الفصل السابع

فلسفة الحرام عند يوسف إدريس

ليس الاتجاه الواقعي في الفن إلَّا اتجاهًا فحسب، أي إنَّ الالتزام بالواقعية في الأدب لا يعني مُطلَقًا الالتزام بأسلوب معيَّن في التعبير، ومنهج محدَّد في التفكير. وإذا كان البدوي وحقي ولاشين، هم روَّاد الاتجاه الواقعي في القصة المصرية الحديثة، فإنَّ واقعية ذلك الجيل كانت تشوبها الرومانسية حينًا، أو التعميمات التجريدية حينًا آخَر. ومن ثَم كان الجيل التالي لهم مُمثَّلًا في عبد الرحمن فهمي، وشكري عياد، ويوسف إدريس، أكثر وعيًا وواقعية حين تخلَّصوا رويدًا من تضخيم الانفعال والتجريد، وعُنوا إلى حدٍّ كبير بالجزئيات الصغيرة.

وتكاد تتلخَّص الخطوط العامة للواقعية في أذهان أدبائنا، بخطَّين أساسيَّين، هما: العناية المفرطة بالفئات الكادحة من الشعب، والتأكيد على أن «الخير» هو السمة الأساسية للجنس البشري، وإن توارت أحيانًا تحت ركام الظروف الاجتماعية السيئة.

ولقد أسهم تطوُّر الأحداث الاجتماعية والسياسية في المنطقة العربية، في تكوين تيار نقدي تخصَّص تمامًا في صياغة الاتجاه الواقعي في ذلك الإطار السابق، واتَّخذ من القصَّاص يوسف إدريس نموذجًا ممتازًا لدراساته. والحق أن هذا الاختيار لم يكُن عبثًا، وإنما كان تجسيدًا حقيقيًّا لأزمة الاتجاه الواقعي، حين يقصر نظرته للواقع على الفئات الاجتماعية الدنيا، والخير الكامن في أعماقها.

لهذا خلَت دراسات ذلك التيار من البحث عن جذور الواقعية في الأدب العربي، حتى يصبح توجيه الأدباء والفنانين نحو الاتجاه الواقعي نابعًا من تاريخهم ونابضًا بتراثهم، فلا يُقال — ما قيل بالفعل — إن التيار «نظرية مستوردة» لا تتَّفق مع واقعنا.

وإذا كان اللوم الأكبر في هذا التقصير يقع على كاهل النقَّاد في المقام الأول، فإنَّ اللوم الحقيقي يقع على الرؤية السياسية السطحية، التي كان من شأنها تضخيم الانفعال بالأحداث السياسية والاجتماعية في المنطقة تضخيمًا مُبالَغًا فيه، يُزيِّف جوهر العمل الأدبي.

ولعلَّ امتياز يوسف إدريس الأساسي، هو قدرته الخاصة التي ابتعدت به عن ذلك العيب الخطير في أدبنا الواقعي، بل العيب الخطير في تشويه معنى الواقعية. على أنَّه — مع ذلك — لم ينجُ من الإطار العام الذي حدَّده أولئك النقاد من جهة، والذي أوحَت به تطورات مجتمعنا في شقَّيها الاجتماعي والفكري … فقد بدأت الطبقات الشعبية تعتلي منبر الأحداث، ثم رافقتها الفلسفات المؤيدة لهذا الاعتلاء، المدعِّمة له في كافة مجالات المعرفة. وكان الأدب هو المجال الأول.

وفي مجال الأدب برز يوسف إدريس وقتئذٍ كأديب «واقعي» ممتاز، ذلك أنه — بفَهم عميق لفن القصة القصيرة — أنقذ الاتجاه من الاتهام الذي وُجِّه إليه من الاتجاهات التقليدية الأخرى: وهو تغليب الجانب السياسي على بقية الجوانب الفنية في العمل الأدبي. وظلَّ يوسف إدريس «منقذًا» أمدًا طويلًا … إلى أن أصبح تفرُّده بالامتياز الفني دون بقية الأدباء «الواقعيين» ظاهرة مَرَضية، أوقعَت الحركة النقدية المصاحبة للاتجاه في مأزق حرِج.

ثم بدأ يوسف إدريس نَفْسه يشبُّ عن الطوق، ويسلك طُرقًا جديدة في التعبير. وسواء بلغ فيها درجة الكمال، أو هبط منها عن مستواه السابق، فقد تخلَّى أصحاب الاتجاه عن ذلك الابن المتمرِّد. وبالرغم من ذلك لم يتخلَّ يوسف عن الإطار العام الذي استضافه لأعماله منذ بواكير إنتاجه الفني. فقد ظلَّت الفئات الكادحة هي الأرض الاجتماعية والفكرية، التي يخطو عليها منذ «أرخص ليالي» إلى «العيب».

ولا خير مطلقًا أن يتخصَّص الأديب في شريحة اجتماعية بعينها، بحيث لا يكرِّر نفسَه من عمل إلى آخَر. أي لا يتورَّط في الْتِقاط ظاهرة، أو الالتقاط من زاوية، بصفة دائمة، وإنما يجتهد في اكتشاف الظواهر المختلفة والزوايا العديدة فيكتسب أدبه خصوبةً وغنًى قلَّ أن يكتسبهما مَن يصوِّر الكثير من الفئات الاجتماعية بنظرة وحيدة الجانب. ومن هنا جاء تصوير يوسف إدريس لأزمة الجنس في مجتمعنا، تصويرًا بالغ الأهمية؛ لأنه يلتقط ظواهر عديدة من زوايا مختلفة. ففي قصة «أرخص ليالي» — التي ظهرت ضمن مجموعة تحمل هذا الاسم عام ١٩٥٤م — يصوِّر القناع الجنسي عند تلك الفئات المطحونة، كانعكاس للضياع النفسي، وكلاهما انعكاس للضياع الاجتماعي. كيف اكتشف هذه الظاهرة؟ إن التحقيق الفني للفكرة يضع أيدينا — مع الفنان — على الظاهرة كما يلي: إن «عبد الكريم يحسُّ مللًا زاحفًا على كيانه بعد صلاة العشاء، ويريد أن «يسلِّي الوقت» في أي مكان وبأية طريقة، ولكن المكان أي مكان، والطريقة، أي طريقة تكلِّفه بضعة قروش. وعبد الكريم خالي «الوفاض» تمامًا … «وأخيرًا استقرَّ في وسط داره، وقد أغلق الباب بالضبة والمفتاح. وتخطَّى أولاده، وهو يزحف في الظلام على قبوة الفرن حيث يتناثرون. ومصمص بشفتَيه وهو يئنُّ منهم ومن الظلام، ويعتب بينه وبين نفسه على الذي رزقه بستة بطون تأكل الطوب — وكان يعرف طريقه فطالما علَّمَته ليالي البرد الطريق — وعثر آخِر الأمر على امرأته. ولم يزغدها، وإنما أخذ يطقطق لها أصابع يدها، ويدعك قدمَيها اللتين عليهما التراب بالقنطار، ويزغزغها في خشونة بعثت اليقظة المُقشعِرَّة في جسدها. وصحَتِ المرأة على آخِر لعنة أصابت طنطاوي في ليلته … وسألته في غير لهفة وفمها يملؤه التثاؤب عمَّا جناه الرجل حتى يسُبَّه في عِزِّ الليل؟ فقال وهو ينضو ثيابه، ويستعد لما سيكون: هه … الله يخرب بيت اللي كان السبب.»

بعد شهور، يقول الفنان: «كانت النساء كالعادة يُبشِّرْنه بولد جديد، وكان هو يعزِّي نَفْسه على السابع الذي جاء في آخِر الزمان، الذي لن يملأ طوبُ الأرض بطنَه هو الآخَر» … ونحن لن نستقبل الولد الجديد بفزع، كما يتوهَّم الكاتب، بل إننا نستقبل تجربة الأب بفيض من التساؤلات حول الأزمة الضارية المُحكَمة حول عنق الإنسان الكادح في بلادنا، وكيف أن شبحها يظلِّل كافة المنافذ أمامه بالسواد، فلا تعود عيناه تريان ومضة نور … وإنما تصبح حياته نسيجًا داكنًا من الذل والفاقة والعلاقات غير الإنسانية. حتى إنَّ العلاقة بين الرجل والمرأة، تصبح تعويضًا عن الملل، وتعبيرًا قاسيًا عن أنه لا يوجد شيء آخَر! فبينما يفترض المرء أنَّ العلاقة بينه وبين الأنثى مصدر متعة مشتركة، يضطر تحت وطأة الضغط الاجتماعي أن يتحوَّل بها إلى «مخدر» من جانبه، وإلى «واجب» زوجي من جانب المرأة تؤدِّيه بحركة آلية، وتبعد بها العلاقة تمامًا عن المستوى الإنساني؛ لأنهما يعيشان أصلًا دون هذا المستوى.

والفنان يعرض لنا الظاهرة من زاوية محدَّدة، هي لحظة الفراغ في حياة الرجل والنوم في حياة الرجل … أي إنَّه ليست هناك أية عوائق تَحُول دون إنجاز المستوى الإنساني للعلاقة … إلَّا ذلك الإحساس العميق بالملل لدى الرجل، فيُحاول تسلية الوقت بأي ثمن، والمرأة تحاول النوم، ولا ينجح كلاهما … لأن الرجل لا يملك «أي ثمن»، والمرأة مُرغَمة على اليقظة حين تُداعب جنبها زغزغات عبد الكريم الخشِنة. وبين معادلات الرجل والمرأة، للوصول إلى حل، يستعرض الكاتب البناء الاجتماعي للقرية من خلال ألوان التسلية التي «يقتلون» بها الوقت، فيستعرض لنا في واقع الأمر صورة الفجيعة الاجتماعية الحية في أرضنا. ثم نلتقي مع مداعبات عبد الكريم لطنطاوي الخفير، ومداعبات الأطفال لعبد الكريم فنحسُّ أننا نلتقي فعلًا مع الوجه النفسي اليائس لهذا الإنسان الذي يهرول بخُطًى سريعة نحو الدمار النفسي الكامل … لهذا السبب لا يعبأ عبد الكريم بكوم اللحم الذي لا يجد اللقمة، ويوقظ المرأة بأصابع جفَّت فيها الدماء، ويمارس معها شيئًا، تتكوَّر نتيجته في بطنها، ليستقبل الدنيا قبل موعده الرسمي بشهرَين، جعلنا ذلك الشيء الذي مارسه أبوه مع أمه، قائلًا في هيكله العظمي الواهن الذي يشف من خلال جلده الرقيق الخالي من اللحم، إنه شيء رخيص للغاية، شيء يرقد في أسفل مراتب السلوك البشري. أما نحن — والفنان معنا — فندعوه — من بعيد — بالضياع الجنسي ربيب الضياع النفسي، وكلاهما نتاج الضياع الاجتماعي.

هذه هي المعادلة الفنية — والاجتماعية والفكرية في نفس الوقت — التي يهديها لنا يوسف إدريس منذ بداية حياته الأدبية: الجانب الفني عنها — أو التعبيري — منها، هو تصوير الضياع الجنسي، تكثيفًا لضياعه النفسي. والفنان يسلك من أجل ذلك طريقَ الاستقطاب للجزئيات الصغيرة في بؤرة ضوئية واحدة … أي إنَّه يستجمع التفاصيل الداخلية والخارجية لشخصية عبد الكريم، حتى يصِلَ بنا إلى الاقتناع الكامل بالسلوك النهائي لهذه الشخصية، وبذلك نحصل على بناء منطقي تمامًا، متسق للغاية.

والجانب الفكري والاجتماعي لمعادلة يوسف إدريس، هو الاهتمام بالطبقات الشعبية اهتمامًا إنسانيًّا يتعاطف مع قضاياها في الحياة، وإن ما نراه من شرور وآثام في سلوك أبناء هذه الطبقات، ليس إلا نتاجًا للأنظمة الاجتماعية السيئة.

ولقد كان الجانبان — الفكري والتعبيري — بمثابة رد الفعل الطبيعي للاتجاهات السابقة في تاريخنا الأدبي، حيث كان اهتمامها بمشكلات الطبقة الوسطى والطبقات العُليا عمومًا في المقام الأول، كما ظلَّ موضوع «الحب» في إطاره الرومانسي هو شاغلها الأكبر فترةً من الزمن، وكذلك اقتصارها في تجسيد الشخصية أو الموت أو التجربة، على الخطوط العريضة جدًّا.

على أن «رد الفعل» هنا ليس بالعامل الحاسم في تكوين اتجاه يوسف إدريس، وإنما — كما سبق أن قلتُ — كانت الأحداث التي يمرُّ بها مجتمعنا، تدفع إلى وجداننا دفعًا بالفئات المسحوقة التي أسهمت في تطوُّر هذه الأحداث. تصاحبها في ذلك نظرتها إلى الحياة.

وبقيَ هذا المنهج في التفكير والتعبير مصاحبًا لكتابات يوسف إدريس إلى اليوم … مهما تفاوتت أعماله في الجودة والاكتمال، ومهما تبايَنَت الزوايا والظواهر التي يعالجها … بل ربما كان تبايُن هذه الزوايا وتلك المظاهر هو العامل الوحيد الذي ما يزال يُضفي على إنتاج هذا الفنان خصوبة وغِنًى. ولو أنه تطوَّر بمنهجه خلال الثماني سنوات الأخيرة، لحقَّق هذا الكاتب في مجال القصة القصيرة خطوات ريادية باهرة.

غير أنَّ تناقضًا أساسيًّا في منهج يوسف إدريس — على وجهَيه الفكري والتعبيري — يَحُول دون تحقيقه هذه الخطوات. يكمن هذا التناقض بين عنايته المفرطة بالتفاصيل الدقيقة في مجال التعبير، واللجوء إلى التعميم والإطلاق في مجال الفكر. ويتضح هذا التناقض بجلاء في مقارنة سريعة بين أقصوصة «أرخص ليالي» وقصة «العيب»، أي بين بداية إنتاجه الفني، وأحدَث مراحل هذا الإنتاج. سوف نكتشف قرابةً شديدة الأهمية بين العملَين، تُمليها وحدة النظر التعبيرية والفكرية، الفرق الوحيد بينهما أنَّ «أرخص ليالي» حين ظهورها، كانت دفعًا ثوريًّا للقصة القصيرة، بينما «العيب» لا تسجِّل شيئًا جديدًا، بعد مرور سنوات عديدة على التجربة الأولى. «العيب» تناقش الخطيئة كثمرة للمجتمع «في المدينة» بأن تبدأ الفتاة سناء عملها بإحدى المصالح الحكومية، وتعرف البنت خلال فترة قصيرة أن هناك عالَمًا آخَر غير العالَم الذي تراه. فقد عرفت أن زملاءها جميعًا يتقاضون من زبائن المصلحة مبالغ باهظة مقابل أدائهم لبعض التسهيلات الخاصة بأعمال هؤلاء الزبائن — ويحاول زملاؤها أن يدخلوها في زمرتهم، غير أنها ترفض بإصرار. حتى إنَّ شقيقها تمنعه المدرسة من دخول الامتحان لعدم سداده المصروفات، ولكنها تصمد أمام الإغراء، ويبذل «محمد الجندي» جهودًا كبيرة ﻟ «الْتِهام» سناء شكلًا وموضوعًا … فهو يريد أن يستحوذ عليها كأنثى جميلة، كما يبتغي ضمَّها إلى حظيرة الرشوة. وأخيرًا جدًّا، تجد سناء نَفْسها كمَن يُطلق البخور في بيت للدعارة، إنه مشهد هزلي، لا بطولي … وتنهار أمام «المائة جنيه» التي ألقاها «عبادة بك» في أحد أدراجها، وتنهار في نفس الوقت أمام محمد الجندي: «يا أخي فلقتني … كازينو الحمام … حتلاقيني بُكرة الساعة ستة هناك. نطقت الجملة وسكتت هنيهة، في أثنائها اقشعرَّ جسدها لدى صورته حين مرَّت بخيالها، وهو يهدر هدير الكلب (الرجل)، ووجدت نفسها تقول: ولَّا إيه رأيك؟ ما بلاش الكازينوهات لحسن حد يشوفنا.»

وهكذا تبدأ مأساة سناء النفسية، كانعكاس لمأساتها الاجتماعية.

وما يُقال من أن «التصميم الذهني» في القصة أفسدها، هو قول بعيد عن التأنِّي؛ لأن كلَّ فنان عظيم يصمِّم عمله الفني ذهنيًّا، بمعنى أنه يخطِّط له الهيكل العام قبل الصياغة التفصيلية. ولكن «الذهنية» في قصة «العيب» يقصد بها على الأرجح تلك المعادلة الإدريسية التي سَبقَ أن أشرتُ إليها، والتي تقول بأن البشر ثمرة الوضع السيئ للمجتمع. إن يوسف يتتبع سناء تتبُّعًا مُذهِلًا لكافة خلجات نَفْسها من الداخل، وكافة لحظات سلوكها من الخارج، ويدقِّق كثيرًا في اختيار التفاصيل الصغيرة الميكروسكوبية التي تمنح المشهد جميع المبرِّرات لوجوده. ثم يحدث التناقض الأساسي في أدب يوسف إدريس؛ إذ إنَّ هذه التفاصيل لا تَصِل بنا إلى نظرة تفصيلية شاملة للمجتمع، وإنما تُعطينا تجريدات مُغرقة في الإطلاق والتعميم، فقد كان الخير والشر، والوراثة والبيئة، تقسيمًا أقرب إلى الصواب في مرحلة متخلِّفة من مراحل التطوُّر الحضاري. أما الآن فقد تقدَّمَت العلوم التي تُثبت أنَّ الإنسان والكون والمجتمع أشياء غاية في التعقيد، ومن السذاجة تصنيفها تصنيفًا متعسِّفًا، فنقول إن المجتمع هو الأب الشرعي للخطيئة ونمضي. إن هذا لم يعُد كافيًا للوعي بالذات البشرية وعيًا حقيقيًّا. أجل، إن هذا صحيح بشكل عام، ولكن القصة المعاصرة لا تصنع «الأكليشيه». وإنما تصنع شيئًا مُعجِزًا للغاية، ذلك هو التخصُّص الحاد في جزئية كثيفة مُعقَّدة من نفس الإنسان، وتهدينا في نفس الوقت نظرة شاملة للإنسان والكون والمجتمع. ويوسف إدريس عندما يتتبع سناء تتبُّعًا ميكروسكوبيًّا، ولا تحصل منه على هذه النظرة، فلأن اختياره للتفاصيل كان يقع في منطقة التقسيم المتخلِّف لمعنى الإنسان، ذلك التقسيم اليسير المُطلَق. بل إن هذا «اليُسر الفكري» كان ينعكس على القصة بِيُسر تعبيري مماثل، فما أسهل أن يصوِّر الفنان الصراع بين الخير والشر، وأن يبيِّن في النهاية أن الشر هو خطيئة الظروف الخارجة عن إرادة الإنسان. حتى أصبحت هذه الظروف مشجبًا مظلومًا لكلِّ خطايانا.

ويوسف إدريس لا يسقط أبدًا في هُوَّة «التفاؤل» التي خطَّط أبعادها ذوو العيون المتورمة سياسيًّا … إنه لا ينظر إلى الخير والشر نظرة ميكانيكية وحيدة الجانب، بل ينظر من عِدَّة زوايا، وإلى مختلف الظواهر؛ ولذلك فالتجربة عنده متجدِّدة غنية. ولكنَّ منهجه في تحقيقها التعبيري هو الذي يسقط بها وبه في هُوَّة المعادلة الرياضية، فليس شكٌّ أن تجربة الفنان التي تدخل مصلحة «رجالي» لأول مرة في تاريخ هذه المصلحة، هي تجربة أصيلة وبنت مجتمعنا. بالإضافة إلى أنها تسجِّل إحدى المراحل الهامة في تاريخنا الاجتماعي. ولقد اكتفى يوسف إدريس في تعبيره الوجداني عن هذه المرحلة، بأن القديم ما يزال قويًّا، وأنه يستطيع أن يغتال الجديد، وهذا صحيح، ولكن الأزمة الحقيقية ليست كامنة في عملية الاغتيال هذه، وبالتالي ليست كامنة في مئات الظروف الشاقة المَريرة المحيطة بالموظفين عامة، وسناء خاصة. إن الموظفين عمومًا ليسوا شرًّا خالصًا أو خيرًا خالصًا — والمؤلف يصف الإنسان بهذا المعنى أحيانًا — بل إن معنى الشر والخير نفسَيهما في غاية التعقيد. كذلك، فإن سقوط إحدى القلاع في ذات الإنسان كقبول سناء للرشوة مثلًا، لا يعني مطلقًا سقوط بقية القلاع، فتفرِّط في شَرَفها مرَّة واحدة. إنَّ مجموعة القيم عند الفرد والجماعة موغلة في التشابك حقًّا، ولكنه تشابُك مُعقَّد؛ بحيث لا نستطيع أن نجمع هذه القيم على قماشة بيضاء، إذا رفعها الإنسان في لحظة ضعف، رُفعت بأكملها، إذا أبقى على واحدة منها، أبقى على الكل. وهذا هو ما يجعل قصة يوسف تبدو كما لو أنها كُتبت بخطة عقلانية مُسبقة. ولا يقابل العقلانية، العشوائية أو التخبط أو الغيبوبة. بل يقابلها مزيد من دراسة المجتمع مفصلًا، والبحث عن أدوات ومناهج جديدة للتعبير عن أحداث ما يقوله المجتمع. وفي «العيب» أزمة واضحة، ولكنها أزمة مُسطَّحة تسطُّحًا غريبًا؛ لأن الفنان ضيَّقَ عليها الخناق بين جدارَين: الخير والشر، ثم أسند الإنسان على جدار الخير، وأسند الظروف على حائط الشر، وجعل بين الإنسان وظروفه صراعًا حادًّا تبادلا فيه مكانَيهما جملة مرات. ولا ريب أن الصراع بين الإنسان وظروفه هو الموضوع الأصيل للفن. ولكن هذه الظروف لم تعُد القضاء والقدر أو الوراثة والبيئة. لقد تعهدت ظروف عصرنا بصورة لم يسبق لها نظير فيما مضى، وأضحت معالم أزمة الضمير في جبين أجيالنا، أعمَق من أشكالها السطحية التي تبدو عند دخول الفنان مصلحةً تستقبل الفتيات الموظفات لأول مرَّة «كأنما كانت تفتِّش عن حظيرة للرجال هم موجودون فيها بمختلف الأنواع والأشكال والأحجام، بحيث تصبح كلُّ مشكلتها أن تختار. ماذا حدث حتَّى أصبحت مشكلتها بعد بضعة أسابيع من الوجود بالحظيرة، ومن احتكاك بالرجل في مجال الوظيفة، وبعد موعد أو اثنين خرجت فيهما بلا حماس كبير مع زميلَين لها؟ ماذا حدث وأنساها هدفها الأساسي وفقد الرجل طعمه القارص الأول بدأت تجد له في نفسها مذاقًا جديدًا، لا يلدغ، ولا يجعل جسدها يقشعر، ولا يُصيبها بأي إحساس يمتُّ إلى الجنس بصِلة، وأصبح كل ما يعنيها في الحظيرة أن تعرف مَن هو الرئيس من المرءوس ومَن صاحب المستقبل؛ إذ هناك في مؤخرة عقلها كانت مشاريع المغامرات قد تغيَّرَت بقدرة قادر إلى مشاريع لدهشتها، زواج زوج تختاره بعقلها المجرَّد من الهوى، وبوعيها المجرَّد من الشعور، بل في أقل من شهور تطوَّرَت مشاريعها تطوُّرًا آخَر وأصبح همُّها لا أن تسعى ﻟ «الترقي» عن طريق اختيار الزوج الأرقى في الوظيفة والمستقبل، وإنما للترقي عن طريق أن تترقى هي وتحتل الوظيفة التي يتنافس على خطبة صاحبتها المتنافسون، ولا بأس هنا من استعمال كل الطُّرق وأي الطُّرق للحصول على الوظيفة الأحسن، بالعمل المتواصل لكسب رضاء الرؤساء بالشكولاتة أو البنبون أو بأنوثتها حتى. أي تطور خطير أصابها! هي التي ذهبت تفتِّش عن الرجال في العمل ﻟ «إشباع» أنوثتها، فانتهت في أقل من شهرَين إلى التفتيش عن العمل ونتائج العمل في الرجال حتى لو اضطرها الأمر ﻟ «استعمال» أنوثتها، وجعلها وسيلة للوصول في ذلك الميدان الجديد الذي اكتشفت في حظيرة الرجال وجوده!» (ص٧٢).

أي إنه ليست ثمَّة أزمة «جنس» مطلقًا، لأن كسرة الخبز تحتل المكان الوحيد من اهتمامات المرأة والرجل على السواء، وبالتالي فأزمة الضمير، هي أزمة الحفاظ على مجموعة من القيم تتعارض مع الواقع. وليس هذا شيئًا صحيحًا. بل إن القصة نفسها — وهذا يدعو إلى الدهشة — تنتهي بأن تفرط سناء في أنوثتها على أثَر قبولها الرشوة. وقد كان المنطق السابق على تحقُّق الفكرة فنيًّا سببًا رئيسيًّا في أن ينزلق الفنان إلى القول بأن الانهيار الخُلقي يشتمل على كافة القيم جميعها، أو كما تقول المسيحية «مَن أخطأ في واحدة، فقد أجرم في الكل»، وكأن النفس الإنسانية من البساطة المتناهية للدرجة التي معها تدخل سناء المصلحة مع بداية القصة ملاكًا طاهرًا، فإذا أرغمتها لقمة العيش على قبول الرشوة، أصبحت شيطانًا رجيمًا.

لهذا يختلُّ المحور الدرامي في القصة، بالرغم مما يبدو للبعض من «ذهنية» في التصميم. يبدو هذا الاختلال واضحًا في التمهيد الشديد الحرارة، الذي قدَّم به الكاتب لمشكلة سناء مع شقيقتها، ثم صمودها في وجه العاصفة. غير أننا نفاجأ بعدئذٍ بانهيارها دون مقدمات خاصة بلحظة الانهيار بالذات. أي إنَّ الحدث يفتقد إلى المبرِّر الحقيقي للتحوُّل، خاصة إذا كان هذا التحوُّل ليس قاصرًا على قبول الرشوة، وإنما هو نقطة تحوُّل أساسية في حياة سناء، يدعها تتهاوى بلا مبالاة أمام محمد الجندي قائلة: «ولا يهمك!» دون أية مبررات لهذا السقوط الأعظم. أي إنَّ التحوُّل الأول غير المبرَّر — جزئيًّا — قد تسبَّب في سلسلة متعاقبة من التحولات غير المبرَّرة فنيًّا. بل ربما تضمَّن المحور الدرامي للقصة — أزمة سناء الضميرية — على مبرِّرات كثيرة تَحُول بينها وبين السقوط النهائي. فقد تعمَّد المؤلِّف أن يُحيطها بمجموعة من الظروف التفصيلية الحديدية، التي تنتهي حتمًا إلى مصير مُعيَّن، ولكنه أغفل في الوقت نفسه مجموعة ضخمة من الظروف التي رسمها المؤلف. حينذاك، أي في ظِل الدائرة الواسعة المحيطة بأزمة سناء فعلًا، كانت تتحرك الفتاة بحرية أكثر، لترسم مصيرًا قد يختلف عن المصير الذي رسمه الفنان.

ولكنها المعادلة الذهنية المترابطة عند يوسف إدريس ترابُطًا مُحكَمًا هي التي تمزِّق الفتاة بين الخير والشر في صراعها الجبار ضد القوى الاجتماعية الخاطئة. فإذا سقطت سناء جاء سقوطها غسيلًا قذرًا مُعلَّقًا على مشجب تلك القوى. وهذا هو التعميم والتجريد والإطلاق وميكانيكية النظرة التي تجعل القصة في جوهرها ممكنة الحدوث في أي زمان أو مكان — لولا التفاصيل المصرية الخالصة — أو يمكن حدوثها خارج الزمان والمكان — لولا تقيُّد الفنان ببعض الأحداث التاريخية — والحدوث هنا لا يعني مطابقة المعلومات التي جاءت بها القصة على الواقع الفوتوغرافي، بل هو تجرد التجربة الفنية من أخطر عناصرها. هذا الشيء الخاص للغاية الذي نميِّز به بين تجربة وأخرى، الشيء الذي يحاوله يوسف إدريس في بعض قصصه، بجهد واضح. ففي قصة «أبو سيد» — التي ظهرت ضمن مجموعة أرخص ليالي — صوَّر العلاقة بين الرجل والمرأة في حالة أزمة جنسية خالصة، ذلك أن الرجل — أبو سيد — فوجئ ذات مرَّة بأنه عاجز عن إقامة العلاقة من جانبه، ومنذ تلك الليلة وهو يتعاطى الوصفات البلدية بكافة أشكالها بلا جدوى. ولم يعمد الفنان إلى تصوير البؤس الاجتماعي الذي يعيشه شرطي المرور، وإنما أحسسنا هذا البؤس في لمسات سريعة تشابكت مع المأساة بحكم الضرورة. وكان من الممكن أن تكون هذه الأقصوصة من أروع الأعمال التي عالجت العجز الجنسي، لولا النهاية التي أقحمها الفنان إقحامًا عليها، فبدَت نشازًا غريبًا عن جوهر القصة. إذ يبصر الرجل — فجأة — ابنه «سيد» فيتأمله قائلًا:

«سيد … يا سيد تعالَ يا سيد … اقعد هنا جنبي … أيوَه كده … يا بني يا حبيبي … باسم الله ما شاء الله … وكبرت يا سيد. بقيت طولي … خليني أبوسك يا سيد … هه … وكمان مرة … يا بني … انت كنت فين … وأنا فين؟ وكبرت يا سيد … وحتبقى راجل … واجوزك يا سيد … سيد … حجوزك واحدة … حلوة، لأ … أربعة … أربعة حلوين عشان خاطرك … وتبقى راجلهم … فاهم … فاهم يعني ايه راجلهم يا سيد … معلهش … بكرة حتفهم … وتخلِّف … سامع يا سيد حتخلِّف … واشيل خلفتك يا سيد … بإيدي دي … فاهم يا سيد.»

وحقًّا، نحن نلتمس ضراوة الأزمة في كلمات الرجل الذي يلحُّ على رجولة ابنه إلحاحًا له مغزاه: حتبقى راجل، حجوزك أربعة، وحتخلف … هذه التعبيرات جاءت مشحونة بالأزمة، ولكن النهاية ككلٍّ صنعت ثقبًا هربت منه ملامح الأزمة، وبقي جنين الأزمة لقيطًا تيتمت حياته في «الذهول» الاجتماعي من المأساة. وهكذا تفقد الأزمة دلالتها الحقيقية! وبالرغم من ذلك، فهذه الأقصوصة إحدى القصص القصيرة القليلة في أدبنا الحديث التي أومأت بأن صاحبها — لو أخلص لهذا الشكل الفني — لحقَّق فيه الشيء الكثير. وما زلت أذكر الحماس الملتهب الذي كان يتحدَّث به يوسف إدريس في إحدى ندوات نادي القصة عام ١٩٥٥م تقريبًا، الحماس الذي جعله يقول ما معناه: «على كاتب القصة القصيرة أن يفتديها بعمره.» ولا أذكر أن أحدًا من أدبائنا قد أخلص لهذا المعنى إلا محمود البدوي الذي لم يبتعد عن معالجة الأقصوصة طَوال حياته الأدبية. أما يوسف إدريس، فقد راح يكتب المسرح والأقصوصة الطويلة والمقال الصحفي. ولا ضير على الأديب طبعًا أن يمارس العديد من الأشكال التعبيرية في وقت واحد شريطة ألا يتم ذلك على حساب فنِّه. وأنا أعتقد أن تحوُّل اهتمام يوسف إدريس عن القصة القصيرة — فنه الأساسي — قد انحدر بالمستوى العام لهذا الفن في أدبه. وما زالت «أرخص ليالي» و«جمهورية فرحات» من أعظم أعماله في ميدان القصة القصيرة. فلم تحل عيوب منهج التعبير ومنطق التفكير لدى الكاتب، دون أن يعطي الأقصوصة معناها السليم. وقد أدَّت خصوبة التجربة الإنسانية في أدبه — بتعدُّد ظواهرها ومعالجتها — أدَّت به إلى النجاح في كتابة القصة القصيرة لما تعتمد عليه من الحاجة الشديدة إلى الظاهرة المفردة والزاوية الحادة في الْتِقاط التجربة. ومن هنا كان يضطر يوسف إلى إغفال التعميم والأخلاق في التوق على الخير والشر والانتصار للخير دائمًا، وتصوير الحدث والتجربة والشخص في إطار تجريدي لا يرحم من معادلة رياضية تقول بأنَّ تجسيد الظروف السيئة المحيطة بالبشر تؤدي إلى كافة أمراضهم الاجتماعية. وتنجو القصة القصيرة عند يوسف ثانية، حين تكون شديدة التفرُّد من التناقض بين إسهابه في سرد الدقائق الصغيرة المحيطة بهيكل القصة وبين دلالتها العامة الشديدة التعميم. تنجو على النحو الذي نشاهده في قصة «أبو سيد»؛ فقد عُنِي المؤلِّف أساسًا بالأزمة في حالة حضور، ثم تتبعها في تلافيف البنيان النفسي للشخصيات. ولم يكُن الخيط الذي يربط الداخل بالخارج خيطًا اجتماعيًّا محضًا. أي إنه لم يصور لنا الأزمة النفسية نتاجًا تقريريًّا مباشرًا للأزمة الاجتماعية، وإنما تحولت جزئيات العالم الداخلي وليس العكس. فقد كان ثمَّة ارتباط وثيق بينهما. ولكنه ليس ارتباطًا ميكانيكيًّا، بل همزة وصل حية بين إحساس الفنان ووجدان المتلقي بطبيعة الأزمة التي يعيشها «أبو سيد» و«أم سيد» أيضًا.

كذلك الأزمة التي عاشتها «فاطمة» و«فرج» و«غريب» في القصة الرائعة «حادثة شرف» — التي ظهرت ضمن مجموعةٍ بهذا الاسم عن دار الآداب عام ١٩٥٨م — فقد حاصر الفنان «العزبة» حصارًا دقيقًا، فلم يوجز لنا مشاعر الناس والتركيب الذاتي للأفراد، وإنما أحاط هذه المشاعر، وذلك التركيب بكشافات إضاءة ضخمة … «فالعزبة صغيرة، والناس فيها عائلة واحدة ولا يعرفون بعضهم البعض معرفة دقيقة فقط، ولكن كل واحد يعرف عن الآخَر أدق دقائقه وأخص أموره، حتى النقود القليلة التي قد يكتنزها أحدهم، يعرفون مكانها بالضبط وعددها والطريقة التي يمكن أن تُسرَق بها. ولكنَّ أحدًا لا يسرق أحدًا، هم إذا سرقوا يسرقون من محصول العزبة.» ثم يتجاوز أرضية القصة إلى الجو النفسي الذي يحيا فيه أبطالها، إنه مزيج من التعاطُف والوُد بين الجميع، والخوف والقلق من المجهول. وليس المجهول عند أهل العزبة مجهولًا بالمعنى الحرفي، بل هم يعرفونه جيدًا في الجوع والموت وصاحب الأرض، وبقية الأمور اللاحقة بالفقر الاجتماعي والروحي. ولذلك يتحمَّل القصَّاص عبثًا باهظًا في تلقي الانعكاسات العميقة الكثافة، الدقيقة الرهافة والشفافية، في طبع وجدان القارئ باهتزازات الجو العام للعزبة، وخلاصة الحال النفسية التي تملأ وجدانات أهلها بفيض من التعاسة والشقاء والفرح. كل ذلك من خلال التصوير السردي بشكل عام، والحوار الخارجي والداخلي للشخصيات. فاللغة عند يوسف إدريس تلعب دَورًا خطيرًا كالرادار. فاللفظة مليئة بشحنة مطابقة للحالة الوجدانية للشخصية. اللفظة في هذه الحال تنعدم كمجموعة حروف تصل بين الكاتب والقارئ، وتنعدم كمشكلة صراع بين الفصحى والعامية والنقاد. إن اللفظة في أدب يوسف إدريس تتحوَّل إلى جهاز سحري يشتمل على التجربة والموت والشخصية، ويضم أولئك جميعًا في امتزاج عميق ودونما افتعال. فلا توجد مسافة بين الكلمة أو الجملة أو التعبير أو الحصيلة اللغوية كلها في القصة، لا توجد مسافة بينها وبين المغزى الذي يرمي إليه الكاتب، فضلًا عن إلغاء المسافة بينها وبين القارئ أصلًا. لقد طالبت يوسف إدريس ذات يوم١ بأن يضع الكلمات العامية المصرية بين أقواس، حتى لا يختلط الأمر على القارئ، ولكني كنت مخطئًا، فالإشعاع النفسي للقصة في قصص يوسف يتجاوب بصورة وظيفية مع بقية العناصر المكوِّنة للعمل الفني في تحديد كيان هذا العمل، أي إنَّ اللغة عنده — بمعنًى من المعاني — لا تصبح أداة للتعبير، وإنما جزءًا لا ينفصل عن التعبير نفسه في شمول كينونته الخاصة، رغم نوعية اللغة وتمايزها كعنصر مستقل. واللغة في «حادثة شرف» نموذج ممتاز لتكوين هذا العنصر لدى الفنان، فهي تتداخل في التركيب الداخلي والخارجي للعزبة؛ أرضها وأفراحها وأهلها وخطاياها، تتداخل كمادة جمالية وخامة إنسانية من صميم التجربة في الوقت نفسه. ومن هنا، نتدرَّج في الحديث عن بناء الشخصيات في هذه القصة من نقطة الانطلاق هذه، من اللغة، فنقول إنَّ اختيار الفنان للعزبة كأرض للتجربة، واختيار فاطمة وغريب وفرج كخامة بشرية للتجربة، كان هذا الاختيار واعيًا لمعنى اللغة الصائنة لهذا الكيان الذي دبَّت فيه الحياة غداةَ جَمْع الشمل لهذه العناصر جميعًا في شيء اسمه «حادثة شرف». يصف الكاتب «فاطمة» في ثلاثة مقاطع رئيسية، هكذا:

«… وفاطمة معروفة، وكل شيء عنها معروف، ولم تكُن أبدًا ذات سيرة خبيثة أو سلوك معوج. كل ما في الأمر أنها حلوة، أو على وجه أصح كانت أحلى بنت في العزبة. وليس هذا هو الوجه الصحيح للمسألة أيضًا، فإذا كانت الحلاوة تُقاس في الأرياف بالبياض، ففاطمة كانت سمراء. المسألة لها وجه آخَر خاص بفاطمة وحدها، فلم يكُن في استطاعة أحد في العزبة أن يعرف ماذا في هذه البنت دونًا عن بقية البنات.» (ص٨٦)

«… وكانت فاطمة تثير الرجال، أو على وجه الدقة تثير الرجولة في الرجال، وكأنما خُلقت لتثير الرجولة، حتى الأطفال كانت تثير الرجولة الكامنة فيهم، فكانوا إذا رأَوْها قادمة من بعيد أحسوا برغبة مفاجئة في تعرية أنفسهم أمامها، وكثيرًا ما كان بعضهم يُقدِم على تنفيذ الرغبة، فيرفع ذيل جلبابه ويتعمَّد المبالغة في رفعه. ولا يفلح ضرب أو زجر في نهيهم عن إتيان هذا الأمر، فهم أنفسهم لا يدرون لماذا يعرُّون أنفسهم إذا رأوها.» (ص٨٧)

«… فاطمة لم تكُن تتزوَّج، فخُطَّابها قليلون، بل تكاد تكون بلا خُطَّاب، فمَن هو المجنون الذي يجرؤ على امتلاك كل تلك الأنوثة وحده، وإذا تزوج ماذا يفعل بها؟! والناس في العزبة وما جاورها لا يتزوجون ليستمتعوا بالجمال ويقيموا حوله الأسوار، إذ هم أولًا لا يحبون لكي يستمتعوا بالحياة، هم يحبون فقط لكي يبقوا أحياء، ويتزوَّجون لكي تعمل الزوجة وتُنجب أولادًا يعملون. ولهذا فاطمة باقية بلا خُطَّاب.» (ص٩٠)

وهكذا تكتمل فاطمة في أذهاننا ووجداننا من خلال المنهج التعبيري الرائع الذي آثَر المؤلف أن يجعل اللغة عنصرًا بالِغ الأهمية في تكوينه، ومن ثَم في تكوين الشخصيات وتأثيرها في الأحداث وتحريكها للتجربة. فهو يستمد من رأي الناس البسطاء ومن رأيه الخاص ومن رأي الأطفال الصغار، يستمدُّ ألفاظًا مُعيَّنة ذات تركيب جمالي خاص، يُضفي على القصة حيوية النبض الخلَّاق. ولهذا أيضًا تأتي تجربة فاطمة وأزمتها، بعيدة تمامًا عن أية مباشرة أو تقرير؛ لأن الكلمة لم تصبح حروفًا وصفية ساذجة، وإنما أصبحت جزءًا متمِّمًا للصور والحركة الدرامية للحدث والتجربة والشخصية جميعًا.

فإذا نحن رافقنا فاطمة إلى لحظة أزمتها، أو خطَوْنا معها على محور الأزمة، فإن دوامة المأساة تنطلق من كهف العلاقات الاجتماعية المعقَّدة والقيم الأكبر تعقيدًا، لا في مضمونها الفلسفي، وإنما في أشكالها التطبيقية على المستويات الاجتماعية والعاطفية. فقد ضُبطت اليوم فاطمة مع غريب في أحد حقول الذرة! وتحاول فاطمة عبثًا أن تدافع عن شرفها، ولكنهم يأخذونها في موكب من النساء والأطفال إلى الست أم جورج لتقول كلمتها في عُذرية الفتاة. وتؤكِّد لهم أم جورج أنَّ البنت عذراء، وتنطلق الزغاريد في كلِّ مكان، إلَّا مكان واحد لم تنطلق منه زغرودة واحدة، ذلك هو قلب فاطمة. فبالرغم من إثبات براءتها وإعلان هذه البراءة على الملأ. فإن «الموضوع» بأكمله، أو في جوهره، جعل أعماقها تنزف. تنزف كثيرًا. إنها لم تفرح، لأنها تكتسب شيئًا جديدًا، بل فقدت الشيء الكثير، منذ أمسكوها من فخذَيها بالقوة، ليُصبح شرفها محل نظر الست أم جورج، بل أهل العزبة جميعًا. لقد كانت واثقة تمامًا من براءتها، ولكن الكشف عن هذه البراءة، أو محاولة التأكد منها، كان جرمًا سبَّبَه الحادث لوجدان فاطمة، بل نقطة تحوُّل ضخمة في حياتها، فقد «أصبحت تستطيع إذا لمحها فرج — أخوها — خارجة ذات يوم من دار صابحة الماشطة وأخذها إلى بيته وأغلق عليها باب القاعة، وأمسكها من ضفائرها، وشدَّد عليها، وسألها عمَّا كانت تفعله عند صابحة … أصبحت تستطيع إذا ما حدث هذا أن تقول: كنت بقيس الثوب. اوعَ كده. وتجذب نفسها وضفائرها من قبضته بعنف غريب، وتقف في الركن تُعيد النظام إلى شَعرها وتواجهه بعيون مشرعة حلوة، لا تنخفض ولا تخجل» (ص١٢).

كانت فاطمة بريئة حتى «ضُبطت» مع غريب، ولكن ما إنْ ثبتت براءتها — بطريقة همجية — حتى عرفت الطريق إلى صابحة … قوَّادة القرية. بهذا المنهج الممتاز في التفكير، يفلت الفنان من الأحكام المسبقة على المجتمع والإنسان، ويحاول الفحص في أعماق الظاهرة ليكتشف عناصرها المعقَّدة من زوايا أكثر تعقيدًا. فلم نلحظ هنا حرامًا أو حلالًا، تحيُّزًا لهذا أو ذاك، أو تحديدًا لمعنى أيٍّ منهما، كما لم نلحظ انتصارًا للخير على الشر، ولا تبريرًا لخطايا الإنسان وتعليقها على مشجب الظروف أو الوراثة أو غير ذلك … وإنما لاحظنا الفنان يغرق معنا في التعرُّف على أبعاد التجربة، وتحقيقها فنيًّا. وهذا هو الإبداع البعيد عن الهندسة الشكلية والذهنية المجرَّدة، أي الذي لا يسبقه حكم عام ومُطلَق على الإنسان والمجتمع والكون. ولا تسبقه معادلة منفية يشوبها التناقض بين المقدمات والنتائج. لأن الفنان هنا يتتبَّع بصبر عجيب أدقَّ الشعيرات الخالقة للنماذج البشرية وأنماط الأحداث التي يُعالجها لا لتتفق أو تختلف مع معتقداته وإن تفاعلت معها، بل ليكون مثل كل شيء صادقًا في تجربته، ذلك الصدق الفني الذي يبعد العمل الأدبي عن الاختلال ويقربه من التناسق والتوازن والاكتمال.

وليست «حادثة شرف» فريدة في أدب يوسف إدريس، غير أنها كقصة قصيرة، كانت أكثر القوالب التعبيرية امتصاصًا لطاقة هذا الكاتب الفنية؛ إذ تتوفَّر له في أعمال أخرى كافة مقومات النجاح، ولكنه ما إنْ يتحوَّل بالقالب التعبيري إلى الأقصوصة الطويلة، حتى يناله الكثير من الضعف والوهن، بل والسقوط في هُوَّة الإطلاق والتعميم والمعادلات الذهنية.

هذا ما أراه في قصتَيه «قاع المدينة» و«الحرام». والأولى ظهرت ضمن مجموعته المُسمَّاة «أليس كذلك؟» عام ١٩٥٧م. وهي ليست قصة القاضي البرجوازي الذي يصنع المستحيل حتى يسترد ساعته من خادمته «شهرت». إنها قصة شهرت بالذات. قصة العلاقة بين هذه المرأة من جانب، والمجتمع من جانب آخَر. والمؤلف ينسج البناء الفني لأحداث القصة على نسق كاريكاتوري محض. أي إننا نتعسَّف معه كثيرًا، ومع أنفسنا أكثر ومع القصة أكثر وأكثر، حين نقارن بين أحداثها، والواقع المرئي المباشر. ذلك أنها ليست إلَّا استجابة وجدانية لمأساة شهرت وكل شهرت. والفنان يَعنيه أن يصل بينه وبين المتلقِّي بصورة لهذه الاستجابة، لا أن يُرسل إليه بأصلها الواقعي بغير صورة وجدانية له. والفن هو الصورة الوجدانية ذات الكيان الخاص المستقل عن كافة الصور الأخرى للعالم، كالصورة العلمية والتاريخية والجغرافية، وغيرها. لذلك أقول إن الأستاذ عبد الله القاضي في «قاع المدينة» ليس له نظير في دنيانا. بالرغم من هذا، فالقصاص يستخدم هذه الشخصية استخدامًا بارعًا، يكتسب به دلالة واقعية. الأستاذ عبد الله يكتشف ضياع ساعته، أثناء انعقاد إحدى جلسات المحكمة، فيرفع الجلسة فور هذا الاكتشاف. ثم يطلب صديقه الممثل شرف بالتليفون. ويذهب عامل الجراج لإحضار عم فرغلي الحاجب، الذي أتى له ذات يوم بشهرت لتخدمه بناءً على طلبه. ولقد أحسَّ بحاجته إلى شهرت أو غيرها، عند شعوره بتفاهة العلاقة التي يقيمها مع بعض فتيات الطبقة الأرستقراطية، تفاهتها من الزاوية الحسية. لهذا أقدَمَ على أن يطلب من حاجبه إحدى الفتيات لتخدمه. واشترط أن تكون في أوسَط العمر. ويلح الكاتب عند هذه النقطة، بأن شهرت لم تمارس علاقة جنسية مع شخص آخَر غير زوجها على الإطلاق. ومن هنا كانت مفاجأتها ومقاومتها حين كاشفها الأستاذ عبد الله برغبته صراحةً. ومن هنا كان بكاؤها الحار عند الهزيمة والاستسلام. والفنان يسخر كثيرًا من القاضي وهو يهز قبضته سعيدًا بانتصاره على شهرت، ويُشقيه سؤال واحد: هل هي ترغب فيه لشيء آخَر غير نقوده؟

هل هي تحبه؟ لقد سألها فراوغت في الإجابة. كانت النقود تحفر في وجدانها عشرات الأخاديد التي تبرِّر لها الاستسلام. حتى إنَّ حديثها عن زوجها المتعطِّل دائمًا وأطفالها الصغار، أصبح المقدمة التقليدية لإعلان حاجتها إلى النقود، فور كل هزيمة واستسلام. أي إنها أصبحت تطلب الثمن. وتحضر ذات يوم وهي ترتدي جونيلة وبلوزة ممزَّقة، وتضع على شفتَيها لونًا يثير الاشمئزاز. وتبدأ في رؤية نفسها أمام المرآة، فتتثنَّى وتتلوَّى كأي أنثى محترفة. وينزعج الأستاذ عبد الله انزعاجًا شديدًا. ومرة أخرى، يسخر منه المؤلف سخرية بارعة، فهو يرفض إعطاءها جنيهًا طلبت اقتراضه. ثم يكتشف في الصباح — وهو على منصة القضاء — ضياع ساعته. وهنا تبلغ سخرية الكاتب مداها. فالقاضي يرفع الجلسة، ويهرول إلى المنزل إلى غرفة التسريحة ولا يعثر على الساعة. ومن ثَم يتهم شهرت. ويجتمع بأركان حربه: شرف وفرغلي، والشخصيتان هزليتان مائة في المائة؛ لذلك يؤلفون مع شخصية الأستاذ عبد الله إطارًا هزليًّا، لمضمون تراجيدي مائة في المائة، هو مأساة شهرت. فقد توجَّه الجميع إليها في سيارة القاضي. ويرتفع يوسف إدريس إلى القمة، وهو يستعرض طبقية المجتمع من خلال الشوارع ووجوه الناس ورائحة الجو وشكل المنازل من الزمالك إلى حارة السد بالأزهر، التي تسكن في أغوارها شهرت. وفي لقطات حية سريعة، نضع أيدينا على المأساة الرهيبة التي تعيشها هذه المرأة في الكهف الأسود الذي ترتاده إلى جانب زوجها المحقن الممدَّد على الفراش، والأطفال الثلاثة الذين يمدُّون أبصارهم عَبْر ثقوب الباب، مستفسرين بعيونهم عن معنى زيارة هذا الغريب لأمهم. وتتهاوى شهرت وهي تقدِّم الساعة لحضرة القاضي الذي تغمره فرحة طاغية، وهو يغادر الكهف المنتن، ثم وهو يحكي لأصدقائه عن بطولته الأسطورية … «ولا تزال الساعة حول معصم الأستاذ عبد الله». كلما رآها تذكر تلك الرحلة الغريبة ذات الكابوس، وازداد اعتزازًا بساعته وبنفسه، بل إنه ظلَّ يرويها لأصدقائه ومعارفه وكل مَن يلقاه أيامًا كثيرة. وكان يفعل هذا كمقدمة لا بدَّ منها لرواية ما حدث له. وكان يغفل في قصته كثيرًا من التفاصيل، ولكنه كان ما يكاد يصل إلى حارة السد حتى عاوده ذلك الإحساس بالنزيف، فيندفع يبتر الوصف. وينتقل إلى الجزء التالي من القصة، ويصف الهجوم الخاطف الذي انهال به على شهرت فتهاوت أمامه، وناولته الساعة. ولم يسمح لفرغلي أبدًا أن يتحدَّث أمامه عنها، ورغم هذا كان يسمح لأذنه أن تلتقط منه بعض أخبارها، وما يوجهه إليها من سباب واتهامات، مبيِّنًا كيف فسدت، وأصبحت ذات سُمعة، وسمَّت نفسها أميرة. كل ما حدث أنه ذات يوم رآها، رأى شهرت في شارع الملكة وهو مارٌّ بعربته، فأبطأ من سيره. وكانت واقفة على محطة الأتوبيس، وكان واضحًا أنها لا تنتظر الأوتوبيس، وكانت تصبغ شفتَيها بروج حقيقي، وترتدي الجيب الرمادي الذي كانت تأتي به. وأهم شيء، أنها كانت ترتدي فوق الجيب بلوزة جديدة» (ص٣٦٥).

إن تصوير شخصيات القاضي والحاجب والممثل، كإطار كاريكاتوري للمأساة، أضفى عليها صفة العمق. ذلك أنها خلت من التجريدات «الواقعية» إن جاز هذا التعبير عن الشخصيات التعميمية، ذات الصفات المطلقة. فليس شك أن الأستاذ عبد الله شخصية وافرة أكثر منها نموذجًا نمطيًّا لهذه الشخصية في الواقع. وهذه هي نقطة الانطلاق لدى الفنان عند صياغته لأحداث القصة. فهي لم تسلك طريقًا سطحيًّا ساذجًا للتدليل على مأساوية الحياة التي تحياها شهرت. وإنما سلكت طريقًا عميقًا، بالسخرية تارة، وتصوير الشكل الخارجي للمأساة تارة أخرى.

كذلك لم يسلك السرد طريقًا تقليديًّا، فقد آثَر الفنان أن يصوِّر الأحداث في اصطخابها المستمر بالتجربة من جهة، والشخصيات من جهة أخرى. فقد بدأتِ القصة باكتشاف القاضي لضياع ساعته، وانتهت باستعادته لهذه الساعة. وبين البداية والنهاية تعرَّفنا على مأساة سارقة الساعة، تعرَّفنا على مأساة شهرت. لم يصاحبنا في ذلك ضجيج الهتاف أو عويل البكاء، وإنما صاحبنا اللهاث خلف بريق الأحداث المتتالية. وليس هذا الذي نشاهده من تنشيط القوى الانتباهية لدى المتلقي، ما يعرف عادة عند النقاد بأسلوب القصة البوليسية؛ إذ ليس هناك أسلوب خاص لكلِّ لون من القصص، بالرغم من تباين أدوات التعبير في كل لون. وإنما تحتاج الأقصوصة الطويلة دائمًا إلى هذه الأداة الشاحذة للقوة الإدراكية عند القارئ، فيتَّسم العمل الأدبي بالإثارة الوجدانية والتشويق. وهذا ما نلاحظ بلوغه القمة في قصة «الحرام».

إلَّا أنَّ التناقض البيِّن بين جماع التجربة في الأقصوصة الطويلة وبين هذا الطول المشوِّق المثير، هو أن الأحداث لا تصبح خادمة للتعبير الفني، بل تصبح ثوبًا فضفاضًا للتجربة، يجعل الأمر سهلًا أمام القصَّاص، في المعادلات الذهنية. ففي «قاع المدينة» أزمة متناهية التعقيد. وفي بوتقة الجنس تتجسَّد أزمة الأستاذ عبد الله، ومن خلال كسرة الخبز تتجسَّد أزمة شهرت، وهذا الخيط الرفيع الذي يدفع شهرت إلى أحضان عبد الله. ولقد كانت شهرت بعيدة تمامًا عن هذه الأحضان، ولم تمارس الخطيئة قطُّ من قبل أن تُلقي بها الحاجة الاجتماعية المُلِحَّة إلى هذا المصير. حتى إنها تقاوم عبد الله كثيرًا قبل هزيمة الاستسلام. بل إن مقاومتها للسقوط بين أنياب عبد الله وحده كانت مقدمة لمقاومتها للسقوط بين أنياب كل عابر سبيل حتى أصبحت ترتدي الجونيلة والبلوزة، وهنا يعود يوسف إدريس سيرته الأولى، فتتحوَّل القصة في يده إلى مجموعة من الخطوط العريضة، تحوَّلت التجربة إلى «موضوع» والأحداث إلى «مبرِّرات» ولم تعُد هناك قضية جزئية لا تنفصل عن القضية الكبرى. وإنما أضحت القضية الاجتماعية الكبرى تطلُّ علينا من خلال كافة أشكالها، من خلال الأزمة الجنسية والأزمة النفسية … إلخ. تمامًا كما رأينا بوضوح أكثر في قصة «الحرام» — التي صدرت عن الكتاب الذهبي عام ١٩٥٩م — فقد اضطر المؤلف تحت إلحاح قالب الأقصوصة الطويلة أن يتحوَّل بجوهر القصة عن صميم الأزمة التي يعالجها … فجاءت المقدمات الطويلة في منتهى التشويق والإثارة، حول حياة العزبة وحياة الترحيلة. فلقد أجاد الفنان في إبراز تلك الفئة الاجتماعية على وجداننا، إجادة رائعة. وهذه هي الحصيلة النهائية للقصة؛ إذ اكتشف مأمور الزراعة لقيطًا عثر عليه عبد المطلب الخفير بمحض الصدفة. ويستهلك الفنان عشرات الصفحات متتبعًا اهتمام أهل العزبة بهذا الحدث. ويستغل هذه الصفحات في تشريح العلاقة بين المأمور والكتبة من جانب، وأهل العزبة من جانب آخَر، والترحيلة من جانب ثالث. فنعرف أن هُوَّة تفصل بين هذه الفئات الثلاث. وتعرف أنَّ كل فئة تشك في أن تكون الأخرى هي صاحبة اللقيط، إلَّا أنَّ منزلَي المأمور والباشكاتب، كانا بعيدَين عن مجرَّد الاحتمال، بالرغم من العلاقة — التي يشيعها البعض — بين بنت الباشكاتب وابن المأمور.

ولكن «لندة» كانت بريئة عن أية علاقة جِدِّية، حتى طلبها أحمد سلطان الكاتب من أم إبراهيم زوجة مقرئ القرية، فقد كانت أم إبراهيم متخصِّصة فيما مضى في هذا الرجل. أمَّا الآن فهي تكتفي بأن تستورد له الزبائن بعد أن يغمزها في بطنها غمزات ذات معنًى … ويحاول المأمور عبثًا أن يعثر على الجاني أو الجانية في موضوع اللقيط القتيل. إلى أن يكتشف الأمر بمحض الصدفة، أثناء مروره ذات يوم على القطن، وإذا به يرى امرأة راقدة تحت «ظليلة» نصبتها في مكان من الحقل، وكانت المرأة تتأوَّه، والحُمى تنبعث من عينَيها كجمرات نار مستعرة، واعترف الريس عرفة بأنها «الأم» الجانية. وتعترف عزيزة أثناء هذيانها. تقول ما يعرفه أفراد الترحيلة جميعًا، من أن زوجها مريض جدًّا، حتى إنه لم يقدر على المجيء مع الترحيلة هذا العام، بالرغم من الخسارة الكبيرة التي ستتحقَّق حتمًا بغيابه. وفي إحدى لحظات الدلع عند المريض، طلب الزوج من عزيزة: نفسي في البطاطة يا عزيزة! وذهبت عزيزة إلى أحد الحقول المحروثة تبحث عن جذر بطاطا. وأخذت تضرب بالفأس دون جدوى. ثم لمحها ابن صاحب الحقل، فأقبلَ يُساعدها في البحث عن البطاطا، ونجح فعلًا في أن يعثر لها على «حبة حقيقية في حجم قبضة اليد أو تزيد».

«… ولكنها في لهفتها وفرحتها لم تفطن إلى الحفرة التي كانت وراءها، وعلى هذا فقد فوجئت بنفسها تسقط مرَّة واحدة نصفها في الحفرة ونصفها على الأرض، والواقع أنها لم تتبيَّن تمامًا ما حدث بعد هذا. الأمور حدثت بطريقة أسرع من أن تُدركها أو تتلافاها … ما كادت تحاول أن تقوم حتى كان محمد إلى جوارها في الحفرة يساعدها. مرَّة واحدة وجَدَت نفسها في حضنه وقد أطبق عليها بذراعَيه ليرفعها. وهي وإن كانت قد ارتعشت حين أحسَّت بنفسها في حضن رجل غريب إلا أن الرجل الغريب لم يكُن سوى محمد الكشر الذي لا يتسرَّب إليه شك. ولكن الشكَّ بدأ يتسرَّب فعلًا إليها حين لم يرفعها محمد ولم يدعها ترفع نفسها. وما كاد الشك يتسرَّب إليها حتى كان قد أصبح حقيقة … رُوِّعَت أولًا، ولكنها استجمعت نفسها ودفعته، وناضلت، ولكنها كانت ترى أن نضالها لا فائدة منه. بل ليست تدري على وجه الدقة سر هذا الانهيار الذي أصابها حين أصبحت في حضنه. تريد أن تقاوم ولا تستطيع. تستميت ولكنها يائسة. تصرخ فيجتمع الناس وتصبح فضيحة ومضغة في الأفواه؟ تسكت؟ تعضه؟ حتى ملابسها التي لا تحتكم على غيرها مزَّقَها. كل ما حدث أنها ظلَّت تئنُّ مذهولة مرعوبة حتى قام. وشتمَتْه، ولكن ماذا تفيد الشتائم؟ لم يقُل هو حرفًا، فقط، ظلَّ ينظر هنا وهناك. الغيط خالٍ تمامًا والبهائم والناس تروح من بعيد. وعاد إليها، وهذه المرَّة كان يمكن أن تقوم وتجري وتضربه بالفأس، ولكنها لم تفعل» (ص١٠٤). ثم تمضي تسعة أشهر، تكوَّرَت خلالها بطن عزيزة، التي يعرف الجميع أن زوجها لا يقربها. ولكنَّ أحدًا لا يلاحظ هذا التكوُّر. إلا أن حمى النفاس تصيب عزيزة بعد أن قامت بتوليد نفسها في العراء. وهي لم تقتل طفلها. لقد مات وهي تضع يدها على فمه حتى لا يصل صوته الصارخ إلى آذان الترحيلة أو التفتيش. ويقيِّد وكيل النيابة جريمة القتل ضد مجهول. ويوافق مأمور الزراعة على احتساب أجرها يوميًّا وهي راقدة محمومة إلى أن تموت. وبموت عزيزة يلتئم شمل العزبة والترحيلة. أطفال هؤلاء يختلطون بأطفال الآخَرين. والكبار يتعرَّفون على الكبار. ويطير خبر إلى جميع الأهالي بأن لندة هربت مع أحمد سلطان الكاتب، وتزوَّجَت منه في قسم البوليس بطنطا. و«مضت الأعوام وتعاقبت التغيرات، وانقطع بطبيعة الحال مجيء الترحيلة، ونسيهم الناس تمامًا، ونسوا كلَّ ما كان من أمرهم وأمر عزيزة … كل ما تبقَّى منهم ومنها شجرة صفصاف قائمة إلى الآن على جانب الخليج الذي لم يغيره الزمن، يُقال إنها نَمَت من العود الذي استخلصوه من بين أسنان عزيزة بعد موتها فطُمس في الطين ونبت، وكان أن أصبح تلك الشجرة. وأغرب شيء أن الناس لا يزالون يعتبرونها إلى الآن شجرة مبروكة، وأوراقها لا تزال مشهورة بين نساء المنطقة كدواء مجرَّب لعلاج عدم الحمل» (ص١٦٥).

وليس شكٌّ أننا نلحظ مَسْحةً من الرمزية في جميع أحداث القصة، فجذر البطاطا لا يدل فحسب على رغبة مريض يتدلَّل على زوجته، إنه رمز حقيقي إلى كسرة الخبز. ولكنه ليس رمزًا بسيطًا. فقد استراحت عزيزة بين أحضان الرجل وقاومته بيأس في المرة الأولى، ولم تقاومه في المرة الثانية … ذلك أنه رمز مركَّب. يرمز ثانيةً إلى أزمة الجنس. بل إن شجرة الصفصاف في نهاية القصة تحمل هذه الرموز مجتمعة. ولقد أضفت هذه الرمزية عُمقًا أصيلًا على القصة، فلم تتسطَّح بها مشكلات هذه الشخصية أو تلك، ولم تنفجر المعادلة الإدريسية انفجارًا، وإنما تمدَّدَت في بطء بين ثنايا الأحداث، حين أخذ الفنان يستعرض لأول مرَّة في تاريخنا الأدبي، حياة أولئك «التَّمَلِّية» أو «التراحيل» أو «الغرابين» كما يُسمِّيهم أهل التفتيش. فجاءت الخطيئة نتيجة غير مباشرة للقحط الاجتماعي الذي عاشت فيه أسرة عزيزة. كما جاء جنونها مأساة ضارية تنشب مخالب الموت في العقول الخاوية إلَّا من ذهول اللقمة: في غيابها وحضورها.

كذلك توازنت قصة لندة — بنت الباشكاتب — مع أزمة أحمد سلطان من ناحية وأزمة فكري ابن المأمور من ناحية أخرى. فقد نالت أزمة الجنس من كيان لندة حتى النخاع. فكان صراعها ضد مجموعة القيم المتوارثة تعبيرًا حادًّا عن أزمة الضمير الكامنة في أعماق أجيالنا في مختلف مستوياتها الاجتماعية والفكرية. على أن الكاتب آثَر البُعد عن التقرير والمباشرة في تصوير البنيان الداخلي للندة وفكري وأحمد؛ إذ اعتمد اعتمادًا مطلقًا على انعكاس ذلك البنيان في سلوكهم اليومي. ومن هنا تعانقت خيوط قصة لندة مع خيوط قصة عزيزة، برباط وثيق من الرمزية الأصيلة، حتى إننا لا نقارن أبدًا بين «خطيئة» لندة — من وجهة نظر والدها — وخطيئة عزيزة من وجهة نظر الجميع. إنَّ الفنان يهمس لنا من خلال هذا البناء التراجيدي الناجح، بأن الخطيئة اسم على غير مسمًّى، إنها كلمة اخترعَها الناس بعفوية مُطلَقة، لتعبِّر عن حقيقة تعيش في كياننا حتى الأعماق. حقيقة قدَرية في ظِل المخطَّط الاجتماعي الذي رسمته الظروف من أجلنا. وهي حقيقة مُطلَقة بالنسبة إلى جوهرنا البشري. وهي حقيقة نسبية حسب اختلاف ظروفنا. ولا ريب أنه يضير القصة كثيرًا أن تنتهي بهذا البنيان السياسي: «وقامت الثورة، وصدر قانون الإصلاح الزراعي و… و… إلخ.» إن أمثال هذه الفقرات تُفسد المعنى الفني الجليل للقصة، وهي نتاج طبيعي لفلسفة الحرام عند يوسف إدريس، وهي نتاج أكثر طبيعة لأزمة المعادلة الذهنية في أدبه، والتناقض الكامن بين كثرة التفاصيل التي تصل بنا في النهاية إلى تجريدات تعميمية مُطلَقة، لا تسبر غور الإنسان المعاصر وأزمته الضميرية.

١  راجع دراستي النقدية لمجموعة «أليس كذلك؟» بمجلة الثقافة الوطنية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤