إني أخاف على وطني..

التاريخ لا يعيد نفسه، ولو فعل لدار حول نفسه، فلا يكون هناك ارتقاء إلى أعلى أو تقدم إلى الإمام، وإنما تكون هناك حركة دائرية تنتهي إلى حيث ابتدأت، وإنما التاريخ يعيد المشكلات التي تشبه المشكلات القديمة ويقدم لها الحلول التي تشبه أو لا تشبه الحلول القديمة، ولكنها لا تطابقها؛ إذ هي تجري على مستوى أعلى، أي: إن التاريخ يدور، ولكن في حركة لولبية، كلما انتهى من دورة صعد درجة إلى أعلى وقام بدورة أخرى.

ونحن في هذه الأيام نعاني مشكلة بل مشكلات فلسفية كتلك التي عانتها أوروبا في نهضتها الأولى في إيطاليا ونهضتها الثانية في فرنسا.

وقد ظهر بيننا نحن المصريين، ناهضون مثل قاسم أمين الذي دعا إلى تحرير المرأة، ومثل محمد عبده الذي قال: إنه يعتقد أن كلمة «زندقة» ليست عربية وأنها في الأغلب محرفة عن «هرطقة» اللاتينية، وأنه ليس في الإسلام زندقة.

وكلاهما عمل لتحريرنا؛ الأول: حرر المرأة من الحجاب. والثاني: حرر أفكارنا من القيود، ونحن في حاجة إلى أن نذكرهما هذه الأيام.

ماذا كان يقول محمد عبده في ظروفنا الحاضرة؟

ماذا كان يقول قاسم أمين في هذا الخبر الذي ذكرته الصحف وهو أن حكومة لبنان قد قررت تعيين ثلاث سيدات في المجلس البلدي وتعيين سيدتين للقضاء؟

ولكن فوق محمد عبده، وقاسم أمين. أحس كأن ذكرى فولتير تصدم رأسي كما لو كانت حجرًا يشجه.

«أيكرازيه لاتفام». اسحقوا الخزي. صحية مدوية صاح بها فولتير قبل أكثر من مئتي سنة.

أي خزي هذا؟ هو خزي الاضطهاد لمن يخالفوننا في الرأى …

إننا في أزمة فلسفية من حيث أسلوب الحياة، ومن حيث نظام المجتمع الذي يجب أن نعيش فيه. ونحن أيضًا في تنازع بقاء مع أمم كبيرة وصغيرة.

هل نحيا أحرارًا نفكر كما نشاء، وكما يهدينا إليه تفكيرنا، أم نتقيد بقيود الماضي. وإلى متى تبقى هذه القيود؟ ألف سنة قادمة أم مليون سنة قادمة؟ ثم هل نحيا في مجتمع انفصالي مختلط، يختلط فيه الجنسان، وتعمل فيه المرأة أعمال الرجال أم نحرم المرأة حقها الإنساني فلا تكون نائبة في البرلمان أو وزيرة أو سفيرة أو قاضية؟

هذه الأزمة الفلسفية التي نعانيها، أي: فلسفة العيش، قد وجدت أخيرًا من التفكير والتعبير في موضوع الأدب والعلم ما حملنا على المناقشة التي تشبه الملاكمة، والذي حملني على كتابة ما تقدم وعلى الكلمات التالية هو فولتير؛ ذلك أن هذا الأديب العظيم الذي علم أوروبا، وعمم حرية التفكير، سئل ذات مرة: من هو أعظم رجل في العالم؟ فأجاب: هو إسحق نيوتن.

ولم يكن إسحق نيوتن من رجال الأدب الذين استطاعوا أن يعرفوا أن رجل العلم أيام النهضة خير من رجل الأدب وأنفع منه، وبكلمة أخرى، لو أن فولتير كان قد سئل أيهما أنفع لأبناء فرنسا كي يدرسوه وينقلوا مؤلفاته إلى لغتهم … «شكسبير» مؤلف روميو وجولييت أم «اسحق نيوتن» صاحب مبدأ الجاذبية؟ لقال فورًا: إنه إسحق نيوتن.

وقد درس فولتير شكسبير وكان يتقن اللغة الإنجليزية التي تعلمها في إنجلترا، ولكنه كان يفهم أن الحضارة علم وصناعة، ولذلك آثر إسحق نيوتن عليه؛ لأنه فهم من العلم أنه ارتقاء وحضارة.

وهذا هو ما حملني في أول المناقشة الخاصة بالمفاضلة بين العلم والأدب على أن أقول بأفضلية العلم؛ لأننا في نهضتنا الحاضرة نحتاج إليه؛ إذ هو وسيلة التمدن، ولا تمدن ولا قوة بلا علم، وإننا نستطيع أن نؤجل «الترف الذهني» أو الأدب كما يفهمه بعضنا، و«ماكبث» و«الملك لير» بلا ضرر، وعندنا ما يكفينا من الترف الذهني، الحسن والفاسد، في أبي تمام وابن الرومي والمتنبي وأبي نواس، وإذا كان لا بد من الأدب فليكن أدب الكفاح والرسالة، وليس هذا أدب شكسبير.

إن القراء العرب يحتاجون إلى موسوعة مثل الموسوعة التي كان يشرف على تحريرها «ديدرو» وكان يشترك فيها فولتير، والتى هيأت الشعب للثورة الفرنسية الكبرى، وهذه الموسوعة هي ٩٩ في المائة علوم وصناعات.

والقراء العرب يحتاجون إلى التنوير الغربي لعقولهم الشرقية، ولو قرأوا كتاب الأمهات لبريفولد، وكذلك كتاب العلم في التاريخ لبرنال، لتغيرت الدنيا أمامهم.

  • ما هي نهضتنا؟

  • ما هي القيم التي ننشدها؟

  • ما هي الرؤيا التي نحب أن نراها لبلادنا بعد عشر سنوات أو مئة سنة؟

  • هل هي رؤيا الحجاب للمرأة؟

  • هل هي رؤيا أدب أبي نواس وروميو وجولييت؟

  • هل هي رؤيا القيود والحدود للفكر البشري؟ هذا يجاز فيه التفكير وهذا لا يجاز فيه؟

إن الذهن العربي في حاجة إلى أن يتغير، أي: إلى أن يتطور.

إن قلب إفريقيا الأسود يتغير في عصرنا، حتى إن الناهضين في مستعمرات بلجيكا وفرنسا وبريطانيا يسمون أنفسهم «متطورين»، وهم يفهمون من هذا الوصف أنهم قد تغيروا وأنهم دائبون في التغير والبعد عن الجمود.

ولو أننا كنا متطورين لما كان يمكن أن يفكر أحد منا في محاكمة «الشيخ بخيت»؛ لأن له رأيًّا خالف الكثرة، ولو كنا متطورين لما كانت هذه المناقشة بشأن المفاضلة بين العلم والأدب، ولو كنا متطورين لكان لنا نساء قاضيات ونائبات …

ولو أن فكرة التطور كانت تسود العقلية العربية، ولو أن كتب العلم، من داروين — وداروين خطير هنا — إلى برنال إلى فريزر إلى بريفولد، كانت منشورة تقرأ وتناقش، لما وصلنا إلى هذه الحال الأسيفة من جمود، بل تعفن الذهن.

وأي شيء أكبر دلالة على تعفن الذهن من أن تؤلف لأبي نواس، وعنه، نحو عشرة كتب، ثم نقول بعد ذلك: إننا لسنا في حاجة إلى العلم؟ وإنما نحن في حاجة إلى الأدب؟ وأي أدب؟ أدب روميو وجولييت وماكبث وهامليت.

اذكروا يا ناس هذا الدق لأبوابنا في غزة، إننا لا نحتاج إلى مسرحيات شكسبير، ولا نحتاج إلى تقييد الفكر، وإنما نحتاج إلى إنشاء كليات لدروس العلوم.

ونحتاج إلى ترجمة مئة كتاب في العلوم والمناهج العلمية … إني أخاف على وطني …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤