الفصل الأول

هناك أمر على جانب كبير من الأهمية، وهو أن دستويفسكي أحبَّ وللمرة الأولى امرأةً مريضة، منهكة القوى، انهالت عليها الحياة بالضربة تلو الأخرى. امرأة فقيرة معدِمة، كُتب عليها الجنون والموت.

وللأسف، فإن كافة المراحل المضنية التي مرَّ بها هذا الحب الأولى لدستويفسكي لا يمكن تقديمها بصورة كاملة. يبدو أن الخطابات المسهبة التي كتبها دستويفسكي من سيميبالاتينسك إلى كوزنيتسك قد ضاعت إلى الأبد. يذكر فرانجيل أن هذه الخطابات كانت تملأ كراسات كاملة.

إن الظروف القاسية التي عاشتها ماريا ديمترييفنا، وما عانته من أحداث درامية وفَقْد، لم تكن لتسمح لها أن تتعامل بقدرٍ كافٍ من الاهتمام بهذه الخطابات والمذكرات، التي ضاعت بداهةً في ركن سحيق في سيبيريا.

figure
مارينا ديمترييفنا إيسايفا؛ الزوجة الأولى لدستويفسكي.

إن الجانب الهام والعميق من القصة المأساوية لحب دستويفسكي الأول، التي كتبها في اعترافاته المطوَّلة، لم تصل إلينا. وسوف يكون علينا أن نُقيِّم فصولها الضائعة استنادًا إلى المعلومات غير المباشرة.

على أية حال، فإن صورة ماريا ديمترييفنا، والعديد من مشاهد هذه العلاقة العاطفية، قد انعكست بشكل واضح وجاد في إبداع دستويفسكي. نجدها في رواية «مُذلُّون ومُهانون» في الحب المتفاني لبطل الرواية المستعد للتضحية بمشاعره من أجل سعادة شخصَين آخرَين. إن هذه المشاهد تنقُل إلينا بوضوح جانبًا من غرام دستويفسكي في سيبيريا.

وفي «الجريمة والعقاب» يُقدِّم نموذجُ كاترينا إيفانوفنا صورةً طبق الأصل من ماريا ديمترييفنا، لينبعث معها مصيرها كله. إن مشهد وفاة زوجة مارميلادوف قد كُتب تحت انطباع الحزن على الزوجة الأولى لدستويفسكي، بل إننا نجد أيضًا بعض العبارات التي تُذكِّرنا بوصف هذا الحادث الحزين كما وردت في خطابات دستويفسكي.

إن المظهر الخارجي لماريا ديمترييفنا في لحظة تعرُّفها على دستويفسكي؛ أي قبل عشر سنوات من موتها، يتميَّز بقدرٍ كبيرٍ من الجاذبية. آنذاك كانت تبلغ من العمر ستةً أو سبعةً وعشرين عامًا، إذا كان سنها قد أُشير إليه بشكل صحيح في خطاب دستويفسكي إلى شقيقته في عام ١٨٥٧م: «أبلغ من العمر خمسةً وثلاثين عامًا، بينما تبلغ هي تسعةً وعشرين.»

ويصفها فرانجيل بأنها: «حسناء ذهبية الشعر، متوسطة القامة، نحيفة للغاية، شديدة الحساسية، مندفعة. آنذاك كانت هذه الحُمرة المشئومة تداعب وجهها الشاحب، ليذهب بها مرض السُّل بعد بضع سنوات إلى القبر. كانت امرأةً واسعة الاطلاع، تلقَّت تعليمًا جيدًا، وكانت محبةً للمعرفة، طيبةً محبة للحياة بشكل استثنائي، كما كانت سريعة التأثر والانفعال.»

وقد التقاها الناقد ن. ستراخوف على نحوٍ عابر في بطرسبورج، وتركت لديه انطباعًا طيبًا بشحوبها ورِقة ملامحها، على الرغم من أنه كان من الواضح إصابتها بمرض مميت.

هذه الطبيعة الحساسة المندفعة هي ذاتها التي أسرت دستويفسكي على الفور.

ها هو دستويفسكي يصف بنفسه قصة علاقتهما في خطابه إلى شقيقته في عام ١٨٥٧م: «بعد أن عدت في عام ١٨٥٤م من أومسك إلى سيميبالاتينسك، تعرَّفت على مُوظَّف يُقيم هنا هو وزوجته. الرجل من روسيا، يتمتَّع بالذكاء والطيبة، مثقف، وقد أحببته كأخٍ … كان عاطلًا، ولكنه كان ينتظر أن يُلحقوه مرةً أخرى بالخدمة. كان لديه زوجة وابن. أمَّا زوجته فهي ماريا ديمترييفنا إيسايفا. ما تزال في ريعان الصبا، وقد استقبلاني كأني واحد من أقاربهم. وفي النهاية، وبعد عناء طويل، حصل على عمل في مدينة كوزنيتسك من أعمال محافظة تومسكايا، وهي تبعد عن سيميبالاتينسك سبعمائة فرسخ. ودَّعتهم، وكان الفراق أكثر وطأةً على نفسي من فقدان الحياة نفسها.»

حاشية: حدث ذلك في مايو عام ١٨٥٥م. ولست أُبالغ هنا. بعد وصوله إلى كوزنيتسك، مرض إيسايف فجأة، ثم وافته المنية تاركًا زوجةً وابنًا دون قرش واحد، وحيدة في بلدة غريبة، دون مساعدة، وفي حالة مزرية. ما إن عَرفتُ بذلك (وكنا نتراسل)، حتى اهتممت بالأمر وأرسلت لها نقودًا في أقرب فرصة. كم كنت سعيدًا عندما علمت بتسلُّمها النقود! وأخيرًا استطاعت أن تكتب لأهلها ولأبيها. كان أبوها يعيش في أستراخان ويحتل وظيفةً هامة (مدير الحجر الصحي). كان صاحب رتبة رفيعة ويتقاضى راتبًا كبيرًا، لكن الرجل كانت لديه ثلاث فتيات وأبناء يخدمون في الحرس. كانت كنيته كونستان. وهو حفيد لمهاجر فرنسي شارك في الثورة الأولى، نبيل، جاء إلى روسيا واستقرَّ فيها، أمَّا أبناؤه فهم روس من جهة الأم. ماريا ديمترييفنا هي الابنة الكبرى، وكان والدها يُفضِّلها على الجميع.

صديقتي العزيزة، أكتب إليك تفصيلًا، لكنني لم أكتب إليك الأهم. إنني أهيم بهذه المرأة منذ زمن بعيد إلى درجة الجنون، أُحبها أكثر من حياتي. لو أنك عرفت هذا الملاك، لَمَا أخذتك الدهشة. إنها تمتلك خِصالًا رائعة؛ ذكية، رقيقة، مثقفة، مثال نادر من النساء المثقفات مع شيء من الوداعة، تُدرك ما عليها من واجبات، مُتدينة. لقد رأيتها في لحظات الشقاء عندما كان زوجها عاطلًا عن العمل. لا أريد أن أصف لك ما كانا عليه من ضَنك. ليتك رأيت على أي نحو من نكران الذات وقوة التحمل واجهت به هذه المرأة هذه التعاسة التي يمكن أن نصفها تمامًا بالبؤس. إن مصيرها الآن بشع؛ إنها تعيش في كوزنيتسك، حيث تُوفي زوجها. يعلم الله من يحيط بها وهي الأرملة اليتيمة بكل معنى الكلمة. بالطبع كان حبي لها سرًّا لم أُصرِّح به.

لقد أحبَّت ألكسندر إيفانوفيتش، زوجها، مثل أخ، ولكنها، بعقلها وقلبها، لم تستطع أن تفهم حبي لها، لم تُخمِّن ذلك. والآن هي امرأة حرة (بعد وفاة زوجها منذ عام ونصف العام)، وعندما رُقِّيتُ إلى درجة ضابط، كان أول ما فعلت أن عرضت عليها الزواج. إنها تعرفني، تُحبني وتحترمني. ومنذ أن افترقنا ظَلِلنا نتبادل الخطابات. وافقَت وقالت «نعم»، وإذا لم تقع أحداث طارئة … فإننا سنتزوَّج قبل ١٥ فبراير؛ أي قُبيل عيد الرماد. صديقتي العزيزة، أختي الحبيبة، لا تغضبي، لا تغتمي ولا تنسيني، ليس هناك شيء أفضل لأفعله …»

لكن هذا المديح الحماسي الذي كاله دستويفسكي لماريا ديمترييفنا إيسايفا في خطابه لأقاربه، كان عليه أن يتراجع عنه في مراسلاته مع فرانجيل. لقد اتخذت العلاقات المتبادلة بين فيودور ميخايلوفيتش وزوجة المستقبل على الفور منحًى خاطئًا، وأصبح كل منهما مصدر عذاب للآخر. يقول فرانجيل: لقد أبدت مشاعر العطف الدافئ نحو دستويفسكي. كانت تعامله بلطف. لا أظن أنها كانت تعرف قدره بعمق. الأمر ببساطة أنها كانت تعطف على شخص تعيس ظَلَمه القدر. ربما تكون قد تعلَّقت به، لكنها لم تقع في حبه بأي شكل من الأشكال. كانت تعلم أنه مصاب بداء الصَّرَع، وأنه في أمَسِّ الحاجة إلى المال، وأنه كما قالت: «رجل بلا مستقبل.» أمَّا فيودور ميخايلوفيتش فقد رأى في شعور العطف والأسى حبًّا متبادلًا، وراح يُحبها بكل ما في الشباب من حمية.

غير أن دستويفسكي سرعان ما شعر باليأس؛ لأن ماريا ديمترييفنا لا تبادله حبًّا بحب، فعندما نُقل إيسايف إلى كوزنيتسك، على بُعد ٥٠٠ فرسخ من سيميبالاتينسك، وقع دستويفسكي فريسةً لليأس العميق. يشكو دستويفسكي حاله لفرانجيل قائلًا: «لقد وافقَت على السفر. لم تعترض، وهذا أمر شائن!»

عندما حانت لحظة الفراق راح يبكي بكاءً مُرًّا مثل طفل، وعندما اختفى عن ناظريه رَكبُ المسافرين، ظل واقفًا كالمُقيَّد بالأغلال، متابعًا إياهم ودموعه تنهمر على خده.

لقد ظهرت هناك خطابات أكثر إيلامًا من العلاقات الشخصية. لم تتوقَّف ماريا ديمترييفنا عن تعذيب دستويفسكي وهي بعيدة عنه، وهي تجأر بالشكوى من الفقر والمرض، ومن الحالة المحزنة التي وصل إليها زوجها، ومن المستقبل البائس. لكن أكثر ما أثار الاضطراب والعذاب عند دستويفسكي هو شكوى مراسلته من الوحدة التي لا تُحتمل، وحاجتها إلى شخص ما يُفرِّج همها.

آنذاك بدأ التلميح أكثر حماسًا حول اسم صديق جديد في كوزنتيسك؛ «مدرس شاب لطيف»، يمتلك خصالًا نادرة و«روحًا سامية»، هنا سقط دستويفسكي في كآبة نهائية، راح يمشي كالظل، بل وأهمل رواية «مذكرات من البيت الميت»، التي كان منشغلًا بالعمل على إتمامها في تلك الفترة بكل ولع. وعندما عاتبه فرانجيل على ذلك ردَّ عليه قائلًا: «كتبت لي تقول إنني أتكاسل عن العمل. أبدًا يا صديقي، لكن علاقتي بماريا ديمترييفنا قد شغلتني كليةً في العامَين الأخيرَين. كنت أعيش، وإن كنت أعاني، لكنني، على أقل تقدير، كنت أعيش!»

في شهر أغسطس من عام ١٨٥٥م، تلقَّى دستويفسكي خطابًا من ماريا ديمترييفنا يفيد أن زوجها قد تُوفي. وأخبرته أن إيسايف قد مات في ظروف قاسية لا تُحتمل، وأن ابنها قد جُن من البكاء واليأس، وأنها تتعذَّب من الأرق ومن نوبات حادة من المرض. ثم حكت له أنها دفنت زوجها بنقود اقترضتها من أغراب، وأنه لم يتبقَّ لديها شيء سوى الديون، وأن شخصًا ما أرسل إليها ثلاثة روبلات: «لقد دفعتني الحاجة لأن أقبل … وقبلت … الإحسان …»

انكبَّ دستويفسكي بكل كِيانه في تدبير الأمور المتعلِّقة بمصير ماريا ديمترييفنا. حصل على مال من فرانجيل. سعى ليلحق باشا إيسايف بالجيش. بذل ما في وسعه بتضحية بطولية، وكان على استعداد أن يجثو على ركبتَيه «ليتسوَّل من أجل منافسه المدرسي من كوزنيتسك، الذي تحمل له ماريا ديمترييفنا مودةً عميقة (يقول فرانجيل عن هذا المدرس إنه «شخصية تافهة»).

لكن كل ذلك لم يُفلح، كما يبدو، في أن يعيد عاطفة ماريا ديمترييفنا الودية نحو دستويفسكي. بعد عام تقريبًا من وفاة إيسايف، في صيف ١٨٥٦م، يرسل دستويفسكي خطابات إلى فرانجيل تفيض باليأس: «أشعر وكأن بي مسًّا من الجنون … لقد مضى الأمر!» «أحوالي سيئة للغاية، أنا في يأس تام. يصعب أن تتصوَّر ما عانيته من شقاء.» وفي خطابه المؤرَّخ الحادي والعشرين من يوليو يقول: «أخشى أن تتزوَّج، وعندها قد أُلقي بنفسي في الماء أو أغرق في الشراب.»

بحلول شتاء عام ١٨٥٧م فقط؛ أي بعد مرور عام ونصف على وفاة إيسايف، إذا بالأمور تسير أخيرًا لصالح دستويفسكي. وإلى هذه الفترة يعود خطابه الذي أرسله إلى فرانجيل حول زواجه المقبل. وأخيرًا وبعد طول انتظار للسعادة، يغلق دستويفسكي عينَيه عن الماضي كله. يكتب دستويفسكي في خطابه مُطَمئنًا نفسه من جرَّاء الذكريات التي عذَّبته من منافسه غير بعيد: «إنها تحبني، أعرف ذلك يقينًا.»

وفي سياق حديثه إلى فرانجيل عن هذا الجزء المظلم من قصته الغرامية يقول: «سوف تتخلَّى عن حبها الجديد.»

لكن دستويفسكي لم يجد بطبيعة الحال سعادته المرجوَّة في هذا الزواج. ها هو فرانجيل يحدِّد الملمح الرئيسي في العلاقات التالية: «كانت ماريا ديمترييفنا تعاني دومًا من المرض، تجتاحها نوبات من الجموح والغيرة.»

كانت دراما الغيرة قد بدأت قبل ذلك في سيميبالاتينسك، على أثرها تفكَّكت الصداقة الأسرية تمامًا.

كانت ماريا ديمترييفنا تشعر بالشك العدواني تجاه عائلة زوجها باعتبارها قريبة مريضة وفقيرة، وكان وسواس الكراهية يدفعها للتعامل مع العائلة بكل ما تملك من هياج وحقد. ظلَّت طوال حياتها تعتقد أن ميخائيل ميخايلوفيتش عدو غامض، ولم تُظهر رغبتها في التصالح معه إلا وهي على حافة القبر.

في غضون ذلك كان المرض يزداد حدة، وسرعان ما انعكس انتقالها إلى بطرسبورج للإقامة الدائمة بها على تطوُّر مرض السل الرئوي. وفي شتاء عام ١٨٦٣–١٨٦٤م، اضطُر الزوجان دستويفسكي إلى اتخاذ موسكو مقرًّا لإقامتهما بسبب الضعف الشديد الذي أصاب ماريا ديمترييفنا. وبدءًا من فصل الربيع ازدادت حدة المرض، وفي منتصف شهر أبريل أرسل دستويفسكي خطابًا إلى أخيه يقول فيه: «بالأمس داهمت ماريا ديمترييفنا نوبة حاسمة؛ تفجَّر الدم من حلقها وأغرق صدرها، وراح يخنقها …»

وفي اليوم التالي، السادس عشر من أبريل من عام ١٨٦٤م، جاءت خاتمة قصة حب دستويفسكي المؤلمة؛ ماتت ماريا ديمترييفنا. فيما بعدُ يكتب دستويفسكي قائلًا: «أحبَّتني بلا حدود، وأنا أحببتها أيضًا بلا حدود، ولكنني لم أكن سعيدًا معها … وعلى الرغم من أننا كُنا تعيسَين معًا بشكل مطلق، بسبب شكوكها وطبعها المرضي العجيب، فإننا لم نستطع أن نتوقَّف عن حب كلٍّ منا للآخر، بل كلما ازداد بؤسنا، ازداد تعلُّقنا كلٌّ بالآخر.»

في نفس يوم وفاة زوجته، يخط دستويفسكي وهو أمام جثتها الهامدة بضعة تأمُّلات في دفتر مذكراته حول فكرة الحب والزواج، حول رسالة كل شخص على الأرض: «١٦ أبريل. ماشا ترقد على الطاولة. تُرى هل سألتقي بماشا مرةً أخرى؟

أن تحب إنسانًا قدر حبك لنفسك، وفقًا لوصايا المسيح، أمر مستحيل. قانون الفرد يشد الإنسان إلى الأرض والأنا تعوقه، ومع ذلك فالمسيح وحده استطاع ذلك، لكن المسيح كان خالدًا. إنه المثال الذي نسعى إليه وينبغي، بِناءً على قانون الطبيعة، أن يسعى إليه الإنسان … إن السعادة العظمى هي في أن يهَب الإنسان نفسه كاملةً لجميع الناس ولكل شخص وبكل تفانٍ.

على هذا النحو فإن قانون الأنا يندمج مع قانون الإنسانية وفي اندماجها، أنا والجميع (وهما يبدوان طرفَي نقيض)، وبشكل متبادل، يُضحِّي كل واحد من أجل الآخر، وفي الوقت نفسه يبلغان أيضًا الهدف الأسمى للتطور الفردي لكل منهما.

هذا ما يمكن أن نسميه بجنة المسيح. إن التاريخ كله، سواء تاريخ البشرية، أو جزئيًّا تاريخ كل فرد على حدة، ليس سوى التطور، الصراع، السعي وتحقيق الهدف …

وهكذا فإن الإنسان يسعى على الأرض نحو المثال المناقض لطبيعته. عندما لا يُحقِّق الإنسان قانون السعي نحو المثال؛ أي عندما لا يُضحِّي بذاته من أجل الناس، من أجل كائن آخر (أنَّا وماشا)، فإنه يشعر بالمعاناة، ويُسمِّي هذه الحالة بالذنب. وهكذا فإن على الإنسان أن يشعر دائمًا (دون انقطاع) بالمعاناة التي تتساوى ونعيم الجنة، تنفيذ العهد، التضحية.

هذا هو التوازن الأرضي، وإلا ستصبح الحياة على الأرض بلا معنًى …»

بعد عام ونصف ينقُل دستويفسكي ما تبقَّى في ذاكرته الإبداعية عن رفيقة حياته الأولى ليضعه في شخصية كاترينا إيفانوفنا مارميلادوفا في رواية «الجريمة والعقاب»، ليكون مصير وشخصية صديقه مارميلادوفا الكثير من الظروف التي مرَّت في سيرة حياة زوجته الأولى؛ الشباب اللامبالي، الزواج من سكير مدمن، «العفو اليائس»، تطور حدة مرض السل الرئوي، نوبات الغضب ثم شلالات من دموع الندم؛ كلها سمات كاترينا إيفانوفنا المأخوذة من طبيعة عَرَفها الكاتب عن قرب ليُجسِّدها مستخدمًا السبك الفني للمادة الواقعية الخام.

لقد استخدم دستويفسكي عند وضعه لهذه الشخصية بعض لمسات أيضًا من خطابات كوزنيتسك التي كتبتها ماريا ديمترييفنا؛ فيوم وفاة كاترينا إيفانوفنا مارميلادوفا تتلقَّى «صدقة» مقدارها ثلاثة روبلات، بل إن دستويفسكي استخدم سمات زوجته الأولى في الفترة التي سبقت وفاتها ليضعها في المظهر الخارجي لبطلته:

«هي امرأة نحيلة نحولًا رهيبًا، دقيقة القسمات، طويلة القامة، حسنة الهيئة، لها شعر رائع كستنائي اللون، على خدَّيها بقعتان حمراوان فعلًا. إنها تسير في الغرفة طولًا وعرضًا، وقد شدَّت يدَيها إلى صدرها تضغطه بهما، وكانت أنفاسها قصيرةً مُقطَّعة، وكانت عيناها تسطعان ببريق محموم، ولكن نظرتها حادة ثابتة. إن هذا الوجه الذي الْتهمه مرض السل يُحدِث مرآه على ضوء الشمعة الصغيرة الذائبة أثرًا أليمًا في النفس.»

على هذا النحو يتذكَّر دستويفسكي رفيقته الأولى في الحياة. وعلى طريقة رامبرندنت يرسم دستويفسكي الضوء في شفق بطرسبورج في تلاعب الظلال الكثيفة العابرة، التي راحت تتجمَّع على خدَّيها الشاحبَين لتبرز عينَين ثابتتَين محمومتَين؛ إنه وجهُ معذَّبة عظيمة ترزح تحت وطأة الحياة، وبهذه الألوان القاتمة صوَّر دستويفسكي لوحة لقبر صديقته المسلولة.

في حديث شخصي دار بيني وبين أنَّا جريجوريفنا دستويفسكايا، أخبرتني ببعض المعلومات الإضافية عن الزواج الأول دستويفسكي: «لقد أحبَّ فيودور ميخايلوفيتش زوجته الأولى بقوة؛ لأنه أول شعور حقيقي له في الحياة؛ فقد مرَّ شبابه كله في العمل الأدبي. وتحت انطباع نجاحه الأول المدوي، استغرقته الكتابة تمامًا، ولم يكن لديه وقت ليقيم أي علاقة غرامية حقيقية. أمَّا ولعه ببانايفا فكان أمرًا عابرًا لا يؤخذ في الحسبان. على أن الأمر مع ماريا ديمترييفنا قد جرى على نحو مختلف.»

لقد كان شعورًا جارفًا بكل ما فيه من أفراح وأتراح. في سنواتها الأخيرة: «كان للمرض الذي اشتدَّت حِدته على الراحلة أثر خاص على ما أحاط علاقتهما من عذاب.»

لقد عرفت من الأطباء الذين كانوا يتولَّون علاج ماريا ديمترييفنا أنها عند اقتراب نهايتها لم تكن في حالة نفسية سوية على الإطلاق. كانت تنتابها حالات غريبة من الهلاوس، وأحيانًا ما كانت تبدأ فجأةً في الغمغمة قائلة: «الشياطين، ها هي الشياطين!» ولم تكن تهدأ إلا بعد أن يقوم الطبيب بفتح النافذة متظاهرًا بطرد الشياطين من الغرفة.»١
١  تقدَّم ليوبوف دستويفسكايا ابنة دستويفسكي في كتابها معلومات تتناقض مع ما ذكرته أنَّا جريجوريفنا عن ماريا إيسايفا، وكذلك عمَّا ذكره دستويفسكي نفسه عن زوجته الأولى: «كانت أكثر مَن عرفتهم من النساء في حياتي إخلاصًا ونبلًا وسماحة …» «لا يمكنني أن أتصوَّر إلى أي حد أصبحت حياتي فارغةً مؤلمة بعد أن ووريت الثرى»، «ها هو عام قد مضى، ولم تتضاءل مشاعري تجاهها …» (خطاب دستويفسكي إلى فرانجيل ٣٠ مارس ١٨٦٥م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤