أثر الأدب العربي في الآداب الأوروبية

من الحقائق المسلم بها، أن النزعة العلمية التي شاعت في أوروبا في عصر النهضة، ترجع أصولها إلى التجارب الكيمائية التي كان يجريها العرب لتحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، إذ أن تلك التجارب كانت بمثابة البذرة أو الخميرة «للمنهج العلمي» الحديث.

ولذلك يرى الأوروبيون أن للعرب فضلًا كبيرًا على العلم الحديث، فهل نستطيع أن ننسب لهم فضلًا كذلك على الأدب الغربي؟ الرأي السائد في أوروبا أن الأدب العربي بعيد كل البعد عن الأدب الغربي، وقد لا يخطر ببال واحد من ألف من قراء الأدب الأوروبي أن لهذا الأدب علاقة بالأدب العربي، فقد استقر في الأذهان، أن الأدب الغربي ترجع أصوله إلى الأدبين اللاتيني والإغريقي، وقليل من المستشرقين والباحثين يرى في الأدب العربي أصلًا من أصول الآداب الأوروبية الحديثة، ولعل أبرزهم جميعًا المستشرق «جيب» أستاذ اللغة العربية بجامعة لندن الذي نلخص له هذه السطور من كتابه «تراث الإسلام».

«في آخر القرن الحادي عشر ظهر فجأة طراز جديد من الشعر الغزلي في جنوب فرنسا، كان طرازًا جديدًا في موضوعه وفي أسلوبه ومعانيه، ولم يكن لهذا النوع من الشعر أساس في الأدب الفرنسي القديم: وهو يشبه الشعر الأندلسي شبهًا قويًّا جدًّا، إذ هو ضرب من الموشحات والأزجال الأندلسية الغنائية التي تدور موضوعاتها على الغزل والحب العذري.

«أليس من المعقول إذن أن نرد هذا الضرب من الشعر الفرنسي الجديد، إلى الشعر العربي الأندلسي، وخاصة إذا علمنا أن نظرية «الحب العذري» التي يدور عليها هذا الشعر الفرنسي الجنوبي، ليس لها أصل في الأدبين اللاتيني والإغريقي؟».

لقد دلل المستر جيب على هذا الرأي في الكتاب الذي أشرنا إليه تدليلًا قويًّا لا يدع مجالًا للشك في صحته.

•••

ليس الأمر مقصورًا على الشعر الفرنسي، ولكن الشعر الإيطالي أيضًا تأثر تأثرًا قويًّا بالشعر العربي في صقلية، وخاصة في عهد «فريدريك الثاني» الألماني.

وقد يشك في أن الشعر الأوروبي قد تأثر قليلًا أو كثيرًا بالشعر العربي، ولكن الأمر الذي لا شك فيه هو أن نثر القرون الوسطى في أوروبا يرجع في كثير من أصوله إلى النثر العربي، فقد كان الأدب التقليدي في القرون الوسطى أدبًا صارمًا جامدًا، يخاطب الخاصة ولا ينزل لأفهام العامة، ومن هنا كانت الحاجة العامة إلى ذلك الضرب من الأدب الخيالي الذي يعنى بإشباع الحواس أكثر مما يعنى بالمنطق والعقل، فلما نقلت إلى أوروبا بعض «الحكايات» ذات المغزى، وبعض القصص الخرافية كقصة السندباد البحري وما إليها، وجد فيها الشعب حاجته المنشودة، وأقبل عليها إقبالًا شديدًا، فأصبحت بمثابة الخميرة للأدب «الخيالي» الجديد الذي أخذ ينازع الأدب التقليدي القديم مكانه، ومن ثم ذاعت القصص الخيالية الرومانتية ذيوعًا عظيمًا، ولو فحصنا عن هذه القصص، لوجدنا أن كثيرًا منها يرجع إلى أصل عربي بحت، وهناك قصة فرنسية يسمى بطلها «القاسم» وهو اسم عربي لا شك فيه.

يتضح من هذا أن التيارات الشعبية في الأدب الأوروبي في القرون الوسطى كانت أقرب إلى روح الأدب الشرقي منها إلى الأدبين اللاتيني والإغريقى اللذين كانا بطبيعتهما أميل إلى الأرستقراطية، ذلك أن الأدب الشرقي في جملته ينزع إلى الخيال والألوان الزاهية الجذابة، فكانت أوروبا كلما احتكت بالشرق استلهمت روحه، وتأثرت بأدبه أشد تأثر، فتأصل الأدب الخيالي الجديد في أوروبا وترعرع حتى كاد يزحزح الأدب التقليدي من مكانه.

حدث هذا في القرون الوسطى، فلما بدأت النهضة العلمية، نزعت أوروبا إلى درس الحضارة الإغريقية، فأهملت الشرق، وأصبحت مقاييس الأدب الإغريقي القديم هي السائدة في أوروبا في عصر النهضة، ومن ثم تغلبت النزعة التقليدية القديمة في الأدب على النزعة الخيالية الجديدة بعض الزمن غير أن النزعة الخيالية الجديدة، وهي نزعة شعبية خالصة، لم تخمد تمامًا، ولكنها كانت تحاول الظهور من حين إلى آخر، وهذه القصة الرومانتية الفرنسية، والفولكلور الألمانية، والدراما الإنجليزية، التي فشت في القرن السابع عشر، كانت من آثار النزعة الخيالية التي بدأت في القرون الوسطى، والتي حاولت النهضة العلمية أن تقتلها فلم تفلح، ثم كان القرن الثامن عشر، فتم النصر للأدب الخيالي.

وقد كانت قصص ألف ليلة — التى ترجمت سنة ١٧٠٤— أقوى عامل على هذا النصر، فقد أقبلت الجماهير على قراءتها في شعف شديد وراح الكتاب يقلدونها في قصصهم.

ويرجع نجاح كتاب ألف ليلة إلى حالة الأدب الإنجليزي والأدب الفرنسي في القرن الثامن عشر، فإن انتشار القراءة قد أنشأ جمهورًا جديدًا من القراء لم يكن الكتاب يحسبون له حسابًا من قبل، وهذا الجمهور الجديد كانت له مطالب وحاجات جديدة؛ فأخذ الكتاب يحاولون أرضاءه واشباع حاجاته.

ولكنهم كانوا في حيرة شديدة، يتحسسون طريقهم إلى معرفة حاجات الجمهور فلا يكادون يصلون إليها، فلما ظهرت قصص ألف ليلة، ورأى الكتاب إقبال الجمهور الغربي عليها ذلك الإقبال الشديد، تنبهوا لهذه الظاهرة الجديدة وأخذوا يدرسونها لعلهم يقفون على السر في شغف الجمهور الأوروبي بذلك الأثر الشرقي الطارئ، فتبين لهم بعد طول التمحيص أن قصص ألف ليلة وليلة، وإن تنقصها مقومات العمل الفني الكامل، إلا إنها تنفرد بخاصة من أهم الخواص التي تحبب الجماهير في القصص، هي روح المجازفة والاقتحام، فعمل الكتاب على إدخال هذا العنصر الجديد في قصصهم، ومن هنا كانت قصة روبنسن كروزو، وأسفار جوليفر، وما إليها من القصص التي ما كانت تظهر لولا قصص ألف ليلة.

أما في القرن التاسع عشر فقد تأثر الأدب الألماني إلى حد كبير بالآداب العربية والفارسية والهندية، وكان «جوته» يستلهم روح الشرق في كثير من قصصه التي مزجها بالخيال الشرقي، و«هيني» الذي لم يسلم الأدب الشرقي من سخريته اللاذعة، لم تخل قصائده الغنائية من روح الشرق.

وقد كان «شوبنهور» يتوقع اشتداد النزعة نحو الأدب الشرقي، وامتدادها من ألمانيا إلى فرنسا وإنجلترا، ولكن حدث ما لم يكن في حسبانه، فقد وقفت الآداب الفرنسية والإنجليزية في وجه تلك الحركة، فقضت عليها، ذلك أن العقل الغربي تحول فجأة عن الشرق، فقد انصرف عنه إلى فلاسفته الجدد، وما ظهر وقتئذ من أفكار سياسية جديدة، ومخترعات جديدة، وتطور صناعي سريع، فلم يكن في حالة تسمح له بالالتفات نحو الشرق فضلًا عن الانكباب على دراسته.

وقد كان «جوته» يحلم بجعل الأدب الألماني أدبًا إنسانيًّا عالميًّا، فتحطم هذا الحلم الجميل بظهور الحركات القومية واشتداد النعرة الوطنية، ومع ذلك لا يمكننا تجاهل مكان الأدب الشرقي من الآداب الغربية في جميع العصور.

وقد يظهر لنا لأول وهلة أنه مكان ضيئل، ولكننا إذا لاحظنا أن الأدب الشرقي لم يكن إلا بمثابة الخميرة للنزعات الأدبية الجديدة في أوروبا، أدركنا مبلغ ما كان له من أثر في تكييف الأدب الغربي وتوجيهه، ويكفي أن نقول إن الشرق كان كلما اتصل بالغرب عمل على تحرير الخيال الغربي من القيود، وتخليصه من كابوس الأدب التقليدي القديم.

فأثر الأدب الغربي في الغرب ليس أثرًا عاديًّا ملموسًا يمكن إدراكه في سهولة ويسر، وإنما هو أثر معنوي، إن صح هذا التعبير؛ لأنه في حقيقة الأمر لم ينقل إلى الغرب نماذج أو أساليب أدبية معينة، وإنما نقل إليه روح الشرق، فكان أثره في بواعث الأدب وغاياته أكثر مما كان في أساليبه وأشكاله الظاهرة، ثم يجب أن نذكر أن الغرب لم يأخذ عن الشرق نزعات أدبية جديدة لم يكن له بها عهد من قبل، فإن البذور كانت موجودة في الغرب، ولكنها كانت في حاجة إلى حافز يحفزها حتى تنمو وتترعرع، فكان الروح الخيالي الشرقي هو الحافز المنشود، ومن هنا يصعب على الباحث أن يميز بين عناصر الأدب العربي التي طرأت على الأدب الغربي في مختلف العصور؛ لأن تلك العناصر قد اندمجت في الآداب الغربية اندماجًا تامًّا، وطغت عليها الألوان المحلية فغمرتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤