الفصل الرابع

العربي في الحي اللاتيني

لعل قصة «الحي اللاتيني» للكاتب اللبناني الدكتور سهيل إدريس من أهم الأعمال الفنية في الأدب العربي الحديث التي ناقشت موضوع اللقاء بين الرجل الشرقي والحضارة الأوروبية، في غير قليل من الإسهاب والتعمُّق. بل ربما كانت التجربة الإنسانية في هذه القصة من أكبر التجارب التي أخلصت في التعبير عن هذا اللقاء من خلال العلاقة بين الرجل والمرأة.

ودراستنا هذه ليست فصلًا عن فن الرواية عند سهيل إدريس، أو حتى الجنس في أعمال هذا الكاتب، بل هي تستهدف أساسًا البحث عن طبيعة ذلك اللقاء الهام بين العربي والحي اللاتيني، أو بين الرجل في بلادنا، والحضارة الأوروبية. لذا نحن لسنا بحاجة إلى دراسة الجنس في بقية أعمال الدكتور سهيل، رغم عمرانها بمادة هذا الموضوع، كما أننا لن نتطرق إلى جميع جوانب «الحي اللاتيني»؛ إذ ما يعنينا في دراستنا هو ما تشتمل عليه من اصطدام مباشر بين حضارتنا والحضارة الغربية، مرموزًا إلى ذلك بالعلاقة البدنية الحميمة بين الشاب اللبناني والمرأة الفرنسية.

•••

ولقد صدرت القصة عام ١٩٥٤م في تلك المرحلة المليئة بالأحداث العربية، والتي تتخذ فيها تلك الأحداث وجه العداء الخالص للاستعمار الأوروبي والأمريكي، وهما قمة الحضارة الأوربية في عصرنا … ومن خلال الصراع السياسي والاقتصادي بيننا وبين الغرب، يتبلور صراعنا الحضاري الكبير بين أمتنا العربية التي ما تزال في دور التكامل والتكوين، وبين كافة أشكال التخلُّف الماثلة في الأنظمة الاجتماعية الرجعية على النطاق المحلي، وأنظمة القهر الأجنبي العالمية.

وليس شكٌّ أن التفاعل بيننا وبين العالم لم ينقطع في أية مرحلة من التاريخ، ولكن هذا التفاعل منذ حوالي نصف قرن أو يزيد قليلًا، اتَّخذ لنفسه مسارًا آخَر ومعدَّلًا أسرع. وقد شهدت الخمسون سنة الأخيرة في المنطقة العربية، لحظاتٍ عصيبةً دامية كانت إرهاصًا واضحًا لأزمة الضمير العربي المعاصر. ومن العناصر الأساسية في هذه الأزمة التخلُّف الحضاري البالغ الضراوة والعنف الذي ما يزال يجثم على واقعنا الحديث بكلِّ إمكانيات التقهقر والتعويق. ورغم أننا نستحدث كلَّ لحظة في حياتنا اليومية ما تصل إليه منجزات العلم والتكنيك، بل والأنظمة الاجتماعية المتقدِّمة نسبيًّا، فإننا في الوقت نفسه نغطُّ في وهاد عميقة من النوم والموت بين أحضان الجثث العفِنة من القيم الوراثية القديمة. هذا العنصر في أزمتنا يشكِّل تناقضًا خطيرًا بين ثورية المرحلة الراهنة في حضارتنا العربية وتقدُّميتها من جانب، وبين توابيت أثرية مليئة بالمومياوات الروحية التي تبهر أنظار السياح من المرضى والمستشرقين الأجانب؛ لكونها ما تزال باقية في دنيانا منذ آلاف السنين. هذا التناقض في حياتنا اليوم ليس إلا واحدًا من التناقضات العديدة رغم خطورتها، والتي تدور في فلك التناقض الأكبر بيننا وبين الوجه الاستعماري للحضارة الغربية.

وكان من السهل اليسير، أن نقول بأن الحي اللاتيني تسجيل تاريخي أمين لإحدى مراحل تطوُّر التناقض بيننا وبين الغرب … ففيها يفترق فؤاد عن فرنسواز — وهما شخصيتان ثانويتان رغم أهميتهما لأن كلَيهما مختلفان من حيث موقف فرنسا في شمال أفريقيا: فؤاد تغلي دماؤه العربية غضبًا من الموقف الفرنسي، وفرانسواز تنزعج كثيرًا من الموقف العربي. وفيها يتفق بطل القصة مع جانين مونترو في موقف واحد إزاء هذه القضية. بينما هناك الكثيرون من الطلاب العرب الذين حاربوا الرابطة التي كوَّنها فؤاد وصبحي وأحمد وبقية الأصدقاء لدعم الفكرة العربية — أقول بصدد ذلك كله: إنه كان يمكن القول بأن القصة تسجيل صادق لفترةٍ ما من فترات الصراع بين الشرق العربي والغرب الأوروبي.

وما كنا نستطيع كذلك أن نستطرد في استنتاجنا من الرواية، بأنها تلخيص لموقف الرجل العربي من المرأة عمومًا في تلك المرحلة التاريخية التي تتسم بالتحول والتغير والانصهار. ولن نعدم حينذاك أن نستشهد بعشرات النماذج والأمثلة على طبيعة الشد والجذب في وجدان البطل بين «مثال» المرأة الذي صوَّره خياله من صفحات الكتب وحكايات الأصدقاء وأفلام السينما، و«واقعها» الذي عاشه مع مشروع خطيبته ناهدة، في بيروت، وليليان ومارجريت وجانين في باريس.

ولكنا — في جميع أوهامنا وتصوراتنا — لن نصل إلى أن المحور الرئيسي في القصة هو عقدة أوديب (كما قال الدكتور أحمد كمال زكي)، أو هو النزعة النرجسية عند البطل (كما أكد الأستاذ نجيب سرور).١ ذلك أنَّ الفكرة الأولى لا تستند إلى دليل واحد، والفكرة الثانية تخلط بين الإحساس المفرط بالذات، ومحاولة اكتشاف هذه الذات. ولولا هذا الخلط لاستطعنا أن نضع أيدينا بالفعل على مفتاح الحي اللاتيني.

محاولة اكتشاف الذات، سلسلة متَّصلة الحلقات من نضال الإنسان العربي ضدَّ كافَّة القوى الذاتية والموضوعية لاكتشاف ذاته الحضارية. ولكن هذا النضال — منذ أكثر من عشر سنوات — اكتسب الكثير من مؤهلات الحضارة الأوربية ومكتسباتها العقلية في محاولة فك الرموز وحل الطلاسم المحيطة بمجاهل ذاته وأغوارها. لذلك يخاطب بطل الحي اللاتيني نفسه «ينبغي أن تتعذَّب، أن تصهرك المِحَن إذا شئتَ أن يكون لحياتك معنًى» (ص١٣، ١٤). هذا هو الهدف الكبير الذي يرافقه منذ البداية منذ غادر ميناء بيروت في طريقه إلى باريس. ولقد تعرَّض هذا الهدف لتجسيدات عديدة، الْتوَت وتعقَّدت وانبسطت حسب التعاريج والمنحنيات التي صادفت رحلته في خضمِّ الحضارة الأوروبية المضطربة بشتى ألوان الثورات الأدبية والفنية والعلمية والفلسفية، هذه الثورات التي تتجمَّد أخيرًا في بؤرة باردة من التفسُّخ الحضاري، كإحدى النتائج المعنوية للحروب العالمية الساخنة والباردة وانعكاساتها على الإنسان الأوروبي. فهو ينظر: «مقابل الفندق، عند زاوية الباب الكبير شبحان معتنقان، يتحرَّكان بين لحظة ولحظة فينفصلان، ثم يلتصقان دون نأمة. ظِلَّان أسودان ينصهران ظِلًّا واحدًا بين لحظة ولحظة» (١٨). كان هذا المشهد انقلابًا تاريخيًّا في خياله الذي جاوزت أسلاكه المكهربة بالحرمان والكبت والرغبة حدود شرقه العربي، وامتدَّت عَبْر آلاف الأميال إلى جنة أوروبا، حيث حوريات باريس. ولكن هذا الخيال لم يصِل يومًا إلى تفاصيل ذلك المشهد في زاوية الباب الكبير، فراح هو وزملاؤه يحدِّقون في الظِّل الأسود البعيد المنصهر عن ظِلَّين اثنين!

وحقًّا هو يؤكد هدفه من الحياة، أو غاية وجوده — كما يقول — في دراسة الأدب العربي تارة، وفكرة الرابطة العربية للطلبة تارة أخرى، ويقرض الشعر في أوقات الفراغ تارة ثالثة. إلا أن هذه جميعًا كانت بمثابة الحواشي بالنسبة للحنين الجارف بين ضلوعه لخوض تجربة عميقة مع المرأة هنا … في قلب باريس! وعندما أضع خطًّا تحت كلمة «تجربة عميقة» فإنما أقصد إلى تأكيد ذلك المعنى الرابض في جميع أبعاد الشخصية؛ إذ إن تجاربه السابقة مع جانين لم ترتفع إلى مستوى «المثال» الراقد في أعماقه، إلى مستوى الدلالة الحقيقية للمرأة كما عايشها في ذلك الجزء الخفي من نفسه، عن عيون الأهل والمجتمع والضمير الشرقي والقِيَم الرَّثَّة المُهلهَلة. كلا … إنه لم يستشعر أية نبضات خافقة في وجدانه نحو سيمون وجانيت وسوزان وهيلين وزينة، حين الْتَقى بهنَّ بين جدران البيت اللبناني، لم يحسَّ وزينة تدخل غرفة الطعام حيث يوجد أحد أصدقائه ثم تغلق من خلفها الباب، ويسمع بعد لحظات صرير القفل، لم يحس بأن هذه العلاقة بين أصدقائه وصديقاتهن، تتقارب بين علاقته المرموقة، علاقته التي يستمد من ضرامها وقودًا لتحقيق الذات، أو لاكتشافها، لتعيين غاية وجوده، أو لتحقيق هذه الغاية. لهذا يحترم علاقة فؤاد بفرنسواز، ولا يقارن بينها وبين علاقته بجانين مطلقًا. إنه لا يقيم شبهًا بين حياته، وحياة عدنان أو صبحي، فالأول يرزح تحت أغلال الطمأنينة الواهمة في أحضان الدِّين، والآخَر يرزح تحت أغلال الشهوة العاجلة في أحضان أقرب امرأة.

وهو يبحث عن نفسه في إطار برج بابل العربي أو الجوقة الموسيقية العربية، كما اتَّصفت اجتماعات زملائه المصريين والعراقيين والتونسيين والجزائريين، غير أنه يبحث عن نفسه في طريق خاص مستقل، يمنح الوجود الإنساني للفرد نكهة خاصة، نكهة بعيدة تمامًا عن رائحة العمامة التي يرتديها عدنان من الداخل والتي كان يرتديها بطل «الخندق الغميق»٢ من الخارج … إن هذه العمامة تطمس وجوده في طوفان السلف، ومن ثَم تسلب وجوده من ذاته؛ لأن هذه الذات تصبح مشاعًا لوجود سابق على وجوده، لوجود غير موجود، أي إنها تصبح والعدم سواء. ومن هنا تكون علاقته بالمرأة هي علاقة الدمية بصانع الدمى الذي لا يفضلها حالًا، لأنها علاقة ميكانيكية بين جمادات يحرِّكها جماد آخَر هو «زر» الشرائع والنواميس التي اخترعها أناس مثلنا لأنفسهم منذ قرون سحيقة. إنه لا يريد أن يرتدي عمامة عدنان، من الداخل فقد خلعها سامي — مع التجاوز التاريخي — في «الخندق العميق»، وهو الامتداد الأكثر تطوُّرًا لسامي، إن هذه العمامة — في مرآة اللاشعور — تنهب السمة الوحيدة التي يتميَّز بها الإنسان الفرد عند ولادته، وهو أنه ذات جديدة متفردة، تتمثَّل خواص البشرية كلها، وتنفرد بكينونتها الخاصة المستقلة. وهو صاحبنا بطل الحي اللاتيني، يستهدف في المقام الأول أن يصوغ هذه الكينونة بالتحديد.

ولذلك فهو يرفض منهج صبحي في الحياة؛ لأنه إذا كانت عمامة عدنان تشيع وجوده بين جثث المقابر الشرقية، فإن صبحي يشيع وجوده أيضًا بين جثث النساء. المرأة في حياة صبحي تتمدَّد من داخله، فتبتلع كيانه ذرَّة ذرَّة، وتُهدِر كينونته، وتذيب مقدراته في نيران الجنس، فتفقد العلاقة إنسانيتها تحت وطأة الآلية المطلقة من الجانبين.

إن صبحي وعدنان، رد فعل سلبي إزاء الحضارة الأوروبية، لذلك فهما يتخبطان بين هوامش «المرأة» … بعكس فؤاد الذي كانت المرأة أخطر همومه فأصبحت أحد همومه … أما هو فيَودُّ لو تعمق هذا الكائن الرائع.

لماذا؟ لماذا تكون «المرأة» دون بقية ظواهر الحياة، هي «المحك» أو البوتقة التي يودُّ أن ينفذ من خلالها إلى جوهر الحياة ودلالتها العميقة؟ لأنها، هي المرأة، كانت الحائط الضخم الذي يَحُول بينه وبين الحياة. وفوق هذا الحائط عُلقت جميع توابيت الموتى، جميع القيم والأخلاقيات والمثاليات. من المرأة في بلاده ينبع معنى العار والخطيئة والشرف. وموقفه من هذه المعاني يحدِّد موقفه من المجتمع. وموقفه من المجتمع يحدِّد مكانه من الحياة … فأين كان هو من الحياة؟ كان يرقد في أحد أبهائها المريضة «يتخيَّل آلاف الصور لنساء عاريات، متمددات على السرر، أو يتعرَّف على صورة حية لامرأة شرقية تزيد حرمانه حرمانًا، وتملأ ذاته بمائة عُقدة، وتُمِيت فيه الثقة برجولته، أو أن تسعى إليها حيث تشعر تارة بالخوف من أن يراك مَن يعرفك، وتارة بالغربة الروحية مع امرأة لا تعطيك إلا جسدًا فيه برودة الثلج» (ص٣٠). ومن أعماق هذا الخيال المريض، تتكوَّن عناصر تجربته الرومانسية مع ناهدة … إنهما معًا يعيشان أزمة التناقض التاريخية في مجتمعنا العربي بين القيم القديمة والعلاقات الجديدة … ولهذا تتَّسم رومانسية الفتاة بالحزن والتشاؤم والكآبة، بينما تتَّسم رومانسية الفتى بالتمرُّد والمقاومة في الخيال والواقع، وفيما بين الخيال والواقع، إن الأزمة لا تتيح لناهدة سوى الاستسلام بين أنغام شوبان، بينما يتيح له هو السفر إلى باريس بمفرده، ونقوده وأحلامه!

وفي باريس تُرغمه التجربة الأولى أن يخلع ثيابه الرومانسية فورًا … لأن فتاة السينما التي خالها «زهرة نابضة بالطهر» (ص٣٧)، قد هزئت بهذه الثياب حين تركت له يدها في الظلام يبثها شوقه — أو شرفه — المحموم … ثم بادرها بالخروج «كأمير الأحلام» حتى تتلهف على موعده في اليوم التالي … ولكنها خيَّبَت آماله وظنونه، ونزعت عنه أول ثيابه الداخلية أو الشرقية؛ الرداء الرومانسي.

والتجربة الثانية قادته إلى الفندق مع إحدى فتيات الرصيف، وبين شفتَيه يتوسَّد شعاره الإقطاعي: «سأعصرها وأعصرها، ثم ألفظها كالنواة» (ص٤٧). «وحين همَّا بالافتراق بعد منتصف الليل، قالت له بمرح: أشهد أنك لطيف جدًّا، ولكني أعجب لشيء واحد؛ لماذا لم تنظر إليَّ طَوال هذه المدة؟ لماذا لم تتطلَّع في عيني؟ ألا يعجبك جمالي؟ وتذكَّرَ في تلك اللحظة أنه كان يتفادى حقًّا النظر إليها طَوال مكوثه معها، بالرغم ممَّا لمحه من جمال وجهها وجاذبيته. ورفع عينَيه إلى عينَيها. وسرعان ما أدرك لماذا كان يتفادى النظر إليها. كان في عينَيها بسمة، بسمة سمع صوتها بأذنَيه. بسمة كانت تقول: حقَّا يا صاحبي ما أشد ما تستحق الشفقة والرثاء!» (ص٤٧). إن التجربة الثانية لم تشهده عاريًا من الرداء الرومانسي، وإنما كانت المرآة التي التقطت صورته وهو يخلع ذاك الرداء. وجاءت صورة تدعو حقًّا إلى الرثاء عند فتاة رصيف، ولكنها تدعو في واقع الأمر إلى شيء آخَر أبعَد من نظر المومس الباريسية، إنها صورة المعاناة والتمزُّق ومرارة الاكتشاف الأول! أجل، فلقد كانت المرأة — وستظل — في حياته دائمًا الأداة الرئيسية في محاولته الضخمة، أو في مغامراته الكبرى لاكتشاف ذاته.

أمَّا التجربة الثالثة، فكانت ليليان صديقة أحد زملائه المسافرين إلى أرض الوطن. فتاة يبرق لسانها بالثقافة، وتتغنَّى شفتاها بالشِّعر، وتضحك عيناها من لا شيء. «ولم يكُن مضى على زميله الطائر ساعات عندما انقطع بينهما حديث الشعر، وتمتما بضع كلمات من النثر؛ ثم صمتت الشفاه والْتَقت. وحين أغلق الباب خلفها، أرسل زفرة طويلة. كان يشعر بضيق لا يدرك له تعليلًا إلا أنه غير راضٍ عن نفسه» (ص٦٨). والرضا عن النفس هنا لا يتَّصل بحال بما يفيد أمور الجسد، وإنما جاءت ليليان باستهزائها الشفوي والتطبيقي بزميله الطائر منذ ساعات لطمةً قاسية من سلسلة تجاربه مع المرأة. بل إنه اكتشف في الصباح أنها نسبت إلى نفسها إحدى قصائد جاك بريفير؛ إذ طالَعَ في ديوان لهذا الشاعر القصيدة التي ألقتها على مسامعه في الليلة السابقة على أنها من شِعرها. وكذلك لم تنسَ أن تضيف إلى سرقتها من الشاعر الفرنسي حافظة النقود الخاصة به هو الطالب اللبناني.

والتجربة الرابعة لم تستغرق لحظات … في بهو الفندق تعرَّف على مارجريت، أو تعرَّفت هي عليه بمعنًى أدَق … ولأول مرَّة كان جريئًا فرفض طلبًا لامرأة. فقد رفض أن يهديها تمثالًا لأعرابيين كان قد جلبه معه من بيروت رغم إلحاحها على الطلب، رغم عينَيها اللتين تحملان «كل أخطار الدنيا» كما يقول. وما جَرُؤ عليه بالفعل هو أن يغيب حواسها واحدة بعد الأخرى، حتى إذا دنت منه «شعرَ بصدره يخفق؛ إذ أحسَّ بشفتَيها تلامسان خدَّيه ملامسة رقيقة، وهما تهمسان: وشفتاي؟ فلم يجب لأن شفتَيها كانتا للتقبيل، للارتشاف، لإسالة الرضاب في الفم. كانتا ليُعانَق الجسم الذي يحملهما، ليُصهَر في الذراعَين، ليحرق في الصدر الأنفاس، ثم ليُجرَّد من ثيابه قطعة قطعة، وليُلقى على السرير، بل ليستلقي هو نفسه نابضًا، ناضرًا، يضج بالنداء. وشفتاها تانك، كانتا بعد، لتخمدا اللهاث الراعش، في غمرة اللقاء الأعظم» (ص٨٠).

وليس شك أن رصيده من التجارب لم يكُن قاصرًا على ما يتصل بذاته فحسب، وإنما هو يشتمل على تجارب الآخَرين أيضًا … يشتمل على صورة البيت اللبناني: صف من الشباب العربي وآخَر من فتيات باريس، وغرفة الطعام تغلق على كل اثنين من الجنسين بالتناوب: وصورة صبحي الذي أضحت المرأة همه الأول والأخير في هذه الدنيا، حتى إنَّ زملاءه في الرابطة لا يفكرون في أن بإمكانه أن يحاضرهم بشيء ذي قيمة، اللهم إلا إذا كان اقتناص النساء يُعتبر شيئًا ذا بال بالنسبة للمشكلة القومية في الوطن العربي. وهناك فؤاد الذي تستغرقه القضايا السياسية، إلا أنه يؤكد: «إن حاجتي إلى المرأة شديدة. ولكن هذا لا يعني أنها لا تزال هي همي الأول … لقد كانت كذلك يوم وصلتُ إلى باريس. أما الآن، فإن لي همومًا كثيرة أخرى، ليست المرأة إلا أحدها، ولست أنكر أنها تعينني كثيرًا على مواجهة سائر هذه الهموم. وأنا أعتقد على كل حال أن أحدنا لا يبلغ استغلال إمكانيته كلها، أو أكثرها إلا إذا كُفيت حاجاته كلها أو أكثرها … ألا تعتقد أن كثيرين من شبابنا العربي، هنا وفي الوطن، محرومون من استغلال أسمَى إمكانياتهم لأن حاجاتهم في الحب والجنس غير مكفية؟» (ص١٤٤). أما رصيده من الشرق، من بلاده، فإن الصداقة بين الرجل والرجل وبين المرأة والمرأة، تقوم على أساس الحرمان المتبادل، فليس ثمَّة صداقة يمكن أن تقوم بين الرجال و«فتيات بلدك اللواتي جعَلَت منهن التقاليد أرواحًا مذعورة بشبح الرجل» (ص٥٨).

هذا الرصيد من معاني المرأة في تجاربه وتجارب الآخَرين، في خياله وأخيلة الآخَرين، هو الشفيع الدائب المستمر لدى ذاته الواعية واللاواعية على السواء، بأن اكتشافها الأكبر لن يتم إلا على يدي امرأة، على يدي المرأة بصفة عامة، وعلى يدي امرأة مُعيَّنة في وجدانه من قبل بصفة خاصة. وهو يذكر على الدوام أنه جاء إلى باريس من أجلها، لأن حضارته لم تمكن بعد من صياغة المرأة الماثلة في وجدانه، المرأة التي تقف على قدَم المساواة مع هذه الحضارة.

والروائي لم يكُن غافلًا عن معنى اللقاء العميق بين بطل الحي اللاتيني وجانين مونترو بعد ذلك. ولقد صور الشخصيتَين فيما أرى بتمهُّل واختبار دقيق للزوايا الكاشفة … حتى إن ذلك اللقاء يتم فلا تعنينا المبررات الثانوية التي أدَّت إلى حدوثه، فقد كان لا بدَّ أن يقع على أية حال. كان لا بدَّ لصاحبنا اللبناني، أن ينصهر في بوتقة جانين حتى يخرج منها إنسانًا جديدًا يعي ذاته وعيًا جديدًا. وإذا كان المونولوج الداخلي هو الضوء الرائع الذي أفسح المجال للرؤية الدقيقة للنفاذ إلى تفصيل البنيان الداخلي للشخصية الأولى في الرواية … فإن شخصية جانين لم تكن بحاجة إلى هذه الوسيلة للتعبير عن أهمية دورها العظيم في جلاء دقائق التكوين الجديد للبطل.

وهي لمسات قليلة من الفنان أعطت التجسيم اللازم للشخصية، ومنحت هذا التجسيم نسمة حياة. أولى هذه اللمسات أن جانين كانت مخطوبة إلى الشاب هنري، وأنها ما تزال تحتفظ به كذكرى جميلة في حياتها. ومأساتها مع هنري تبدأ عندما شاهدته يخونها قبل موعد الزفاف بأسبوع واحد. حينذاك قرَّرَت أن هناك فجوة كبيرة بينها وبين هذا الرجل، وأنها لا تستطيع، أجل لا تستطيع الزواج به … هذا رغم أنها استسلمت له فيما سبق في إحدى لحظات الضعف البشري كما تقول. هذه هي جانين التي يستهويها الشاب العربي، فتُخلص له الحب، بالقلب والجسد، ثم ترفض — فيما بعدُ للمرة الثانية — الزواج به؛ لأنه لم يكُن في مستوى المسئولية، وتبرَّأ من ثمرة حبهما بصورة أذهلتها … أذهلت ذلك الضمير الحر الشجاع، فضاعت بين كهوف الحي اللاتيني، بمنتهى الحرية والشجاعة والمسئولية، بمنتهى الإحساس المأساوي العميق بمعنى الضياع. هذه إذَن، جانين التي هربت من الأهل في محاصرتهم لها بين جدران هنري … لأن العلاقة الجنسية التي تمَّت بينهما ليست من جانبها سلعة تُباع وتُشترى، ليست عربونًا دفَعَه الرجل، دفعه السيد. وإنما هي بملء حريتها وضعفها أنجزت هذه العلاقة، وبنفس هذه الحرية — مضافًا إليها القوة هذه المرَّة — تلقي تلك العلاقة بكل ما تتضمَّنه من أرباح شرعية لا تستهويها؛ ذلك أن الرجل الذي تحبه، الذي شاركها العلاقة، لا يرتفع عن مستوى «الآخَر» الذي مارس معها علاقة مشابهة قُبَيل زفافه بأيام. جانين هذه، هي نفسها التي تأبى الارتباط بحياة الشاب العربي؛ لأنه لم يكُن بعدُ في المستوى الحضاري الذي ارتفعت هي إليه. المستوى الذي يجعل من المسئولية مرادفًا للحرية فتغدو كلماته: أحبك، أتزوجك، ارتباطات أقدَس من الوثائق الممهورة في أسفلها بتوقيعات … ربما لن تنفذ حرفًا واحدًا مما كتب. جانين لم يعجبها تخلُّف عدنان، ولا تطرُّف ربيع، واطمأنت إلى فؤاد، ولم تسترح إلى آراء فرانسواز في القضية العربية.

جانين مونترو هي التجربة الكبرى في حياة صديقنا وبطل الحي اللاتيني. كانت تجاربه كلها قبلها، علامات طريق فحسب، أما هي فكانت الطريق. وفي هذا الطريق … كيف مضى صديقنا في الحي اللاتيني؟

لقد مضى وصدى كلمات فؤاد يهزُّ أعماقه «إننا جميعًا — نحن الشباب العرب — ضائعون يفتِّشون عن ذوات أنفسهم» وهو … هو نفسه … تراءت له وجوه أصدقائه جميعًا عيونًا تطل منها أرواح ضائعة، تبحث عن نفسها، على مقاعد الجامعات، وفي مقاهي الأحياء، وبين أذرع النساء. وهو نفسه هذا «الشيء» الفارغ، هذه الصدفة الجوفاء، هذا العود من القش، أليس هو أضيعهم نفسًا، وأشردهم روحًا؟ (ص٩٤).

ثم الْتَقى بجانين، فكانت تختلف عن ليليان ومارجريت وناهدة … اختلفت عنهم جميعًا لا في سلوكها إزاءه أو في قصة حياتها أو في مستواها من النضج … وإنما نبع اختلافها من «القلق» الذي كانت تبثُّه في عينَيه اللَّتين تطلُّ منهما روحه الضائعة … لذلك يتساءل فور غيابها يومين عند بعض الأقارب في الألزاس: «… وهل ستملئين بعد الآن هذا الوجود الفارغ الذي يبحث أبدًا عن معنى ذاته؟»

أي إن لقاءه بجانين لم ينقذ هذا الاتجاه أبدًا: اكتشاف الذات. وهو لم يحاول قطُّ أن يبحث هذا المعنى بين أحضان فتاة الرصيف، أو ليليان أو مارجريت؛ لأنهنَّ جميعًا — مثل صبحي — ردود أفعال سلبية إزاء الحضارة الأوروبية التي شاهد نموذجها الأكبر ليلة وصوله إلى الفندق في زاوية الباب الكبير. لقد رفض أن يكون هو مجرَّد ردِّ فِعل كعدنان أو صبحي، وإنما أراد أن يكون فعلًا.

وهذا ما يطلب إلى المرأة التي يريدها أن تكونه.

أمَّا هي، جانين، فكيف كان طريقها إليه؟

إنها فتاة فرنسية فقيرة، ما جاءت إلى الفندق إلَّا فترة قصيرة، انتقلت بعدها إلى السُّكنى مع إحدى العائلات … إنها أيضًا «بحاجة إلى مَن تثق به، بعد أن زُعزعت ثِقتها بالإنسان كقيمة» (ص١٣٣).

كانت تتذوَّق الفن ولا تدَّعيه، وتشارك صاحبنا آراءه فيما يتعلَّق بكثير من القضايا … حتى السياسية منها. وعندما آذَنَت حاجتها الاقتصادية بالإلحاح توجَّهَت فورًا إلى العمل بأحد المحال كبائعة.

لم تكُن دراستها بمعهد الصحافة تتَّخذ شكلًا تقليديًّا، بل هي تنتقد الكثير ممَّا تفيض به الصحافة الفرنسية من أخطاء … وتستجيب لها موهبة التحقيقات الصحفية الخفيفة.

فإذا أضفنا إلى هذا التكوين الخارجي تكوينها الداخلي — الذي سبق أن أحَطنا به في الإشارة إلى مأساة خطيبها معها — لاستطعنا أن نرافقهما معًا، هي وهو إلى البوتقة … إلى العلاقة الحميمة التي استحوذت عليهما … فكان يترجم لها بعض قصائده، وفي مقدمتها جميعًا قصيدة «الحرمان» التي تحكي مأساة الحب في بلادنا … مأساة اللاوجود، أو مأساة الوجود اللاإنساني. غير أنَّ هدف جانين كان ينتزع «اللا» هذه من وجدانه، ينتزعها انتزاعًا، منذ أخذت ذراعه ومضيا يرقيان السلم … «ولكنها توقفت لحظة، إذ بلغا باب غرفته: على أن لي شرطًا واحدًا!

– قوليه دائمًا.

– هذه الليلة … لن تترجم لي «الحرمان»!

وتلك الليلة … لم يترجم لها الحرمان … لم يترجم الحرمان ولم يترجم أية قصيدة سواها. فقد بدأ يعيش في ينبوع العطاء الذي لا يوحي بغير الأخذ، فيُعطِّل الفكر ويُخرِس اللسان. وهي أيضًا كانت تأخذ بقدر ما تُعطي، وما أكرم ما كانت تعطي!» (ص١٦٢، ١٦٣) … هذا الأخذ والعطاء هو المعنى الإنساني الأول في حصيلته الوجدانية من علاقته بجانين. ولا شكَّ أنَّ العلاقة القائمة على التبادل بين الطرفين في مناخ حُر لا تشوِّهه الارتباطات السطحية في الوثائق المكتوبة … هذه العلاقة لا تبدِّد القيمة الإقطاعية القديمة الدالَّة على الاغتصاب فحسب، ولا تبدِّد الركيزة الأساسية القائمة على الأنانية فقط … بل إن هذه العلاقة تحقِّق أيضًا شكلًا من التكامل في الانسجام والتعادل بين العاطفة والجسد … «كان الليل مملكتهما الأثيرة، يركنان إليه ليتلذَّذا فيه بالدفء والظلام والحب. الحب، هذا الحب الذي لم يعرف منه إلا أحد شطرَيه: فإمَّا النشوة الروحية وحدها، وإمَّا اللذة الجسدية وحدَها، بل هو لم يعرف أيَّ الشطرين إلَّا في أسوأ أشكاله: إمَّا كبت وانغلاق وتآكُل، وإمَّا أنانية وحيوانية وانحطاط. ولم يكُن يتصوَّر أنَّ بوسع إنسان أن يدرك إلى جانب أنثى اللذتين كلتيهما، كما أدركهما هو إلى جانب جانين. وكانت هي من رهافة الأنوثة بحيث كانت تَعِي كيف تُعالج الأخذ والعطاء، وكيف تدفع الضجرَ والملل بتغليب إحدى اللذتين في الوقت المناسب» (١٦٣، ١٦٤).

هذا التفاعل الخصب بين القلب والعقل، بين الروح والجسد، وذاك الشكل الإنساني القائم على الأخذ والعطاء، لا يمنحان التجربة تكاملًا حقيقيًّا … فالتجربة كلها ليست إلَّا رمزًا عميقًا للتفاعل الحضاري بيننا وبين أوروبا … وهذه الرمزية لا تكتمل في وعينا إلَّا بذلك العنصر التراجيدي الذي يضيفه فؤاد بمطلع ردِّه عمَّا إذا كان سيتزوج فرانسواز، فيقول: «فكرت طويلًا في هذا، ولكنني انتهيت إلى إلغاء هذه الفكرة. إننا مدعوُّون في المستقبل يا عزيزي إلى مواجهة كثير من قضايانا القومية التي لا تعني أحدًا سوانا. وأنا لا أعتقد أن زوجة أجنبية تستطيع أن تُعين زوجها في معاناة مثل هذه القضايا. إنني أريد أن تكون زوجتي رفيقة حياتي حقًّا، بكل ما في الرفقة من معنًى. ولإنْ أنا تزوجتُ يومًا، فلن أتزوج إلَّا فتاة عربية، وإن فرانسواز لَتعرفُ ذلك» (ص١٧١).

لو أنَّ المؤلف أتاح لهذا العنصر الجديد حُرية النضج والاكتمال، لَاكتسبت المأساة بُعدًا آخَر، أكثر عُمقًا ممَّا انتهت إليه. فالتناقض بين الشاب العربي والفتاة العربية، ينبغي ألَّا يُذيب التناقض بين هذا الشاب، والفتاة الأوروبية. بل إنَّ هذه التناقضات يجب أن تحل لمصلحة الفتاة العربية مهما أحنت كاهلها مئات القرون من مثاليات الشرق وقِيَمه … ذلك أنَّ مأساة التناقض — فيما بعد — بينه وبين الفتاة العربية، هي المظهر الحقيقي الذي يصوغ له اكتشاف ذاته الجديدة!

وإذا كانت جانين مومترو هي «الصورة الكبرى» (ص١٨٣) التي تملك عليه خياله، فإن الرتوش النهائية في هذه الصورة، ليست من نصيب الحضارة الأوروبية، وإلَّا فقدت التجربة الكبرى رمزيتها العميقة الدلالة. وهذا ما حدث بالفعل. فقد تحوَّلَت أحداث القصة إلى مجرَّد صراع بين الشرق والغرب، بين الأمِّ اللبنانية والفتاة الفرنسية، بين الانحناء للعاطفة والتمرُّد على الأهل. والحق، أنَّ القصة تضمن هذه الأحداث منذ البداية كإطار للقيمة الخطيرة التي يومئ إليها بطل الحي اللاتيني من اللحظة الأولى، ألَا وهي الصراع الأكبر لاكتشاف ذاته، الصراع الأكبر الذي تخوضه المنطقة العربية بأسرها لاكتشاف الذات العربية الجديدة. ولا ريب أن الحضارة الأوربية، أن المرأة الأوربية هي أحد طرفَي الصراع، ونحن نكتسب من هذه الحضارة — كما يكتسب هو من جانين — الكثيرَ من مقومات حياتنا المعاصرة، الكثيرَ من العوامل الكاشفة لذاتنا … ولكنا نرفض من هذه الحضارة — كما رفض فؤاد من فرانسواز — الكثيرَ من مقومات الانهيار الذي تتميز به المرحلة الراهنة في أوروبا. وإذا كان المؤلف قد جمع في شخصية جانين المقومات الإيجابية فحسب، وإذا كان ذلك ممكنًا في الحياة الواقعية فعلًا … إلا أن رمزية التجربة تتجاوز هذه الخديعة الفنية، لتتساءل عما إذا كانت هناك تناقضات — رغم ذلك — بين الشاب العربي وحبيبته الفرنسية، أم إن الصورة المثالية في ذهنه تحقَّقَت بكاملها … ولو تعارضت هذه الصورة مع هدفها الأصيل: اكتشاف الذات، وتحقيقها؟

لقد صوَّر لنا المؤلِّف جانين مونترو شخصية متكاملة، بحيث إننا نتعاطف بعُنف مع نهاية مأساتها الفردية … ولكنا نستشعر أسفًا عميقًا أننا لم نعثر مطلقًا على نهاية التراجيديا الكبرى: اكتشاف الذات! بل إنَّ معالم هذه التراجيديا نفسها تَبهت رويدًا رويدًا حتى تنمحي تمامًا مع كلمات العربي العائد من باريس: «بل الآن نبدأ يا أمي» … يبدأ كيف … ومن أين؟ هل يبدأ من حيث ضاعت جانين؟ ذلك الضياع الذي تنبَّأَت به وهي تحدِّثه عن إحدى فتيات الرصيف، عن فتاة الأوبرا «ما يدريك يا عزيزي أنَّ فتاة الأوبرا تلك ليست هي ضحية حب؟ ضحية رجل أحبَّتْه … ثم ترَكَها … ثم فقدَت أملها في حُبه … ما يدرينا، يا عزيزي، أنَّ ذلك الحب … لم يكُن رغيفها الذي تقتات به؟ ثم … ملَّت الشقاء، تعبت من البؤس … فلم تجِد إلا … أن تخنق ضميرها … ويومذاك هانت لديها الدنيا … والسعادة … والحُب … والرغيف. ويومذاك راحت تبحث بجسدها عن الرغيف … وهكذا، هكذا أصبحت فتاة ضائعة» (ص٢١٢). هل يبدأ هو من هذه النهاية المأساوية التي حقَّقها بنفسه في حياة جانين عندما تخلى عن مسئوليته في الجنين الذي أثمرته لياليه معها؟ لقد فقدت جانين إيمانها بالإنسان منذ وصلتها تلك الرسالة التي أعلن فيها هذا التخلِّي، منذ أجهضت نفسها بعد ذلك في إحدى المستشفيات بين الحياة والموت. أم هل يبدأ من اللقاء الأخير مع ناهدة عندما تراجعت في غرفته وهو يتحرَّك بين جدرانها يبحث لها عن كتاب؟ «لقد تراجعت ناهدة، لا لشعورها بأنها هي كإنسانة، قريبة منه هذا القرب الذي لم تكُن تقدِّره، وإنما لشعوره بأنها هي كذلك، كجسد. ولقد تعلَّمَت أن تقدِّس هذا الجسد، لا تقديس حُب وعبادة، وإنما تقديس خوف وحذر. إنه مُستودَع عواطف ونزوات، ومخزن مشاعر وشهوات، حكم عليها بأن تكبتها وتعيش في تآكُلها؛ لأنه حرَّم عليها أن تعيش كما هي، وأن تعانيها كما تتيحها له، بل كما تقتضيها طبيعتها، طبيعة البشر. هكذا خافت جسدها، هذا الذي ينبض بتلك المشاعر والشهوات المحرَّمة، وهكذا انتقل خوفها من جسدها إلى كل مَن يحاول أن يثير هذا المُستودَع ويفجِّر فيه كوامنه المقدَّسة. كذلك أصبحت المرأة العربية تخاف الرجل، تخاف الكائن الذي ينبغي أن تثق به، لأنها تخاف الجسد الذي ينبغي لها أن تحبه» (٢٢٨، ٢٢٩). أم هل يبدأ حياته بذلك الضمير الشرقي الذي أملى عليه رسالته التي شيعت جانين في أحد كهوف الحي اللاتيني؟

من أين يبدأ صاحبنا، وقد انتصر المؤلف لفتاته الشرقية دونما سبب حقيقي، بل على النقيض، كانت هزيمة جانين انتصارًا رائعًا لها: فقد هجرته بعد أن عاد إلى باريس، كما سبق أن هجرت هنري لأسباب متشابهة. ولكن هل هو الصورة العربية لشخصية هنري؟ من أين يبدأ إذَن، وقد أغلق عليه المؤلف جدرانًا أربعة من ضياع جانين، والقضية القومية، والضمير الشرقي متمثِّلًا في شخصية آلام، وحياته الفكرية كإنسان مثقَّف؟ أين هو الطريق إلى اكتشاف الذات؟ الطريق الذي أنارت جانين بعضًا من زواياه وما كانت تستطيع أن تضيء جميع زواياه!

إن المونولوج الداخلي الطويل، الذي يُصاحبنا من بداية القصة إلى نهايتها، أوضَح لنا جيدًا أن المرأة في حياته لم تكُن سوى مرآة ذاته، وصورة وجوده التي يريد أن يحقِّقها بانسلاخه عن الرداء الرومانسي والرداء الإقطاعي، وبقية الأردية التي تتناقض ألوانها مع لون العصر بصفة عامة، ولون المرحلة الحضارية التي يعيشها وطنه بصفة خاصة. لم يكُن تأرجُح المونولوج بين الضمائر الثلاثة — الغائب والمتكلم والمخاطب — حائلًا دون التكوين الموضوعي للشخصية (كما تشكَّك في ذلك الأستاذ يوسف الشاروني).٣ ولقد تفاعل التكوين الموضوعي مع ذاتية البطل في إطارٍ كاد يخلق المحور الدرامي — الوحيد للرواية — وهو اللقاء بين العربي والحي اللاتيني … إلا أنَّ الدكتور سهيل إدريس قنع بإبراز القشرة الخارجية للصراع الحقيقي في نفسية البطل، بينه وبين ذاته، فلم يُعطِنا تفسيرًا فنيًّا مقبولًا لحركة الاصطدام بين الشاب العربي والمرأة الأوروبية. وكادت الفكرة الرئيسية تُفلت من بين أصابعه، فتنبسط وتتسطَّح وتصبح القصة مجموعة مذكرات أو يوميات لإنسان نرجسي كما ظنَّ البعض. ولقد جاءت الصورة الفنية للجنس — تبعًا لذلك — صورة فوتوغرافية تُعنى كثيرًا باللحظة الميكانيكية في العلاقة البدنية بين الرجل والمرأة. ذلك أنها دخلت — في اللمسة الأخيرة — من المضمون الكبير الذي أحسسناه في طبيعة الشخصيات وأولى مراحل تطورها بموازاة الأحداث. ولا ريبَ أنَّ الفنان كان رائعًا وهو يقدِّم لنا الوجوه العديدة للمرأة الغربية والشاب العربي من خلال عدَّة نماذج، ثم في قدرته على توظيف هذه الوجوه في صياغة الوجه الأساسي للرواية: الشاب اللبناني وجانين. ولكن غياب أحد العناصر الهامة في هذا الوجه — وهو الفتاة العربية (وأرفض أن تكون ناهدة أو هدى هذا العنصر) — فوَّتَ على القصاص فرصة هامة في تعميق وجهة نظره الفكرية وبنائه الفني على السواء. فقد غاب بذلك أحد شروط الصراع والتفاعل بين الذات العربية المتمثلة في البطل وأقدارها الذاتية والموضوعية المتمثلة في جانين والأم والمستقبل العربي. وبغياب هذا الشرط فقَدَ الصراع تجربته الكبيرة في «الحي اللاتيني».
١  راجع «الآداب»، عدد فبراير، سنة ١٩٥٥م.
٢  رواية لسهيل إدريس، صدرت عام ١٩٥٨م.
٣  راجع «الآداب»، عدد أبريل، سنة ١٩٥٤م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤