الفصل السادس

العربي فوق جسر الشيطان

في مراحل التطور الاجتماعي تتبلور اتجاهات المفكرين والأدباء والفنانين؛ إذ يكون التطوُّر أو نقطة التحول بمثابة البوتقة التي ينصهر فيها الكاتب، فتتَّضح معالمه وتتجلَّى سِماته الخاصة التي تكوَّنَت تاريخيًّا عَبْر آلاف الظروف الذاتية والموضوعية، ونحن في مصر نجتاز إحدى هذه المراحل التاريخية في حياة الإنسان العربي منذ أكثر من عشرين عامًا. وما من شك في أنَّ مراحل الانصهار هذه تتميَّز باختلال المعايير وتفكُّك الأوصال الاجتماعية القلِقة في أنظمة الحُكم؛ لأنها في صميمها عملية تغيُّر وتبدُّل وتجدُّد، عملية انسلاخ رهيبة من الماضي، وعملية تكيُّف أكثر رعبًا مع الحاضر، مع الجديد، مع المستقبل.

هناك بعض الأدباء، ممَّن كانت أعمالهم الفنية إرهاصًا لهذا التطور، لهذه الثورة، فهم لا يفقدون اتجاههم إذا ما أقبل التطور، إذا ما اشتعلت الثورة، بل هم ينضوون تحت لوائها، فيبسطون قيمها الوافدة للمجتمع، ويجتثون القيم السابقة من العقلية المعاصرة، بل هم يتقدَّمون الطلائع الثورية وصفوف التقديم يكشفون لها مجاهل الطريق.

وهناك بعضٌ آخَر ممَّن فاجأتهم الثورة …، لقد عاشت في وجدانهم أحاسيس ضبابية مهزوزة؛ لأنَّ تكوينهم النفسي والذهني لم يُعدَّ بقَدْر كافٍ لاستقبالها … ولذلك يُفرز هؤلاء أحماض القلق والتوتر السلبي من أعماقهم، وغالبًا ما يفرون من بين أحضان الحقيقة الجديدة إلى عوالم غريبة باهتة لا تمتُّ إلى القديم أو الجديد، بل تتَّصل بمعالهم ذاك الداخلي الذي يتمرَّد على القديم والجديد معًا.

وهناك فريق ثالث تُفزعه الرؤيا الجديدة، فيستشعر خوفًا كبيرًا على جعبة القيم القديمة من المثاليات والأديان والسماويات، ويحسُّ خطورة عُظمى على هذه كلها من قِبل التطور الجاري في النظام الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي أيضًا … إنهم ينظرون إلى تلك القِيَم باعتبار أنها مبادئ خالدة خارج الزمان والمكان، ولا تخضع للتطوُّرات المادية في حياة البشر. وهم يكرِّسون أنفسهم للحفاظ عليها دون أن يتبيَّنوا تفاصيل هذا التطور، وكيفية شموله الأخلاقي والقيم الروحية بطريقة حتمية.

وإلى هذا الفريق الأخير تنتمي أُولى مراحل القصَّاص عبد الحميد جودة السحار التي ظلَّ كثيرٌ من رواسبها عالقًا بإنتاجه الأدبي حتى أحدَث مراحله، ويكفي أن نُلقي نظرة خاطفة على قائمة مؤلَّفاته الدينية لكي نتصفَّح اهتمامات المؤلف، وندرك جوهر ما يؤلف.١ وأنا لست آخُذ على الأستاذ السحَّار أن يكتب تلك المؤلفات، ولكني أستكشف بها طبيعة رؤيته الفكرية وانعكاساتها على أعماله الفنية. ولعلَّ أكثر هذه الأعمال أهميةً، هي تلك التي ناقشت أخطَر قضايا الرجل والمرأة في أي مرحلة تطوُّر: قضية الجنس، فقد عالج السحار هذه القضية في أغلب قصصه علاجًا ينطوي بصورة مباشرة أو غير مباشرة على الدلالة الفكرية للتطوُّر كما يراها من خلال ما يؤمن به من قيم.

ومجموعة القصص التي أصدرها عام ١٩٤٦م تحت عنوان «همزات الشياطين» تصوِّر تلك القيم في أولى مراحلها … فهو لا يعتقد أن سفور المرأة وما يستتبع هذا السفور من إقدامها على العمل الجاد كالرجل سواء بسواء، لا يعتقد أن هذا التطوُّر في حياة الأنثى مرآة صادقة للصراع بين الشيطان والله … بين الخير والشر. وهكذا يحيط «صلاح» في قصة «وسوسة شيطان» بهالة ضخمة من التصوُّف. فما إنْ يرى جارته الحسناء «بديعة» وهي تخرج إلى عملها في الصباح، وقد اكتست بالثياب العصرية الأنيقة، حتى يهمس في أذن زوجته بأنه على عجب من الدنيا وما آلَت إليه: الآباء يسمحون لبناتهم بالفسق علنًا، والأمهات نائمات أو متناومات. فإذا تساءلت زوجته: أي دعارة هذه في أن تتعلَّم الفتاة وتعمل؟ لم يُجِب سوى أن يستعيذ بالله من الشيطان. ثم تداعب بديعة خياله المتصوِّف بقدِّها الرشيق، وساقَيها المرمريَّتَين وصدرها الناهد، فيعاني صراعًا مريرًا بين أن يُقدم على مغازلتها أو يستكين بين أحضان زوجته وضميره … وما يلبث أن يعقد صحبة وأُلفة بينه وبين الفتاة، فيذهب بها إلى السينما، ويتنزَّه معها، وأخيرًا ينتصر هو — أو الشيطان — في منتصف إحدى الليالي، ويقضي مع بديعة أروَع وأسوأ لحظات عمره: هي لحظة رائعة في دفء هذا الجسد الريان، وهي لحظة قاتلة أدمَت ضميره الصوفي ومزَّقَته أشلاءً تناثرت بين التهدُّج باسم الله والهذيان باسم زوجته … إلى أن صفح عنه صوت أعماقه، يقول: «كل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون».

ولست أريد أن أحصي عدد الآيات القرآنية التي تخلَّلَت الأقصوصة … ولكني أبتغي إحصاءً من نوع آخَر.

فالجنس في هذه القصة، حرام وحلال … هو صراع خالد بين الشيطان والله، والإنسان هو ضحية هذا الصراع. يعلِّق المؤلف تعليقًا تقريريًّا مباشرًا على الذهول الذي انتاب صلاح فيقول (ص٥٢): «… هو لا يدري أنه ضحية نَفْسَيه المتكافئتين، نفسه الشريرة ونفسه الخيِّرة، فإذا ما جنح إلى الخير هبَّت الشريرة لوخزه وتنغيص عيشه، ولا تهدأ حتى يطيعها ويرضي شهوتها، وبعدئذٍ تتحرَّك الخيِّرة لزجره وتأنيبه، فلا ينتهي تعذيبه.» ولو أن المؤلف صوَّر هذا العذاب البشري باعتباره صراعًا بين الإنسان والمجتمع، بين الذات الراغبة والواقع الموضوعي الذي لا يشبع احتياجاتها … لكان الجنس في هذه القصة موردًا خصبًا للتعبير عن ضراوة نقاط التجول في حياة الإنسان التي توقظ هذا الصراع وتُشعله بعد أن كان مستقرًّا في حالة كمون. أمَّا ما توصَّل إليه المؤلف من أن العذاب الإنساني نتيجة التكافؤ بين الخير والشر في عالمه الداخلي، فإنه يتوقف عند أعتاب الثبات والسكونية واللاصيرورة … لأنَّ هذا التكافؤ أو التعادل ينفي عن الإنسان أية إمكانية للتفاعل بينه وبين العالم الخارجي.

ومن هنا يكون اصطدام صلاح بالعالم الخارجي اصطدامًا مسرحيًّا — بالمعنى العامي للتعبير — أي إنه ليس تفاعلًا معقَّدًا بين ذاته المتصارعة والواقع المتغيِّر … ومن ثَم يجيء الجنس — من الناحية الفكرية — إثباتًا لفرضية مسبقة تؤكد خلود القيمة الإنسانية القديمة وإطلاقها … أي إن بديعة سقطت بين ذراعَي صلاح؛ لأنه كان لا بد لها أن تسقط ما دامت قد أسفرت عن وجهها وأصبحت تمشي وحدها في الطرق عارية الساقين والصدر، وأضحت تعمل عمل الرجال. وسقوطها بالطبع يؤدي إلى جهنم. أما صلاح، فالسقوط في حياته يوقظه على المعنى الإنساني المطلق لهذه الحياة، فيستغفر ربه على ما فعل، ولا يضنُّ الإله — عادةً — بالغفران. وهكذا ينقلب معيار التطور الاجتماعي، فيصبح التقدُّم دعارة خُلقية، أي يُمسي التقدُّم تخلُّفًا. ومن الناحية الفنية، يفتعل الكاتب صورة الجنس افتعالًا صريحًا، فتجمد الصورة هكذا: «ولم يشعر صلاح إلا وهو يشير لها طالبًا منها موافاته الآن، وانطلق ليفتح لها باب مسكنه وسار على أطراف أصابعه، وقد أرهفت منه الحواس، وراح قلبه يدق دقات عنيفة حتى لخشيَ أن يوقظ زوجته النائمة، وراحت زفرات سميرة النائمة في هدوء تصكُّ أذنَيه صكًّا، وهو ينسلُّ من جوار سريرها. واستمرَّت طرقات قلبه تدوِّي في أذنَيه، كأنها مطارق تدقُّ طبلًا، وبلغ الباب بعد أن بذل جهدًا، وفتحه في احتراسٍ خشية أن ينبعث منه صوت يوقظ زوجته فيفتضح أمره، ثم فتح الباب أخيرًا، فوجد بديعة واقفة على باب مسكنها، فأشار إليها في وجل، فأقدمت وكانت أثبَت منه نفسًا، وأرسَخ قدمًا، ودلفت من الباب، فأغلقه خلفها في رفق ثم تناول يدها وقادها إلى غرفة قريبة، ثم ضمها إلى صدره» (ص٥٥، ٥٦). ونحن لا نستشعر الافتعال من أن هذا النموذج البشري لإنسان متصوِّف لن يجرؤ على هذه «التمثيلية» في عُقر داره، ولا من أن الآنسة بديعة لن تجرؤ على ذلك بالمثل … بل نحن نلمس الزيف من داخل النص الأدبي، حيث الإصرار الممل على أن الرجل يخشى يقظة زوجته، والإلحاح الغريب على أن الأنثى كانت أرسَخ قدمًا، وأن إشارة واحدة قرَّرَت اللقاء … ونظرة واحدة … أدخلت العذراء دنيا النساء، أو أدخلت المرأة دنيا التصوُّف!

على أن هذه المرحلة الأولى في نظرة السحار إلى الجنس تتسم بنقطة إيجابية غاية في الأهمية، هي هذا التتبُّع الصَّبور للمسار النفسي في تكوين الشخصية الفنية، وبغضِّ النظر عن أن هذا التتبع لا يؤدي إلى انسجام منطقي أو تكامل بنائي في الشخصية … فإن هذه السمة في أدب السحار ظلَّت تنأى به رويدًا عن الفرضيات المسبقة التي تغل شخصياته وتجمِّد أحداث تجاربه الإنسانية.

•••

ونحن نلاحظ بوادر هذا التطوُّر في مجموعته القصصية «صدى السنين» — صدرت عام ١٩٥١م — فنلمح سخرية مَريرة من أوهام الشباب … من الجيل الذي وُلد في أتون التطور، في قلب المعركة الاجتماعية الدامية. وهكذا نرى كمال في قصة «كازانوفا جديد» يروي مغامراته الجنسية لصديقه حمدي الذي يغار من جرأة صديقه وشجاعته في اصطياد المرأة، أية امرأة، لمجرَّد أنها أعجبت حواسه وشحذت انتباهه. وفي إحدى المرات يتمكَّن حمدي من اجتذاب فتاتين أمام السينما إلى موعد غرامي، ويترك إحداهما لكمال … ثم يعود ليقرأ التبرُّم والضِّيق على وجه الفتاة، فقد كانت المرة الأولى التي يلتقي فيها كمال بامرأته! وما لياليه ونساؤه وفتياته إلا من بنات الخيال وأحلام اليقظة.

ولا شكَّ أن المؤلف هنا يومئ بفشل القيم الجديدة في إقامة علاقات اجتماعية سليمة … فالجنس يتحوَّل إلى أبراج من الوهم، يتنفَّس فوقها الشباب الجديد تمزقات روحه وغليان نفسه. والمرض النفسي — كالكذب والرياء والمداهنة وما إلى هذه الصفات اليومية في الحياة المريضة — لن يجعل من العلاقة الجنسية قيمة إنسانية أو غير إنسانية، بل هو يصوغ منها وجهًا مرضيًا لِما ندعوه بالتطور. وأنا أوافق الكاتب على أن نقاط التحول في تاريخ الإنسانية تهز كثيرًا من الأفراد هزَّات عنيفة تكاد تودي بعقولهم … ولكنا لا نستطيع أن نتَّخذ من هؤلاء معيارًا صادقًا لقيمة التطور في حياتنا. ولا يخدعنا في القصة السابقة أن الفنان رسم شخصيتَين مختلفتَين، لكلٍّ منهما سماتها الخاصة، وبالتالي لا ينبغي لنا في تفسير القصة أن نرتكز على جانب وحيد منها. أقول إن هذا التبرير لا يخدعنا مطلقًا، فشخصية حمدي رُسِمت بحيث تكون مرآة لشخصية فؤاد، بينما هذه الشخصية الأخيرة رُسِمت بحيث تمثِّل جيلًا مُعيَّنًا وعصرًا من الزمان. والقصة الثانية «رجل وامرأة» تؤكد هذا المعنى: فأمامنا شاب قدم إلى مدينة غريبة ليعمل بها، فيقطن بإحدى غرف منزل «ماريا» التي أعدَّته كفندق صغير. وتحاول السيدة الأجنبية بشتَّى الوسائل وأكثر الطرق أن تُغري القادم الجديد بمغازلتها، فلا تستطيع. لماذا؟ ألأنَّ الواقع الجديد فرض على الجيل الجديد عُزلة نفسية عن العالم؟! ألأنَّ للإنسان قيمًا خالدة تتنافى مع الواقع الجديد وتتعارض معه وتصطدم به، فيفر كمال إلى عوالم بعيدة عن الواقع، وتطرد ماريا ضيفها الجديد من واقعها؟ أتكون القيم الجديدة هي «القمقم»، والقيم القديمة هي العالم الرحب؟ إن السحَّار يصوِّر نماذجه في إطار يرسم بوضوح كلمة «نعم» … وهي إجابة لا تتعمق أزمة عصرنا، رغم إشارته إلى جوهر الأزمة في التناقض بين القيم القديمة والعلاقات الاجتماعية الجديدة … ولذلك ما كنا نستشعر أية غرابة أو شذوذ لو جاءت كلمات الفنان في إطار رومانسي؛ إذ إن ما يشتمل عليه هذا الإطار من تضخيم للأحاسيس ومبالغة في تجسيد الانفعال، ليس إلَّا ردًّا عنيفًا لفعلٍ أعنَف … الأمر الذي نختلف بشأنه في قصص هذه المرحلة عند السحار، فالمبالغة والتضخيم لا يتَّسمان بردِّ الفعل الرومانسي، بل يكتسبان سطحية الانفعال في الرؤية الفكرية والفنية على السواء. ولقد فارقت السطحية هذه القصص، حين كان المؤلِّف يكتفي بالصورة فحسب. إنه حينئذٍ يكشف عن طبيعة الأرض الاجتماعية التي تستقبل القديم والجديد معًا. فالمعلم أبو سريع — في قصة «شرف» — لا يهدأ له بالٌ منذ أُقيم في الحي بيت جديد للدعارة غير البيت الذي يتشرَّف بملكيته … لذا لا يألو جهدًا في ارتداء ثياب الشرف وشحذ نخوة الشرفاء من شيوخ الحي وأبنائه، حتى يهاجر رجال البيت الجديد في عتمة الليل، وتنتظر النساء إلى الصباح، ويستولي هو على زنوبة أجمل فتيات الحي، ويلتفت إليه أحدهم قائلًا: «عيني باردة عليك، وجهك مضيء اليوم.

فقال المعلم أبو سريع وأصابعه تعبث بشاربه في خيلاء: ما أحلى الشرف يا أبا خليل!» (ص١١٨).

هنا لا يكون المؤلِّف بحاجة إلى تعمُّق الشخصيات أو النفاذ إلى جوهر الأحداث. بل يكون بحاجة ماسَّة إلى تصوير الملامح الخارجية الشديدة البروز، تصويرًا أمينًا. لذلك ينجح السحار في هذه الصور نجاحًا كبيرًا … فهو يلتقط كافة الجزئيات الصغيرة المحيطة بالواقع ككل. ومن ثَم نكتشف أن الشرف عند المعلم «أبو سريع» أن ينفرد بتجارة اللذة واحتكار زنوبة وتوصية أخته بها خيرًا، والشرف عند زنوبة أن تستدرَّ أكبر قدر من المعجبين والجائعين، والشرف عند شقيقة «أبو سريع» أن تنمو تجارة أخيها وتتعاظم مهما كان ذلك على حسابها في عُرف الزمن، والشرف في بيت الدعارة الجديد أن يهرول أصحابه إلى حي جديد … هذه المعاني العديدة للشرف، التي تمثِّل وجهًا ما للمجتمع، تمثِّل أيضًا مرحلة ثانية في أدب السحار؛ فالجنس لديه ما يزال صراعًا ذاتيًّا بين الله والشيطان، صراعًا معزولًا عن العالم الخارجي، ولكن هذا الصراع لا يبقى تحت هذه العناوين الشديدة العمومية، إنه ينعكس على الجزئيات الصغيرة، ويكتسب وضوحًا أدَق. فتتبلور الشخصيات وتنضج الأحداث، وتفيض التجربة الإنسانية بأكثر مما قدَّر لها الفنان من الدلالات.

•••

على ضوء هذا المعنى للمرحلة الجديدة في حياة الكاتب الأدبية، نستقرئ بإمعان روايته «المستنقع» التي صدرت عام ١٩٥٧م مستكملةً كافة الدلالات الفنية والإنسانية للجنس، كقيمةٍ شغل بها الكاتب للمقابلة بين أمسنا وغدنا مجالَ القيم وإمكانية تطوُّرها.

والمستنقع، كأغلب أعمال السحار، تطرق في البداية موضوعًا عاديًّا لننفذ من خياله إلى تجربة غير عادية … في هذه الرواية مثلًا يناقش مشكلة البنت الكبرى عندما تتزوج الصغرى … ولكن هذه المشكلة ليست الحدث الرئيسي في القصة، بل هي ليست القالب الروائي لها … إنها مجرد مدخل إلى شخصية سوسن: الأخت الكبرى، فلم يكُن اختطافها فؤاد من شقيقتها الصغرى سهير حلًّا لهذه المشكلة الاجتماعية القديمة، وإنما كان حلقة في سلسلة طويلة من الأحداث الصانعة لمأساة سوسن.

والمأساة في المستنقع هي بعينها المأساة في وسوسة الشيطان: متعة استلاب ما للآخَرين. غير أنَّ المؤلف هنا لا يصوِّر الصراع من أجل هذه الخطيئة أو الشيطان في شخصية واحدة. وإنما هو يجسد الشر أو الخطيئة أو الشيطان في شخصية، ويجسِّد الخير أو الله في شخصية أخرى، ويصبح الصراع بين الاثنين رمزًا للصراع الخالد بين الفكرتين المطروقتين … فتسرق سوسن عريس أختها بالاغتصاب، تذهب إليه بحُجة «أخذ مقاسه لتفصيل بيجامة الزفاف» … «وأحسَّت الرجفة التي سَرَت في كيانه، فأدارته حتى صارا وجهًا لوجه، ولفَّت المتر حول وسطه ثم راحت تجذبه في خفة حتى الْتَصق صدره وصدرها، ورفعت إليه عينَين فيهما نداء صارخ، وزمَّت شفتَيها تدعوه للقُبَل. وطاش لبُّه وغاب عن وعيه، فضمَّ الفتنة الماثلة أمامه إلى صدره بذراعَيه القويتَين وراح يلثمها في سعار. وانعدم الوجود إلى وجودهما، وتركزت الدنيا كلها فيهما، وبلغت النار المشتعلة في جسدَيهما غايتها، فراحا يتعاونان على إخمادها» (ص٤٢). ثم تسرق صديق زوجها بالاغتيال. ذهبت إلى عمر في غياب زوجته إلى أن «تطلَّعَ إليها ولُعابه يسيل، وأدارت وجهها نحوه وقد تعمَّدَت أن يلمس خدُّها شفتَيه الملتهبتين، ثم رَنَت إليه رنوةً زلزلت كيانه وقالت في صوت متهدج: يا شقي! وانتهى كل شيء» (ص١١٢).

هذه مأساة سوسن إذَن: اشتهاء ما ليس لديها، والعمل على نَيْله بكل ما لديها من إمكانيات، فالجنس في حياتها مجرَّد وسيلة لإطفاء شهوة الملكية لا شهوة البدن، إنها تُعجَب بالشيء، فتقول «رائع»، وتنتظر من صاحبه أن يقول لها «تفضلي» لتقول فورًا «متشكرة»، وتضيفه إلى جملة مسروقاتها … سواء كان هذا الشيء حقيبة سهير أو ولاعة فؤاد أو قلم عمر أو فؤاد وعمر نفسهما. وشهوة الملكية تنطفئ عادةً بإحراز ملكية الغير، ثم تشتعل من جديد إذا اشتهَت شيئًا جديدًا. وهكذا أضحى «النهم» بمثابة الدينامو المحرِّك لحياة سوسن، و«الجسد» سلاحها في هذه الحياة. وحينئذٍ تصطدم بمقومات الحياة الجديدة، أو هي تصطدم بالعنصر الآخَر في دنيا الخير والشر. فلا تلبث أن يتعكَّر صفوها مع فؤاد، وما إنْ تحاول الاستيلاء على صيد جديد حتى تختلط الموازين في يدي عمر وهو ممسك بها من العُنُق يستصرخ هواهما القديم إلى أن تسقط تحت قدمَيه جثة هامدة. وهكذا يصبح الجنس لعنة خالدة في لحظة؛ لحظة أن يشتهي الرجل المرأة، أو العكس «إنها لحظة ولكنها كاللعنة تقتفي أثَر الملعون أينما كان» (ص٥٠).

ونحن لا نصفِّق كثيرًا — كما نفعل في السينما المصرية — عندما نرى فؤاد وسهير يخرجان من قسم البوليس وقد تشابك ذراعاهما بعد أن فُقد الأمل في حُبهما القديم إلى الأبد. إننا لا نصفق لانتصار الخير، كما أننا لم نذرف الدموع لهزيمة الشر بمصرع سوسن. ذلك أن هذه القيم الإنسانية المغلقة لا وجود لها في عالمنا، كما أنَّ تجويف الشخصيات وملأها بهذه القيم لا يخلق فينا إحساسًا واحدًا بمأساة الواقع … إن الكاتب يُلبس وجهة نظره الأولى ثوبًا جديدًا فقط، ولكنه لا يَحيد خطوة واحدة عن هذه الوجهة: الجنس تجربة ينبغي أن نصلِّي قبل أن تطأها أقدامنا، حتى ينتصر إلهنا. والجنس لعنة قَدَرية لن يهرب منها مَن كُتبت عليه منذ الأزل … والناقد في هذه الحال يواجه بمسألة أساسية: هل هذا المعنى للجنس في أدبنا وليد شرعي لواقعنا الحضاري؟ أم إن تخلُّف بعض كتَّابنا عن مجرى هذا الواقع هو السبب؟ وما العمل إذَن؟ هل نكتفي بالكلام عن الصواب والخطأ في هذه القيمة أو تلك؟ بل أكثر من ذلك، هل تخضع القيم للقياس الرياضي، أم يقتصر الدارس على كيفية التعبير عند الفنان، مهما كانت وجهة نظره الفكرية؟

لقد واجهتني هذه القضية بالفعل، وأنا بصدد هذه الدراسة، ولم أرَ في اتهام الكاتب بالسذاجة الفكرية حلًّا حقيقيًّا لها؛ لأن هذه السذاجة كانت تتوارى بين حين وآخَر كلما تخلَّص الكاتب قليلًا من عواطفه الدينية تحت ضغط الأحداث وإصرار النماذج البشرية على أن تبدو «إنسانية» حقًّا … وكثيرًا ما كانت تهرب الإنسانية المطلقة من التجربة الفنية، فلا يصبح الفرد نهبًا للصراع الأبدي بين الشيطان والله، ولا نرى إنسانًا هو الخير وإنسانًا هو الشر، هذه الأنماط المجوفة كفردوس زوجة الشيخ سويلم في قصة «فاجرة».٢ إن مفتاح هذه الشخصية ليس هو مأساة الفتاة الصغيرة التي تتزوَّج شيخًا مُسنًّا كما يبدو لأول وَهْلة … كما لم تكُن مأساة سوسن أن شقيقتها الصغرى كادت تتزوَّج قبلها. لذا لا يعنينا أبدًا ما جاء به الكاتب من تفاصيل حول الصبي عرفة — قريب فردوس — الذي أقبلَ من القرية ليسكن مع قريبته وزوجها طَوال فترة إقامته بالقاهرة؛ حيث يدرس بمدرسة الصناعات. أقول لا يعنينا ذلك؛ لأن المؤلف أوضَحَ تمامًا أن العلاقة الجنسية بين الاثنين لم تتم من خلال ارتباط عميق بينهما، ربما كان العكس هو الصحيح … إنها بالنسبة للفتى «لم تزِد في نظره عن فتاةٍ لعبَ معها لعبته المفضَّلة ثم عاد كلٌّ منهما إلى بيته» (ص٩٥)، أكثر من ذلك أنه «أحسَّ نحوها مرَّة احتقارًا، وفكَّر في أن يفرَّ منها، ولكن حتى ذلك الإحساس تبخَّر، وصارت بالنسبة إليه شيئًا يقضي معه لحظات مُترَعة بالمتعة الجسدية ثم يمرُّ كلُّ ما أحسَّه مرور الأنفاس التي دخلت وخرجت منهما دون أن يذكر من ذلك شيئًا» (ص٩٦) … وفردوس نفسها لم تتخلَّل التجربة من جانبها أية أحاسيس عاطفية نحو عرفة، كان بالنسبة لها مجرَّد إشارة البدء في الانتقام لذاتيتها المهدورة … «وتدسَّسَت إلى رأسها فكرة: أخَلَت الدنيا من الرجال ولم يعُد فيها إلا عرفة؟! إذا سافر عرفة فما أكثر الرجال الذين يتمنُّون أن ينالوا ما نال عرفة» (ص١٠٢). فردوس إذَن شخصية ناضجة فنيًّا، أسهمت في صياغتها شيخوخة عم سويلم وشباب عرفة وتراثها الجنسي من جمال البدن، وما أحاط به الفنان مأساتها من كافة العوامل المؤدية إلى النهاية الطبيعية، أن تمتصَّ جسد عرفة مهما كان ذلك امتصاصًا لحياتها حتى آخِر ضربة من الكرسي الذي رفعه سويلم في الهواء ليَهوِي عليها، «واستمر يضرب ويضرب حتى صارت جثة هامدة، وهو مستمر في ضربها دون أن يحسَّ مما يفعل شيئًا» (ص١٩٣).

والنهاية دائمًا في قصص السحار تذبح التجربة وتبعثرها أشلاءً؛ لأنها خاتمة مجلوبة من خارج التجربة، قادمة من حياتنا اليومية مضافًا إليها ما يتمدَّد بين جنبات المؤلف من قيم تُبارك مصرع سوسن ومقتل فردوس؛ لذلك يتنازل الشيطان والله في أدب السحار عن أن يكونا فكرة فلسفية كالتي عرفها الأدب العالمي على طول تاريخه، وإنما هي تتبلور في النهايات الصارمة (للأشرار) كما يلي: الروح والجسد شيئان منفصلان عن بعضهما تمامًا، وإن كان الجسد إناءً زجاجيًّا «يحمل» الروح ولا يتفاعل معها … لهذا لا تلتقي رغبات الروح مع رغبات الجسد مطلقًا. وما الزواج إلا طقس ديني من أجل غايات خالدة، أما الجنس — كأحد عناصر الجسد — فمآله الفناء، لأنه الجانب المظلم في حياة البشر، إنه رجس من عمل الشيطان، ولعنة «تقتفي أثَر الملعون أينما كان»!

على أنني أثناء البحث عن دلالة هذه الظاهرة، عن حل لهذه القضية، أحسستُ بمطابقة غريبة بين بداية إنتاج السحار وأواخر إنتاجه، ولاحظت أن البداية والنهاية رافقتا نقطتَي تحوُّل في تاريخنا الحديث. وفيهما كان الكاتب يمثِّل رد الفعل العنيف الذي حدث لدى القيم السائدة في حفاظها المستميت على القيادة الروحية للمجتمع. ولم يحدث أن كان المؤلف ردًّا عنيفًا لفعل التطوُّر الاجتماعي في بلادنا، فيما بين أوائل وأواخر إنتاجه الأدبي. وحقًّا هو لم يفقد اتجاهه طَوال هذه الفترة، فليس إعدام سوسن وفردوس إلا تأكيدًا لهذا الاتجاه، إلا أن روايته «الحصاد» — ظهرت عام ١٩٦٠م — هي خير النماذج التي تمثِّل تلك المرحلة الوسطى بين البداية والنهاية. و«الحصاد» تروي لنا حياة سليم باشا شبلي منذ آلَت إليه مساحة شاسعة من الأرض، وأصبح رجلًا يعظم خطره، كلما عاد حزبه إلى الحُكم. ويرافقنا المؤلف بعدسة سينمائية إلى قصره الأنيق في جاردن سيتي؛ حيث نتعرف إلى زوجته الثانية أمينة هانم وابنهما حلمي، الطالب بالحقوق. أما عبد الخالق، الابن البكر من الزوجة الأولى المتوفاة، فقد خرج من البيت منذ أن تزوَّج بثينة.

والجو السياسي في ذلك الحين مشحون بتنافُر الأحزاب وانتهازية العرش وسيطرة الاحتلال. ثم تهبُّ عواصف الحرب، فتتشتَّت عواطف الشعب وتتبعثر بين الزعماء تارة وبين جحافل النازي القادمة تارة أخرى. في تلك الأثناء يقع حلمي في هوى إحدى أفراد الفرقة النمسوية التي هجرت وطنها على أثر غزوات هتلر. ويظل غرامهما سرًّا إلى أن يتحرك في أحشائها طفلهما الأول، بينما كانت بثينة زوجة أخيه تَحبِك الشِّبَاك حوله لتربط بين شقيقَتها إلهام وبينه، فلا يفلت من قبضتها ذلك الإرث الكبير بعد وفاة الباشا. ومن ثَم تُفاوض الباشا على ستر الفضيحة بمبلغ من المال ترحل به إيفا من البلاد. وينطوي حلمي على أحزانه إلى أن تُزفَّ إليه ابنة أحد الباشوات من أصدقاء أبيه، وتفجع بثينة في آمالها. وعندئذٍ تكون الخمرة قد أجهزت على عبد الخالق بعد أن تبخَّرَت أمواله في مضاربات البورصة وامتنع الباشا عن مساعدته، وهربت زوجته إلى أحضان أقرب أصدقائه.

ما يلفت النظر حقًّا على طول الرواية، هو إجادة الفنان المتمرِّسة على الحوار، فمن خلاله رسم جميع شخوص الرواية دون الحاجة إلى السرد الروائي. ربما كان تتابع الأحداث في خطوط طويلة مباشرة هو العامل الرئيسي الذي اضطر المؤلف لأن يعتمد الحوار كوسيلة فنية للعرض. فالباشا — مثلًا — عندما تصله برقية تهنئة من سيدات الأسرة، تلتفت إليه زوجته قائلة (ص١١، ١٢): «كنَّ يتمنَّين أن يحضرن للتهنئة بأنفسهن، ولكنهنَّ يعلمن أنك لا تُقابل سيداتٍ في البيت.

فرفع عينَيه عن البرقية التي كانت بين يديه وقال: والله إنني لا أحب مقابلة السيدات، لا في البيت ولا في المكتب. إنني لا أدري ماذا أقول لهنَّ، هل أحدثهنَّ عن البذرة أم على أسعار القطن؟ إنني رجل ليس لي إلَّا عملي أعيش له.

فقالت زوجته، وهي تضحك: إنك قادر على إرضاء أية سيدة، وما أحسبك تكره النساء، فلو كنتَ تكرههنَّ لما تزوَّجتَ اثنتين.»

هكذا يخطِّط الفنانُ الملامحَ الأولى لأحد شخوصه، بالأسلوب الدرامي. ولقد أدَّت هذه الظاهرة إلى ظاهرة أخرى، جاءت نتيجة طبيعية للأولى: هي الموضوعية في تقديم هؤلاء الشخوص لأنفسهم، فلا نحسُّ بهم ضيوفًا غرباء علينا والمؤلف يقوم بتعريفنا بهم … وإنما نحسهم جميعًا يقدِّمون لنا أنفسهم فلا نلبث أن نعايشهم ونحكم لهم أو عليهم من خلال ذواتهم لا من خلال الكاتب. هذه الموضوعية في التصوير تكشف لنا دونما تدخُّل من المؤلف عن حقيقة شخوصه، بوعي منه أو بغير وعي. فالباشا إذا وصلته «رسالة مكتوبة على ورق أزرق، طفق يقرؤها في إمعان، وقد انبسطت أساريره، والْتَمعَت عيناه ببريق خاطف، وانفرجت شفتاه عن بسمة رقيقة، ولمَّا أتى على الرسالة الْتفتَ إلى عثمان وقال: «هذه رسالة من جمعية الفتيات الصالحات، إنها من الست أنهار، تذكِّر بالمبلغ الذي ندفعه للجمعية. لقد نسينا في غمرة الأعمال، وما ينبغي أن تلهينا الدنيا عن فعل الخير. ابعثْ إليها بمائة جنيه.»

فقال عثمان لِيرضي الباشا: سأبعث إليها بشيك الآن.

– قلت لك يا غبي أكثر من مرَّة إن الخير لا يُدفع بشيكات، أفضل الصدقات ما كانت مستورة» (ص٦٩).

وها هي ذي سمات الباشا تتَّضح رويدًا … إنه يقدم لنا نفسه بنفسه، دون أن ترى شبحًا للكاتب. فما إنْ يعلم بأنَّ الست أنهار وفتياتها الصالحات بالقاهرة، حتى يعتب عليها هذا التقصير، ولكنها تعتذر إليه بأنها عائدة إلى الإسكندرية بعد أن هدأت غارات الألمان، وحينئذٍ يقول الباشا في وُد (ص١٦٩): «والفتيات الصالحات؟

– ستعود كل الفتيات اللائي كنَّ معي في الإسكندرية، وقد انضمَّت إليهنَّ فتيات من القاهرة.

فقال الباشا وهو يبتسم: كلام جميل!

ودقَّ الجرس، ودخل عثمان، ووقف ينتظر التعليمات، وإن كان يعرفها سلفًا. قال الباشا: هاتِ المبلغ الذي تدفعه لجمعيات الفتيات الصالحات.

وخرج عثمان، وفتح درج مكتبه، وراح يعدُّ مائة جنيه، ثم أعاد باقي الأوراق المالية إلى مكانها، وأغلق الدرج وأدار المفتاح، ثم فتح دفترًا أمامه، وراح يكتب: «١٠٠جنيه: أعمال خيرية»» (ص١٧٠) … ووضع الباشا المبلغ في يد الست أنهار، فتقبَّلته شاكرة، وقالت وهي تنهض للانصراف: «يسُرُّ الفتيات الصالحات أن يزورهنَّ الباشا في الإسكندرية.

فقال الباشا وهو يبتسم: قريبًا، إن شاء الله.

… وخرجت أنهار، وعاد الباشا إلى مكتبه، وهو يفكر جادًّا في هذه الزيارة التي يشتاق إليها كل الشوق» (ص١٧١).

بهذه الحيدة الموضوعية في تخطيط الصورة الفنية للموقف الإنساني، برزت معالم شخصية الباشا إلى الوجود، ولم يبقَ لها سوى أن تتبلور، وحانت الفرصة أمام الفنان، عندما جاء في السياق ذِكر الملك في حادث القصَّاصين؛ إذ كان حلمي يحدِّث والده، وقد شرد بصره: «يُقال إنه كانت إلى جوار الملك امرأة، وإنها ماتت في الحادثة. فقال الباشا في صوت خافت: قيل هذا.

ثم أدار وجهه إلى ناحية القِبلة، ورفع أكف الضراعة، وقال: اللهم استرنا واستر ولايانا» (ص١٩١).

كانت هذه الفرصة «الاستراتيجية» أمام الفنان ليعتلي بها قمة التطور الدرامي للحدث، فإذا اشتدَّ لهيب الصيف، قال الباشا: «الحَر شديد هنا، سأسافر غدًا أو بعد إلى الإسكندرية.

وفطنَ عثمان إلى ما سيقوله الباشا، فقال: وقد تمرُّ سعادتكم على جمعية الفتيات الصالحات.

قال الباشا في هدوء: قد أمرُّ على الجمعية، أو قد أبعث مع أحدٍ الراتب الذي نرسله إليها.

فقال عثمان، وهو ينحني: أتريد سعادتك المبلغ الآن؟

– لا. جهِّزه لآخُذه معي عند سفري» (ص١٩٤).

وعلى هذا النحو، لا نرى الباشا في الهيئة التقليدية التي تواضَعَ عليها كتَّاب الرواية في تصوير الباشوات. إن الفنان يدعه يتحرَّك أمامنا … يتكلم ويفعل … ومن كلماته وفعاله تتَّضح لنا صورته قليلًا قليلًا، حتى إذا بلغ الحدث الروائي ذروته الدرامية انجلت أمامنا الصورة كاملة دون زيف، ولا نستشعر من المؤلف أية مصلحة في سوءة هذا وحسنة ذاك، لأن صفاتهم جميعًا تنبع من واقعهم الحقيقي، ومن قلب الموقف الإنساني، واللقطة الفنية. وهكذا نحن لم نفاجأ حين عرفنا أنَّ مئات الجنيهات التي يتعطَّف بها الباشا على جمعية الفتيات الصالحات لم تكُن غير اشتراكه الموسمي في ذلك البيت من بيوت الدعارة التي تديره الست أنهار، ولم تكُن الفتيات الصالحات — بالتالي — إلا مومسات فاتنات. أقول إننا لم ندهش حين اكتشفنا هذه «الثنائية» في حياة الباشا، بل إننا عثرنا على تبريرها في التناقض الكامن بين القيم الأخلاقية المجلوبة من الخارج، والتي يتسربل بها الإقطاعي، وبين القيم الحقيقية النابعة من كيانه الاجتماعي. إن «المسبحة» التي لا يتركها من بين أصابعه أبدًا، تعبِّر عن هذه القيم التي انبثقت يومًا عن واقع اجتماعي مُعيَّن. ولكنها أمسَت للزينة وذَرِّ الغبار في العيون عندما تولد عن ذلك الواقع الاجتماعي السابق، واقع اجتماعي جديد، لا تتلاءم معه قيم وأخلاقيات الواقع القديم. والإصرار إذَن على تلك القيم، هو سر التناقض الذي انزلق إليه الباشا، ممثلًا بالإقطاع، بعد أن أصبح يرتدي قناعًا مَهيبًا، وهو يوزِّع هداياه السنوية على الفلاحين، ويخلع عنه هذا القناع في أحد مخادع الست أنهار. وبذلك أهدى لنا الفنان التشريح الفني للإقطاع، دون تدخُّل منه؛ لأنه صوَّر تلك المرحلة من تاريخنا في إطار موضوعي تمامًا، اعتمد فيه على اللقطة الدرامية لحركة الحدث.

على أنني أخذت على «الحصاد» حين صدورها جملة أشياء، أهمها أنها خلَت من حدث روائي في القصة يمكن اعتباره المحور الدرامي الوحيد … وقلتُ إن انهيار النظام الإقطاعي، والشقاق بين الباشا وابنه عبد الخالق، ومأساة غرام حلمي وفشل حياته الزوجية، وسقوط بثينة بعد أن تحطَّمَت كل آمالها … كل هذه الخطوط الأساسية، هيَّأَت لنفسه ما يكفل له صفة المحور الدرامي، سواء اكتسب هذه السمة من السياق التعبيري، أو من اتخاذه طريقًا طويلًا أو مُعمَّقًا عَبْر الرواية. إن الشقاق بين الباشا وعبد الخالق — على سبيل المثال — فرض لنفسه خطًّا رئيسيًّا في الرواية. كان يبدو ذلك ممكنًا وطبيعيًّا للغاية، لو أنه اكتسب من السياق الروائي ما يَكفيه من مبرِّرات. حقًّا أصبح بيت الابن موئلًا لأصدقاء السوء والمتسلِّقين من أمثال مرسي «صاحب الشقة الفاخرة في سليمان باشا، كلها غرف نوم، ودَوره أن يفتح الباب لرجل وامرأة وأن يغلقه خلفهما … وقد يسَّرَت له شقته وكتمانه وحفظه للأسرار اندماجه في الطبقات الموسرة التي تقدر خدماته الجليلة (ص١٢٣، ١٢٤). وهناك شعبان الذي يجلس إلى جوار بثينة «وقد صوَّر له طول حرمانه الذي قاساه أنه ما إنْ يدخل الطبقة الأرستقراطية حتى ينال كل نسائها» (ص٢٤١). والذي جمع مرسي بشعبان هو أن الأخير اتسعت أعماله في تهريب التموين وقت الأزمات، ووجد أن بعض الموظفين يتعفَّفون عن قبض الرشاوي، فلم ييأس منهم، كان يُضايقه أن يجد موظفًا متمرِّدًا على نفوذه، فأعدَّ جرسونيرة في مصر الجديدة وأخرى في شبرا وثالثة في الجيزة، يُغري بها الموظفين الذين يترفَّعون عن أخذ المال. وقد نجحت الفكرة حتى إن أغلب الموظفين الذين كانوا روادًا لبيت مرسي يمَّمُوا وجوههم شطر شعبان. وضايق ذلك مرسي، فذهب إلى شعبان يحتجُّ على منافسته غير المشروعة ويهدِّد ويتوعَّد. ولما كان شعبان من طبعه أن يرشو كلَّ مَن يتصل به، فقد اتفق مع مرسي على أن يكون مديرًا لجرسونيراته مقابل مبلغ من المال (ص٢٨٥) … أما رفعت فشاب وسيم «فيه جرأة واعتداد بالنفس، وما كان من الوسط الذي يعيش فيه، إنه من أسرة فقيرة، ولكنه كان توَّاقًا إلى حياة البذخ والسهر والعربدة، فراح يصادق زملاءه الأثرياء في المصلحة ويشاركهم لياليهم الحمراء ويقضي لهم ما يكلِّفونه به من خدمات لا تحلو السهرات إلا بها، وغالبًا ما كان يتطوَّع من تلقاء نفسه لتأدية الخدمات ليؤكد ضرورة وجوده وأهميته» (ص٢٦)، وقد وصفه عبد الخالق ذات مرَّة بأنه «رجل الملمات، يعرف من أين تأتي الخمور» (ص١٢٥).

ولقد نجح مرسي في اجتذاب عبد الخالق إلى شقته في شارع سليمان بعد أن يوسوس له: «أنت في حاجة إلى راحة، إلى تغيير حياتك هذه التي تحياها، لماذا لا تفكر في أن تأتي عندي ليلة؟

فقال عبد الخالق في بساطة: في المسرح؟

فابتسم مرسي ابتسامة ترجمتها يا عبيط وقال: لا، عندي في البيت، عندي كل وسائل الترفيه، ممثلات، فتيات صغيرات، ويسكي، بيرة، حشيش، تعالَ ليلة لتعيش في الجنة.

وانقشع القلق المستبد بعبد الخالق، وصفَت نفسه، فقال لمرسي: ربنا يوعدنا» (ص٢٤٠).

وحدث أن أخفق شعبان في الوصول إلى أحضان بثينة، لأن رفعت سبقه إلى ما بين الضلوع … ولكن ما هي دلالة هذه الأحداث؟ كانت النتيجة الوحيدة أن الفنان — بعد ما خلق في الرواية خطًّا رئيسيًّا بلا ضرورة فنيًّا — تورَّط في اختلاق الجو الموازي لهذا الخط. وأذكر مثلًا أننا عرفنا الجانب الحقيقي في حياة الباشا أثناء زيارته للإسكندرية، وبمعنًى أدَق أثناء زيارته للست أنهار. وعرفنا أيضًا حياة عبد الخالق بعد أن أقام المؤلف سدًّا عاليًا بينه وبين أبيه. ويومًا يسافر الباشا إلى الإسكندرية حيث يتعشَّم قضاء ليلة ممتعة في فيلَّا أنهار، ويشاء البوليس أن يعكِّر عليه صفو هذه الليلة، فيهاجم الفيلَّا ويقبض على النساء والرجال ويركب الجميع «البوكس»، وإذا بالباشا وجهًا لوجه أمام ابنه عبد الخالق! والضابط يسأله عن اسم أبيه، فيجيب: «سليم باشا شبلي.

والْتفتَ إلى الباشا وقال في قسوة: أقدِّم لك سعادة سليم باشا، أبي» (ص٣٤٤). لا شكَّ أنَّ هذه لقطة بارعة لو أُخذت على حِدة، ولكنها — للأسف — جاءت وسط اللوحة الكبيرة، شيئًا مُفتعَلًا، رغم احتمال وقوعها. ولقد استهوت المؤلف هذه المفاجأة التقريرية في قطاعات مختلفة من الرواية؛ فعندما تعلم بثينة بخيانة زوجها لها في بيت واحد للدعارة مع والده تنهار تمامًا، حتى إذا دخل رفعت — بعد دقائق — ارتمت في أحضانه على الفور، وهتكت الخيط الرفيع الذي حال بينهما طويلًا. وإن كنت أتفق مع الكاتب على أن الموقف كان ممهدًا منذ بعيد، إلا أنني لا أتفق معه في ترجمته على هذا النحو: بثينة تقرأ غمزًا للفضيحة بإحدى المجلات فتواجه عبد الخالق وتهب عاصفة هوجاء تنتهي بخروج عبد الخالق، ثم يدخل الخادم: «رفعت بك في الصالون.

وقامت وهي ساهمة، وانطلقت إلى الصالون باسرة الوجه، في صدرها حزن ثقيل، ومدَّت يدها إلى رفعت تُصافحه وشفتاها مزمومتان، وعيناها ذابلتان، وروحها غارقة في الظلام، ونظر إليها رفعت في إنكار وقال: ما بكِ الليلة؟ مريضة؟

قالت في صوت تخنقه العبرات: تصوَّر؟ عبد الخالق يخونني.

وأجهشت بالبكاء، وأخفت وجهها في صدره وتشبَّث بها، فراح يمرُّ يدًا على شعرها في حنان، أحسَّ في تلك اللحظة أن الغشاء الرقيق الذي كان يفصل بينه وبينها قد تهتَّك، وضمَّها إلى صدره وهو غارق في السرور ثم راح يمسح دموعها بشفتَيه، وطفق يعصرها عصرًا، وقلبه يخفق بالنشوة بين جنبَيه.» إن التعبير الفني ما كان يتحمَّل مشهدًا ميكانيكيًّا كهذا … وكان يكفي أن تضمر بينها وبين نفسه ما انتوته من خيانة، وأن نحسَّ نحن بما يعتلج في صدرها بلا حاجة إلى نقله مسرحيًّا. وتثير هذه النقطة سؤالًا جديدًا: كيف نجحت بثينة في كبح جماح نفسها طيلة هذه المدة، رغم أن المجتمع الذي تحياه هو مرسي وشعبان تاجرا الأعراض، والممثلة الكبيرة هاوية الشذوذ الجنسي، وأخيرًا رفعت، الوصولي المتسلِّق؟ بل كيف أقنعَت نَفْسها بطُهر زوجها طيلة هذه الفترة أيضًا؟ وكيف عاش هذا الزوج بنفس غفلتها؟ وكيف أُصيب كلاهما بالغباء إزاء محاولات شعبان لإقراضهما وقت محنتهما؟ لقد تساءل عبد الخالق في استغراب: «كيف يرحِّب بإقراضنا وهو لا يعرفنا؟

فقالت بثينة في حماس: قال مرسي إن الرجل رآنا أكثر من مرَّة، ويعرفنا جيدًا، وإن كنا لا نعرفه بعدُ. ووضع عبد الخالق كأسه وقال: ولماذا يُقرضنا دون ضمان؟» (ص٢٠١).

وحين قال شعبان مصادفةً في حديثٍ له: «كل شيء له ثمن» شرَدَت بثينة لحظة تفكِّر «تُرى ماذا يقصد بكلامه هذا؟ أيريد أن يومئ إلى شيء؟ إنه وعد بإقراض عبد الخالق ما يريد، ولكنه لم يتقدَّم خطوة بعد ذلك الوعد، أيريد ثمنًا لتنفيذ وعده؟ وإذا كان يريد ثمنًا، فما هو ذلك الثمن؟» (ص٢٣٤). إلى هذا الحد الغريب، بلغ بهما الغباء، حتى إن أحدًا لم يفهم ما وراء محاولاته إلا حين جلس معهم إلى الطعام «وراح يمدُّ رِجله من تحت المائدة ليداعب بها رجل بثينة» (ص٢٤١)، ومرَّة أخرى أهداها سوارًا وأخذ يتحسَّس ذراعَيها وظَهْرها، أي بعد أن لجأ المؤلف إلى ترجمة الموقف عمليًّا!

نبتت هذه الأسئلة جميعها على ساق أحد الخطوط الرئيسية في الرواية؛ لأن وجوده الطبيعي لم ينبت بدَوره من ضرورة فنية. وربما قد تبلورت أزمة المفاجأة التقريرية هذه حين توسَّدَت بثينة ورفعت غرفة الاستقبال ليشربا كئوس المتعة بينما عبد الخالق في فراشه يُعاني النزع الأخير. فما كان من المؤلف إلَّا أن أقام المريض من فراش الموت، ليأخذ طريقه إلى غرفة الاستقبال، ويشهد مصرع شَرَفه. ولست أعلِّق على هذا الموقف إلا أنه نموذج للتقرير في «الحادثة»، لأن الفنان هنا لا يعِظُ بطريقة منبرية، ولكنه «يعِظُ» بطريقة فنية. أي إن التقرير هنا في اختيار الصورة نفسها لا في وصف الحادثة أو شخوصها.٣

•••

على أن هذه المآخذ جميعها على رواية «الحصاد»، لا تنفي أنها أنضَج أعمال السحار التي ناقشت موضوع الجنس في مختلف مستوياته الاجتماعية والفكرية والفنية.

فالمؤلف لا يذكر الشيطان مطلقًا بالرمز أو بالإبانة، فيقدِّم لنا معنى الجنس عند الرجل الإقطاعي والمجتمع البرجوازي على السواء، على أنه علاقة دون المستوى الإنساني.

كانت موضوعيته الصارمة في التصوير حائلًا صلبًا دون انحدار في مهاوي التقرير العاطفي لمجموعة القيم التي يؤمن بها المؤلف. ولذلك انتهت القصة بمجموعة من النتائج تختلف في الكثير عن تلك القيم.

غير أن هذه الرواية تمثِّل — كما قلت — المرحلة الوسطية بين «همزات الشياطين» (١٩٤٦م) و«جسر الشيطان» (١٩٦٢م) فهذه الرواية الأخيرة في مطابقتها لمعنى الجنس في قصة «وسوسة الشيطان» تقرِّر جملة حقائق:

  • (١)

    أن التقدُّم العلمي المذهل، والمعدَّل السريع لتطوُّرنا الاجتماعي، استجابت له نفسية صلاح فيما مضى، وشخصية علي في الوقت الحاضر استجابةً مغايرة لِما يعتمل بين جنبات الإنسان العربي المعاصر. فلم تَعُد حضارتنا قاصرة على كُتب الدين، كهدية نقدِّمها إلى أوروبا لنجذبها من حظيرة الشيطان إلى حقل الإيمان. إنَّ أوروبا المعاصرة تُنفق ملايين الجنيهات على الكتاب المقدَّس والفلسفات اللاهوتية ومعاهد التعليم الغيبي … وهي إذَن ليست بحاجة إلى أنبياء جُدد من الشرق. ولم يعُد الشرق نفسه شرقًا، إنه يستطيع الآن أن يضيف إلى الحضارة الإنسانية شيئًا جديدًا غير الرسالات السماوية، شيئًا يرتفع إلى مستوى العصر، في التقدُّم العلمي والضميري معًا.

  • (٢)

    لقد وقف الإنسان العربي فوق جسر الشيطان في جميع أعمال السحار، ولكنه في هذه القصة الأخيرة يلخِّص لنا موقفه بوضوح: إن الشيطان الآن يصرع أوروبا، ولن تصرعه لأنها راقدة في وهاد المادية والعلم والعقل. أما نحن — أبناء الشرق العربي — فسوف نحطِّم كافة الجسور بيننا وبين الشيطان بفضل تراثنا الروحي العظيم.

  • (٣)

    الجنس دائمًا هو هذه الغشاوة السوداء التي تظلِّل عيوننا فلا ترى نور الله. لقد أمضى «علي» شهرًا في ألمانيا الغربية مع «آني» المرأة التي تعرض جسدها عاريًا كل مساء في كازينو دي باري. أمضاه معها فوق جسر الشيطان، ونجح في أن يرتفع بها من فوق هذا الجسر على جناح النور الإلهي إلى أبراج الكنيسة الخضر، ونجحت هي في الانتصار على «الوحش الضاري في أعماقها … على وسوسة الشيطان، على همزات الشياطين النابحة».

    (لاحظت أن المؤلف كرَّر هذه التعبيرات عشرات المرات، بالإضافة إلى عشرات الاقتباسات من الكتاب المقدَّس والقرآن) … وهذا كله يذكرنا بمجموعته «همزات الشياطين» وقصته «وسوسة الشيطان» بالذات.

  • (٤)
    ويذكِّرنا أكثر فأكثر أنَّ السحار ظاهرة أدبية تمثِّل ردَّ الفعل العنيف لتطوُّرنا الحضاري من جانب القيم القديمة، كما أنه رد فعل طبيعي لأكوام الأدران الصفراء التي تمثِّل بعقولنا أفظع تمثيل باسم «الجنس». كان رد الفعل عند السحار في «جسر الشيطان» أنْ جعل من الرواية كلها حوارًا طويلًا مُقسَّمًا بالعدل بين علي وضميره وشيطانه، وآني وضميرها وشيطانها … وليس هذا مونولوجًا داخليًّا على الإطلاق، إنه عملية Dramatization للتوراة والقرآن والإنجيل.
١  من هذه المؤلفات: بلال مؤذِّن الرسول، سعد بن أبي وقاص، أبناء أبي بكر الصديق، أهل البيت، قصص من الكتب المقدسة، قصص الأنبياء «١٨ قصة بالاشتراك مع سيد قطب»، قصص السيرة النبوية «٢٤ قصة» قصص الخلفاء الراشدين «٢٠ قصة» … إلخ … إلخ.
٢  عن مجموعة «أرملة من فلسطين»، الكتاب الفضي، ديسمبر، سنة ١٩٥٩م.
٣  راجع دراستي النقدية «حصاد العمر»، الآداب، ديسمبر، سنة ١٩٦٠م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤