مقدمة

نحن في نهضة فيجب أن نفهم معاني النهضة.

ويجب أيضًا ألَّا نقف منها موقف المتفرجين، إذ علينا أن نعمل فيها ونعاونها، ونعيش اتجاهاتها نحو المستقبل.

النهضة ثراء وقوة وثقافة وصحة وشباب، ولكن قد يكون الثراء مؤلفًا من نقود زائفة كما قد تكون القوة والثقافة والصحة والشباب خداعًا وليس حقيقة.

•••

كان «ابساماتيك»، فرعونًا على مصر. تولى الحكم فيما بين ٦٦٦–٧١٢ قبل الميلاد، وهو مؤسس الأسرة السادسة والعشرين، وكلمة «مؤسس»، تعني: إنه كافح أعداء، ونصب أهدافًا، ودرس وحقق.

ولكنه كان رجلًا خالص النية في خدمة وطنه أكثر مما كان ذكيًّا بصيرًا بمستقبل بلاده، وكان أعداء مصر يحيطون بها، فمن الغرب غارات، ومن الجنوب غارات. وفى الشرق هزائم، والمستقبل مظلم والأمة مفككة، وولاء الشعب موزع بين الكهنة والعرش، والدسائس لا تنقطع.

وفكر الرجل في نية خالصة، وعزم حديد فيما أصاب مصر، وذكر تلك القرون الأولى حين كان «خوفو» يقول: شيدوا لي هرمًا، فما هي إلا سنوات حتى يراه ينطح السماء. وكان ابساماتيك يرى الأهرام كما نراها نحن الآن، وكان يقرأ التاريخ فيرثي لبلاده وضعفها.

وفكر، ثم فكر، وانتهى أخيرًا إلى أن مصر لن يعود إليها مجدها الغابر إلا إذا رجعت إلى تقاليد هؤلاء الأسلاف، فأحيت الشعائر القديمة، ودرست نصوص الديانة القديمة، ونهضت بالفنون أساليبها القديمة، بل زاد على ذلك بأن عاد إلى سقارة حيث الأهرام، أي: حيث قبور الفراعنة من الدولة القديمة، فقال بوجوب العودة إلى دفن الفراعنة فيها.

وحسب ابساماتيك أن هذه نهضة، مع أنه كان يفصل بينه وبين خوفو من السنين مثلما يفصل بيننا نحن وبين ابساماتيك نفسه.

«عودوا إلى القدماء».

كان هذا شعاره، وكان شعار الأفلاس؛ لأن مصر كانت في عصره أسمى مما كانت أيام خوفو كما يمكن أن نعرف ذلك مما قام به خلفه «نيخاو» الذي هيأ سفنًا تدور حول أفريقيا، أين بناء الأهرام من مثل هذا العمل العظيم؟

إن ظروفًا جديدة نشأت في الدنيا المحيطة بمصر، وكانت تحتاج إلى استنباط جديد.

ولم تكن تحتاج إلى الرجوع إلى الوراء نحو ٢٥٠٠ سنة تقريبًا.

ولم تمض على مصر بعد ذلك مئة سنة حتى كان الأعداء من الأشوريين والفرس يكتسحونها ويغتالونها، ولم ينفعها شعار: عودوا إلى القدماء.

•••

فيما بين سنة ٥٠٠ وسنة ١٠٠٠ استولى الظلام على أوروبا.

وكان ظلامًا حالكًا؛ لأن الثقافة كانت وقفًا على الرهبان، يبحثون جغرافية العالم الآخر، وهم لا يدرون جغرافية هذا العالم، ويشرحون للناس كيف يجب أن يموتوا بدلًا من أن يشرحوا لهم كيف يجب أن يعيشوا، ويشتبكون في مشكلات «ذهنية» أولى بها أن يبحثها الأطفال وأن يضحكوا منها، مثل قيمة الرقم ٧ في الدنيا والآخرة، ومثل عدد الملائكة الذين يمكنهم أن يقفوا على رأس إبرة، ومثل مكان الروح من الجسم. الخ …

كانوا يبحثون العقائد لا الحقائق.

ولكن رويدًا رويدًا تنبه الأوروبيون إلى أنهم جهلاء، ونظروا حولهم فوجدوا أن الأمم الإسلامية في إسبانيا وفي الشرق تحيا حياة القوة والذكاء، فقصدوا إليها يدرسون وينقلون مؤلفات ابن رشد، وابن سينا، وابن طفيل، وابن حزم، وغيرهم.

ثم لم يقنعوا بما ألَّفه المسلمون، إذ هم نقلوا أيضًا للغة اللاتينية مؤلفات الإغريق القدماء التي كان المسلمون قد ترجموها إلى اللغة العربية، فعرفوا أفلاطون وأرسطوطاليس عن طريق اللغة العربية.

واستطاعوا أن يعرفوهم أكثر عندما هاجر الإغريق من القسطنطينية إلى أوروبا الغربية، فأصلحوا أخطاء الترجمة التي كان المترجمون المسلمون قد وقعوا فيها عندما نقلوا أرسطوطاليس وأفلاطون وغيرهما إلى اللغة العربية.

•••

ومضى الناهضون يجترئون ويفكرون.

ولكن رويدًا رويدًا اتضح لهم أنهم قد خرجوا وتخلَّصوا من قدماء الكنيسة إلى قدماء الإغريق.

قدماء بدلًا من قدماء.

وإن العرب لا يختلفون عن القدماء؛ لأنهم اعتمدوا عليهم، أي: على القدماء، حتى إن ابن رشد كان يعتقد أنه لم يخلق في العالم إنسان مثل أرسطوطاليس.

وعندئذ تساءل هؤلاء الناهضون: «هل المعارف الحقة الصادقة تؤخذ من الكتب القديمة أو تؤخذ من الطبيعة؟»

فقد كانوا يدرسون الطب مثلًا في كتب جالينوس وابن سينا، ولكنهم لم يكونوا يعرفون تشريح الجسم البشري.

وهنا نجد رجلًا الماني الأصل سويسري الوطن، ولد في ١٤٩٣، يدرس القدماء ثم يلعنهم بدلًا من أن يبارك عليهم، هو «بارا كيلسوس».

والاسم عجيب، فإنه اختاره لنفسه وترك اسمه الميلادي، ومعنى هذا الاسم «فوق كيلسوس».

وكيلسوس هذا الذي أعلن أنه فوقه عالم روماني كانت له موسوعة تدرس في الجامعات أيام القرون الوسطى بل بعدها.

أي: إن بارا كيلسوس يقول: «أنا فوق القدماء، أنا فوق عالِمِكُم المحترم كيلسوس».

ولم يكتف بهذا، فإنه كان يلقى محاضراته في مدينة «بازيل» باللغة الألمانية، وهنا قف قليلًا:

ذلك أن التعليم كان إلى وقته وبعد وقته باللغة اللاتينية في جميع جامعات أوروبا، ولكنه هو أبى أن يلقي محاضراته بهذه اللغة القديمة.

كان شعبيًّا، كان عاميًّا، أي: كان مع الشعب.

واجترأ على أن يعلم بلغة العامة، اللغة الألمانية، وكان أول من أقدم على ذلك في أوروبا جميعها.

وكانت محاضراته خاصة بالطب والعلاج.

وذات صباح بعد اختبار وقلق، وتساؤل وأرق، رأى أن يقف الموقف الحاسم في تاريخ أوروبا؛ بل في تاريخ الإنسان.

فلم يذهب إلى الكلية لإلقاء محاضراته كما كانت عادته.

ولكنه جمع مؤلفات ابن سينا ومؤلفات جالينوس، وحملها على ظهره إلى أن وصل وهو يلهث إلى ميدان المدينة، وهناك وضعها أمامه على الأرض وشرع يخطب:

إن القدماء ليسوا أفضل منا، وهم لا يعرفون مقدار ما نعرف.

إن دراسة القدماء نافعة، ولكن دراسة الطبيعة أنفع منها.

إن الكتب القديمة تحفل بالأخطاء، ولم يكن مؤلفوها معصومين.

إن الطب تجارب وليس تقاليد، إننا نتعلمه من الطبيعة وليس من الكتب.

واحتشد حوله، في سوق المدينة، أي: الميدان العام، فئات من الطلبة والأساتذة والعامة والخاصة، فلما انتهى من خطبته أشعل النار في كتب جالينوس وابن سينا.

•••

لقد انطلقت في أيامنا حيوية جديدة في بلادنا تجدد القيم والأوزان في معاني الحياة والاجتماع والرقي، ولكننا لا نزال في اختلاط وارتباك وتردد لا نعرف هل نأخذ بالقيم القديمة أم بالقيم الجديدة.

ما هي النهضة؟

هل هي القيم القديمة؟

إن أسوأ ما أخشاه أن ننتصر على المستعمرين ونطردهم، وأن ننتصر على المستغلين ونخضعهم، ثم نعجز عن أن نهزم القرون الوسطى في حياتنا، ونعود إلى دعوة: «عودوا إلى القدماء».

هل نعيد مأساة ابساماتيك؟ هل يعني الرقي والتقدم أن ندفن موتانا في سقارة؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤