من معادلاتٍ سطحية بين التاريخ والعصر،
وكذلك حرَّرَتْهم من سيطرة الواقع التاريخي بسيرة الشخصيَّات الفذة التي عرفَتْها عصور
الحضارة العربية الإسلامية المختلفة.
ولقد كانت شهرزاد مع الملك شهريار، ولا تزال، من أمتع حكايات ألف ليلة وليلة، وأكثرها
إلهامًا للفن المعاصر؛ فهي كحدوتةٍ شعبية مجالٌ خصب للخيال الخلَّاق والفكر البصير،
سواء كانت إضافته تفسيرًا جديدًا للحكاية القديمة، أو تحويرًا لها يتناسب مع روح العصر
وأفكار الفنان.
وقد كان توفيق الحكيم — كعادته — رائدًا في ولوج عالم ألف ليلة وليلة ولوجًا
مسرحيًّا، وبالذات إلى دنيا شهرزاد. ويعود الحكيم مرةً أخرى في مسرحيته المعنونة بهذا
الاسم، التي صدرَت عام ١٩٣٤م لأول مرة — بعد «أهل الكهف» بعامٍ واحد
٥١ — إلى عالم المطلَقات الذهنية المجردة؛ فموقف الإنسان من الكون الغامض
المحيط به هو ما يشغله في هذه المسرحية. وإذا كان في «أهل الكهف» قد رأى في الزمان
محورًا لصراع الموت والحياة، هذا الصراع الذي يؤدي بالضرورة إلى البعث والتجدد، فهو في
«شهرزاد» يرى أن «المكان» هو الوجه الآخر لهذه العملة الفكرية. وهو — في سبيل ذلك — لا
يعتمد على أحداث الحكاية الشعبية في ألف ليلة وليلة، ولا يحاول تفسيرها تفسيرًا جديدًا،
بل يبدأ من نهايتها المعروفة، ليبدأ رحلةً مضنيةً مع شهريار — الإنسان المعذَّب — في
مواجهة الغامض المجهول، الذي يتراءى أمامه بشرًا سويًّا، في امرأة جميلة هي شهرزاد،
يتلمسها بحواسه ولا يدركها بعقله. لقد «تحوَّل» شهريار في مسرحية الحكيم من حياة اللحم
والدم والشهوة الجنسية إلى حياة العقل والبصيرة والشهوة الصوفية. وليست شهرزاد هي السبب
العميق لهذا التحول إلا من ناحية الديكور الفني، وإنما يكمن السبب الحقيقي في نظرة
الحكيم، أو النظرة التي يبشر بها العالم؛ أي إنه يُسقط رؤياه الفلسفية — إن جاز التعبير
— على هيكل الأحداث التي يستكمل بها الحكاية الشعبية المألوفة، وكأنه على الصعيد
الجمالي أراد أن يبنيَ أسطورةً جديدةً على أنقاض الأسطورة القديمة. وهو ينتهي إلى تعليق
شهريار بين الأرض والسماء ينخر في عظامه سوس القلق، وكما قالت شهرزاد إن شهريار الذي
تعرفه آل إلى نهاية دورة، شعرة بيضاء قد نُزعَت ليحل مكانها غصنٌ نديٌّ جديد. وهكذا لا
يتخلى الحكيم عن التفكير في الموت والبعث، وإن جعل من هذا التفكير في «شهرزاد» مجرد
إطار لتوقُّف الإنسان العاجز بالعقل والحواس عن إدراك كُنه الوجود ولغز الحياة وغُموض
الكون.
٥٢ وربما كان هذا التصور لموقف الإنسان هو مصدر ضعف إيمان الكاتب بحرية
الإنسان كما لاحظ بعض النقاد،
٥٣ وإن ظل الوجه الآخر للقضية صحيحًا، وهو أن المسرحية في جوهرها «بحث طويل عن
المعرفة». والحكيم على هذا الوجه أو ذاك يختلف عن باكثير في استلهامه للمصدر نفسه حين
كتب مسرحيته «سر شهرزاد»،
٥٤ وباكثير كما هو شأنه في «أوزوريس» لا يغير في أحداث الحكاية المتوارثة، بل
تكاد صياغته الدرامية أن تكون تبريرًا لواقعيتها الحرفية، ولكنه — مع ذلك — يضيف تفسيره
الخاص للنسيج الأسطوري القديم من شخصيَّات وحوادث؛ هذا التفسير قد يضطَره اضطرارًا إلى
تحويراتٍ طفيفة في هيكل الأسطورة، ولكن دون العدوان على شكلها الرئيسي. وهكذا يصبح «سر»
شهرزاد في مسرحية باكثير هو أنها اكتشفَت عن طريق رضوان الحكيم، طبيب شهريار ومستشاره
الخاص، أن شهريار قد استشعر منذ زمانٍ ضعفًا جنسيًّا، فكان رد الفعل عنده هو التظاهر
بالفحولة على حساب أرواح العذارى اللاتي لم يكن يضاجعهن بالمرة، ثم يذبحهن عند الفجر
حتى لا يفشين سره من ناحية، وحتى يُشاع أنه زير نساء من ناحيةٍ أخرى. وكان اكتشاف
شهرزاد لهذا السر هو بداية علاج شهريار من دائه الدفين، لا حكاياتها الألف. إن شهرزاد
تحل عقدة شهريار الجنسية بتمثيلية أخرجَتْها بمهارة. عاش بعدها شهريار حياةً جنسية
سوية. هذا هو تفسير باكثير الذي يستنير بكشوف علم النفس من ناحية، ويقابل بين عقدة
شهريار وعقدة ملك مصر كما صوَّرَتها بعض الشائعات في ذلك الوقت.
٥٥ ويؤكد باكثير نفسه الشطر الأول من هذا التفسير في كتابه «فن المسرحية من
خلال تجاربي الشخصية».
٥٦
وقد عمد توفيق الحكيم، بعد تجربته مع شهرزاد وألف ليلة، إلى المزج بين التراث العبري
وألف ليلة وليلة والقرآن، حين كتب مسرحيته المعروفة «سليمان الحكيم»، ولكن تجربته التي
تُعد امتدادًا أصيلًا لشهرزاد وجو ألف ليلة وليلة، وقد تمثَّلَت حقًّا في مسرحية «شمس
النهار»، وهي المسرحية التي اهتدى فيها الحكيم فكريًّا إلى حل الكثير من المشكلات
النظرية المنطلقة في وجدانه وعقله منذ أن بدأ يكتب. وهي مسرحية تنحو فنيًّا نحوًا
تعليميًّا خالصًا، ولكن أهميتها التاريخية هي أنها حسمَت — كما أزعم — بعض القضايا
الحائرة في تفكير الحكيم. وتختلف «شمس النهار» عن «شهرزاد» شكلًا ومضمونًا؛ فحدوتة
شهرزاد مكتملة الأحداث في ألف ليلة وليلة وإن بدأ الحكيم في مسرحيته من نهايتها. أما
شمس النهار وقمر الزمان والأمير حمدان فمجرد أسماء محلقة في سماء ألف ليلة وليلة، دون
حوادث محددة ترتبط بهذه الأسماء في هيكلٍ موحَّد؛ لذلك يمكن القول بأن الحكيم قد عاد
إلى أسلوبه في «السلطان الحائر»، وهو أسلوب الفانتازيا؛ حيث يصبح الجو المُستوحَى مجرد
ديكور لا أكثر، والمضمون المعاصر هو ما يجيء على لسان الشخصيَّات ومواقفهم. لا تُوجد
هنا حدوتة أو حكاية أو أسطورة أصلية يعارضها المؤلف أو يبني عليها أو يفسِّرها، وإنما
هو يرتكز على وسائل إيضاح، تاريخية حينًا وفولكلورية حينًا آخر. والفرق الخطير بين
«السلطان الحائر»، و«شمس النهار» أن المسرحية الأولى تتمتع ببناءٍ درامي ممتاز، بينما
تتسم «شمس النهار» بتقريرية مباشرة واضحة اعترف بها المؤلف، وحاول تبريرها في صدر
الطبعة الأولى.
٥٧ تختلف شمس النهار عن شهرزاد بعد ذلك في أن شمس النهار كاسمها، مثال الوضوح
والواقعية، بينما كانت شهرزاد مثال الغموض والرمزية. رغم هذا فشمس النهار هي «شهرزاد
الجديدة»، كما دعاها بحقٍّ أحد النقاد؛
٥٨ فهي تكاد تكون خاتمة المطاف لرحلة الإنسان المعذَّب؛ حيث يصبح الواقع الحي
هو الميدان الوحيد ليحقق الإنسان ذاته، ويحل التناقض المفتعل بين الفكر والعدل.
٥٩ وفي «شمس النهار» تنزل الأميرة الغريبة في رفضها لكافة مغريات الذين تقدموا
لخطبتها من وجهاء القوم، تنزل من سموات العرش الذهبي، إلى أرض الواقع الصخري، برفقة
«صعلوك» يعرَق ويدمَى لكسب ما يمسك الرمق. ويحدث «التحول» في حياة الأميرة التي أعاد
قمر خلقَها من جديد، وأعادت بدَورها خلق الأمير مهران، الذي كان يتوق لرؤيتها، وواتته
الفرصة حين ذهبَت إليه في ثيابها الجديدة، ثياب «العمل» لا ثياب «الإمارة»، وقد أمسكَت
باثنَين من حاشيته في «حالة تلبُّس» سرقة خزانة الدولة. وكان الحكيم لا يردُّ على
شهرزاد وحدها بإنزالها من عليائها المجرد الباهر إلى الأرض، بل هو يردُّ على نفسه فيما
أورده من قبلُ في مسرحيته «بيجماليون» التي سيرد عنها الحديث بعد قليل؛ حيث كان قد ذهب
في هذه المسرحية إلى أن ثمَّة تناقضًا بين الواقع والمثال، بين المجرَّد والمجسَّد،
وأوحَى ضمنًا بانحياز الفنان إلى الكمال المطلَق، وازوراره عن النقص الإنساني.
وكان ألفريد فرج، ولا يزال، هو أهم كتاب جيله الذين استأنفوا الحوار مع التراث، بعد
جيل توفيق الحكيم، وبخاصة مع التراث الشعبي العربي والإسلامي. كانت مسرحيته الأولى
«سقوط فرعون»، كما يدل عنوانها، تمثلًا واستيعابًا لشخصية من أعظم شخصيَّات التراث
الفرعوني، وهو إخناتون، ولكن «حلاق بغداد» التي تتكون من حكايتَين عن ألف ليلة وليلة
وكتاب «المحاسن والأضداد» للجاحظ، هي المدخل الأكثر اكتمالًا في تاريخ العلاقة بين
ألفريد فرج والتراث، رغم تحوله عن التراجيديا إلى الكوميديا، وهو التحول الذي لم يعجب
ناقدًا كبيرًا كالدكتور لويس عوض، وإن كانت المسرحية في ذاتها قد نالت تقديره العميق.
٦٠ والمسرحية تُركِّز الضوء على حلاقٍ فضولي لا يقتحم شئون الناس ودخائلهم
الشخصية لمجرد الفضول، بل لمساعدتهم على حل مشاكلهم بخفة روح منقطعة النظير. وهو لذلك
يتعرض لمضايقات أولي الأمر، الذين يسحبون منه رخصة الحلاقة، فإذا اشتغل حمالًا منعوه
أيضًا، ولا يجد مناصًا في النهاية من التسول والشحاذة. وهو في الحكاية الأولى ينقذ
غرامًا جميلًا بين «يوسف وياسمينة»، وفي الحكاية الثانية ينقذ أرملة هي «زينة النساء»
من جشع الحائمين كالذباب على مالها وجمالها. وحين يستلطفه السلطان ويعِد لإنقاذه من
مضايقات حاشيته الشريرة بمنديل الأمان، يطلب إليه الحلاق الفضولي أن يعطيَ هذا المنديل
لكل فرد في الرعية حتى تزول الأسباب الأصلية التي تؤدي إلى المشكلات. ومن الواضح أن
قضية الحرية هي المحور الذي يدور من حوله الكاتب دون إسقاطٍ مبتذل لشخصيَّات بعينها على
الواقع الحقيقي، ولكن المسرحية — وقد تم عرضُها في يناير ١٩٦٤م — قد وُوجهَت من الرجعية
بعاصفة من الغمز واللمز؛ حيث إن الحرية التي كان يُلح ألفريد فرج في طلبها، كانت تعني
في نظرتهم حرية اليسار السجين حتى ذلك الوقت، بينما كان إلحاح الكاتب صارخًا بالحرية
للجميع. وقد نشر «الأهرام» كلمةً موجزة لكاتبٍ مجهول تمثل رعب وهلع الذين دفعوه
لكتابتها من الحرية، قال: «كل من كتَب عن مسرحية حلاق بغداد، التي يعرضها المسرح القومي
الآن، لم يلمس حقيقةً خطيرة تنطوي عليها هذه المسرحية؛ ذلك هو مضمونها العام، وما تريد
أن تقوله في النهاية. ألم يكتشف الكُتَّاب هذا المضمون أم أنهم تجاهلوه عن عمد؟
المسرحية تقول إن خليفة المسلمين كان معزولًا عن واقع شعبه، ولم يكن يدري شيئًا من أمر
المفاسد التي تنخر في جسد الأمة، وإن وزير الخلافة كان رجلًا فاسدًا ومرتشيًا وزير
نساء، وإن كبير القضاة كان منافقًا ووصوليًّا وظالمًا، وشيخ التجار كان استغلاليًّا
ولصًّا بمساعدة الوزير والقاضي، وحتى الموظف الصغير كاتب المحكمة كان يتاجر في العدالة،
ويستغل القانون لحساب من يدفع له الثمن، والشعب في النهاية هو الذي تطحنه كل هذه
الأجهزة الفاسدة، وتشكِّل مأساته، وإن كلمة الحق في ذلك الوقت أصبحَت جريمةً تؤدي إلى
ضياع صاحبها، والمثل الحي على ذلك هو الحلاق الفضولي الذي فقد كل شيء، بسبب فضوله
واطلاعه على أسرار الفساد، فانتهى به الأمر إلى أن صار شحاذًا لا يجد قوته. هل هذا كله
كان طابع الخلافة العباسية في بغداد، أم أنه رمز يُراد عن طريقه قول ما هو أخطر؟»
٦١ سؤال يطرحه الكاتب المجهول في لهجةٍ استعدائيةٍ واضحة أمست مع الزمن
تقليدًا عن بعض النقاد الذين يعملون في خدمة السلطة. أما الكاتب نفسه فيُذيِّل الطبعة
الأولى من مسرحيته بقوله إنها «لا أصل لها في التاريخ، ولا تلتزم بتحقيق التاريخ. وإنما
هي تستلهم الجو التاريخي بشكلٍ عام كإطار وزينة لما يدور فيها من حوادثَ خيالية، ومواقف
تجترئ على المعقول والمألوف، وتجري على نسَق ما تجري عليه الحواديت الخيالية، بما فيها
من أحلامٍ وتهاويمَ برَّاقة وحلاوةِ سرد وتجاوزٍ للمعقول وبساطةٍ في البناء؛ تجدها في
روح ألف ليلة وليلة، وفي فكاهات الجاحظ ونقداته وكاريكاتيره الشعبي. ومن بين هذه
المقدمات كلها أضرب مثلًا بما عمدتُ إليه من تسمية الحلاق بصفته — أبو الفضول — وتسمية
زينة النساء وياسمينة على نفس المنوال، وتقديم الخليفة والوزير والقاضي بوظائفهم لا
بأسمائهم، للإيحاء بأنهم شخصيَّاتٌ خيالية مما يصنعه الخيال الشعبي. وقد عمدتُ فوق ذلك
للحفاظ على الصورة الغالبة في الحواديت الشعبية لما قدمتُ من شخصيَّات، كالخليفة العادل
السمح ذي الروح الطروب، والوزير الصارم الذكي المستبد، والموظف الوصولي والتاجر البخيل،
وعلاقة العشق المثيرة للأحلام والأحزان، وابن الشعب الحاذق طيب القلب. هذه صورةٌ
متوافرة في صندوق الدنيا وخيال الظل والأراجوز والحواديت، كما في ألف ليلة وليلة، قوية
بعراقتها وبساطتها، وبجمال الخيال فيها، نسجتُ على منوالها حكايتي المسرحية، التي
أعتبرها بذلك أقرب لأسلوب الفانتازي الشاعري الخيالي منها لأي شيءٍ آخر.»
٦٢ والحق أنني لستُ أجد تعارضًا حادًّا بما غمز به الكاتب المجهول المدفوع في
«الأهرام»، وما قال به الكاتب في مذيلة مسرحيته؛ ذلك أن الأول تحدَّث عن المضمون — من
موقع المذعور والشرطة السرية — كما تحدث الآخر عن الشكل من موقع المعترف بصحة الاتهام
الذي يتشرف به. إن حديث ألفريد عن الشكل لم ينفِ «اختياره» للموضوع وزاوية المعالجة،
هذا الاختيار الثوري الذي لا بد وأن يصل صداه إلى صفوف الثورة، والثورة المضادة معًا.
إن هذا وحده دليلٌ على حيوية المسرح كظاهرة اجتماعية تستفز حساسية الطبقات المتباينة
المصالح، ودليلٌ على قدرة العمل المسرحي الجيد على اقتحام صراع المتناقضات في المجتمع،
ومشاركته الفعالة في تحريض التراث على الأجنحة المحافظة في المجتمع — المتخلفة
والدكتاتورية — في السلطة الحاكمة. وكانت «الزير سالم» (١٩٦٦م) هي التجربة الثانية
لألفريد فرج في استلهام التراث الشعبي العربي الإسلامي، ولكنه في هذه المرة يتحول عن
ألف ليلة وليلة، وجوهرها الفانتازي الكوميدي، إلى السيرة الملحمية للزير سالم، التي
استوحاها المؤلف الشعبي بدوره من التراث الجاهلي؛ حيث دارت رحى حرب البسوس وعُرفَت
شخصية المهلهل. ولا يعمد ألفريد فرج إلى استيحاء المعنى المتداول في الملحمة الشعبية،
معنى انتقام الأخ لأخيه أو الثأر له بمعنًى أدق، ولا يعمد إلى فكرة المقاومة الوطنية
التي تلوح بين غيوم السيرة وأحداثها المتلاطمة. وإنما قصد ألفريد إلى بناء مسرحية يحاكي
فيها مطلَقات توفيق الحكيم القديمة، وصراع الإنسان معها من أجل إحقاق الحق وتسويد العدل
وإقرار السلام، مهما كانت الطريق إلى هذه المجرَّدات المتلألئة جميعها أنهار الدماء
وتساقط الرءوس من أعناقها. ولم تلقَ هذه المسرحية عند عرضها النجاح الشعبي التقليدي
الذي عرفه مسرح ألفريد فرج، ربما للسبب الذي وصفه بعض النقاد من أن «المطلَقات نفسها
تحتاج إلى التجسيد من أجل أن تُقنعَ الناس حينما تصبح جزءًا من جوهر عالم الناس ومن
أحلامهم، وإلا فرَّت إلى فراغ العدم الذي جاءت منه، فلا يبقى لها أثر.»
٦٣ ولعل هذا كان حكمًا قاسيًا بعض الشيء، ولكنه لا يخلو من الحقيقة، رغم
الإحكام الهندسي الدقيق في بناء المسرحية — وصراع الأفكار يساعد المؤلف أحيانًا على هذا
الضبط والربط الدرامي — ورغم الدعوة الشجاعة إلى مواجهة الظلم أيًّا كانت
النتائج.
كذلك استلهَم الشاعر الشاب «محمد إبراهيم أبو سنة» في مسرحيته «حمزة العرب»
٦٤ السيرة الشعبية أو الملحمة التي توزَّع أبناؤها على يدَي خالقها الجديد بين
التصور المسرحي والتصور الملحمي كما أدرك ذلك أحد الباحثين؛
٦٥ فالبطولات التي يحرزها حمزة ضد الفرس من جيوش كسرى هي بطولاتٌ ملحمية؛
لأنها صراع بين البطل والقوى الخارجية، تستوجب نهايةً ملحميةً يُعقد فيها الانتصار
للبطل، ولكن الكاتب أدخل على تكوين البطل عنصرًا غريبًا، هو اكتواؤه بنار الحب
الرومانسي، الذي يهزمه من الداخل، كأنه جرثومة الانهيار في كيان البطل
التراجيدي.
تلك هي المجموعات الثلاث التي استوحَت التراث العربي والإسلامي عامة، سواء من العصر
المملوكي ومناخه الاجتماعي والسياسي، أو من التاريخ الواقعي لبعض الرجال الأفذاذ، أو
من
ألف ليلة وليلة والملاحم الشعبية وجوها الأسطوري. ولعلنا نلاحظ «ضخامة الحجم»، من ناحية
الكم على الأقل، في استلهامات هذه المرحلة الحضارية من تاريخ تراثنا، ولكنه أمرٌ طبيعي
للغاية؛ لأنه يمثل أقرب المراحل المهيمنة على الوجدان العربي، بل ربما كان «الكم» رمزًا
يفسر مدى سيطرة كل مرحلة على هذا الوجدان؛ فالواضح مثلًا أن التراث الفرعوني يحتل
مكانًا بارزًا وراسخًا وعميقًا، وأن التراث القبطي يحتل مكانًا أقل بروزًا ورسوخًا
وعمقًا، وأن التراث العربي والإسلامي — كما رأينا — يحتل الحيز الأكبر. على أن فضل
المسرح من ناحيةٍ أخرى أنه يصل بين هذه المراحل جميعها برُؤاه المتباينة تبايُن
الكُتَّاب فكريًّا وفنيًّا، وبذلك يكون قد ارتاد عملية التوحيد الحضاري لتراثنا، كما
ارتاد عملية الغربلة الفكرية لهذا التراث، وأنه أخيرًا ارتاد عملية الحوار
بين التراث والعصر.
وقد كان التراث الشعبي المصري، المختلف إلى حدٍّ كبير عن التراث العربي والإسلامي،
هو
أحدث حلقات هذا الحوار الذي تجسِّده محاولتان رائدتان بحق، لنجيب سرور وشوقي عبد
الحكيم. أما نجيب سرور فقد جرَّب المحاولة مرتَين؛ الأولى في روايته الشعرية «ياسين وبهية»،
٦٦ والثانية في مسرحيته الشعرية «آه يا ليل يا قمر»
٦٧ وهما تبدوان كحلقتَين تتممان بعضهما، بل لعلهما تتكاملان في عملٍ ثالث لم
يُولد بعد. وقد أخذ فريق النقاد على الكاتب أنه ابتعد خطواتٍ كثيرةً عن الموال الشعبي
الشهير في مصر حين صاغ حكايته العذبة «ياسين وبهية».
٦٨ ورأى فريقٌ آخر أن هذا البعد يُحسب للفنان لا عليه،
٦٩ بل إن الدكتور محمد مندور كتب بالحرف أن نجيب سرور قد استطاع «أن يقدم
بنجاحٍ رائع قصيدةً شعريةً قصصيةً طويلة، في صورةٍ دراميةٍ جديدة، لا أظن أنها مسبوقة
في بلادنا أو غيرها من بلاد العالم.»
٧٠ وقد كان تركيز النقاد الآخرين على الصيغة الشعرية الجديدة من الكشوف المهمة
التي أولَوها عنايتهم، بسبب ريادة نجيب سرور القصيدةَ الدرامية الطويلة على النسق
الوزني للشعر الحديث.
٧١ وريادته الثانية في «آه يا قمر»؛ حيث كان أول من استخدم شعر العامية
المصرية الحديثة في قالب درامي. على أية حال فإن الذين بالغوا في التقليل من أهمية عمل
نجيب سرور، والذين بالغوا في تضخيم هذه الأهمية، والذين اكتشفوا النقلات الثورية التي
صنعها في الشعر والمسرح على السواء، متفقون جميعًا حول أن حوارًا حقيقيًّا أداره الكاتب
بين التراث النضالي للشعب المصري والعصر الحاضر. لقد مزج نجيب سرور في الحكاية الأولى
بين إحدى وقائع الصراع في الدلتا وواقعة أخرى في الصعيد. ولم يكن في ذلك «يلخبط» أدراج
التراث على بعضها البعض، وإنما كان ينسج وحدة النضال الوطني في مجرًى واحد وسياق مشترك.
وقصة الحب الدامي التي تتخلل الحكاية والمسرحية ليست من ذلك النوع المقحم على ذات البطل
لينهار من داخله، فتتناقض بطولته الملحمية مع تصور الكاتب لتراجيديته. وإنما ترتبط قصة
الحب بقلب العمل الفني واتجاهه الفكري والاجتماعي. على هذا لم يتجاوز شاعرنا جوهر
الموال الشعبي وإن تحرر من تفاصيله — هل هناك تفاصيل حقًّا؟ — وخاصة أنه لا «يسجل»
واقعةً تاريخية للذكرى، وإنما يمنح عمله الفذ المعاصر مذاقة التاريخي فحسب، وكأنه يقول
ما أشبه اليوم بالبارحة! ولكنه يحافظ بصرامة بالغة على العناصر الرئيسية في بناء
الشخصية التراثية ومعتقدات الشعب الأساسية. بل إنه — أكثر من ذلك — يحتفظ لمسرحيته
بالطابع الملحمي؛ حيث يتحرر تمامًا من الوحدات الأرسطية في المسرح الكلاسيكي، والكورس
ليس مجرد «مُعلِّق» على الأحداث، بل جزءٌ عضوي منها، والشعر — فصيحًا وعاميًّا — أقرب
إلى لهجة الشعب وألسنة فئاته المختلفة. غير أن أصالة محاولتَي نجيب سرور ومعاصرتهما لا
تنبعان من كونهما صدًى للتراث أو صدًى للواقع الذي يعيشه، بل تصدر المحاولتان عن تجاوب
عاطفي صادق، وإدراك عقلي نفَّاذ لمعنى التاريخ الساري في أوصال المجتمع وشرايينه
الطبقية والفكرية والوجدانية. وهو معنى الصراع من أجل التقدم والديمقراطية، ودرء التخلف
والدكتاتورية، أيًّا كانت الأزياء التي ترتديها محلية أو مستوردة.
وتجربة شوقي عبد الحكيم في المسرح من أعمق
التجارب، ومن أكثرها اضطرابًا في وقت واحد، وعمقها لا يتأتى من أن الفنان يستلهم أدب
الفلاحين فيما يكتب، بل لأنه يلامس الروح المصرية في أدق أسرارها، حتى إنه حاول أن
يبتكر لها شكلًا دراميًّا جديدًا أقرب ما يكون إلى المسرح الشعائري الذي عرفناه في
التجارب الطليعية للمسرح الفرنسي الحديث. وهنا، بالضبط، يضطرب شوقي عبد الحكيم اضطرابًا
شديدًا وهو يجدل الروح المصرية مع الدراما الشعائرية في ضفيرة واحدة. والشعيرة الدينية
عند المصري القديم، والإنسان البدائي بوجه عام، تنهض على الشحنة الروحية المتوهجة في
ألفاظ قد لا تترابط فيما بينهما على نحوٍ منطقي مسلسل، وقد تبدو هذه الألفاظ على وجه
يقترب من أسلوب التوارة والإنجيل في اللغة العربية؛ حيث الرثاثة — والغثاثة أحيانًا —
تُكسِب الجملة مع تاريخ التلاوة والتمتمة والغمغمة دفئًا خاصًّا ونكهةً معينة؛ هذه
الجملة الشعائرية الرثة هي عماد التركيب اللغوي في مسرح شوقي عبد الحكيم ومصدر غرابته
أيضًا؛ لأن الحواديت التي يصوغها مثل «شفيقة ومتولي» أو «المستخبي» ليست في ذاتها
عويصةً على الفهم والتلقي. وأودُّ التأكيد على هذه النقطة، لأفرق تمامًا بين مسرح هذا
الكاتب المصري حتى النخاع ومسرح العبث في أوروبا؛ حيث يختلف فكر كُلٍّ منهما اختلافًا
كيفيًّا؛ فاللغة اللامنطقية عند بيكيت أو يونسكو تعبِّر عن غربة الإنسان الكاملة وعزلته
المطلَقة، حتى اللغة ليست موصلًا جيدًا لحرارة التفاهم بين البشر؛ هذا ما نفهمه من لغة
مسرح اللامعقول الأوروبي. أما لغة شوقي عبد الحكيم، فخير تعريف لها ما قاله يحيى حقي
عن
حواره الدائر «بين ضميرَين، أغلبه داخل منطقة اللاوعي، منطقة اللاشعور الداخلي. إنه
مجموعة من مونولوجاتٍ داخليةٍ فرديةٍ متصلة، وإن بدت متقطِّعة لتداخُل بعضها في بعض.»
٧٢ وأضيف أن هذه المونولوجات الداخلية في مسرح شوقي عبد الحكيم لا تجسم
الأزمات العارضة في حياة الأفراد، وإنما تكثف أزمات الروح في حياة شعب بأَسْره، أو هكذا
تطمح على الأقل. ومن هنا تتضاعف أزمة اللغة مع المسرح التقليدي؛ لأنها تخرج حينئذٍ
خليطًا من همهمات الناي والطبلة والربابة، وصداها النائح في البرية أن القدَر والمجتمع
هما القوتان المسيطرتان على حياة الإنسان، وأنهما — وهذا هو الجديد الذي ركَّز عليه
يحيى حقي — ليستا قوتَين ظالمتَين؛ ذلك أن مفعول هاتَين القوتَين يتوازى سلبًا وإيجابًا
مع إرادة الإنسان. وتنبع المأساة في حياة الفلاح، على وجه الخصوص، من اعتقاده بأن
استخدام هذه الإرادة يتعارض مع العقيدة الدينية والإرادة العليا؛ هذا ما يقوله شوقي عبد
الحكيم: إن القدَر في ذاته ليس ظالمًا والإرادة التي تنساب في الروح بموازاته هي التي
تتجه به هذه الناحية أو تلك، والمجتمع أيضًا ليس ظالمًا؛ لأنه يبلور ضميرًا غائبًا عن
وعي الذين يتآمرون ضده، وهو الضمير الذي يُقلِق المجرمين وحدهم. وشوقي عبد الحكيم
يُعرِّي شخصيَّاته من أثوابهم الاجتماعية تعريةً شبه كاملة، حتى يصل إلى عمق أعماق
الروح، وهو كثيرًا ما يبدأ مسرحيته بعد نهاية الحدوتة المعروفة في التراث الشعبي حتى
يتيح لنفسه هذه التعرية، كما نرى مثلًا في مسرحيته «حسن ونعيمة».
٧٣ والحكاية الشعبية — أو الموال — تقول إن حسن «المغنواتي» وقع في هوى نعيمة
بنت الأصول، وأحبته هي أيضًا من خلال آهاته العذبة، التي كانت تصل إلى أذنَيها أثناء
جولاته العديدة. وشاعت قصة حبهما في كافة أنحاء القرى المجاورة، فأصبحا حديث الخاص
والعام؛ ومن ثم كانت «فضيحة» زواجهما عند أهل نعيمة جريمة تستحق العقاب، فجنحوا لخديعة
حسن بأن طلبوا منه أن يأتي إلى البيت ليطلب رسميًّا الزواج من ابنتهم. وفي البيت قُتل
حسن غسلًا للعار، عار زواجه هو الفقير من الفتاة «بنت الأصول» التي أحبَّته وأحبَّها.
مؤلِّفنا المعاصر لم تهمَّه هذه الحدوتة كمجموعة من الأحداث، بل عناه أولًا وأخيرًا
جوهرها، فبدأ من خاتمتها الدامية، وبنى مسرحيته الحديثة على ضوء هذا السؤال: من المسئول
وهو يجيب دراميًّا — أو شعريًّا في الحقيقة — إجابةً جديدة تمامًا، فالمسئول هو أهل
نعيمة ونعيمة نفسها بل وحسن أيضًا! إن المسئولية المباشرة لا تقع على الذين ارتكبوا
الجريمة بأيديهم فقط، وإنما تقع أيضًا على كاهل الذين استسلموا للسلبية، والذين صمتوا
والذين راحوا ضحيتها. «الكل مسئول» هذه هي إجابة شوقي عبد الحكيم. ويدين الكاتب على طول
المسرحية وعرضها فكرة «المكتوب» أو القضاء والقدر، ومن هذا يجيء اتهامه لحسن بالاشتراك
في جريمة قتله؛ لأنه مثال الإيمان الأعمى بالمكتوب؛ إذ سار بأقدامه إلى مصيره دون
مقاومة تُذكر؛ أي لأنه «يؤمن» بفكرة المكتوب، وهكذا فالقدَر ليس ظالمًا في ذاته وإنما
«تعطيل الإرادة الإنسانية»، تعطيلًا يرتفع إلى مستوى العقيدة، هو الذي وجَّه القدَر هذه
الوجهة. وهكذا يستكشف شوقي عبد الحكيم أغوار الروح المصرية الكامنة في طوايا التراث
الشعبي، ولكن دون تقديسٍ كهنوتي لعناصر هذا التراث، بل هو من أعنف الثوار على العناصر
السلبية في هذا التراث، وكل ما يصنعه — دراميًّا — هو أنه يدخل إلينا من باب التراث دون
لف أو دوران، فيستخرج ما كُنَّا نظنه كنوزًا أو لآلئ، وإذا بها أحشاؤنا وقد امتلأَت
بالقذَر الميت عبْر التاريخ، وليس من المهم بعد ذلك أن تضطرب تجربة شوقي عبد الحكيم
الدرامية اضطرابًا شديدًا — كما لاحظ بحقٍّ بعضُ النقاد —
٧٤ فهو يرتاد طرقًا ما أعسرها وما أغناها في وقتٍ واحد!
•••
ذلك هو الشوط الطويل الذي قطعه المسرح المصري، في استلهام تراثنا على مدى العصور،
استلهامًا اختلف شكلًا ومضمونًا من مرحلة إلى أخرى، ومن كاتب إلى آخر، بل إن هناك مَن
حاول بعث أشكالٍ تراثية خالصة، كالسامر الشعبي الذي أتقن صياغتَه الحديثة كاتبٌ ممتاز
هو محمود دياب في مسرحيته «ليالي الحصاد»، وكرر المحاولة كاتبٌ تقدمي هو عبد الله
الطوخي في مسرحيته «المشخصاتية»، ومن قبلها صدرت بيانات يوسف إدريس الشهيرة تنادي بقيام
مسرح مصري أصيل. ولكن هذه المسرحيات والبيانات كانت تتصور شكلًا تراثيًّا خالصًا، تشحنه
بمحتوًى مغاير لحدٍّ بعيدٍ لمضامين أشكال التراث الشعبي المصري الدرامية، مما كان يجذب
المحاولة، إلى الآن، عن دائرة الاستلهام المبدع ويقترب بها من تخوم الاستيحاء الشكلي،
وربما كانت «الفرافير» ليوسف إدريس و«يا طالع الشجرة» لتوفيق الحكيم من أنضج وأعمق
منجَزات المسرح المصري، ولكن عظمتهما لا تعود بأية حال إلى ما يتوهمه الكاتبان من
استلهام لتراثنا الشعبي، بل تتضح على القسمات الدرامية لكُلٍّ من المسرحيتَين بصمات
المسرح العالمي، القديم والحديث.
ونصل بهذه النقطة إلى خاتمة المطاف، وهي أن المسرح المصري لم ينفتح على تراثنا
الحضاري فحسب، بل ظل منفتحًا على تراث العالم منذ اقتحم شكلُه الفني لغتنا العربية. إن
نشأة المسرح في حياتنا الأدبية كانت في ذاتها انفتاحًا على الحضارة الغربية، وكان من
الطبيعي بعدئذٍ أن يصبح التراث الغربي من المصادر الأساسية لهذا الشكل الوافد على أدبنا
باستحياء. ومن الطبيعي أيضًا أن يكون التراث اليوناني من الملامح البارزة في وجه ذلك
التراث الذي أخذنا عنه، وفي تقديري أنه أيًّا كانت التحفظات التي يمكن رصدها الآن على
نشأة المسرح المصري فكرًا وفنًّا، فلا شك أن الاتجاه بهذا المسرح إلى التراث الغربي كان
«تأصيلًا» لهذا الفن في أدبنا، بينما أرى في المحاولات المعاصرة التي تقترب شكلًا من
فنون السامر والأراجوز وخيال الظل وصندوق الدنيا، أنها رغم جمالها مجرد صدًى لدعوة
البحث عن الذات القومية دون فهم لهذه الحقيقة البسيطة؛ أنْ لا تعارض هنالك بين
الاستفادة من التراث الدرامي العالمي، والبحث عن الذات القومية إن كانت مفقودة حقًّا،
ودون فهم للحقيقة الأخرى الأكثر بساطة، وهي أن جذورنا الدرامية البدائية كانت مهدًا
لجنين شب عن الطوق في أرض غيرنا، وليس من المفروض أن نبدأ من نقطة الصفر إذا كنا لا
نستطيع أن ننهل من معين لا ينكر أنه أخذ عنا. إن واقعنا وحده، بأبعاده الخفية والظاهرة،
هو الذي يشير علينا بالأخذ من هنا وهناك. وفي اعتقادي — أكرر من جديد — أن توفيق الحكيم
قد أدرك واقعنا على نحوٍ من الأنحاء عندما أرسى تقاليد الدراما الأوروبية في حياتنا
الثقافية والاجتماعية، ولم يكن في استلهامه للتراث اليوناني إلا متسقًا مع نفسه تمام
الاتساق؛ لأن المسرح اليوناني كان ولا يزال النموذج المكتمل الجدير بالنظر، قبل
امتداداته الطويلة والعريضة في الآداب الأوروبية كلها.
ومن المفيد القول — بادئ ذي بدء — إن المادة الخام التي عالجها عظماء اليونان كانت
مادةً أسطورية شائعة في ملاحمهم وتراثهم الشعبي؛ ومن ثم كانت مسرحياتهم تناولًا
للأسطورة القديمة، بالحذف والإضافة والتحوير. وهذا المبدأ نفسه هو الذي أخذ به كُتَّاب
العصور التالية حين استلهموا المسرح اليوناني؛ فهم لم يلتزموا حرفيًّا بهيكل هذا المسرح
ومحتوياته العقائدية النفسية. لقد أخذوا فحسب القيمة الإنسانية الباقية على مَر العصور،
وما يعبِّر عنها من رموز أسطورية، وأضافوا من عندهم ما يجسد روح عصرهم ونبض مجتمعهم.
وهكذا أراد توفيق الحكيم أن يفعل، أن يستكمل حواره مع التراث الغربي، لا باستلهام الشكل
الدرامي وحده، وإنما باستلهام المادة الخام التي عالجها المسرح اليوناني بالذات من
قبلُ. وكانت «براكسا أو مشكلة الحكم» هي أولى مسرحياته في هذا الصدد؛ حيث كتبها لأول
مرة عام ١٩٣٩م، واستأنف «تأليفها» عام ١٩٦٠م. والإطار العام للمسرحية مأخوذ عن كوميديا
أريستوفانيس المعروفة «اجتماع النساء»، وبينما كان الكاتب اليوناني في مسرحيته ساخرًا
من حكم النساء، فإن الحكيم أراد أن يسخر من «طريقة الحكم» سواء كان للرجال أو للنساء؛
لذلك فقد غيَّر في المادة الخام التي عثَر عليها في الكوميديا اليونانية تغييرًا
كبيرًا، حتى تستوعب المعنى الجديد الذي استهدفه من إعادة الصياغة هذه، وهو المعنى
القائل بأنه يتعين على الشعب أن يحكم نفسه بنفسه مباشرة، إذا أراد أن يتقي خديعة الحكم
أو ضعفه أو نزواته. وكانت «بيجماليون» هي تجربة الحكيم الثانية في لقائه مع التراث
اليوناني، وقد كتبها عام ١٩٤٢م، وكانت المحاولة البارزة أمام توفيق الحكيم في استلهام
الأسطورة اليونانية هي محاولة برنارد شو. كانت الأسطورة القديمة تحاور مشكلة الخلق في
حياة بيجماليون، ملك قبرص الذي كان نحاتًا بارعًا، صنع ذات يوم تمثالًا رائعًا لفتاة
أسماها «جالاتيا»، وهالته روعة التمثال، فتوسل إلى أفروديت أن تبعث الحياة في هذا
التمثال الجامد. وكان له ما أراد، وتزوج بيجماليون من جالاتيا، وقد أعاد برناردشو صياغة
الأسطورة من وجهة نظر التمثال نفسه الذي فضل الحياة مع الفناء على الفن مع الخلود.
وبذلك التقى الكاتب المعاصر مع الأسطورة القديمة، رغم تحويره النسبي في هيكل الأسطورة،
وإحلاله أسماءً معاصرةً موضع الأسماء القديمة. ويتوقع المرء من توفيق الحكيم عاشق
المطلَقات المجردة الكاملة أن ينتصر الفن على الحياة، ولكنه آثر أن يعلق القضية، وألا
يحسم فيها برأي. هكذا تبدو المسرحية في ظاهرها على الأقل، ولكن المتعمق فيها يضع أيدينا
على الرأي الحصيف الذي قال به أحد النقاد، وهو أن توفيق الحكيم لم يتحول عن مجرداته
ومطلَقاته؛ لأنه تصور الفن شيئًا قائمًا بذاته منفصلًا عن الحياة، وتجاهل أن الفن
الحقيقي هو الذي يأخذ من الحياة ويعطيها؛ وبالتالي فإنجازاته الخاصة ليست بعيدة عن
قوانين الحياة، بما فيها من تطور ميلاد وموت وحياة جديدة وهكذا؛ فإن الحياة في جوهرها
الأشمل والأعمق أكثر بقاءً من أي عملٍ فني.
٧٥ وهذا بالفعل هو المعنى المعاصر الذي كان يمكن للكاتب أن يضفيه على روح
الأسطورة القديمة، وهي روحٌ ثورية بغير شك إذا قُورنَت بالفلسفة الأفلاطونية القائلة
بعالم المُثُل؛ حيث ينفرد العقل الإلهي بالكمال المطلَق، أما الحياة الدنيا فهي
مخلوقاتٌ ناقصة، ومجرد ظلال. وهي الفلسفة التي تبلورَت فيما دُعي بالفساد الملازم
للكون، أو النقص الكامن في قلب الوجود.
وكانت «الملك أوديب» هي آخر استلهامات توفيق الحكيم اليونانية، وقد كتبها عام ١٩٤٩م.
ثم أخذت أسطورة أوديب تداعب خيالات الكُتَّاب، فأعاد صياغتها علي أحمد باكثير في
مسرحيته «مأساة أوديب»، واستوحاها علي سالم في كوميديا «إنت اللي قتلت الوحش». وبالرغم
من إجماع النقاد والتاريخ الأدبي والمسرحي على أن «أوديب» سوفوكليس هي أعظم إنجازات
الفن الدرامي على مَر العصور، فقد جاءت استلهاماتُ المسرح المصري لها على النقيض من
عظمة الأسطورة وجلالها، وإبداعات المسرح الأوروبي الذي استجلى أسرارها واتشح
ببهائها.
أما توفيق الحكيم فقد استدرجه التصور الشائع عن مضمون مسرحية سوفوكليس، والتراجيديا
اليونانية عامة، وهو أن الإنسان في مواجهة الأقدار المحكوم عليه بها من قِبل الآلهة هو
بطلٌ مأساويٌّ مهزوم مقدمًا. هذا، بينما اختلفَت آراء النقاد ومؤرخي الأدب في تفسير هذا
العمل العظيم، سواء بمقاييس عصرها العقلية والروحية، أو بمقاييس العصور التي كتب فيها
أولئك الباحثون آراءهم، ومن بين هذه الآراء تبرز فكرتان لامعتان، هما أن التناقض
التراجيدي في حياة أوديب كان بين إدراكه الناقص للوجود والإدراك الكامل الذي لا يتوفَّر
إلا للآلهة، وبالرغم من النهاية السوداء لحياة أوديب، فإنها ترمز إلى أن الإنسان قادر
على المعرفة الكاملة، ولو بالتحدي والاستشهاد. والفكرة الثانية هي أن اهتمام أوديب
بنفسه اهتمامًا مبالغًا فيه، تؤكِّده الحوادث المتتابعة في المسرحية، هو الذي أدى به
إلى هذا المصير، الذي يصفه فرويد بأنه كان «استحقاقًا» بسلسلة من الأفعال تُقاس نفسيًّا
بنتيجتها «أي إننا لا نستطيع تبرئة نفوسنا لمجرد أننا لم نكن ننوي النتيجة التي وصلنا
إليها فعلًا؛ ولهذا نشعَّر شعورًا غامضًا، أن أوديب لو لم يكن يستحق ما جرى له، بارتكاب
هاتَين الجريمتين — قتل أبيه وزواج أمه — ما قدَّرَت عليه الآلهة فعلَهما.»
٧٦ توفيق الحكيم يقول في مقدمة مسرحيته (ص٣٨): «إني شرقي عربي لم أزل محتفظًا
بقدْرٍ من إحساسي الديني الأول، لم أجتَزْ ما اجتازته العقلية الأوروبية، موقفي أمام
التراجيديا الإغريقية موقف مفكرٍ عربي في القرن الثالث الهجري.» ثم يقول في آخر الصفحة
«كان الهدف هو النظر إلى أساطيرنا الإسلامية (وهو يتكلم هنا عما أخذه عن القرآن الكريم
في مسرحيته «أهل الكهف») بعين التراجيديا الإغريقية»، هذا التناقض البين يحاول ستره في
صفحة أخرى (٤٩) حين يقول «هكذا يرى الفكر الأوروبي المعاصر الإنسان وحده في هذا الكون،
وهو أمر وإن أدركه عقلي، المتابع لتطورات العقل البشري، فلا يؤمن به قلبي الشرقي
الديني.» ويظل الحكيم على هذا النحو من الاضطراب بين اليونان والإسلام، من صفحة إلى
أخرى، على طول هذه المقدمة، التي تجيء بعدها المسرحية أكثر غرابة؛ حيث تؤكد في النهاية
ما ذهب إليه (ص٥١٩) من أن «اتصالنا بالحضارة الأوروبية كفيلٌ أن يفيدنا في اجتلاب
القوالب وتجديد الثبات، ولكنه غير قدير على اقتلاع الروح، ولا محو الطابع» — يا سبحان
الله! — وهذا ما دعاه لأن يجرد المسرحية «من بعض العقائد الخرافية التي تأباها العقلية
العربية أو الإسلامية» (ص٥٣)؛ لذلك جاءت مسرحية الحكيم لتقول إن أوديب يستحق العقاب؛
لأنه تحدَّى الإرادة العليا، كان عليه أن يستكين لحكمة الحكيم الأعظم؛ فما على الإنسان
إلا الامتثال دون سؤال.
والغريب حقًّا أن هذا الموقف من المسرحية اليونانية، كان هو نفسه موقف باكثير وعلي
سالم، على اختلاف نوازعهما الفكرية وخبراتهما الفنية؛ فباكثير يقول لنا صراحة إن مأساة
فلسطين عام ١٩٤٨م، هي التي أوحت إليه باتخاذ أسطورة أوديب خامة لمسرحيته؛ حيث رأى في
نكبة العرب وخزيهم جريمةً لا توازيها إلا خطيئة أوديب الأسطورية. وكما فعل في «سر
شهرزاد» فعل في «مأساة أوديب»؛ حيث أصبح الكاهن الأكبر وليس القدَر هو المدبر لهذه
المكيدة، التي راح أوديب ضحية نبوءتها الكاذبة؛ فلم يكن الوحش الرابض عند أبواب طيبة
إلا كاهنًا صغيرًا ممسكًا بخنجر، يقتل الجميع ما عدا أوديب، حتى يصدق الكاهن الأكبر
وينفذ له مشيئته، وهي التخلص من ملك لايوس لمصلحة ملك كورنث، الذي أعطى الكاهن الأكبر
مكافأةً مالية ضخمة إذا استولى على عرش زميله. وهكذا «فبرك» الكاتب حكاية بوليسية مثيرة
تتكشَّف عند خاتمتها الخدعة، ويهتف الشعب لأوديب، ولكن أوديب وقد اطمأن بعد قصاص الشعب
من الكاهن الأكبر، لم يرضَ بأن يستمر في الحكم وآثر الرحيل. وقد استطاع أحد الدارسين
أن
يبرِّر كل هذا العبث بالتراث في مسرحية باكثير، بأن هناك «معنَيان إسلاميَّان لا يمكن
أن يُخطِئهما الناظر في تفصيلات هذا الصراع؛ «المعنى الأول» يتحقق في الحملة على
الكهانة والكهَّان. «والمعنى الثاني» أن الإنسان يختار بعقله وإرادته بين الخير والشر؛
فالإنسان يصنع القدر حين يختار ما يصنع؛ ومن ثَم فهو مسئول عن هذا الاختيار.»
٧٧ إن التدخل المعيب في عقائد اليونان الأقدمين لا يجعل من المسرحية — عند
الحكيم أو باكثير — معارضةً إسلامية للفكر الوثني، بل يشوه اليونان والإسلام معها؛ ذلك
أن المعارضة الإسلامية لا تحتاج إلى رموزٍ يونانية؛ فالتراث الإسلامي كفيل بهذه
المعارضة شكلًا وموضوعًا. وفي كثير من المواضع تنازلَت المسرحيتان عن استلهام التراث
اليوناني إلى «فبركة» فهلوية خاصة عند باكثير تحول الشخصيَّات إلى أقنعة، والأسطورة إلى
ديكور؛ ومن ثَم فقد التراث مبرر وجوده الأعمق في العمل الفني، ولا يتحقق الهدف الأصيل
من حوار الفن مع التراث. إن التعارض المفتعل فنيًّا بين العقيدة الوثنية والعقائد
التالية لها هو في الحقيقة تغليب للفكر المجرد على الفن؛ ذلك أن تعدُّد الآلهة في
الماضي السحيق يمكن تفسيره تفسيرًا معاصرًا، سواء بإلقاء ضوء العلم الحديث على طبيعة
المجتمع البدائي، وتحليل مناخ الحياة الإنسانية الباكرة، أو بالقول — مثلًا — بتعدُّد
مواقف الإنسان القديم من الوجود؛ ولهذا تعدَّدَت آلهته، أو في جمع هذه الآلهة في رمزٍ
شامل للقوة الميتافيزيقية، أما مشكلات القضاء والقدَر، والفرد والمجتمع، والواقع
والمثال، فلقد ظلت مشكلاتٍ إنسانية عبْر العصور. وكان الفن القديم عبقريًّا في ريادته
لبحث هذه المشكلات، التي فرضَت نفسها على تاريخ الفن الوسيط والحديث، أيًّا كانت
العقائد الدينية التي آمن بها الفن القديم، بل إن تباين وجهات النظر في الآلهة والدين
والكهنوت عند الأقدمين أنفسهم ينهض دليلًا لا يُدحض على وجه الشبه بين العصور القديمة
والعصور الحديثة؛ حيث يتجاوز الإيمان والشك والإنكار، وتلك حقيقةٌ إنسانية لا يتميز بها
عصرنا عن بقية العصور.
وقد حاول علي سالم أن يُسقِط هذا المعنى على الأسطورة القديمة، ولكنه سلك فنيًّا
طريقًا شائكًا يكاد يجعل من التراث نباتًا طفيليًّا لا قيمة له؛ لأن المسرحية مكتفية
بذاتها إن جاز التعبير؛ فهي لا تحتاج مطلقًا إلى أوديب أو جوكاستا أو تريزياس، ولا إلى
قصة المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين، ولا إلى التأكيد على الأصل المصري للأسطورة
اليونانية، لا تحتاج «إنت اللي قتلت الوحش» إلى شيء من هذا كله؛ لأنها لا تجسد حوارًا
معاصرًا مع التراث، وإنما هي بناءٌ رمزي قريب من الأبنية المسرحية المصرية، التي
استلهمَت العصر المملوكي، فجردته من محتواه التاريخي، وملأَته بالواقع المعاصر. أسقطت
عليه الفكرة نفسها القائلة بأن الحاكم طيب وأن الحاشية وحدها هي الطغمة الشريرة. ولقد
كان سهلًا وميسورًا للنقاد والرقباء والمشاهدين أن يُسقِطوا على مسرحية علي سالم معانيَ
وأحداثًا وشخصيَّاتٍ سياسية تعيش بيننا. وإذا كان أوديب علي سالم قد استطاع «أن
يشُدَّنا إليه في مسرحيته بنجاحٍ فني وفكري أصيل»
٧٨ فإن هذا — لو صح — لا يعود مطلقًا إلى ارتباط المؤلف بالتراث، يونانيًّا
كان أو فرعونيًّا. إنه يعود إلى موهبةٍ كوميديةٍ أكيدة يتمتع بها علي سالم، يُعوِزها
الصقل الثقافي الكثير العناء، حتى تبتعد رموزه عن سطوح الأشياء، وتتوغل في أعماقها.
وحينذاك قد يعود إلى التراث بطريقةٍ أخرى، وأكثر وفاءً لمصر والإنسانية في وقتٍ
واحد.
•••
يتضح بعد هذه الرحلة الطويلة مع التراث والفن، أن الشعر العربي الحديث كان أكثر
شمولًا وعمقًا في حواره بين التراث والعصر، ولكن المسرح المصري كان رائدًا. يتضح أيضًا
أن الفن عمومًا كان، ولا يزال، صاحب المبادرة في تجسيد معنى الأصالة والمعاصرة تجسيدًا
ثوريًّا يصدر عن الواقع الوطني والطبقي والإنساني، في رؤية العلاقة بين المجتمع
والحضارة المحلية والقومية والبشرية عامة. ويتضح أخيرًا أن الأصالة والمعاصرة — بالمعنى
الذي ركزَت عليه هذه الدراسة — هما معيار الفن العظيم، بدونهما يفقد الفن هويته. والفن
الأصيل والمعاصر — أي الفن فحسب — هو ثورة بالضرورة.
لذلك وقفَت الأعمال الفنية الحقيقية إلى جانب ثورة الإنسان، في كل زمان ومكان. ولم
يشذَّ الفن العربي عن هدف القاعدة؛ فإن أروع إنجازاته كانت إبداعًا ثوريًّا خالصًا،
كانت مشاركةً حية فاعلة في حركة الإنسان العربي نحو درء التخلف والقهر بكافة أشكاله
ومستوياته، بكافة ظواهره وخفاياه. على أن إسهام الفن ينبغي أن يظل في حجمه الحقيقي، إنه
رائدٌ حقًّا، ولكن حوار التراث والثورة في حياتنا عليه أن يتجاوز الخطوة الأولى إلى
بقية الخطوات؛ فالرجعية على الطرف الآخر تلفق من التراث أيديولوجيةً متكاملةً للثورة
المضادة. في برامج التعليم النظامي والثقافي العامة، والانفعالات والرؤى، ثم استيقظَت
هذه الذكرى فجأة من رقادها ذات يوم من أيام الخمسينيات، حين فُوجئتُ — وكنتُ قد أصبحتُ
شابًّا يافعًا — ومعي سكان حي شبرا بالقاهرة، بضجة وازدحام على أبواب كنيسة القديسة
هيلانة، جزيرة بدران، وقيل لنا إن راهبةً أمريكية قد وصلَت، وإنها تتمتع بقوةٍ روحيةٍ
هائلة بواسطتها تشفي المرضى في ثوانٍ، خاصة إذا كان الداء من الأمراض المستعصية. وليس
من المهم أن تكون مسيحيًّا أو مسلمًا، وإنما المهم أن «تؤمن» بقدرة هذه الراهبة الجميلة
على صنع المعجزات. وكان اليسير على جمهور المؤمنين أن يستشهدوا بآياتٍ من الإنجيل على
أن الله قادرٌ أن يمنح هذه المواهب السماوية لمن يشاء، وأن يستشهدوا بهذا المريض أو ذاك
— ممن لم نرَهم قط — وقد يئس منه الطب نهائيًّا في مصر والخارج، ولكن الراهبة الفاتنة
قد باركَته وتم شفاؤه في الحال. وأذكر الآن جيدًا أن صحافتَنا قد صوَّرَت المعجزة
الأمريكية جنبًا إلى جنب، مع صور الأطفال الذين قتلَهم الزحام على باب الكنيسة،
٧٩ ولكني أذكُر أيضًا أن الشارع المصري كان مستغرقًا في مفاوضات الإنجليز
ومغريات الأمريكان لملء «الفراغ» في منطقة الشرق الأوسط، وقد كان النشاط الفكري لليمين
واليسار داخل الوطن محتدمًا؛ فاليمين يركِّز على الدين واليسار يركِّز على العلم،
واليمين لا يرى مانعًا في قيام حلف إسلامي، واليسار يرى الدين ستارًا لمآرب الاستعمار
الجديد السياسية. ومن الطريف أنني قرأتُ في إحدى المجلات الأوروبية، بعد الفشل الأمريكي
في تقييدنا بالأحلاف العسكرية، موضوعًا مصورًا عن الراهبة الأمريكية وقد ارتدَت المايوه
البكيني واستلقت على ظهرها تداعب خُصلات شعرٍ أسمَر لشاب من إحدى دول أمريكا اللاتينية.
وابتسمتُ بمرارة؛ لقد أدركَت وكالة المخابرات المركزية أن دور الراهبة الصانعة المعجزات
هو الدور المناسب لهذه السيدة في مصر، بينما دور الفتاة اللعوب هو دورها الأنسب في
مكانٍ آخر يحتاج «لملء الفراغ».
وتمُر السنون بأثقالها وعذابات أيامها ولياليها، وتلقى بلادي هزيمةً مؤسية عام ١٩٦٧م،
ولم يكَد العام يدور دورتَه القاسية المؤلمة حتى ظهرَت «السيدة العذراء» في سماء حي
الزيتون بالقاهرة، قريبًا من المكان الذي لجأت إليه مع طفلها الإلهي حين وفدا مع يوسف
إلى مصر هربًا من هيرودوس الملك، فيما تروي حكاية الإنجيل. نعم؛ فقد أخذَت إسرائيل
«القدس» هذه المرة، وقد غضبَت أم الإله لذلك، فقررَت زيارة الشعب الذي باركه الله من
قبلُ، وفي المكان الذي شهد وقت محنتها، وفاءً منها وغيظًا لإسرائيل. وليست هذه الفكرة
من عندي، وإنما هي فكرة أحد الأساقفة الكبار في الكنيسة المصرية، هو الأنبا صموئيل،
الذي أدلى بتصريحٍ صحفي حينذاك، جاء فيه أيضًا أن هذه الزيارة المباركة «دعوة لأبناء
مصر للتمسك بإيمانهم وعقيدتهم في هذا الوقت بالذات، الذي تنتشر فيه دعوات الإلحاد
وأصوات الكفر وصرخات الابتعاد عن الله. ونحن لا ننسى حتى الآن ذلك الإنسان الذي أُرسل
إلى الفضاء، وعاد ليقول إنه بحث عن الله فلم يجده.»
٨٠ وبغَض النظر عن اللقاء الغريب (هل هو غريبٌ حقًّا؟) بين تفسير الأسقف
المصري لأحداث ١٩٦٧م، وتفسير الملك فيصل والملك الحسن للأحداث نفسها، باعتبارها
امتحانًا من الله، وبغَض النظر عن الخلط الفاضح بين النكتة التي شاعت في أوروبا بعد
صعود جاجارين إلى الفضاء، وبين الرغبة في الهجوم على الاتحاد السوفييتي، فإن الجدير
بالنظر حقًّا هو أن الأسقف الذكي قد كشَف دون أن يدري في تصريحه عن حقيقة اللعبة كلها.
إن المظاهرة القومية التي افتعل قيامها في حي الزيتون بظهور السيدة العذراء كانت
البداية الرسمية لرفع راية الدين في مواجهة التساؤلات الجادة عن أسباب الهزيمة، والحلول
الجادة للتغلب عليها. ولا شك أن الأسقف المصري وضع المشكلة وضعًا مبتذلًا وممجوجًا حين
قال «الدين في مواجهة الإلحاد.» ولكن الحقيقة هي ممارسة الدين في مواجهة التقدم
الاجتماعي والتحرر الوطني. كان ظهور العذراء في سماء مصر البداية الرسمية، رغم أنها
بدايةٌ مسيحية، والمجتمع غالبيته من المسلمين؛ ذلك أن الدولة كانت «حاضرة» في الظاهرة،
بل كانت في المقدمة تقودها. لقد جندَت الدولة أجهزة الإعلام تجنيدًا كاملًا في نقل
الحدث المعجز إلى كل بيت، وأشارت الصحف إلى صحة الصور الفوتوغرافية للعذراء، والتي ثبت
من التحليل المعملي أنها خالية من المونتاج، وعقد وزير الداخلية اجتماعًا مطولًا مع
محافظ القاهرة لتنظيم المرور بمنطقة الكنيسة وتطويرها «مما يتفق مع المكانة الروحية
لها، باعتبارها ستغدو مزارًا عالميًّا مقدسًا.»
٨١ وكتبَت وزارة السياحة تقريرًا مهمًّا مفصلًا عن ظهور العذراء، وأرسلَته إلى
جميع عواصم العالم.
٨٢ وعهد وكيل وزارة السياحة إلى مدير الاستعلامات بمهمة المتابعة الدقيقة
لأنباء ظهور العذراء، وموافاته بها أوَّلًا فأوَّل.
٨٣
وليس من المهم أن المظاهرة قد انفضَّت بعد تزايد عدد الضحايا — السرقة والموت واغتصاب
العرض — ولكن المهم أنها حققَت الهدف من قيامها تمامًا. وليس من المهم أن آلافًا مؤلفة
لم تَرَ شيئًا على الإطلاق — فكثيرون جدًّا أولئك الذين رأَوا العذراء بنور القلب
والبصيرة — وليس من المهم أن نجمع الأقوال المتناقضة لرجال الكنيسة أنفسهم في هذا
الموضوع، وليس من المهم التدليل العلمي على أن كله خرافات، أو محاولة تفسير الأضواء
التي يصر البعض على أنه رآها تفسيرًا فيزيقيًّا لا علاقة له بالعذراء. ليس هذا مهمًّا؛
فقد أدت المسرحية المحبوكة الصنع رسالتها على خير وجه. والقليلون جدًّا هم الذين يرون
خيطًا رهيفًا يمتد بين هذا الحادث وبين حوادث «الفتنة» الطائفية التي توالت بعده. إن
الرؤية الدينية قد توحد بين المسيحي والمسلم في مواجهة ما يُسمَّى بالإلحاد، ولكنها ما
تلبث — في استقامتها المنطقية — أن تفرق بينهما، بل بين أبناء الدين الواحد، وربما بين
أبناء المذهب الواحد؛ ذلك أن الرؤية الدينية لا تقدم حلولًا، ومن أي نوع، لمشكلات الوطن
— والمواطن — الحقيقية. إن تحرر الأرض والصراع الاجتماعي فوق هذه الأرض لا يجدي معه
ظهور الشيخ إبراهيم في سماء «منوف»، أو معجزات الراهبة الأمريكية في حي «شبرا»، أو تجلي
السيدة العذراء على قباب كنيسة «الزيتون».
والقضية أن جماهير «المؤمنين» الذين ترسَّبَت في أعماقهم «المهاد الخصبة» هذه الطبقات
السلبية من التراث، هم الضحايا الحقيقيون لازدهار هذه النباتات الطفيلية المتسلقة
بناءنا الحضاري. ولعل المفارقة المؤسية هي أن الذين يزعمون أننا نختلف عن العالم كله
في
أن بلادنا مهبط الديانات (وكأن شعوب العالم الأخرى لم تعرف الدين) يتناسَون عن عمدٍ
أننا في سجلات «الجرائم» بأنواعها لا نقل عما عند غيرنا.
لهذا لم يعُد كافيًا في يومنا القول — في مقابل الحملة الرجعية الضارية — بأن الدين
مجرد ستار للسياسة، أو أن الدين بريء من رجال الدين؛ ذلك أن الطبقات الحاكمة لم تعُد
من
جانبها تعبأ بهذه الصياغة الشكلية الملفَّقة.
إن التراث الديني يقدم لأتباعه مفهومًا شاملًا للتراث خارج الإطار الطبقي القومي
والإنساني؛ أي خارج السياق التاريخي؛ فالبرجوازية لا تعتمد فحسب على التركيز على عناصر
التراث التي تفيدها وتدعم كيانها، وإنما تشيع مفهومًا ميتافيزيقيًّا للتراث، يعادي
العلم والتقدم. وهي تدرك أن الوجدان العربي ما زال «جاهزًا» لتلقِّي هذا المفهوم
واستبيانه واستثماره.
لذلك كانت مهمة الثورة الثقافية العربية في جوهرها مهمة مزدوجة؛ عليها أولًا لقاء
الأسد في عرينه، وهو التكوين الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للطبقات التي تعكس مصالحها
الضيقة في «مفاهيم» ونظريات وأفكار عن التراث والعصر؛ فكشف الطابع الطبقي لهذه المجردات
يفضح أصحابها عن الذين يرون — أولًا ربما — مصلحتهم الحقيقية في التحرر الوطني والتحول
الاجتماعي في الثورة.
وعلى ثورتنا الثقافية — ثانيًا — أن تتحلى بشجاعة تاريخية، فترفض هي الأخرى الصياغة
الشكلية الملفَّقة، وتدخل إلى صميم القضية المطروحة. إن الدين مرحلةٌ تراثية في حياة
الإنسانية، وأصالتنا لا تكمن في الرقاد داخل إحدى مراحل التاريخ، وإنما تكمُن في وفائنا
الحقيقي للتراث البشري ولأنفسنا، بأن نستلهم من هذا التراث؛ ما يقود واقعنا إلى ضفاف
العصر الذي نعيش فيه، عصر الاشتراكية والعلم. إن هذا «الطريق الطويل» سيحفر بصمات
تاريخنا الوطني والحضاري على «ثورتنا»، و«حياتنا» كلها. وحينذاك نصبح أُصَلاء
ومُعاصِرين حقًّا.