قبل خمسمائة سنة

في مثل هذه الأعوام، منذ خمسمائة سنة، دخل محمد الفاتح القسطنطينية، وانتهى بذلك تاريخ الدولة الرومانية الشرقية، وقام مقامها وملأ مكانها العثمانيون، أي الدولة العثمانية.

وكان هذا كسبًا عظيمًا للإنسانية.

ونحن العرب الذين كابدنا من الحكم العثماني ما لا نحب أن نذكره، قد لا نسيغ هذا القول، ولكن حقائق التاريخ تنطق وحوادثه تشهد، بأن دخول الأتراك في أوروبا، قد بعث حوافز جديدة في التطور العالمي.

فهو أحد الأسباب الكبرى للنهضة الأوروبية.

وهو أحد الأسباب الكبرى لاكتشاف القارة الأمريكية.

وليس هناك ما يمكن أن نأسف عليه في زوال الدولة الرومانية الشرقية في سنة ١٤٥٣، فقد كانت تحيا في ظلام القرون الوسطى لم يبق عندها من ثقافة الإغريق القدماء سوى تلك الغيبيات السخيفة التي كان رهبانها يتراشقون بها ويقتتلون عليها، إذ كانوا يحاولون أن يعرفوا العالم الآخر، ويرسموا خارطته ويعينوا حدوده الجغرافية دون أن يتكلفوا مشقة الوقوف على هذا العالم.

كانوا في انحلال يحيون في مجتمع ينهض على أساس من العقائد يدرسون الكتب القديمة، فيحفظون كلماتها ولا يكادون يفهمون معانيها، يعرفون الحرف ويجهلون الروح.

كانوا أمة شائخة وكان الأتراك أمة ناشئة.

•••

وكان هؤلاء الأتراك، على الرغم من سذاجتهم، يقبلون على الدنيا ولكن في غير استهتار أو انغماس؛ ولذلك لا نستغرب أن الإغريق في القسطنطينية كانوا يصفون الرجل المستقيم الذي يُوثَقُ بكلمته بأنه «تركي».

واذا كان الأتراك قد تغيروا بعد ذلك وانغمسوا في الملاهي والملذات فإنما جاءتهم هذه العدوى من العادات الإغريقية السابقة، وكثيرًا ما نجد المثال والعبرة في الشعب القوي الفاتح يخضع لعادات الانحلال واللهو التي كان يمارسها الشعب المغلوب والتي كانت سببًا لهزيمته.

ولو أن الدولة الإغريقية، أي الرومانية الشرقية، أتاح لها التاريخ أن تحيا إلى الآن لكان في بقائها إلى عصرنا هذا امتداد للظلام وليس زيادة في النور.

•••

نحن الأمة العربية لنا الحق في القول بأن التاريخ قد ظلمنا باستيلاء الأتراك على أوطاننا؛ لأن هذا الاستيلاء كان استعمارًا بكل ما تحمل هذه الكلمة من المعاني السيئة، بل هو كان يزيد على مساوئ الاستعمار العصري بأنه لم يكن نيرًا، أي لم يكن يحسن إدارة الحكومة كي يحسن الاستغلال للأمم المحكومة.

وقد كنا نحن في مصر إلى سنة ١٥١٧، وهي السنة التي دخلت فيها بلادنا في حوزة الاستعمار التركي، من أعظم الأمم في العالم حضارة، وكانت التجارة العالمية بين آسيا وبين أوروبا تلتقي في القاهرة والإسكندرية، وكنا على اتصال بأوروبا، وهو اتصال كان جديرًا بأن ينقل إلينا نهضتها، ولكن الاحتلال التركي حال دون ذلك، واحتجنا إلى قرابة ثلاثة قرون، ونحن في عزلة إلى أن جاءنا نابليون فشرعنا نستأنف اتصالنا بأوروبا والحضارة العصرية.

ثم لم نكسب من الأتراك لغة حية أو ثقافة ناهضة كما كسب الهنود مثلًا من الإنجليز، حين أخذوا بلغتهم وثقافتهم اللتين جعلتا منهم أمة عصرية.

كنا نحن الأمة العربية فيما بين ١٧١٥ و١٨٠٠ نعيش في ظلام لا يختلف من ظلام القرون الوسطى، بل ربما يزيد، بسبب الاحتلال العثماني.

وإلى هنا تنتهي الزاوية السيئة من الاكتساح العثماني في القرنين الخامس عشر والسادس عشر.

•••

ولكن سقوط القسطنطينية قبل خمسمائة سنة، في أيدي الأتراك، بعث هجرة اللغة الإغريقية إلى أوروبا، فإن كثيرين من المثقفين الإغريق، أي: الرومان الشرقيين، وجدوا أن العيش في ظل الأتراك لم يعد يلائمهم، فتركوا بلادهم ونزحوا إلى روما وباريس وغيرهما، ولم يكن الأوروبيون يعرفون اللغة الإغريقية القديمة فتعلموها من هؤلاء النازحين، واتصلوا عن سبيلها بالفلاسفة والأدباء والعلميين من الإغريق القدماء، وأخصب هذا الاتصال أذهانهم التي لم تكن تعرف من الثقافة سوى تلك الثقافة الدينية التي لم تكن تتجاوز ديورة الرهبان، والتي كان من المُحَرَّم في كثير من الأحوال أن تتجاوز دراسة الكتب المقدسة.

وسمي هذا الاتصال بالإغريق القدماء بالحركة البشرية، والمعنى هنا أن الثقافة الجديدة لا تعتمد على الإلهيات والكتب الدينية فقط، وإنما تعتمد أيضًا على «البشر»، على المعارف، وليس على العقائد.

ومن هذه الحركة نشأ «العلم» لأنه معارف وليس عقائد، وهو الذي قرر للأوربيين السيادة على غيرهم من الأمم التي كانت لا تزال تحيا بالعقائد دون المعارف.

لقد بسطت اللغة الإغريقية القديمة، التي حملها النازحون من الإغريق أمام الأوروبيين، أمة عجيبة هي أمة الإغريق القديمة، فرأى الأوروبيون هنا شعبًا وثنيًّا ولكنه لا يعرف التعصب الديني، إذ كانت حرية التفكير مباحة إلى حدود بعيدة، وكان المفكرون يكتبون ويخطبون كما لو كانوا لا يخافون أية سلطة، وعرفوا من الإغريق معارف فلكية كان الأوروبيون قد نسوها فأحيوها.

ولكن هذه المعارف لم تكن كبيرة في قيمتها أو مقدارها، وإنما الكبير الخطير الذي عرفه الأوروبيون منها هو المنهج الذي أنتج هذه المعارف، وهو منهج التفكير الحر.

•••

هذه الحركة البشرية، وهذا التفكير الحر، هما إحدى ثمرات الاكتساح التركي الذي أدى إلى نزوح اللغويين الإغريق من القسطنطينية إلى أوروبا الغربية؛ لأنهم أصبحوا قوة تحريرية للعقل الأوروبي.

وكان من أثر هذه القوة التحريرية أن فشا الاجتراء على اختراع النظريات العلمية، فشرع العلميون يقولون بأن الأرض كرة، واتجه الجغرافيون إلى فكرة الوصول إلى الهند عن طريق الغرب بدلًا من طريق الشرق.

وكان هنا حافز أيضًا على هذا التفكير من استيلاء الأتراك، وقبل الأتراك السلاجقة؛ لأنهم جميعًا منعوا اتصال الأوروبيين بالهند وآسيا عن طريق مصر والبلاد العربية الأخرى.

والحافز إلى اكتشاف أمريكا هو بالطبع حافز سلبي من الأتراك، كما كان الشأن أيضًا في هجرة اللغويين الإغريق إلى أوروبا الغربية عقب سقوط القسطنطينية بدخول محمد الفاتح.

ولكن النتائج كانت بعيدة الأثر:
  • (١)

    حرية الفكر والنظرة العلمية في أوروبا.

  • (٢)

    اكتشاف أمريكا ونزوح الأوروبيين إليها.

ومن هذا الوقت إلى الآن، والأوروبيون، أو بالأحرى الغربيون، يسودون العالم.

•••

كان الأتراك من حيث لا يقصدون، سببًا للنهضة في أوروبا، ولكن لنا الحق في أن نسأل هنا:

لماذا كان الأتراك في القرن الخامس عشر، عندما فتحوا القسطنطينية، رمزًا للشرف والقوة حتى كان الإغريقي، حين يجب أن يطري أحد إخوانه من الإغريق، يقول إنه «تركي»، ثم لماذا انهاروا حتى صاروا في السنين الأخيرة التي سبقت نهضة أتاتورك يوصفون بالضعف والتأخر والرجعية والاستكانة؟

أعتقد أن السبب واضح، وهو أن الأتراك بعد أن علموا من حيث لا يدرون على إخراج أوروبا من القرون الوسطى إلى العصر الحديث، وقعوا هم أنفسهم في القرون الوسطى.

إذ ما هي القرون الوسطى؟ أي ما دلالتها؟

هي التقيد بالنصوص التي في الكتب الموروثة دون مباشرة الطبيعة بتسليط العقل عليها، واستخراج المعارف منها.

هي سيادة العقائد على المعارف، والتليد على الطريف.

هي الاكتفاء بالثقافة الدينية دون الثقافة المدنية.

هي ثيوقراطية الدولة، أي: الدولة الدينية دون الدولة المدنية.

وكل هذا يؤدي إلى سيادة الرجعية، أي: الرجوع بالشعب في عاداته وأسلوب عيشه وتفكيره إلى ما كان عليه أسلافه قبل ألف أو ألفي سنة.

ومعنى هذا: الجمود والوقوف عن التطور.

وهذا ما نجت منه أوروبا في القرن الخامس عشر بفضل الاكتساح التركي، وهذا هو ما وقع فيه الأتراك أنفسهم وبقوا في هاويته إلى أن جاء أتاتورك العظيم، فنهض بالشعب وأخرجه إلى القرن العشرين، إلى النهضة.

•••

هذه القرون الوسطى، التي اصطلح المؤرخون على أنها انتهت بدخول الأتراك في القسطنطينية في ١٤٥٣، أي: منذ خمسمائة سنة، كانت بالطبع تجد حوافز أخرى لافتتاح عصر النهضة.

إننا، نحن الأمة العربية، نسمع ونقرأ كثيرًا عن النهضة، ولكن هل ندري دلالتها أو هل ندري شروطها؟

هل نحيا حياتنا العربية الحاضرة في نهضة أم في قرون وسطى؟

هذا هو السؤال المتعب الممض، ولكن مسئولية المفكر تقتضيه أن يجيب عليه في صراحة.

وجوابي: إننا ما زلنا إلى حد بعيد نحيا في ثقافة القرون الوسطى، نؤثر العقائد على المعارف، والقديم على الجديد.

ولكن نور الفجر الجديد قد بزغ.

•••

ما زال إخواننا اليونانيون يتشاءمون من يوم الثلاثاء؛ لإنه هو اليوم الذي دخل فيه محمد الفاتح القسطنطينية، وما زالوا يتغنون بالأغاني التي تصبوا إلى الإمبراطورية القديمة، وما زال عامتهم يذكرون أن أيا صوفيا كانت كنيسة ثم صارت مسجدًا.

ولكنهم مخطئون؛ لأن التاريخ لا يعود، وأيا صوفيا ليست الآن كنيسة وليست كذلك مسجدًا، إذ هي متحف يجمع تحف التاريخ المسيحي والتاريخ الإسلامي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤