الفصل الثامن

الضياع الحائر بين ليلى وصوفي وكوليت

الجنس في أدب المرأة العربية الحديثة موضوع أساسي. ذلك أن الجنس ظلَّ دائمًا — كعلاقة حيوية بين الرجل والمرأة — معيارًا صادقًا في تحديد معنى المرأة عند الرجل، ومعنى الرجل عند المرأة. بل كان مقياسًا بالغ الحساسية لأكبر معاني الحياة الإنسانية: الحرية. فقد همس لنا في القرن الماضي، المفكِّر الفرنسي شارل فوربيه، بأن تقدُّم مجتمع ما، يُقاس بمدى حرية المرأة.

ولإنْ كانت العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، تكشف لنا جانبًا هامًّا من جوانب الحرية لدى المرأة، بمعنى أننا نتعرَّف على نوعية التحرُّر عند الأنثى إذا تعرفنا على نوعية المجتمع الذي تعيش فيه، ونظامه الاقتصادي، فإننا نعثر في علاقات الجنس بصورة خاصة على الدلالة الحاسمة للحرية — في مفهومها الحقيقي العميق — كما تمارسها المرأة وتحيا في إطارها. أي إنَّ العلاقة الجنسية، كانت وما تزال بمثابة «المحك» الاجتماعي الذي يحدِّد لنا الخطوط العامة والتفصيلية كما تراها المرأة، بل كما يراها المجتمع. غير أنَّ المرأة بالذات — دون النصف الآخَر من المجتمع — تستمتع بأهليتها التاريخية للقيام بالدَّور الأول في الْتِقاط معنى حريتها، وأبعاد هذه الحرية؛ لأنها على مدى التاريخ، ومنذ العصر العبودي، وهي أسيرة أغلال الرجل، أغلال الخطوة القديمة التي أتاحت له ذات يوم أن يكون سيدًا بذراعَين في صراعه مع الطبيعة، يوم انقسم المجتمع الإنساني لأول مرة إلى سادة وعبيد.

منذ ذلك اليوم البعيد وحرية المرأة هي العنوان الكبير لكفاحها سيطرة الرجل في كافة صورها. بل إنَّ حرية المرأة ظلَّت تعبيرًا أصيلًا عن حرية المجتمع بأسره. وظلَّت العلاقة الجنسية في كافة صورها أيضًا، أكثر التعبيرات أصالةً عن حرية المرأة؛ لأنها أكثر العلاقات مواجهة للرجل.

•••

والمرأة العربية الحديثة، مهما تعدَّدت أجيالها وبيئاتها الاجتماعية، فهي تعيش الآن مرحلة من أخطر مراحل تاريخها على الإطلاق. وتستمد هذه المرحلة خطورتها من طبيعة الثورة الحضارية التي انطلقت حديثًا في مختلف بقاع المنطقة العربية. ولقد آثَرتُ أن أستخدم تعبير «الثورة الحضارية» بدلًا من الثورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية التي يحاول البعض تضييق الحال على ثورتنا في إطارها. والحقُّ أننا نجتاز مرحلة حضارية كاملة، تشتمل على تلك الثورات بالإضافة إلى ملايين العناصر الأخرى التي لا تخضع لتعميم.

ولا شكَّ أن الحرية من أعظم العناصر وأروعها في صياغة ثورتنا الحضارية المعاصرة. ومن هنا ينفسح الطريق اللانهائي أمام الأديبة العربية المعاصرة لمعاناة هذه التجربة الفذة في تاريخها. إن فذاذة التجربة صفة عادية مُغرِقة في البساطة للمسات البارزة على جبين المرحلة التاريخية التي نعيشها. فنحن لا ننسلخ عن الرداء الإقطاعي لمجتمعنا في ظِل ثورة صناعية فحسب، كما حدث في أوروبا خلال القرنَين الماضيين حين تبلورت أزمة المرأة الأوروبية آنذاك في التناقض الحادِّ بين القِيَم القديمة والعلاقات البرجوازية الجديدة، ونحن لا ننصهر في بوتقة الحروب العالمية الساخنة والباردة فقط، كما يحدث في أوروبا الآن، ومنذ قيام الاحتكارات الإمبريالية، حيث تبلورت أزمة المرأة الأوربية والأمريكية في الإحساس الشديد الوطأة بعبث الحياة ومأساة الوجود الإنساني.

كلا … إننا لا نقف عند هذه الحدود، رغم أننا نستشعر في أدَق أعصابنا حتى النخاع هذه التراجيديا الكبرى التي يحياها الإنسان المعاصر في أي مكان من العالم. إنَّ ثورة شرفنا تُضيف إلى كياننا الحضاري الجديد، عناصر لم تتوفَّر للكيان الحضاري المعاصر لنا في أوروبا وأمريكا. ذلك أننا لا نكتفي بالانسلاخ عن ثياب القيم الإقطاعية، بل نحاول تجاوز الرداء البرجوازي أيضًا. ولسنا نتأثَّر بانعكاسات الحروب الدولية الساخنة والباردة، وإنما نعاني قهرَ التخلُّف الرهيب في حياتنا التي كانت بلا وعي منا، المسرح الحقيقي لمأساة الحرب. فقد اغتِيل وعيُنا فيما مضى بأنياب الأنظمة الرجعية.

وهكذا تلتقط أنوفنا قطرات الوعي الحادة في أعصَب لحظات تاريخنا وأكثرها حِدَّة.

وتلتقط معنا الفنانة العربية المعاصرة، إحدى هذه اللحظات، وأبشَع مظاهرها ضراوةً في حياتنا، ذلك الإحساس الوحشي بالضياع. تلتقط هذه الظاهرة الوجدانية إطارًا جديدًا للتعبير عن مرحلة جديدة في تطوُّر حريتها، في تطوُّر المجتمع. ومن بين العلاقات الناسجة للكيان الحضاري لهذا المجتمع، تتخير الكاتبة العربية العلاقة الجنسية معيارًا صادق الحساسية في تجسيد المرحلة التي تجتازها حريتها، وحرية المجتمع.

•••

ويحقُّ لنا أن نخطَّ الحدود الفاصلة بين الضياع كما يُعانيه الإنسان العربي في الشرق، والضياع كما يُحسُّه الإنسان الأوروبي والأمريكي في الغرب. إن ضياعنا لا يرقد على أعتاب المرحلة الرومانسية بين جدران القرن التاسع عشر، ولا يتمدَّد جثةً هامدة على طول جبهة القتال بين الحربَين العالميتَين حتى منتصف القرن العشرين. إنَّ ضياعنا مركَّب حضاري تتكوَّن عناصره من أحضان اللقاء المقهور المباشر مع الحضارة الأوروبية. فقد تعرَّفنا على الحضارة الأوروبية في عصرها الإمبريالي، وكان تخلُّفنا البَشِع يعدنا وسادة طرية للسيطرة الإمبريالية، فانبثق اللقاء بيننا وبين أسوأ مراحل الحضارة الأوروبية، بيننا وبين وجهها الاستعماري القذِر. وكان أن أُصيب بعضنا بخيبة أمل، فهرول مذعورًا إلى أغلال القيم القديمة، لعلَّها تكفل له الحماية من القادم المسلَّح بالمادة والعقل والعلم. وأُصيب فريق آخَر بالعُقَد النفسية ومركَّبات النقص، فراح يرتدي الحضارة الأوربية كما هي، وبلا مناقشة، بكل قاذوراتها.

على أنه قد أُتيحَت لنا بعدئذٍ فرصة رائعة، لنكتشف ذاتنا في تيار حضاري مشترك بين أبناء المنطقة العربية، لا يرجع بنا إلى أغلال القرون السحيقة، ولا يرفض الجوانب المضيئة في الحضارة الأوربية، ولا يقف سالبًا إزاء الجوانب المظلمة. ومن غمار هذه العملية المتناهية التعقيد، نبع ضياعنا ونحن نكتشف ذواتنا. نبع هذا الضياع من عملية إيجابية، فلم يتَّسم أبدًا بالملل وإن اكتسب الكثيرَ من القلق الحافز المضني. لم يتَّسم مطلقًا بالفقدان، وإن كان مليئًا بالتطلُّع المَرير إلى المجهول، إلى الغد.

ولا ريب أن ضياعنا يحمل في النهاية السمة الأساسية لأي ضياع إنساني، فهو مجموعة من الشروخ والتمزُّقات، يلتقي مع الضياع الأوروبي في الظلِّ المأساوي للعصر، ولكنهما سرعان ما يفترقان في تفاصيل هذا الظِّل. ولقد عبَّرَت آدابنا العربية المعاصرة، شعرًا ونثرًا، عن هذا الشعور المتدفِّق كاللهيب في كياننا الحضاري الجديد. إلا أن أديباتنا القصصيات — أو بعضهن على الأقل — أولَينَ هذه الظاهرة ما تستحقه من استيعاب ومعاناة وتمثُّل. وإذا كان ضياعنا ينعكس على كافة مجالات حياتنا فإن الوجه الجنسي له يحتمل مكانته الرئيسية في أدب المرأة. بل إن ظاهرة حضارية كالضياع بالتحديد، من أولى الظواهر الحديثة الداعية إلى دراسة أخطَر موضوعات عصرنا: الحرية. ولمَّا كان الجنس بمعاييره وقيمه ودلالاته، مقياسًا لحرية المرأة، فإن الضياع والجنس معًا يصبحان — وبحق — لوحة المرأة في عصرنا، إنْ هي استطاعت أن تستشفَّ خطوط هذه اللوحة، وتفاصيلها الدقيقة.

ولقد تخيَّرتُ مادة هذا الفصل من أعمال الكاتبة اللبنانية ليلى بعلبكي والأديبة السورية كوليت سهيل والقصَّاصة المصرية صوفي عبد الله، عامدًا إلى تمثيل أجيال مختلفة للتعبير عن هذه الظاهرة على النطاق العربي.

والأجيال هنا لا تتباعد عن بعضها بُعدًا شاسعًا؛ لأنَّ الظاهرة المعاصرة لا تستوجب ذلك البُعد الشاسع بين أقلام معاصرة. فليلى تصوغ تجربتها مع «لينا وبهاء ميرا ورجا» في نفس الفترة الزمنية التي تعبِّر فيها كوليت عن «ريم وزياد ورشا وكمال» وجميعهم يعيشون المرحلة الحضارية التي تعيشها «أميرة وخورشيد وعوني» عند صوفي عبد الله. ولذلك يتشابهن في بعض المظاهر السطحية في بناء الشخصيات والأحداث، بل والتجربة نفسها أحيانًا. ولكن هذا التشابه يقف بنا عند الحدود السطحية كما قلتُ، وبعد ذلك تختلف الكاتباتُ الثلاث اختلافًا بعيد المدى في حدود الخصائص الذاتية لكلٍّ منهنَّ. فالضياع الذائب في دماء ليلى بعلبكي يختلف في تصويره عن المعاناة الهادئة في أدب كوليت، وكلاهما بعيدان من حيث الوعي الفني والممارسة التعبيرية عما تتمتَّع به صوفي من خلال سنوات طويلة مع التجربة الأدبية.

على أنَّ الأديبات الثلاث، يلتقين في الهيكل الاجتماعي لأدبهن، أي إنهنَّ يتَّخذن من الفئات المتوسطة والعليا في المجتمع البرجوازي، خامة أساسية لهذا الأدب. ولعله سبب جديد يُضاف إلى عامل الزمن أو العصر في تعليل ما قد نصادفه من أوجُه التشابُه بين إنتاج ليلى وصوفي وكوليت.

ولنبدأ رحلتنا مع ليلى بعلبكي!

•••

في أحدَث قصة لها، وتُدعى «الآلهة الممسوخة» — صدرت عام ١٩٦٠م — تنهار ميرا على مقعد يواجه صورة والدها الميت، وتنتهب أعماقها الأفكار: «الحقيقة إنني بدأت أقرف. يضايقني العمل: ترتيب ملفات العملاء في شركة التأمين ثم الإجابة على التليفونات. ويضجرني النوم بعد الغداء كلَّ يوم، كل يوم. كما أنني صرت أنزعجُ من مشاهدة الأفلام، والاستماع للراديو. ووالدتي تنرفزني وهي تفضل في البيت لا تبرحه إلا لتشتري الحاجات. وتحافظ على مواعيد طبيب أسنانها. ويغضبني هاني، فهو يحبس نفسه في غرفتنا ويسافر فيها مع كلِّ لحن يغزو بيروت. لهذا، أفضِّل أن أنطفئ الآن وسريعًا كوالدي، كالرجل الذي سقط بين الأقدام» (ص١٩). وكانت ميرا قد شاهدت رجلًا تتمزَّق شرايينه تحت العجلات، فاصطبغ عالمها منذ تلك اللحظة بغيمة بنفسجية، رمزت بها إلى الموت كلما تراءت لها سحب الضياع قادمة من بعيد مع الرتابة والسأم. وأعتقد أنه برغمنا نذكر على الفور لينا في قصتها السابقة «أنا أحيا» عام ١٩٥٨م «شهدت منذ دقائق مصرع إنسان. كنت على المحطة. كنت أنتظر الترام، سمعت صرخة داوية. ترك أصحاب الدكاكين دكاكينهم. لعلع صراخ النساء. طلَّت الرءوس من الشبابيك. كنت جامدة» (ص١٧٩). والموت — إذَن — هو القضية التي تنفذ من خلالها تجربة ليلى في تعبيرها عن معنى الضياع كما نعيشه، وهو ليس قضية فكرية نابعة من موقف فلسفي كما نلحظ عند ألبير كامي، بل يأتي الموت عند ليلى جدارًا نفسيًّا تستند عليه شخوصها وأحداثها وتجاربها بين أحضان الرجل. ولذلك تصبح العلاقة الجنسية عملية رياضية تُحسب بالفعل وردِّ الفعل، أو الأخذ والعطاء. وهكذا يتحطَّم الإنسان إذا انهار جداره المقدَّس بارتفاع نسبة العطاء على الأخذ. تقول عايدة في «الآلهة الممسوخة»: «أعرف أنني بالغت في العطاء، لكن الرجال يا صديقتي، الرجال يأخذون دومًا أكثر مما يعطون … إنه — أي الرجل — إله هو، وأنا عبدة، جبلها بيدَيه الساحرتين» (ص٤٧). وتلك هي مأساة الآلهة الممسوخة: نديم يهجر الجدار المنهار إلى ميرا، بعد أن خذلته عايدة بفقدانها «أعز ما تملك» في ليلة الزفاف. وميرا تهجر نديم إلى رجا، فالأول عجوز يهترئ ضياعه بين مجلدات التاريخ وتباشير القبر، والآخَر يتضوَّر ضياعه نهمًا إلى ما يُرضي شبابه ورجولته البعيدة عن الغيمة البنفسجية. ولكنَّ هذه الغيمة نفسها هي التي تَحُول دون تكامُل العلاقة بين ميرا ورجا. بينما عايدة تتساءل: إذ حملت عندنا امرأة من الروح القدس، أتعتقدين أن الناس يصدِّقون؟ (ص٦٥). تحاول عايدة أن تغمر ضياعها بين جوانح طفل تستبدل به الدمية الصغيرة نانا «أنا ضائعة ومطرقة. عامل البناء يمزِّق أعصابي. أنا ضائعة، فلا تنسي أن تضيئي الشمعة» (ص٨٢). وميرا تستشعر ضياع عايدة في عظامها «كالحذاء المهترئ الضائع في الوحل» (ص٩٧). أما عايدة فتعبِّر عن ضياعها تعبيرًا رائعًا حين تهمس إلى صديقتها: «حينًا أحس أنني سمراء نحيلة الساقَين والعنق، فاشتريت ثيابًا هادئة الألوان فاتحة وأحذية عالية مقطعة. وبعد حين، شعرت أنني شقراء ممتلئة يصرخ صدري ضيقًا، يطلب الحرية والانقلاب، فرحت أرتدي ثيابًا سوداء وملونة وغامقة تترك كلها للصدر حريته. وأحيانًا كثيرة، صرت أتعذَّب فأفقد لوني، أوصافي … وأضيع، وتفلت مني صورتي الحقيقية وصورة المرأة الأخرى» (ص١٠٩، ١١٠). إن العلاقة بين الرجل والمرأة هنا تحدِّد طبيعة الضياع الذي يُعانيه كملجأ لهذه العلاقة. وحين يفقد الرجل المرأة في جميع صورها، يسند ظهره على البار، والمرأة خلفه، ويغمغم مفتشًا عن الباب بعينَيه متسائلًا بلا وعي: «إلى أين أذهب»؟ (ص١٩١). فقد هربت من ضياعه إلى رجا لتهرب منه إلى آخَر، وهكذا. وهربت منه عايدة بانهيار جدارها المقدس أولًا، وباختطافها على ظهر الغيمة البنفسجية أخيرًا. وكان هذا الاختطاف البنفسجي هو الكلمة الأخيرة لدى الآلهة الممسوخة. فالموت عند ليلى هو القيمة الحقيقية الثابتة، هو جوهر الحياة. وهكذا ينبغي أن تسير حياتنا على ضوء الموت. وعبثًا يكون الكتاب أو الطفل أو العمل السياسي حجابًا بيننا وبين الغيمة البنفسجية، حاجزًا بيننا وبين الضياع، فالجنس — وهو المشعل الوقاد بالحياة — فشل أن يكون ذلك الحجاب الحاجز بيننا وبين الموت.

في نطاق هذه الفكرة، ترسم ليلى شخصياتها وأحداثها وتجاربها. وأنا لست ممَّن يقيسون النموذج البشري في العمل الأدبي بمدى مطابقته لملايين النماذج في الواقع الإنساني، ولست مِمَّن يقفون إزاء الحدث الفني متسائلين: هل يمكن وقوعه في الحياة العادية؟ ذلك أنني أرى في المطابقة الفوتوغرافية بين الفن والواقع تشويهًا لجوهر العملية الخالقة في الإبداع الفني الذي يستلهم الواقع حقًّا، ولكنه لا يصوِّره، بل لا يفسِّره، بل لا يغيِّره أيضًا. وإنما يتفاعل معه تفاعلًا غاية في التعقيد، وربما فسرت لنا الفلسفة هذا التفاعل، وربما انتقلت بوظيفتها من مجال التفسير إلى التغيير. ولكن الفن يبقى كما هو: عنصرًا متمايزًا بين عناصر الواقع، يكتسب أصالته كلما اشتدَّ هذا التمايُز، ويفقد توعيته كلما ذاب هذا التمايُز.

لذلك أتصوَّر الصدق الفني في العمل الأدبي على ضوء التماسك الداخلي بين عناصره من ناحية، والتماسك الخارجي بينه وبين المرحلة الحضارية التي يعيشها الإنسان في مكانٍ ما من العالم من ناحية أخرى. ولهذا يحتل الصدق الفني عندي مكان العامل الحاسم في تقييم الفن، وهو شيء بعيد عن الصدق الأخلاقي، أو الصدق الفوتوغرافي؛ لأنه يكتشف زيف الشخصية أو افتعال الحدث على ضوء ارتباط هذه أو تلك ببقية العناصر المكونة للعمل الفني من جهة، وارتباط هذا العمل بالمرحلة الحضارية التي نعيشها من جهة أخرى. وهذا المعيار فيما أرى يلغي المقارنة السطحية بين الفن والواقع إلغاءً تامًّا.

من هنا أختلف مع الناقدين: عايدة. م. إدريس. ومنور فوال١ في اتهامها ليلى بعلبكي بأنها زيَّفَت شخوصًا وافتعلت أحداثًا لا يعرفها المجتمع اللبناني، فجاءت قصتها «الآلهة الممسوخة» مسخًا مشوهًا. أختلف معهما في المقدمات التي أدَّت إلى هذه النتيجة، ثم أختلف معهما في تفاصيل هذه النتيجة.

إنني حين أمسك بتلابيب القضية المُلِحَّة على وجدان ليلى … الموت، أرى أنها المحور الرئيسي في روايتها الأخيرة، كما كانت المقدمة الأساسية في روايتها الأولى. وبالتالي فهي العمود الفقري الذي ينتظم البناء الروائي لدى الكاتبة. فهل كانت هذه القضية تعبيرًا أصيلًا عن المرحلة الحضارية التي يعشيها المجتمع العربي اليوم؟ وهل نجح هذا التعبير في الحصول على شخصيات وأحداث أصيلة في تجسيد تلك القضية؟

الحقُّ أنَّ ليلى منذ وضعت يدَيها على معنى المرأة، معنى الأنثى، ومعنى الجنس في مجتمعنا كموضوعات خصبة تكشف دلالة وجودنا المعاصر، كانت تستطيع أن تضع يدَيها على هذه الدلالة، أو تكتفي بالإشارة إليها، أو — على أسوأ الفرض — تضل طريقها فتقول بشجاعة أوروبا: لا معنى لهذا الوجود ولا دلالة له. ولكنها — بدلًا من ذلك — حاكت أوروبا في أن جعلت من دلالة الوجود، في ضياعنا، مقابلًا للعدم. وتناست نهائيًّا الاختلاف الكيفي البعيد المدى بين مرحلة الحضارة الأوروبية المعاصرة، والمرحلة التي نجتازها، والتي تجعل دلالة الوجود — في ضياعنا — مرادفًا لاكتشاف الذات. لذا انفصلت «الآلهة الممسوخة» عن مرحلتنا الحضارية، وتفسخَّت داخلها الشخوص والأحداث، فأصبحت غير مقنعة وجدانيًّا غير صادقة فنيًّا.

وإلَّا فكيف نفسِّر الهُوَّة السحيقة بين الفتى العربي اللانهائي في فهم الحرية، والتخلُّف اللانهائي في عقلية الرجل الشرقي الذي أتيحت له فرصة المعرفة والفكر والمعاناة قبل المرأة بكثير؟ بل كيف لا تختلف هذه العقلية الشرقية من بهاء الشيوعي إلى نديم إلى رجا. وكيف نفسر في الوقت نفسه المسافة الشاسعة في أعماق الفتاة العربية في رغبتها الجنونية في التحرُّر، وفهمها للعلاقة الجنسية على ضوء الأخذ والعطاء؟ وكيف نفسِّر الضياع الجنسي عند الرجل والضياع النفسي عند المرأة، إذا فشل الكتاب والطفل والعمل في إذابة هذا الضياع؟

تجيب ليلى: إنه الموت، إنه الغيمة البنفسجية التي تحتمي منها ميرا في أحضان نديم، فأحضان رجا، فأحضان مَن بعد ذلك؟ لا أحد يدري سوى المؤلفة التي تأمر ميرا بالهرب من الموت إلى الكأس والرجل، وتأمر عايدة بالهرب إلى الموت من الكأس والرجل. والرجل في حياة ميرا من عجائز ساجان من حيث المظهر السطحي، ولكنه رجل مريخي من حيث الجوهر العميق. فلا هو ينتمي إلى أزمة المجتمع الأوروبي الذي يدفع بالفتاة إلى أحضان الرجل العجوز، ولا هو ينتمي إلى أزمة المجتمع الشرقي الذي يدفع الدراهم للعجوز مقابل السلعة البضة. وعايدة هي الفتاة التي يدفعها الموت — ولو كان موت أمها — إلى أحضان زميلها الهندي في لندن، فلا يَعنيها أن ينهدم الجدار المقدَّس. ثم تستكين هذه المرأة الشجاعة نفسها إلى مرارة الفراش المهجور، إلا من دمية صغيرة تُدعى نانا. ثم تستكين مرة أخرى في الهالة المضيئة حول وجه العذراء مريم، لعلها تحمل مثلها بالروح القدس. ثم تستكين مرة ثالثة وأخيرة بين أحضان الموت، لتمنح العالم طفلًا، توهَّمَت أنه البركان المذيب لضياعها، أو القيد الذي يشد إليها زوجها من براثن الأخرى. ورجا لا يشغل ذهنه سوى مشهد «العجوز القذِر» في جولته القصيرة مع حبيبته ميرا.

وتحاول ليلى أن تصوغ هذه المجموعة من الشخصيات في حلقات مسلسلة من الحوادث المرتَّبة ترتيبًا زمنيًّا وَفق ما تنطق به الظروف على ألسنة الشخوص، إما في رسائل إلى صديقته (عايدة)، وإما في خواطر متداعية من الداخل والخارج (ميرا)، وإما في حركات هستيرية واعية ولا واعية (نديم). ولم تستطع هذه المجموعة من الأحداث والشخصيات، أن تتماسك فيما بينها، لا في ضياعها النفسي أو الجنسي، ولا في صياغتها معنًى من المعاني لحرية المرأة أو الجسد أو الرجل أو غير ذلك من الدلالات الساعية حديثًا من جوف حضارتنا. لأن المحور الرئيسي للقصة لم يرتبط أصلًا بهذه الحضارة. ولست أزعم أن قضية الموت كملجأ للضياع الجنسي، فكرة مستوردة عن الغرب، فإن هذا الاستيراد نفسه يثير التساؤل: لماذا؟ فربما كانت الفكرة إفرازًا طبيعيًّا لتجربة فردية موغلة في الذاتية. ولو أن ليلى بعلبكي استطاعت أن تنصهر بتجربتها في بوتقة الفن كظاهرة اجتماعية، وفي بوتقة تاريخنا المعاصر كظاهرة حضارية، لقالت لنا شيئًا آخَر عن قضية الجنس والضياع، شيئًا جديرًا بأن تناقشه فنيًّا في تواضُع، بدلًا من هذا الاستعلاء في مناقشتها العلاقة الجنسية، كتجربة لا تستحق ما تناله من وعي أو الْتِفات.

وتتَّضح هذه الظاهرة بجلاء في روايتها الأولى «أنا أحيا»: لينا في عنفوان ربيعها تحسُّ رغبة جارفة في التدمير، وتعامل أسرتها وزملاءها كدُمًى أو جمادات، بل إن «للترام خطه وسط الطريق. للسيارات مواقفها. للناس أرصفتهم. وأنا ضائعة، أنقب غريبة عن مكاني» (ص٩٣)، أي إنها فتاة عربية تبحث عن نفسها، عن معنى وجودها، بل تريد أن تحقِّق هذا الوجود. فكيف … كيف تحققه؟ إنها تحتقر والدها الذي حقَّق وجوده بين أكوام الدولار والإسترليني بالنظر ليلًا إلى الجارة المترهلة وهي تخلع له ثيابها على الضوء قطعة قطعة! وهي تحتقر شقيقتها الصغرى التي حقَّق لها الوالد وجودها بارتداء الحرير والذهب لتتزاحم على جسدها الأعين والشفاه الظامئة. وهي تحتقر شقيقتها الكبرى التي تحقِّق لها الثقافة وجودها بين الكتب. وتحتقر والدتها حين تتوهَّم في قميصها الشفاف أنها تؤكِّد وجودها بين أحضان الزوج وكوم الأطفال كما تدعوها هي وأخواتها. أكثر من ذلك، إنها تحتقر زملاءها في الجامعة إذا تكلموا في السياسة والحرية الوطنية والاشتراكية: أحسست بالوحدة بينهم، والتفاهة، وبالضيق. «وبدأت أمقتهم حين تحسَّستُ ضياعي في غوغاء مجموعهم. فهذه الرءوس تحتوي أفكارًا مغلوطة، وأخيلة، هي أخطر علينا من سموم المستعمر» (ص٩٩). وهي لا تستشعر ضياعها بينهم، لمجرَّد أن أفكارهم الوطنية والاشتراكية أخطر — في رأيها — من الاستعمار؛ وإنما لكونها على يقين من أن شعاراتهم البرَّاقة هذه تُخفي أنيابًا لزجة «على أتم استعداد لشرب دماء بعضهم بعضًا، لِنَيْل قُبلة من شفة ثائرة، وللمسة نهد!» (ص٩٩).

إن مشهد اللحم، لحم والدتها يُثير قرفها «إنها أنثى! إنها مصدر عطاء. إنها ينبوع يتدفَّق، تلزمه مجارٍ كثيرة، واسعة عميقة، ليصب فيها» (ص١٠٩). ومن صميم هذا المنهج لفهم العلاقة الجنسية على أنها أخذ وعطاء، ينتصب في خيالها الشرقي معنى الرجل: قامة طويلة تعلو قامتها، يكرس لها كل عطفه، ويساعدها على إيجاد خصائصها (ص١١٠) ولذلك تحدد أنها تحيا إذا أحسَّ الناس بوجودها (ص١١٦). حتى إذا الْتَقت ببهاء، أقبلت عليه «إنه يحسُّ أنني أعيش، وأنني يجب أن أعيش ولأمر مُعيَّن … إحساسه هذا يسيطر على تفكيري، وعلى كلِّ معتقد كنت أُومِن به من قبلُ. إنه رجل، إنه جريء، إنه خجول. إنه غامض. أنا أخافه» (ص١٣٣). أما القيم القديمة، فتقول لها شيئًا آخَر على لسان الأم: «أنتِ تُثيرين إعجاب كل الرجال: أنوثتك طاغية، أنتِ مثلي، مهمتك الوحيدة أن تضاجعي الرجل، وأن تهدهدي سرير طفل! أما هذا الذي سألك فهو يعرف قبل كل شيء، قبل أن يحاول أن يستوعب وجودك كإنسان أمام قدح القهوة. هو يعرف أنكِ أنثى! كان يستمد منكِ لذة! من حضورك إلى المقهى. من انفعالات وجهك. من القلق في عينَيك. من الرجفة في أناملك، وأنت تُفرغين السائل البني. من امتصاصك بقايا البن على شفتَيك، من خطواتك الكسلى، وأنت تختفين في الشارع، وحرم اللذة طوال شهر. التساؤل معناه: الحرمان» (١٣٣). وبين القيم القديمة على لسان الأم والأب والجيران ورئيس المؤسسة، والعلاقات الجديدة الوافدة مع تطوُّرنا الحضاري، كانت لينا تتعذَّب، تتمزَّق، تُعاني قسوة انتقال الإنسان من مرحلة إلى أخرى. إن نقاط التحوُّل التاريخية، تنعكس على وجدان الفرد بصورةٍ أحَدَّ من انعكاسها على المجتمع ككل. لهذا يولد ضياعنا المعاصر فرديًّا. لا يصيبنا الضياع الاجتماعي الذي يهدِّد الحضارة بالموت، وإنما يصيبنا الضياع الفردي، مخاضًا نفسيًّا ينذر تاريخنا بولادة حضارية جديدة. وبين القديم والجديد في شرقنا العربي، تتعذَّب لينا، تتمزَّق، وتضيع في مئات من علامات الاستفهام، وهي تواجه الأم، القيم القديمة: «ودرتُ في مكاني دورات عديدة قبل أن أواجهها. واستحالت هي — أي أمي — إلى علامة استفهام خضراء، والطاولة إلى علامة استفهام بُنِّية، والصحن إلى علامة استفهام بيضاء، ويدي وهي تعلو لتفرك أجفاني، إلى علامة استفهام بلون اللحم؛ فهربتُ إلى سريري، وبعد الظهر كان الناس على الطريق قضبانًا متحرِّكة، منحوتة بشكل علامات استفهام مخيفة! وفي الصف كان الزملاء علامات استفهام مسمَّرة على المقاعد الخشبية! وإذا القلم بين أصابعي يتحوَّل إلى علامة استفهام ملوَّنة. وإذا الدفتر الصغير، هو أيضًا علامة استفهام مستديرة! أكاد أُجَن» (ص١٣٤). لقد أحالها الرجل إلى علامة استفهام كبرى! أيقظت وجودها العلاقة الجديدة، فراحت تتعذَّب وتتمزَّق، وإذا بها تضيع ضياعًا متسائلًا باستمرار: «قالت أمي: يستمد منكِ لذة. من أنا؟ هل فكرت يومًا بمنحه هذه اللذة؟ أحنيتُ رأسي أتفحَّص جسدي، فإذا ثياب سميكة تغلِّفه، لكنها لا تُخفي تمرُّد النهدَين» (ص١٣٤). فإذا رأت بهاء، إذا رأت الرجل لم ترَ في عينَيه سوى أشعة ثاقبة لفستانها أو تنُّورتها أو قميصها، حارقة لجسدها، لصدرها، لساقَيها …، وكما لمحته يتقدَّم لمحته يبتعد. أتراه شبع لذة حتى تخم؟ ابتعد. اختفى. وبين قدومه واختفائه ذابت كل علامات الاستفهام، لتتجسَّم فيه هو» (ص١٣٥). أي إنَّها تُعيد إليه الكرة بعدما أحالها إلى علامة استفهام، بعد أن أحال وجودها كله إلى علامات استفهام. بدأت هي تُحيله، بل تُحيل وجوده إلى علامات استفهام، بل أرادت أن تنفذ إلى حقيقة العالَم، حقيقة الوجود، من خلال حقيقة الرجل … «لن آتي في الغد إلى الجامعة. سأتغلغل إلى الرجل في العلامة: إلى الإنسان ومنه إلى الحياة. أنا أعرف من اللهجة المُستفهِمة أنني سأكسب نضوجًا. سأترك الجامعة: عالَم الجمود، والموت البطيء لأنطلق إلى عالَم هذا الرجل بالذات، أستمدُّ منه حقائق نابضة» (ص١٤٢).

كيف تستمد هذه الحقائق في ضياعها، في تتبُّعها «نظرات بهاء التائهة في ساقي: نظراته السارقة. لذته المستمدة من النظرات … في امتصاصها صدري … شفتي … عيني! أنا متضايقة. وهو أيضًا متضايق». حينئذٍ تكشف الغطاء الرمزي من فوق صندوق المؤسسة الذي تلقاه فارغًا دائمًا، لا يُلقي فيه أحد من الموظفين شكوى واحدة، ومع ذلك فليس من بينهم إنسان واحد سعيد «أنت لا تدري ما معنى فراغ الصندوق من رسالة! أنت لا تدري كم يؤلمني الفراغ، ويعذبني! أنت لا تدري أنني استخدمت وجودك مرة لتفسير معنى فراغي! أتحسُّ أنت بالفراغ؟» (ص١٥١) … «ثم تساءلت، والطرب يعزف ألحانًا على الشفتَين المهيجتين: لماذا لا يرحمني ويرحم نفسه؟ لماذا لا أمارس حقي في الحياة، ويمارس حقَّه؟ لماذا لا يقرب رأسه، ويلصقه بوجهي؟ لماذا لا يناغي الأذن الفائرة ويدغدغ الرجفة مُخفِّفًا الهيجان على الشفتَين، ويداعب الأنامل، فيساعد الارتباط على الرقاد عند رءوس أصابع اليد اليسرى. ثم يفكِّك أزرار القميص الصبياني الفضفاض، ويمزِّقه إربًا، من قدمي وقدمَيه. ثم يدعوني إلى غرفته، فأتبعه لنجمع مبعثرات حياتي إلى مبعثرات حياته ونخلق الحوادث ونرعى النتائج، ونغيب في خضم حريتنا» (ص١٩٦).

هذه البخور العطِرة تحرقها لينا أمام الرجل الذي أصبح امتدادًا لذاتها (ص١٩٧). ولكنه امتداد من صنعها هي، من صياغة تجربتها الفردية الموغلة في الذاتية؛ لذا كان بهاء شيوعيًّا على نحو خاص للغاية، فهو يلعن الشيوعية والحزب، ويجعل من أحلام يقظته عروسًا لحياته تساعده على تقبُّل الحقائق الواقعية (ص٢٤٤). والحزب كما تراه المؤلفة هو أغرَب منظمة سياسية في العالم؛ إذ ينصح أعضاءه بقتل عواطفهم قبل انضمامهم إلى العالم الأسمى (ص٢٦٥). هل هي تحب ذلك الشيوعي الضائع الذي انفرد بخلقه خيالها الخصيب؟ تجيب في قلق: «أحب؟ لا، أنا أحنُّ إلى الضياع في تحاطُم الصراع في حياة بهاء: فآخذ وأعطي … في حياة بهاء وسائل هامة تُتيح لي فرصة أخلق فيها عناصر حياتية، مُبتكَرة. وأنا التي أملك عطاءً وافرًا مخزونًا» (ص٢٨٥). ولا شك أن لينا وهي تصوغ حبيبها الشيوعي على ذلك النحو المتفرِّد، وهي أيضًا تصف الشيوعيين بالاستعمار الشرقي، وتقرِّر أن المبادئ الاشتراكية سخيفة … لا شك أنها كانت بوحي من المؤلفة تكتب منشورًا — فنيًّا — على مكتب رئيس المؤسسة الاستعمارية التي عملت فيها، والمعادية لآمال شعبنا في التحرُّر تحت شعار مكافحة الشيوعية.

غير أن لينا التي حرقت البخور منذ لحظات أمام الرجل الذي أصبح امتدادًا لذاتها، ترى أن ذلك «العطاء» يجعل منها مسيحًا جديدًا، يصلب وجودها. «أيريد أن أتسلَّل إلى غرفته، في وهج نور النهار، لأدقَّ المسامير في يدي، ورجلي، وما بين نهدَيَّ، لأصلب جسدي على الحائط مكان الصورة؟» (ص٢٩٩). هكذا ترتفع في نظرها نسبة العطاء حتى تتلاشى معها نسبة الأخذ. وليس العطاء خالصًا لإشباع الجنس، خالصًا لامتصاص الضياع، فربما كان قنطرة إلى الطفل بعد أن فشلت في العمل والدراسة. والقيمة الكبرى للطفل عند الرجل الشرقي — كبهاء — أنه يجعل من الجنس والحب وسيلة إلى غاية. ولو كانت هذه الغاية هي الحياة أو تحقيق الوجود لما شاب التجربة على الإطلاق. ولكن هذه الغاية تتلوَّث حين يراها بهاء «كومة عار» لا يستطلع أسباب تلفها وفراغها ومأساتها «… فنَبْني أنا وهو وكرًا بسيطًا، دافئًا، أحقِّق له فيه آماله. وأحقِّق فيه التجربة الكبرى: أنا أعطي إذَن أنا أحيا» (ص٣٠٦) … أما هو … أما بهاء … أما الرجل، فشرقيته لا تفهم هذا المعنى للعطاء كمرادف للحياة، لأنه هو تمثال مأساوي ضخم للكبت والحرمان (ص٣١٤). ولما كان العطاء هو فلسفة لينا في العلاقة الجنسية، فإن مجال فخرها الوحيد يتحدَّد في «صورة قدِّها المتضخم الذي يتفوق على كل قدٍّ في عطائه» (ص٣١٦) … وهذا العطاء من جانبها لا يحقِّق وجودها وحدها، وإنما هي ترى أنه يحقِّق في نفس اللحظة وجود الطرف الآخَر. بينما هذا الطرف يعيش في عالم مختلف عن عالمها … «فهم أنَّني ضائعة أتهيَّأ للعصف، والتحطيم، والعناد. فعجل يستمد من ضعفي ورجفتي وتلعثُمي قوة واهية يهدم بها في لحظات صروحًا جبارة للإنسانية، بنيتها في ليالٍ طويلة … طويلة … ونهارات قلِقة، لا متناهية في رعبها وحلكتها …» (ص٣٢٠). ثم تعقد لسانها علامة الاستفهام التي عقدت لسان نديم في نهاية «الآلهة الممسوخة» فتتأوَّه: «إلى أين سأزحف بعد اليوم، كحشرة رخوة على الأرصفة؟» (ص٣٢٤). وتحاول أن تلحق بعايدة وهي واعية بالموت … تحاول أن تنتحر، وتفشل حتى في هذه، وترسم النهاية في صورة رمزية، تلقي فيها عقب سيجارة مشتعلًا، ثم تتابع قدَمي رجل يقترب من العقب ويقترب، حتى يدوس على العقب، فيختفي اللون الأبيض، ويخمد الوهج الأحمر … «فأسرعت في أثر الرجل، أنوي ضرب وجهه بقدمي، فأثبت لنفسي أنني لا زلت أحيا! لكنني وقفت مخذولة بعد أن أضعت أثر الرجل. ورجعت إلى البيت، كأني مجبرة على العودة إلى البيت. دائمًا يجب أن أعود إلى البيت. أن آكُل في هذا البيت. أن أستحم في هذا البيت. أن يحبك مصيري في هذا البيت».

وكان من الممكن لهذه الرواية أن تكون عملًا أدبيًّا فذًّا؛ فقد أتيحت للكاتبة تجربة رائعة، هي العلاقة بين الفتى الذي ينتمي إلى عقيدة فكرية تُغاير المنهج الذي تسير على هديه الفتاة مغايرة عميقة الجذور، في ظِل مرحلة حضارية واحدة، بل هما ينتميان إلى جيل واحد، لولا أن المؤلفة آثَرَت في بناء شخصياتها وصياغة أحداثها أن تتنافى هذه الشخصيات والحوادث مع الفكرة الرئيسية المسبقة التي تود الوصول إليها، وهي أن الفتاة العربية في عصرنا، مسلوبة الحقوق حتى من أبناء جيلها، بل من بين أكثر هؤلاء الأبناء وعيًا بحرية المرأة وفهمًا لمعنى الجنس. إنَّ المرأة وحدَها هي التي استطاعت أن تتمثَّل الدلالة الحضارية لعصرنا، بينما تخلَّفَ الرجل عن الركب مطمئنًا إلى خلود أسوار الحريم.

ولا ريب أنَّ ذلك المفهوم يفصل ما بين ليلى بعلبكي ومرحلتنا التاريخية فصلًا عميقًا؛ لأنها لم تدرس بالفعل طبيعة واقعنا الحضاري في المرحلة الراهنة، والواقع الحضاري شيء يختلف عن الواقع الاجتماعي. فلا شكَّ أنه يوجد ملايين العرب المعاصرين ممَّن يتعاملون مع المرأة على أنها «كومة عار» — وهذه هي الترجمة السطحية المبتذلة للواقع — ولكنه يوجد في الوقت نفسه، المئات والألوف التي تعلن في خطواتها كم قطعنا في طريق التقدم الحضاري. ولقد تخيَّرت ليلى نماذجها من أولئك المئات والألوف الطليعية، ولكنها ألبستهم — برغمهم ورغمنا — ثياب الملايين المشدودة إلى القرون السحيقة. فكان ذلك النشاز الصارخ في ضحيتها لينا، وكانت هذه الأكوام الزائفة من الحوادث المفتعلة التي فتَّتت الصياغة المونولوجية الرائعة في البناء الروائي.

اتَّضح ذلك النشاز الصارخ في شخصية بهاء منذ أول وهلة، فالمعروف أن وجهة النظر الماركسية في المرأة، تتنافى تنافيًا مطلقًا مع اعتبارها عارًا أو رجسًا من عمل الشيطان. بل تراها كائنًا متطورًا مع تطوُّر المجتمع، وترى في تخلُّفها رجسًا من عمل المجتمع الطبقي. وهكذا يكافح الإنسان الماركسي من أجل تحرير المرأة في موازاة كفاحه من أجل تحرير المجتمع. غير أن المعروف أيضًا أن الإنسان لا يولد ممنهجًا بالطابع الماركسي، وإنما هو يكتسب ذلك الطابع بالثقافة والممارسة العملية. والإنسان في شرقنا بالذات، يولد غارقًا في محيط شاسع من دماء الدنس والعار المرسوم بها جبين المرأة. لذلك مهما واتته الفرصة — ذهنيًّا — للتخلُّص من هذه الدماء، فإنها تظل أمدًا طويلًا عالقة بوجدانه وأعماقه وروحه. لهذا كنت أتصوَّر شخصية بهاء كماركسي يعاني التناقض الحاد بين تكوينه الذي أسهمت في بنائه مئات الحقب من قِيَم العار والخطيئة والشيطان، وبين ما يستقبله عقله ليل نهار من أدوات الثقافة والمعرفة المتحضرة. هذا هو التناقض الأساسي، الواجب الوجود في البنيان الداخلي لشخصية بهاء. وهو لا يلغي تناقضًا آخَر بين البنيان الداخلي نفسه والإطار الخارجي. ففي هذا الإطار يبدو الإنسان الماركسي وغير الماركسي، وكأنه نسخة مطابقة للمبادئ التي يحاول أن يعيش بها … والصراع بين الداخل والخارج هو الذي يفجِّر نبع الشخصية الفنية، هو الأساس في عملية الخلق الفني للنموذج البشري، لذلك كان يمكن أن نلتقي ببهاء في لحظة الصراع هذه، وحينذاك كانت تستطيع المؤلفة دونما عناء أن تلتقط الجوهر الحقيقي العميق للشخصية، من غير أن تحوِّلها إلى بوق تهتف منه ضد الاشتراكية والشيوعية والقومية العربية، بالإضافة إلى ما تنسبه إلى هذه المبادئ من تحقير للمرأة واعتبارها عارًا.

ولحظة الصراع هذه لن تكون وحيدة الجانب، وهناك لينا في الطرف الآخَر من الصراع. إن هذه الشخصية كان يمكن أن تحقِّق أنسب لحظات الصراع المشتركة بينها وبين أحد أبناء المرحلة الحضارية التي تعاني ضراوتها بقسوة ووحشية. فهي فتاة أُتيحت لها فرصة الانسلاخ عن القيم التي تغل والدها ووالدتها وإخوتها … وهي تؤكد هذا الانسلاخ في العمل والدراسة والحب، ولكن الكاتبة عمدت إلى صياغة لينا تمثالًا مجوفًا للحرية، فجاءت ثورتها الخالية من أي مضمون فلسفي، تعبيرًا سالبًا عن أزمتها. بل هي في قمة حيرتها بين معنى الجسد كما تراه أمها، ومعنى الجسد كما ينبغي أن يكون في نظرها. في ذروة هذه الحيرة، تنحاز بكيانها كله نحو القيمة القديمة، وتنحدر في أعماقها القيمة الجديدة بعيدًا بعيدًا عن السطح، عن جوهر حياتها الجديدة … وهنا يتهشَّم تمثال الحرية على صخرة البذل والعطاء والإحساس بالضعف الأنثوي إزاء قوة الرجل، واعتبار الجنس تعويضًا عن الضياع، واعتبار الضياع ثمرة اللقاء المنتظر مع العدم. وهكذا تتسطح تجربة لينا مع أسرتها، وزملائها، ورئيس المؤسسة، فضلًا عن تجربتها مع بهاء. ولذا كنا لا نمتلك حقًّا في نسبة ما تأتيه لنا من سلوك إلى المؤلفة، فإن ما نمتلك ناحيته هو الأثَر العام للعمل الفني ككل … ولقد أسهمت لينا في تكوين ذلك الأثر، بأن بصقت على الفتاة العربية، بل على الإنسان العربي ولحظتنا الحضارية المعاصرة … وجعلت من قضايانا بصفة عامة، ومن قضايا المرأة بصفة خاصة، شيئًا تافهًا لا يُناقش.

وهذا ما يفسِّر لنا ما انزلقت إليه الكاتبة في بناء الأحداث بناءً سطحيًّا باردًا خاليًا من الصراع الدرامي، رغم أنَّ هناك أزمة، وتجربة مفتوحة للصراع. فقد تسلسل المونولوج الداخلي مع لينا من البيت إلى المؤسسة إلى الجامعة إلى المقهى، تسلسل من خلال سطوح القضايا والمشكلات التي تحياها، تسلسل من خلال معانقة هذه الرؤى السطحية، للتكوين المزيَّف للشخصية الثانية: بهاء، فكان هذا التسلسل بمثابة الترتيب العضوي لحشد من الأحداث والتجارب والشخوص، لم يكتسب الوظيفة الأساسية للمونولوج الداخلي في إضاءة الأبعاد الموغلة في عمق التجربة الذاتية للفرد، أو التجربة الإنسانية ككل. ولم يكسب البناء الروائي وحدة الترابط الفني لانعدام التماسك الفني والفكري جميعًا. وجاءت تفاصيل الرؤية الفنية للجنس باهتة، تنطق بالافتعال — فالصورة التي رسمتها لبهاء مع لوحاته العارية في غرفة نومه، أو على شاشة السينما، أو مع صدر لينا وساقَيها وشفتَيها، تهتز ملامحها في وجداننا لاهتزاز الصورة الكاملة لبهاء. كما أن صورة الجارة المترهلة واليهودية الحامل، والأم ذات القميص الشفاف، والشقراء الصغيرة التي تعيش أيامها في روعة جسدها، والجار الذي يبحث عن ثقب في شباك لينا المغلق على جسدها العاري تحت الأضواء، والأب الذي ينزف شهوته في منتصف الليل بمجرد استلقاء بصره على الجسد الممدَّد في الشقة المقابلة، وصاحبته تخلع ثيابها قطعة قطعة … هذه الصورة الجنسية للمجتمع العربي في لبنان، تفتقر في جميع زواياها وألوانها وظلالها إلى الصدق الفني، لأنها لم تنَل من المؤلفة سوى الحكم بالإعدام، دون حيثيات مقنعة أو غير مقنعة.

ولا شك أننا في النهاية، نستشعر ضراوة الضياع المُر بين جوانح ليلى بعلبكي، بل إني أذهب إلى بعيد وأقول إن ضياعها مُذاب في دمائها. ولكنها — وكم نأسف لذلك — لم تستطع ككاتبة عربية من جيلنا ومن عصرنا، أن ترتفع إلى مستوى جيلها وعصرها وحضارتها، بل لم ترتفع بتجربتها إلى مستوى الفن القادر على امتصاص مأساتنا. لذا ضاعت من بين يدَيها مشكلات المرأة العربية المعاصرة وذابت قضية الجنس عندها في لوحات مشوَّشة لا تتصل في كثير أو قليل بأعماق ضميرنا، وأزمته العميقة الجذور.

وكان لا بدَّ لنا، أن نعجل بالرحيل إلى سوريا، إلى الكاتبة الدمشقية كوليت سهيل.

•••

وسوف تشدُّنا خيوط كثيرة من ليلى إلى كوليت، بعضها يتمزَّق بعد مسافة تقصر أو تطول، وبعضها الآخَر يستحيل إلى نوعية أخرى في منتصف الطريق، والقليل القليل، يظل معنا إلى الكلمة الأخيرة في أدب كوليت.

ولعلَّ قصة «أيام معه» — صدرت عام ١٩٥٩م — هي المقدمة الرائعة إلى الكلمة الأخيرة التي فقدت روعتها في القصة الثانية «ليلة واحدة» عند كوليت سهيل. والمقدمة — أو أيام معه — تناقش الضياع الشرقي للرجل والمرأة في نفس الحدود تقريبًا التي لمسناها عند ليلى بعلبكي.

  • فالعمل: هو أول ما تحاول ريم أن تبدِّد فيه ضياعها، وتحقِّق به وجودها، وتصطدم إلى صخرته بقيم مجتمعها، فتقول: «إن العمل مسئولية، وإن المسئولية تُعطي نوعًا ما، هدفًا للحياة» (ص٢٩). وتؤكد مرة ثانية «إن إرادتي أن أعمل، هي نتيجة تقهقري المتواصل أمام الفراغ … وأمام الوحدة … وأمام الملل» (ص٣٠) — ثم تتحدى المجتمع في صورة جدتها «أنا لست بحاجة إلى وجودكم حولي! أنا في حاجة إلى حياتي … إلى شخصيتي … إلى فرديَّتي، إلى إثبات وجودي … كيف لا تفهمون ذلك! أنا لست عبدة! عبدة لكم … للمجتمع، لآراء الناس» (ص٣٤). ورغم ذلك، فهل استطاع العمل أن يبدِّد الضياع، أو يحقِّق الوجود؟ لقد سبق أن تركت لينا العمل بالمؤسسة في «أنا أحيا»، رغم شعورها المدمِّر بالضياع، ورغم حاجتها الملحة لأن تقف ندًّا للمجتمع، لوالدها، من الزاوية الاقتصادية. وها هي ريم تصرخ «… وبدد العمل بعض مَللي، وبلور شخصيتي، لكنه لم يملأ فراغي … فراغ حياتي».
  • والكتاب: هو المحاولة الثانية التي أقدمت عليها ريم، سواء مع الدراسة الجامعية، أو مع ما تهفو إليه نفسها من دواوين الشعر، وما تثمره قريحتها من قصائد وأغنيات. ومع ذلك فكَم أحسَّت بوجدانها يتشقَّق من الجفاف بين كتب الجامعة، وكم تألمت من الفراغ الذي يحدق بها فور انتهائها من قصيدة جديدة. ولم يستطع الفكر أو الفن أو الثقافة، أن تملأ عليها حياتها، بل «كانت ساعات النوم من أهنأ ساعات أيامي … هذه الساعات التي تشبه الموت … يغيب فيها الإنسان عن الواقع، ويركد تفكيره فلا يقضي يومه متأسفًا على حياة لا يحياها» (ص٤٤).
  • والحب: هو التجربة الأخيرة التي أقبلت عليها ريم، أقبلت حاملة نفس القيم التي حملتها من قبلُ لينا وعايدة من شخصيات ليلى بعلبكي. والقيمة الأولى هي أن الحب يلخِّص عبودية المرأة للرجل «إن حريتي لا تفيدني، وإنني أفتتها» (ص٣٢) مؤكدة في مكان آخَر «هل أخبره أنني أرمي الشعر والفن والدنيا إلى الجحيم من أجله؟» (ص٢١٣). والقيمة الثانية هي الضعف الأنثوي إزاء قوة الرجل. فكما تمنَّت لينا أن تعلو قامة الرجل على قامتها فيعيد خصائص وجودها، تمنَّت ريم (ص١٠٩): «لو تظل هذه الذراع تحيط كتفي، وترفع عنهما مسئولية الحياة» … «كنت دائمًا أتلهَّف إلى رجُل يحيطني برجولته، وبأسه، وجه. رجل أستقرُّ بين ذراعَيه، فيمزِّق شفاهي، ويكسر ضلوعي، ويستطيع في وقت آخَر أن يستقبل على كتفه دموعي» (ص١٥٥) … تكاد تكون نفس ذرات البخور التي أطلقتها لينا حول صورة بهاء. والقيمة الثالثة هي أن الرجل الشرقي مهما تزوَّد من الحضارة بأدوات الفكر والذهن المتحرِّر، إلا أنه ما يزال شرقيًّا، بينه وبين المرأة العربية المتحرِّرة مسافة شاسعة، تضع تفكيره في مكان مختلف عن مكان تفكيرها الأمامي المتقدِّم. هكذا كان بهاء الشيوعي ونديم أستاذ التاريخ عند ليلى، وهكذا نرى زياد الفنَّان الموسيقار عند كوليت «… إنه ليس محرومًا لأنه يريد أن يعتقد أنه ليس محرومًا! إنَّ رواسب الشرق تنخر في أعصابه، وليس ضياعه ومغامراته الكثيرة إلَّا نتيجة ذلك … إنه تائه يركض دائمًا، باحثًا عن وجوه جديدة، لأنه في الحقيقة، لا شعوريًّا، يحاول أن يهرب من نفسه … يحاول أن يبرهن أنه ليس محرومًا … لأنه يعرف أن الحرمان وُلد معه وفي ذراته» (ص٢٨٠). وكما رأت لينا بهاء «ضعيفًا يجمع قوة واهمة ليحطمها»، كان زياد «ليس قويًّا …، ولو كان فعلًا قويًّا لَمَا حاول بجميع الطرق أن يظهر بثوب الشخص القوي … القوي … القوة الصحيحة تنبع من الأعماق، وليست ثوبًا يرتديه الإنسان» (ص٢٨٢). والقيمة الرابعة هي أن العلاقة الجنسية حاصل جمع الأخذ والعطاء كحلٍّ لأزمة الحب المثالي الذي يعتمد على العطاء الدائم (٣٥٤، ٣٥٥). والقيمة الأخيرة أن الحب والجنس تعبير مركَّز عن مأساة الوجود الإنساني … تنادي ريم زياد وهي تتلو كلمات لينا مع بهاء: «أنا أحبك أنت يا زياد، وأريد أن أشعر في ذراتي بمعنى وجودك، وبمعنى وجودي» (ص١٨٧) … «إنني في حاجة إلى شخص حبيب يبقى إلى جانبي، ويدلُّني على طريقي … ويدفعني فيه …، شخص يبدِّد ضياعي وخوفي، ويُعطي معنًى لوجودي» (ص١٨٦). وإذا كان الحب رغبة عارمة في اكتشاف دلالة الوجود وتحقيقه، فإن فقدانه أيضًا، نقيضه المقابل، مأساة تصنع شيئًا مماثلًا … قالت ناديا لريم: «… كان من الضروري أن يهزك بعنف شخص، لتستيقظي من ضياعك الدائم … وتجدي نفسك» (ص٢٨٢).

هذا التشابه بين ليلى وكوليت قد يعني الدراسة النقدية المقارنة في المقام الأول، ولكنه يعنيني هنا في هذه الدراسة الخاصة بمعنى الجنس في أدب المرأة، لارتباط هذه الخيوط الحضارية الناسجة للبناء الروائي — في بعض الوجوه — عند ليلى وكوليت. على أن نقطة انطلاق ليلى — الموت — امتهنت النسيج الحضاري الواحد الذي يظللها مع كوليت، فجاء أدبها تعبيرًا عن قضايا مريخية لا تتَّصل بعالمنا في كثير أو قليل. بينما كانت نقطة انطلاق كوليت هي العنصر الأول في أزمة جيلنا، أزمة التناقض بين القيم القديمة، والعلاقات الاجتماعية الجديدة. ولأن هذا العنصر لم يعرف طريقه إلى بقية عناصر التراجيديا المعاصرة في حياة الإنسان الحديث بصفة عامة، والمرحلة التاريخية التي يكتشف فيها الإنسان العربي ذاته بصفة خاصة، لهذين السببين كان الغلاف المحيط بتجربة كوليت هو الغلاف الرومانسي. وهو بلا ريب غلاف يتخلَّف عن طبيعة مرحلتنا الحضارية الراهنة، ولكنه يتصل في عمق بأحد عناصرها من زاوية التناقض الذي أشرت إليه بين القيم القديمة والعلاقات الاجتماعية الجديدة، كما يتصل أشد الاتصال بطبيعة النماذج البشرية التي أودعتها المؤلفة عملها الأدبي، لذلك جاءت «أيام معه» صادقة فنيًّا إلى أبعد حدود الصدق تتميَّز تجربتها بالأصالة، وأحداثها بالمعقولية الفنية، وشخوصها بالإقناع الوجداني.

الرؤية الرومانسية للحب في «أيام معه» هي المقدمة الرائعة للرؤية الرومانسية للجنس في «ليلة واحدة»، لذلك لا يصبح الموت حافزًا للضياع، بل على النقيض حافزًا لاكتشاف الوجود، ولا يصبح الجنس ملجأً للضياع، بل تعبيرًا ما عن الوجود. تتساءل ريم في «أيام معه» (ص١٢٩): «سأموت يومًا ما دون إرادتي، كما وُجدت دون إرادتي، فلماذا، وقد وجدت، لا أعطي معنًى لهذا الوجود؟» ولقد حاولَت قبل أن تلتقي بزياد أن تُعطي هذا المعنى لوجودها في العمل والدراسة والفن، ولكنها عبثًا كان وجودها يكتسب معنى … «إنني أحاول بجميع الطرق أن أجد معنًى لوجودي، لكنني أكتشف يومًا بعد يوم، أن وجودي تافه» (ص٨٦). والمجتمع من حولها لا يتيح لهذا الوجود معنًى أصيلًا نابعًا من لحظتنا الحضارية ذاتها، وإنما يفسح المجال للمعنى الرومانسي فحسب … «المجتمع الذي يؤثر الدعارة في الخفاء على الابتسامة الطاهرة علنًا» (ص١٠٨).

… وهكذا يغيب الإحساس بالفراغ في شرقنا العربي في باطن الضياع الرومانسي القريب من المرض النفسي «… إن الفراغ مرض شرقنا بكامله … هو مرضي، هو مرض كل فتاة، كل امرأة مرهفة الحس، يُكتَب لها أن تحيا في هذه البقعة من الأرض» (ص١٢٦). وعندئذٍ تكون السعادة في وجود زياد، «لحظات قصار يتوقف فيها الملل مؤقتًا، وينهار فيها الفراغ نسبيًّا» (ص١٣٠). وهو ملل رومانسي في صميمه، بعيد تمامًا عن أن يقف نِدًّا للملل الأوروبي المعاصر، هو ملل يصدر عن التصور الرومانسي المُغرِق في تضخيم الإحساس والانفعال بالحب، «السيجارة التي دخنتها تركت في يدي شيئًا منه … أحسست بنشوة تسري في أعصابي، وأخذت أنش بين الأصابع عن طيف زياد» (ص١٣٠). والمجتمع الذي يذيب دعارته في تمتمات الصلاة، هذا المجتمع المنافق لا يرتضي لريم أن تعرض حبها للهواء والشمس «… وفجأة تجسَّمَت أمام ناظري قصيدة للشاعرة نازك الملائكة: الأخ يقتل أخته — غسلًا للعار — ثم يذهب إلى الحانة ليشرب بين أحضان الغانية الكسلى نخب الشرف المستعاد! نعم! الشرف كلمة نتغنَّى بها، لا عن عقيدة، بل عن أنانية وغرور وسخف» (ص١٤٠).

إنَّ كابوس هذا المجتمع، هذا المفهوم للشرف، لا يعرف طريقه إلى خطيبها ألفريد الذي عاش حياته بين جدران أوروبا: «لا … إن ألفريد يرى في شخصي الصديقة التي يجب عليها أن ترتدي البنطال، وتهمل شعرها، وتبقى رهن إشارته، فتركب إلى جانبه في سيارته الفخمة … أو تظل واقفة، وهو يأخذ صور مشهد من المشاهد … أو تتسلَّق معه جبلًا من جبال سورية! إنه يحبُّ مجرَّد شعوره بوجودي إلى جانبه ولا يكترث أبدًا لشكلي، أو عملي، أو إحساسي …» (ص٤٧) … وتلك هي الرؤية الرومانسية للضياع الأوروبي.

ولكن هذا المجتمع بعينه، ينعكس على وجدان الرجل، الفنان العربي، على نحو آخَر. يقول زياد في أول مراحل علاقته بريم «الحب عاطفة سخيفة وزائلة. الحب وهم! أنا لا أحب!» (ص٧٣) … وهذا هو الفارق الحاسم بين جيلين، هذه هي التسعة عشر عامًا التي تفصل بين زياد وريم … الرجل يرى في الحب وهمًا، والمرأة تراه تحقيقًا لوجودها! تحقيقًا لذاتها، تتحدى به الأرض والسماء والعالم كله … «زياد … ما دمت أنت إلى جانبي، أنا أتحدى السماء … تعالَ … اليوم عيدي … وفي الأعياد يجوز لنا أن نجعل من الحياة العادية حلمًا جميلًا … ومن الأحلام حقيقة … تعالَ زياد … لِتُفنَ الدنيا … هذه اللحظات ملكي … وعليل قد قتل مخاوفي … تعالَ» (ص١٥٨) غير أن هذه المسافة الشاسعة بين الجبلَين ليست هي التربة الخصبة لازدهار هذا الحب، إنها — بالتأكيد ليست الأرض المنهارة تحت قدمي فرنسواز ساجان التي تتشابك فوقها أذرع المراهقات بأذرع الرجال المسنين. ولكنها — أيضًا — ليست بعدُ أرضًا حقيقية. إنها مجرَّد ظِلال رومانسية يتوهَّج معها الشعر الأبيض، يبهت فيها الشعر الصارخ بالحياة. وما إنْ يسطع القليل من أشعة الشمس، حتى يتحوَّل إلى مأساة رومانسية «… كان معي، يحدثني، يدَّعي حبي، لكنني لأول مرة، وأنا معه، شعرت بنفسي … وحيدة …» (ص٢٤٨)، فإذا حانت إحدى اللحظات الفذَّة في حياة المرأة الرومانسية، توهَّمت فيها إمكانية اللقاء «… ليته شعر بأن هذه اللحظة كانت ملكًا له، وفهمَ أن باستطاعته أن يتصرَّف بها وبحياتي مثلما يشاء» (ص٢٧٢). إلَّا أنَّ اللحظة تموت، كما يموت الظل، لأنها لم تكُن وُلِدَت أصلًا. وتحاول ناديا أن تكون ضميرًا موضوعيًّا للمأساة، فتقرِّر «… هي قصة الفتاة الشرقية التي لا تعرف شيئًا من الدنيا، فتنقاد لعاطفتها، وتصب حياتها في وجود رجل! الفتاة التي تحب بكل قلبها وروحها وجسدها، فتعيش حلمًا لمدة وجيزة وتستيقظ فجأةً ليصدمها الواقع … الفتاة التي ترى حبيبها كما يصوِّره لها الخيال، وعندما يظهر الحبيب على حقيقته تسحقها المفاجأة … نعم … قصتك هي قصة شرقنا، قصَّة الرجل الذي يعاني الحرمان» (ص٢٨٠). وتسقط الجملة الأخيرة في وهاد بعيدة عن الضمير الموضوعي الآسِن في بحيرات راكدة من القيم القديمة. وكما هتفت لينا في نهاية «أنا أحيا»: «مستقبلي دقائق فارغة»، تنشد ريم في نهاية «أيام معه»: «ما أبدع الفراغ!» … إن ضياعها لم يذُب في خيانتها اليومية لزياد ولنفسها بين أحضان خطيبها الرسمي — ألفريد —، ولم يذُب في حلوى «الحب» التي تلتذُّ بامتلاكها، كي تذيقه. تذيق الرجل … مرارة الانتظار، والقلق، والجوع! ويستحيل كيانُنا الروحيُّ تحت وطأة الرؤية الرومانسية إلى كيان مرضي.

ولو أننا تتبَّعنا خطوات ريم منذ بداية الْتِقائها بزياد، لأحسسنا أنَّ المؤلفة كانت حريصة للغاية أن تصوِّر هذه الزاوية الرومانسية من حضارتنا بمعزل عن بقية الزوايا الصانعة لهذه الحضارة، فتجمَّدت بين يدَيها كافة الصور والمرئيات في قوالب باهتة لا تستشف جوهر التسلُّخات الدامية في ضياعنا الإيجابي الواثب. لذا، تألَّقَت العلاقة بين ريم وزياد في تبيانها أبعاد الزاوية الرومانسية في مرحلتنا التاريخية الراهنة، ثم خَبَت هذه العلاقة في إغفالها بقية الأبعاد الخالقة لتلك المرحلة. وكان ذلك هو السبب المباشر في صياغة شخصية ريم وتجربتها مع زياد في إطار تعبيري يفتقد كثيرًا من عناصر التوتُّر والنبض والخفقان التي تشكِّل النسيج الحي للبناء الروائي الناجح.

ولو أننا رافقنا هذه العناصر في غيابها عن القصة، لتعرفنا على طبيعة النظرة الوحيدة الجانب عند كوليت، والتي تختلف في نتائجها المفصلة عن نظرة ليلى بعلبكي.

لم ترسم كوليت الشخصية الأولى في روايتها بحرية الفنان الذي يسعى إلى تعمُّق التجربة التي تخوضها الشخصية. فكانت ريم محصورة في نطاق نادية ونجوى وليلى وألفريد وجدتها وعمها، في حدود الوجه الرومانسي للمأساة الاجتماعية التي يعيشها هؤلاء جميعًا. أي إن هذه الشخصيات أسهمت في تكوين ريم بما يناسب الفكرة الرومانسية المسبقة لدى الكاتبة، بينما كانت إمكانياتها تُتيح لها محصولًا أوفَر غنًى، إذا هي استخدمت هذه النماذج في كافة أبعادها الداخلية والخارجية، بما يضمن الاتساع الرحب في نظرة كوليت إلى شخصيتها الرئيسية في القصة.

بل إن اختناق هذه الشخصية في الرداء الضيق الذي نسجته لها المؤلفة من قُبلات زياد القادمة من شفاه الأخريات، ونصائح نجوى المقبلة مع هرولتها في الحياة، وغرام ألفريد المنبثق عن أحضان أوروبا الضائعة … هذا الرداء الخانق بفتائله الباهتة، كان له التأثير الكبير الضخم على كيان الشخصية الثانية: زياد. فهي لم تُعطِه فرصة اللقاء الخصب الذي تمنحه حضارتنا المعاصرة للإنسان العربي الجديد، هذا اللقاء المتعدِّد الجوانب والزوايا والوجوه، وإنما وهبته «ضعف الأنثى» والرغبة في «الامتلاك الفردي الضيِّق» والحيلولة دون «مشاركته الحياة العريضة بما تشتمل عليه من عناصر غير الحب، وإنِ اتَّصلت به» … وهبَتْه جانبًا واحدًا مُتضخِّمًا من الحياة، فأورث هذا التضخُّم ما ندعوه بالوجه الرومانسي … وحينئذٍ تضاءلت شخصية زياد، وانزوى هذا النموذج البشري في غياهب الدلالة الرومانسية للمأساة، وتلاشت ملامحه من وجداننا؛ لأنه لم يحتفر في أعماقنا مكانًا أصيلًا لمأساته. ذلك أنَّ الكاتبة برؤيتها الموغلة في الذاتية، أهدرت حقَّ هذه الشخصية الثانية في أن تقدِّم لنا نفسها بحرية النموذج الفني، وبعيدًا عن الصورة المماثلة لهذا النموذج في حياتنا العادية.

ومن ثَم كانت أحداث «أيام معه» هي هذه اللقاءات المباشرة بمعاني الحب والجنس والرجل والمرأة، وغير ذلك مما يجسِّد مقدمة ممتازة — فحسب — للرؤية الرومانسية للجنس، كما تقدِّمها لنا كوليت في روايتها الثانية «ليلة واحدة» التي ظهرت عام ١٩٦١م. لذلك ينبغي أن نتجاهل نهاية «أيام معه»، فنشد خيوطها — أو بعض هذه الخيوط على الأقل — إلى أصدقائنا الجدد: رشا وسليم وجورج وكمال.

رشا ليست الوجه الآخَر لريم، كما قال بعض النقاد، وإنما هي الامتداد الطبيعي لها. الامتداد المتمثِّل لكافَّة الخصائص الأساسية في شخصية ريم. وحقًّا تختلف تجربة رشا من حيث التفاصيل الدقيقة في المناخ الاجتماعي والبيئة النفسية، ولكنها تلتقي بعد ذلك في الخطوط العامة، بل وفي نوعية الدقائق التفصيلية، وإن تباينت في المظهر السطحي. تزوَّجت رشا من رجل يكبرها في السن، بعيد عنها تمامًا في كلِّ شيء «… في هذه السنوات كنت أعرف سبب بكائي … الفراغ» (ص٣٨). حاولَت قتل الفراغ بالقراءة والدرس، فلم تُوفَّق، لأن فراغها لم يكُن حيِّزًا في المكان أو الزمان، بل في النفس الظامئة إلى تحقيق وجودها، كان فراغها ضياعًا. ثم هي تسافر إلى باريس، فربما كان الطفل، هذا الرجاء المقبل مع الطبيب، ربما بدَّد ضياعها. وفي القطار إلى باريس، تصوِّر كوليت الحضارة الأوروبية من زاوية العلاقة بين الرجل والمرأة … إلا أن لقاءها بكميل — أو كمال — ليس لقاءً بين المرأة العربية والحضارة الأوروبية … إنه لقاء بينها وبين مرآتها الرومانسية: «كنت فقط هائمة في سمرته، فقد كنت أرى في سمرته … بلادي» (ص٥٠)، كما كانت ترى فيه شيئًا آخَر، ترى تطلُّعاتها إلى المجهول، عندما كان يصلبها الأرق، فتتقلَّب الساعات تلو الساعات على فراشها مسهَّدة: «أفكِّر في الحياة كلها، وفي لا شيء … وأبحث في مخيلتي عبثًا … عن ذكرى حلوة مفقودة … وعن أمل مُشِع مجهول … وعن لا شيء» (ص٥١). أما إحساسها بالضعف الأنثوي إزاء قوة الرجل، فتجسِّمه لنا طبيعة الأزمة العاطفية التي تجتازها على المستويين: النظري والتطبيقي معًا. في المستوى الأول «في اللاشعور، صوَّر لي خيالي الشرقي الواسع أنني أنثى ضعيفة يدلِّلها رجلها القوي» (ص٧١) وفي المستوى الآخَر، يهتزُّ بها القطار «فالْتَوَت قدمي وشعرتُ بأنني أفقد توازني وأهوي إلى الخلف … وعوضًا عن أن تتلقَّاني الأرض وجدت سندًا في صدر قوي ثابت» (ص٧٣).

ولقد عالجت الكاتبة، الجوهر الرومانسي للأزمة في إطار رومانسي أيضًا، وإنِ اتَّسم بالرمزية. فالقطار من حيث المكان، والليلة الواحدة من حيث الزمان، يبدوان كحلم من أغوار ألف ليلة وليلة، كما عبَّر كمال نفسه. ولولا رومانسية الأسلوب المفرطة التي هشَّمَت الصور التعبيرية على صخرة الأنغام المنسابة انسيابًا تلقائيًّا بلا ضابط فني، ولولا إصرار المؤلفة — بوعي أو بغير وعي — على تذويب الكيان الذاتي للشخصية والحدث في متاهات التحليل النفسي، لجاء البناء الروائي ممتازًا. لأنَّ هذا التحليل كان يمكن أن يجيء عنصرًا مترابطًا مع بقية العناصر المكونة للشخصية. وليس عاملًا مذيبًا لمعالمها.

وصلَت رشا إلى باريس، برفقة كمال وجورج. وقبل أن تصل تكاشفت «الحب» معه … مع «الحلم» … مع الرجل الذي الْتَقت به في لياليها المسهدة الطويلة عبر الخيال! لياليها التي كانت تؤرق حياتها «كشجرة لم تَعِش إلَّا في فصل الخريف» (ص١١١) … لقد رأت في كمال صدى شعور جميل بأنَّ هناك إنسانًا «يهتم بها»، أن هناك إنسانًا «يتحمل مسئوليتها؛ لذا أحسَّت بسعادة طاغية حينما انفردتْ به في المقهى لأنني كنت أتمنى دائمًا أن أشعر بأنني أنثى … ومن طبيعة الأنثى أن تضعف» (ص١٤٣)، هذا الضعف الذي أومأت إليه في اهتزازة القطار، تعود إلى تأكيده في شوارع باريس عندما انزلقت قدمها وكادت تسقط بين عجلات السيارة … «وقبل أن أفكِّر في أي شيء كان قد شدَّني بسرعة إلى الوراء؛ فالتفتُّ، لأرتطم بصدره، وأتسمَّر بين ذراعَيه، خائفة، ضعيفة، راضية» (ص١٤٥). «وبقينا لحظات ضائعين في الهدوء حتى ضاع الهدوء في تأوُّهات نظراتنا» (ص١٤٦)، ورشا هي لينا وعايدة — في «أنا أحيا» و«الآلهة الممسوخة» —، وريم — في «أيام معه» — هي الفتاة التي تستشعر الوحدة ومرارة الغربة في غيبة الحبيب المجهول الذي عاد … «بلى … لقد قضيت عمري وحيدة، ولكن وحدتي الآن معناها أنه ليس إلى جانبي» (ص١٥٣) … ومن ثَم تتساءل مع لينا وعايدة وريم: «لماذا أحرمه وأحرم نفسي من لحظات لا يجود بها الزمان إلا مرَّة واحدة؟ أين الهدف الذي عِشت له طيلة حياتي كي أضحي له الآن بسعادة لحظة؟» (ص١٥٥) … لقد عاشت حياتها في الماضي — القريب والبعيد — كقطعة أثاث، تحجَّرت أنوثتها فأضحت «لعبة البيت» بين يدَي الرجل، لم يكُن ثمَّة ما يبهرها في هذا الوجود الميت … أما الآن، أما في هذه اللحظة الفذَّة في حياة المرأة، فإنَّ العالم كله يصبح شيئًا جديدًا في عينَيها. العالم الكبير، وعالمها الخاص، بل الأكثر خصوبة من أي شيء آخَر في وجودها كله … العالم الذي كشف عنه الغطاء مشهد الرجل الأبيض في مسرح الليدو، وهو يجني ثمار إهماله لزوجته في استقبالها الحار للرجل الأسود بين أحضانها. هو العالم الذي كان مصلوبًا في أحلامها، فوق صليب كبير أسود، ما إنْ وقع بصرها عليه في إحدى علب الليل حتى «ارتجفتُ … وعُدتُ مسرعةً أقطع حلبة الرقص لأبحث عن كمال … وإذا به أمامي … يفتح لي ذراعَيه … وشعرت في تلك اللحظة أن هاتَين الكتفَين هما السور الوحيد الذي يحيط بكياني … وأن لا حياة لي إلَّا في داخله» (ص١٨٣) … «ومشيت إلى جانب كمال راضية … ولم أهتم إلى أين كان يقودني … ففي تلك اللحظة كنت مستعدة أن أتبع كمال حتى آخِر الدنيا» (ص١٨٤). وقد مضت معه بالفعل حتى «آخر الدنيا»، فلم تعتبر وجودها معه في غرفة واحدة حادثًا غريبًا، إذ بدا لها الأمر طبيعيًّا للغاية، هي التي كانت تحسُّ نفسها دائمًا «غريبة» في غرفة نومها … في غرفة الزوج «… وفي صمت الليل، كانت ذراعان قويتان تزنران سمرة سكري بأمل العطاء … ويتمزَّق السكون فجأةً، بحشرجة حذاء ارتطم بالأرض، وبتنهُّدات قضبان سرير حديدية … وينطوي الليل على طيفَين احتواهما الدفء فوحَّدهما في خيال واحد … ترنَّح طربًا … واحترق شوقًا … وذاب همهمةً وأنينًا» (ص١٨٩، ١٩٠) … هكذا أتاحت لها اللحظة الفذة في حياة المرأة، أن تفتح لها أقرب العوالم إلى نفسها على مصراعَيه «لأول مرَّة في حياتي فهمتُ قيمة جسدي … لأول مرَّة فهمتُ أن هذا الجسد ليس فقط أداة … ليس فقط غديرًا باردًا ينهل منه عطشان … فيطفئ رغبته ويروي شهوته ويسرق منه لذة مؤقتة! لأول مرة فهمتُ أن جسدي دنيا جميلة يصل إليها مَن استطاع أن يسبر أغوار نفسي، فتغمره بالدفء وتُغرقه بالحنان … وتنثر تحت أقدامه الأزاهير … وتمنحه شيئًا أسمى من اللذة وأغلى من الفرح وأعذب من النشوة … نعم، فهمت أن هذا الصنم — جسدها — يستطيع أن يكون نبعًا يفيض حنانًا وحبًّا … ويستطيع أن يمنح … السعادة» (ص١٩٢) … وإذا كانت منحت جسدها أول عابر سبيل إلى باريس، فلأنها وهبته نفسها … «ونفسي أغلى من كتلة لحم صاغتها الطبيعة بشكل امرأة» (ص١٩٧).

هنا … هنا بالتحديد تتمزَّق كافة الخيوط بين ليلى بعلبكي وكوليت، وتنهار المقدمة الرائعة في «أيام معه» على أعتاب «ليلة واحدة» … فقد تبلورت الأزمة بكاملها عند الكاتبة في تجربة المرأة الجديدة مع الرجل الشرقي، في الصراع بين العلاقات الإنسانية الجديدة، والقيم الإقطاعية القديمة، وهي — كما سبق أن كررت — زاوية واحدة في تركيب أزمتنا المعاصرة، وتشريحها على هذا النحو المعتزل يفصل ما بيننا وبينها من صِلات، ويهدر القيمة الحقيقية لأزمتنا وضياعنا، ويشلُّ إمكانيات الصدق الفني من التمدُّد في ثناياها … بل هي تنعكس بشكل حاد على البناء الروائي في أكثر من اتجاه: فالحوار يندرج تحت باب الشعر المنثور بصورة تبتعد به عن القالب الروائي ومستلزماته التعبيرية الأخرى كالصورة والسرد التحليلي — لا الشعري — وتنوع المشاهد. والمونولوج عبارة عن مناقشات ذهنية وخواطر مترابطة أفقدت الشخصية الأولى مميزات التكوين الحي الذي يدع من المونولوج الداخلي انسيابًا ذاتيًّا وتدفُّقًا نفسيًّا بلا ضابط ذهني سوى الضوابط الفنية. ثم الاعتماد المطلق على ذاتية الرؤية الفنية، أدَّت إلى الانحراف بشخصية كميل إلى صورة مزيفة للإنسان الأوروبي — فضلًا عن الفرنسي — المعاصر، كما أحالت شخصية سليم إلى ملامح باهتة لإنسان لا نقتنع به كشخصية فنية. والعلاقة الجنسية كادت تكون تعبيرًا مخلصًا عن أزمة «الضياع» عند المرأة العربية المعاصرة، لولا الرؤية الرومانسية للجنس التي أغلقت الطريق على التصادم المنتظر بين المرحلتَين الحضاريتَين في بلادنا وأوروبا، فتوهمت رجلًا أوروبيًّا عربيًّا رومانسيًّا يبدِّد ضياع المرأة العربية في ليلة واحدة! ولم ينجح استخدامها لمشهد من المرح وحلم الصليب الكبير الأسود، استخدامًا رمزيًّا على الإطلاق. إن مأساة الرجل الأبيض والزنجي والزوجة الضائعة بين الاثنين، والمأساة التي يوجزها اللون الأحمر والصليب الأسود، كلاهما يعبِّران عن التراجيديا الأوروبية، الأمر الذي فوَّت الفرصة على الكاتبة في استخدامها، بل جعل من ذِكرهما افتعالًا للجوِّ المأساوي وابتعادًا عن الجو الرومانسي.

والجزء الأخير في القصة، مناقشة حامية مع الذات — بين رشا وذاتها — لوضع نهاية الدراما، ولا تلبث أن تعتزم السفر، فتنزلق قدمها — وهي ضائعة بلا كمال ولا سليم ولا أحد — فتلفظ أنفاسها الأخيرة في المستشفى. هل هي أنفاس الخيانة؟ كلا. «… لم تخُن! بل اكتشفت معنًى في حياتها … معنًى ضائعًا كان يجب أن تكتشفه في يوم من الأيام … معنًى سوف يشعُّ على واحات خيالها وذاكرتها، ولو أنه لا يشكل سوى طريق مسدودة» (ص٢١٨)، لقد سُدَّ الطريق من قبلُ في وجه لينا «أنا أحيا» وها هو ذا يُسدُّ ثانية في وجه رشا «لأن الحلم مهما كان رائعًا لا يستطيع أن يكون سندًا للمرأة! ستعود … ستعود إلى بيتها» (٢٢١) ولكن الموت — في أعماق لا وعيها — أهوَن من البيت، أهوَن من حياة لا تحياها، فتسبل أهدابها، وهي تتمتم «ما فائدة السنين … كانت حياتي، كل حياتي، ليلة واحدة» (ص٢٣٥).

والنهاية في «ليلة واحدة» هي القصة. وهي تؤكد أن المؤلفة بلغت ذروة المعاناة النفسية لضياع المرأة العربية. ولكنها تؤكِّد أيضًا زيغ نظرتها الفنية، فجاءت القصة مبتورة فنيًّا، بلا نهاية حقيقية. إن حيرة البطلة بصدد الخاتمة ليست نهاية، وموتها ليس نهاية … إنها تعبيرات مختلفة عن فقدان الاتجاه الفني والفلسفي عند الكاتبة. تمامًا، كما جاءت العلاقة الجنسية تعبيرًا تائهًا عن دلالة مفقودة.

كانت «أيام معه» المقدمة التمهيدية ﻟ «ليلة واحدة» … بمعنى أن البناء الروائي في القصة الأولى لم يتضمَّن الكلمة الأخيرة في محنة الضياع التي تُعانيها المؤلفة، وأقبلت القصَّة الثانية لتقول هذه الكلمة، ففشلت فشلًا ذريعًا. ورغم أنها استخدمت الحيِّز المكاني والزماني استخدامًا رائعًا يبعد بها عن الاتهام بالافتعال — فالقطار والليلة الواحدة حيلتان فنيتان بارعتان للتركيز والتكثيف — إلَّا أنَّ التطرُّف في الأسلوب الشعري وإهمال بقية الوسائل التعبيرية، أفسد التركيز الفني، وجعل منه شيئًا قريبًا من اعترافات مريض أمام طبيب نفساني. وكان من الممكن أن يكون «الجنس» تعبيرًا ثنائيًّا عن ضياع الإنسان الأوروبي المعاصر، وجراح المرأة العربية، مع تمييز حاسم بين الضياعَين. لوحة رومانسية واحدة. فجاء الجنس مُقحَمًا على معنى الضياع، وإن لم يكن مُقحَمًا على لقاء عابر بين رجل وامرأة.

وحان لنا أن نلتقي بأديبة القاهرة … صوفي عبد الله. وهي كاتبة تنتمي إلى جيل مختلف نسبيًّا عن جيل ليلى وكوليت، الجيل الأدبي والزمني معًا. ولكنها تستظل معهما بمأساة عصر واحد، ومرحلة حضارية واحدة، وبيئة مشتركة السمات. بل إنَّ أسبقية جيلها على جيل الكاتبتين السورية واللبنانية، لا يحدِّد خطًّا حاسمًا بين الجيلَين، وإنما تتشابك معالمها لدرجة كبيرة. ولا يبقى بعدئذٍ سوى اختلاف المستوى الفني، لطول عهد صوفي بممارسة التعبير الأدبي بصفة عامة، والكتابة القصصية بصفة خاصة، وطرح موضوع العلاقة بين الرجل والمرأة في مجتمعنا بصفة أخَص.

وإذا كانت صوفي قد أرَّخت للمرحلة الحرِجة في حياة جيلها من قبلُ في روايتها الأولى «دموع التوبة» — عام ١٩٥٩م — إلَّا أنَّ قصتها الطويلة الثانية «لعنة الجسد» التي صدرت في التاريخ نفسه، تحيط بأزمة المرأة المصرية إحاطةً أكثر شمولًا، وإنْ جاءت «عاصفة في قلب» — عام ١٩٦٢م — أكثر نضجًا واكتمالًا.

وصوفي ظلَّت تكتب القصة القصيرة، منذ بدأت حياتها الأدبية إلى الآن. وفي مجموعاتها «كلهنَّ عيوشة» و«بقايا رجل» و«نصف امرأة» نلمح إشارات عديدة إلى ضياع المرأة العربية في مصر، ولكنا نخفق تمامًا في محاولة العثور على معنى الضياع أو دلالته فيما يصل إليه من علاقات جنسية مشوَّهة أو سوية. ذلك أن الطاقة الفنية عند صوفي — كما أعتقد — تسلك طريقها إلى القالب الروائي أكثر سهولة ويسرًا من القصة القصيرة. لهذا نرافق الكاتبة المصرية في روايتها «لعنة الجسد» لأنها تمثل محاولتها الأولى — كما قلت — في الإحاطة الشاملة بجوهر الأزمة الضاربة بين جوانح المرأة المصرية بعد الحرب العالمية الثانية.

في مصر كاتبات كثيرات ممَّن تعرضن لتلك الأزمة على مستويات مختلفة من العمق والإجادة والشجاعة الفنية. وربما كان منهنَّ مَن يتفوَّق على صوفي في جانب أو آخَر، ولكن تجربة صوفي التي توَّجَتها قصتها الأخيرة «عاصفة في قلب» تتميَّز بما دعوته منذ قليل بالإحاطة الشاملة. لذا أقرِّر أن اختياري لأعمال هذه الكاتبة مادة لهذه الدراسة، كان وفقًا لمفهومي ذاك فحسب. بل إنَّ اختياري لعملين بالذات، هما لعنة الجسد وعاصفة في قلب — تمَّ طبقًا لذاك المفهوم بالتحديد، ولنبدأ جولتنا مع القصة الأولى.

من الملامح البارزة في الأدب الروائي عند صوفي أنها تتناول مشكلة المرأة وأزمة الجنس كقضية مستقلة بذاتها، لا كظاهرة عَرَضية عابرة … بمعنى أنها لا تمسُّ هذا الموضوع كجزئية متداخلة مع جزئيات أخرى في شريحة اجتماعية. تكتفي الكاتبة بتصويرها ككل … بل هي تتناول هذه الجزئية بالذات وتنضو عنها ثيابها من العناصر المتشابكة معها، وتتفرَّغ نهائيًّا لهذه القضية في جميع أبعادها. والميزة الأساسية لذلك المنهج هي الوضوح التام في عرض الأزمة، والتكامل في الإلمام بأطرافها المتناثرة، والتعمُّق في استخلاص النتائج. إلَّا أنَّ المبالغة في استخدام ذلك المنهج أيضًا، تقطع الصلة بين العمل الفني والبيئة الاجتماعية في مدلولها الكبير.

وفي «لعنة الجسد» طغت هذه المبالغة على كافة المزايا السابقة، فلم تضع أيدينا على همزة الوصل العميقة بين هدى وابنها وزوجها وعشاقها وبين الحياة. رغم بشاعة المأساة الإنسانية التي تحياها هذه النماذج جميعها. حتى إنَّ بعضًا من النقاد، صرَّح بأنها الترجمة العربية لمأساة أوديب، بوحي من إطارها الذي نسجته المؤلفة من فتًى مدلَّل ينشأ في أسرة متوسطة، على أن أمه قد ماتت. ثم يرتبط فيما بعدُ بامرأة «محترفة» في المدينة ارتباطًا جنسيًّا. ويفاجأ الجميع بأن المرأة هي أم الصبي. كانت تلك الأحداث مجرَّد إطار تراجيدي للقصة التي تبدأ في واقع الأمر مع هذه الأم حين كانت طفلة مات أبواها، وتكفَّل عمُّها بتربيتها … ثم زفَّها إلى أحضان أقرب رجل يتزيَّن بالثراء ووقار السن. وتجتاز الطفلة الجميلة تجربتها في رضًا أول الأمر، ولكنها ما إنْ تكبر وتشاهد الأسطى الشاب سائق عربة زوجها حتى يجرفها تيار حبه وحنانه إلى الفراش، وكان الفراش تتويجًا لمقدمات كثيرة من الغزل الصريح وغير الصريح، مما نقله السفرجي ومربية الطفل الوليد حديثًا إلى الزوج. وحينئذٍ جاء اكتشافه لهما فوق الفراش أمرًا طبيعيًّا، قذف بهما إلى الشارع، إلى غرفة صغيرة بأحد الأحياء الشعبية يسكنها الأسطى مع أحد زملائه. غير أنَّ الأحداث لا تلبث أن تفجع المرأة الصغيرة في حبها الأول، إذ يقبض على عشيقها في قضية مخدرات ويرحل إلى السجن … وترحل هي إلى الشارع تبيع الشيء الوحيد الذي تمتلكه لمَن يشتري. وقد أصابت من عملية البيع والشراء هذه ثروة معقولة تمكَّنت بها أن تؤسِّس فيلَّا صغيرة لاستقبال الزبائن في مستوى خاص.

الْتَقَت مأساة هدى مع مأساة الصبي الذي طرق بابها يومًا على استحياء. ومأساته نابعة من طبيعة الحياة الاجتماعية التي يعيشها في ظلٍّ وارف من تلبية رغباته على طريقة «شبيك لبيك، عبدك بين يديك». ولكن الشيء الواحد الذي لم يستطع الساحر — أو الأب والخدم — أن يأتوا له به هو الأم، فعاش عمره الصغير يُعاني ذلك الحرمان المجهول. وكذلك كانت هدى تهفو إلى صغيرها الذي لم تَرَه منذ سنوات طويلة، فكان لقاؤهما هو لقاء الحرمان والحنين إلى عاطفة مجهولة أقرب إلى عواطف البنوَّة والأمومة. وعاشا معًا أجمَل لحظات عمرهما، وهي تفيض بهذه العاطفة الجياشة بقلب «الأم» العاشقة، و«الابن» العاشق. حتى إذا انتويا الوصال الدائم في عش الزوجية، ودهمهما الأب في أحد شوارع القاهرة، وكانت هي المأساة في رأي بعض النقاد. أما أنا فلست أرى في ذلك كله إلا إطارًا للمأساة الكامنة في تجربة المرأة مع الحياة من جهة، وتجربة الشاب من جهة أخرى. أما همزة الوصل التراجيدي بينهما — التي أوهمت ناقدًا أو أكثر بأنها عقدة أوديب — فإنها لا تعدو كونها قالبًا غير موفَّق للتراجيديا الحقيقية. غاب هذا التوفيق لانعدام الصلة بين عناصر ذلك القالب، وطبيعة المجتمع المصري. وهذا ما أسميته منذ قليل بالمبالغة في عزل عناصر القضية التي تتناولها الكاتبة بالتعبير الفني عن بقية العناصر الاجتماعية في الحياة. وطغيان هذه المبالغة على حساب الاستماتة الوجدانية من المتلقي للأثر الفني.

ولا شك أنه ينبغي أن تظلَّ هناك مسافة موضوعية بين الفن والحياة، ليبقى للفن ذلك التمايُز النوعي الذي يختلف به عن خصائص النشاطات الأخرى في الواقع، وليبقى للحياة نفسها طبيعتها المستقلة. وهذا يتيح للفنان حريته النسبية في صياغة وجدانه وقضاياه وأفكاره على نحو، ربما يغاير ما هو عليه في واقع حياتنا اليومية من حيث المطابقة الفوتوغرافية، لا من حيث القوانين الضابطة لحركة الطبيعة والمجتمع. إلا أن هذا الاستقلال النسبي للفن لا يعفيه مطلقًا من إقامة الجسور التي تربط بينه وبيننا، ولو كانت جسورًا رمزية.

لهذا لست أرى شبح المأساة في رحيل الفتى إلى مستشفى الأمراض العقلية، فانتحاره حرقًا بغرفة الطبيب بعد ذلك. كلا … إن هذا الشبح يلاحقني في «العلاج» الذي قرَّرَته الأسرة، عندما لاحظَت تغيرًا طارئًا على سلوكه بأن «يتزوج». ثم اصطدم بالمأساة وجهًا لوجه، في الهدير الصاخب الذي اصطرع في أمعائه من جديد «… واختلطت أمامي المرئيات، ومعالم الأشياء والأشخاص وهالني منظر الغرفة ملآنة بالنساء الماجنات ينظرن إليَّ من كل فجٍّ وصوب، يراوغنني بشتى الألاعيب والموبقات … ورأيت بينهن أمي وعروسي … وسمعت طنينًا خارجًا من أفواههن جميعًا كفحيح الأفاعي يرددن وأصابعهن تشير إلى زوجتي في صوت واحد رتيب: «هذه أختك بنت أمك لا تقربها … هذه أختك بنت أمك لا تقربها!» وانقلبت الأشياء أمامي رأسًا على عقب … وهجمتُ بكل ما أوتيتُ من قوة وغضبٍ على عروسي، وأطبقت بأصابعي الجهنمية على عنقها، ولم أتركها إلا جثة هامدة» (ص١٦٦).

هل نقول مع آخَرين إن أوديب المصري تطوَّر عن جده اليوناني، فقتل أمه في صورة عروسه، ثم اغتال عقله ومات مجنونًا؟ لو فعلنا ذلك، لنجحنا — إلى حدٍّ ما — في تفسير القشرة الخارجية للمأساة، ولعجزنا عن سبر أغوار المأساة نفسها. فلعلَّ عشق الصبي في المجتمع العربي للمرأة التي تكبره هي الظاهرة الطبيعية — لا الأوديبية — في تكوين النفسية المصرية منذ وقت غير قصير على خلاف الظاهرة الأوروبية القائلة بعشق الفتاة للرجال من سن أبيها.

هذه الظاهرة التي اختلط أمرها على نقادنا، لاختلاط أمرها على كاتبتها من قبلُ فيما اختارته لها من بناء تعبيري غير مناسب، هي جوهر «لعنة الجسد». وقد تمثَّلَت جناية البناء التعبيري على هذا الجوهر في هروب المؤلفة من استغلال القالب الروائي الذي أتاح لجميع الشخصيات أن تصوغ وجهة نظرها في الكارثة. دون أن تحاول صوفي أن تستبعد المشاهد المتَّفَق عليها بين كافة وجهات النظر، وتحل مكانها تشريحًا دقيقًا للضمير «المتكلم» من خلال كلماته نفسها … حينئذٍ كانت الشخصيات تكتسب أصالة التكوين الحي، والتجربة تزداد عمقًا في وجداننا، والأحداث تنفر من أية تفسيرات سطحية. و«لعنة الجسد» لا تُعنى أساسًا بمشكلة الفقر الذي يدفع الفتاة الفقيرة الجميلة إلى أحضان الثري العجوز، ولا تقصد إلى تأكيد استحالة «الاستقرار العاطفي» بين المستوى الطبقي الذي ارتفعت إليه هدى، والمستوى الحضيضي الذي هوى إليه الأسطى العشيق، ولا تستهدف القول بأن الأزمات العاطفية والاقتصادية هي البئر العميقة التي تستريح في قاعها التماثيل المحيطة والهياكل البشرية ممَّن تسمِّيهم بالمنحرفين والمحترفين والقوادين والمومسات. إن لعنة الجسد لا ترمي إلى هذه الأهداف منفردة أو مجتمعة، وإن اشتملت عليها كعناصر ثانوية متفرِّعة عن الأزمة الكبرى التي تضيع فيها المرأة البرجوازية بين الفراغ المترف والمعنى الأجوف للجنس الذي ينتقل بها من أنياب الأسطى «السائق» إلى الأسطى «الحلَّاق» إلى كلِّ مَن تقوده غريزته ونقوده إلى فيلَّتها الصغيرة السابقة، أو مَن تقوده غرابته وتفاهته إلى فيلَّتها الراهنة … هذه الأزمة الكبرى التي يرتبط بطرفها الآخَر شاب أنهكت قواه الوجدانية ظروف البيت الفارغ من أية قيمة إنسانية مالئة لهذا الوجدان، فراح يلتقط تلك القيم من الشارع الفارغ أيضًا من أية حلول جزئية أو متكاملة لأزمة وجدانه، فيبحث عن نفسه بين ذراعَين أصلب عودًا من ذراعَيه، فإذا بهما من طينة رخوة ضائعة، فيضيع معها إلى آخِر نقطة دم في أعصابه المتشنجة على عنق عروسه، ويضيع معها إلى آخِر ذرَّة تائهة في كيانه المحترق بغرفة طبيب مستشفى الأمراض العقلية.

هذه الأزمة الكبرى التي لفظت أنفاسها بين أنياب الإطار الأوديبي فاختنقت أبعادها وذابت كينونتها التراجيدية في وهج الدخان المتصاعد من الاختيار السريع للشخصيات، والتصوير الخاطف للأحداث، والمرور العابر على التجربة الرئيسية في القصة، وكأنها عنصر بسيط مغرق في العادية … وليست مركزًا للمأساة. هذه الأزمة الكبرى أتاحت لها الكاتبة فرصة رائعة لتجسيدها في صورة أعمق … في روايتها الأخيرة «عاصفة في قلب».

بطلة القصة سيِّدة على الحافة الحادة بين نهاية الثلاثين وبداية الحلقة الرابعة من العمر. يتفانى زوجها في حبها وتحريرها تفانيًا مطلقًا. وتبادل هي زوجها الحب، وتترجم حريتها إلى حياة ثنائية بين زوجها الذي يُشبع وجدانها وحواسها إشباعًا تامًّا، وبقية الرجال الذين تستهويهم، ويستهويها مداعبة أوتار قلوبهم فحسب. يستسلم قلب شاب في عمر ابنها الذي مات طفلًا لمداعباتها فيهيم بها هيامًا طاغيًا تستسلم له لحظة … ثم تهرب في اللحظة التالية إلى الزوج الذي يمتلك حياتها كلها، بعد أن تلوثت هذه الحياة بثلاثة ندوب في صدغها الأيسر استجابت لثلاث ضربات من السكين التي ذبحت قلب الفتى وأدمت وجهها، بل بقية عمرها بعد ذلك.

والحياة الثنائية عند «أميرة» لا تصوغ شخصية مزدوجة لها. وإنما هي ترجمة فنية للفراغ — الزماني — الذي تشتمل عليه حياتها البرجوازية. إن الآخَر في حياتها ليس عميقًا؛ لأنها تعشق زوجها. إنه لعبتها الجديدة التي تضيِّع بها الوقت فتقتل الرتابة والملل، ومن ثَم تشعر بما تدعوه السعادة «كانت أقصى فترات سعادتي هي التي أعيش فيها حياة مزدوجة» (ص٦٢) … على أن علاقتها باللعبة الجديدة، تتخذ مسارًا آخَر مع خورشيد. إن الكاتبة تصور وجهه على نحو طفولي غارق في البراءة والقرابة من وجه الطفل المتوفى لأميرة، بل هي تميت هذا الطفل قبل أن تبدأ القصة حتى تبرِّر مسلك أميرة «الأمومي» نحو خورشيد في بادئ الأمر … ولكنها لا تلبث أن تجعل من هذه العلاقة تجربة جديدة تخوضها المرأة الثلاثينية والفتى العشريني في إطار من الفراغ البرجوازي في حياة المرأة، والفن الموسيقي الذي تحاول أن تملأ به هذا الفراغ عند الشاب … عند الرجل وليس الطفل. الرجل الذي مال برأسه ميلًا على البيانو، ميلًا شديدًا إلى الأمام حتى اختفى وجهه في صدره وانكشف قميصه الأبيض من خلف عن جزء من ظهره «… فلمحَت عيناي شعرات طويلة نابتة في ظهره. وأخذت بمنظر هذا الجسم الفتيِّ الذي يدلُّ على عنفوان رجل مكتمل الرجولة. وتحوَّلَت عيناي بسرعة إلى ساعدَيه القويَّين المفتولَين المكسُوَّين بشَعر كثيف أصفر اللون. فتحركت في أعماقي ثورة رغبة حارة دفعت الدم قانيًا إلى وجنتي ولمعت عيناي ببريق ثاقب …» (ص٧١). وهي لا تعي سرًّا لذاك التطور الغريب في علاقتها بخورشيد «… ولو أنني استطعت أن أفهم نفسي لكان من الجائز أن أتغلَّب على اندفاعاتي وأقمعها» (٧٤). وفهم النفس هنا، ليس تفكيرًا فلسفيًّا تناقش به دعوة سقراط، وإنما هو الوعي بالذات وعيًا صحيحًا، وعيًا داخليًّا بمعنى وجودها … الوجود العريان أمام النفس الذي لا يستتر خلف أردية النفاق الاجتماعية، كما استترت تلك الفتاة التي الْتَقت بخورشيد في إحدى الحفلات، وعندما حاول أن يقبِّلَها فخورًا صفعته أمام الجميع، ثم عادت إليه، على انفراد، تقول «لو أنك فعلت ذلك معي بعيدًا عن الأنظار، لما اضطررت إلى هذا التصرُّف معك. ولكنك تعمدت أن تقبِّلَني أمام الناس، وأنا معروفة بينهم بالاستقامة وحُسن السلوك» (ص٩٣).

الفراغ — الزماني — في حياة أميرة، ليس عدد الساعات التي تقضيها بلا عمل، إن هذا الفراغ هو المظهر الخارجي لفراغها الحقيقي الذي تستشعره في أكثر أوقاتها ازدحامًا. في زفاف ابنة إحدى صديقاتها، تتلقى القُبلات من كل صوب «… وفراغ بارد في أعماقي» ثم تذهب وتجيء، وصديقة عمرها تدعوها اللحظة بعد اللحظة لتشاورها فيما تفعل «… وازداد فراغي البارد في أعماقي» … ودعاها الجميع إلى العزف، والموسيقى تشغل جزءًا من حياتها اليومية، ولكن «… في هذه اللحظة استولى الفراغ البارد على أعماقي كلها».

الفراغ البارد في الأعماق شيء مختلف عن الفراغ العادي في الزمان، اختلاف المظهر عن الجوهر، وإنِ اتَّصل كلاهما في نقطة واحدة هي ذروة الضياع الذي تُعانيه في وجود الزوج المتحرِّر الذي تهواه، وغياب «اللعبة» التي لم تعُد لعبته، واستمرار السأم كمطرقة حادة تنهب وجودها مع عوني الزوج الذي «اعتادته» وأدمنت اعتياده … «وقبَّلني على صفحة خدِّي كما توقَّعت أن يُقبِّلَني والبِشر يتألق في مُحيَّاه كتألُّق الشمس في الضحى: فيه حرارة، ولكن لا يكاد يلتفت إليه السائر فيه لأنه تألُّق معاد كتألُّق كل يوم» (ص١١٥). ذلك أن «شيئًا في أعماقي ظلَّ ثابتًا لا ينزلق ولا يجري معي … كالنقطة الباردة، التي لا تكترث لما أفعل» (١١٧) … هذه النقطة الباردة هي نقطة انطلاق الازدواجية في حياة أميرة: «أحبُّ عوني. أحبه. لا أحيا بدونه. ولكن لا بدَّ لي أن أحيا وأمارس الحياة التي وهبني إياها» (١١٩). هذه الحياة المختلفة كيفيًّا عن الحياة الحشرية التي يعيشها الآخَرون، كما صوَّرتهم المؤلفة في زفاف ابنة الصديقة، حين عقدت بعضهن «مؤتمرًا صحفيًّا» حول العريس ووالده.

«– إنه قريب عهد بالتلمذة، ٢٣ سنة يا حبيبتي. وهل يصلح مثله لحياة الزواج؟
– ولماذا لا يصلح وأبوه ثري؟
ثم خفضت المتكلمة صوتها حتى صار كالفحيح: ألم تَرَي عينَيه تتحركان باستمرار وهو يفتل شاربه الكثَّ فلا تفارقان أم العروس حيثما كانت؟ رجل وسيم ملء ثيابه … سلبته المرأة عقله ومن أجل عينَيها خطب ابنتها لابنه الوحيد.» (١٠٦)
والابن الوحيد يصرِّح في حديث «صحفي» آخَر «والدي كان يقول لي لا بد أن أزوجك فور تخرجك. فأنا وحيد ليس لي أخوة. أنت ولد وحيد ليس لك إخوة. وأريد أن أراك وقد ملأتَ عليَّ البيت بالأولاد» (ص١٠٧).

ومن زاوية أخرى تلتقط الفنانة هذه الصورة في كازينو جلست به أميرة، وطلبت كوبًا من عصير الليمون المركَّز «… وخلى الساقي بيني وبين الشمس، فرحت أتفرَّس فيمَن حولي من أزواج العاشقين. ولفت نظري صغر سن الفتيات وتقدُّم عشاقهنَّ في السن نسبيًّا. وفي ركنٍ بعيد رأيتُ امرأةً في مِثل سني، أو أكبر قليلًا، ومعها طالب حديث السن … ولكن كلا. هذا الشاب ثمرة لم تنضج، إلا أن التعفُّن نفذ إلى باطنها. فنظراته إلى هذه المرأة نظرات خبيثة، لا تنطق بالتجربة فقط ولكن تنطق بأسوأ ما يمكن أن تتدهور إليه علاقات الرجال بالنساء … تنطق بالاحتراف» (ص١٣٣).

ليست هذه الزوايا الاجتماعية في حضارتنا المعاصرة، هي التي تعيش أميرة في إحداها، إنها تعيش في تلك الزاوية «الفذة»، تلك البوتقة التي تنصهر فيها تجربة المرأة المعاصرة بحقٍّ إذا ارتفعت إلى مستوى حضارتها «… فأنا لم أجِد في حفرياتي حتى الآن المخلوق الذي يستهويني ويقنع وجداني بأنه رجل. فلم أصادف في حياتي مَن آمنتُ برجولته واطمأننت إليه سوى عوني» (١٤٠، ١٤١). وفي نفس الوقت يشدها فراغ بارد في أعماقها، نقطة باردة في حياتها المزدوجة، نحو خورشيد: فتى في عمر ابنها! والمرأة تجد نفسها في هذه المعاناة وتفقد نفسها حين تخلو حياتها من شيء تعانيه (ص٤١). أي إنَّ التناقض الصارخ بين إمكانيات الحياة السوية، وواقع الحياة غير السوية، هو معنى المعاناة — أو التمزُّق في حياة المرأة البرجوازية الحديثة. وهي تتوهَّم أن جراحها تلتئم في ظلِّ القيمة الإنسانية في عُرفها، والتي تدعوها العطاء «… وبيد مرتجفة أرشدت أصابعه الضالة … فتناول يدي، وقبَّل أطراف أناملي، كأنها شيء ثمين مقدَّس يخشى عليها من حرارة الأنفاس … وتفتَّح كياني كله لاستقباله في حنان لا حدٍّ له … وبدأ الطفل اللهفان يطمئن إلى الطعام المبذول، ويتقاضاه في سكون وامتنان» (ص١٦٢). وليس هذا العطاء تعبيرًا رومانسيًّا عن أزمة المرأة ومعنى الجنس لديها … رغم أن هذه الأزمة تشتمل بالضرورة على عنصر رومانسي، تُبرزه الكاتبة في حوار بين أميرة وخورشيد:

«… كل امرأة تأخذ شيئًا من الرجل الذي تريده … وأنت منحتَ بلا أخذ … أعطيت بلا سؤال … كما يفيض الينبوع من باطن الأرض الصلدة المعتمة رقراقًا صافيًا … لا أثَر فيه من كدر طينها المهين.

وترقرقت الدموع في عيني وجذبتُ رأسه نحوي، وقبَّلتُ فمَه المرتجف: أنت جميل … نبيل … كأزهار الزئبق.

– تلك التي ترتوي من نبع الصفاء.» (ص١٦٣)

ولكن هذا العنصر مترابط مع بقية العناصر الصانعة للمأساة، ولهذا لم تتحوَّل قطُّ إلى مأساة رومانسية. ولذلك لا تضخم الرؤية الذاتية للكاتبة، فتجعل من الرجل العربي المعاصر، إنسانًا شرقيًّا، والفتاة المعاصرة كائنًا حضاريًّا متقدِّمًا عليه. إن عوني مثال الزوج المتحضر المتقدم في مستوى المرحلة الحضارية التي يجتازها تاريخنا العربي، وأميرة مثال المرأة التي تُعاني أزمة الضمير العربي في ضياعها بين أصالتها الخافقة بين أحضان عوني و«الممثلة الفطرية التي تكمن في أعماقها» (ص١٧١)، وموقف المؤلفة من هذا الضياع غاية في الوضوح … «وهنا بالتحديد، في صميم هذا الحل تكمن المأساة. وهي ليست مأساة رومانسية على الإطلاق، ليست التراجيديا البرجوازية في مرحلة متخلفة، أو في عزلة عن بقية عناصر التراجيديا المعاصرة. في ظلام السينما سيكون الظلام سائدًا. ويتسنَّى لي أن أندمج في المناظر الغريبة عن عناصر وجودي … ولكن لا يوجد شيء غريب عن عناصر وجودنا حين تكون نفوسنا مسرحًا لمأساة» (١٧٣) … هكذا تقول أميرة قُبَيل الانتقال إلى المشهد الأخير في التراجيديا، قُبَيل أن ينكفئ خورشيد على صدرها «… وقد تقلصت أصابعه على كتفي وجعل يهتز ببكاء جاف لا أثر فيه للدموع فتمزق قلبي، واحتضنته وأدركت أن هذا الفتى هو قدري المقدور … لا نجاة لي منه. وبدأت أنفاسه تهدأ … وأخذتُه بين ذراعَيَّ، وألقيت ظهري إلى الوراء، وقرأ في عيني الاستسلام. وأنا ما من خلية في جسدي لديها ذرَّة من المقاومة له» (ص١٨٢). «وأغمضت عيني لأتمثَّله يلفني إلى السماء التي رفعته إليها … وإلى بشريته التي ردَدْتُها إليه بعد أن كان حيوانًا … بل أنت الذي ردَدْتَ إليَّ بشريتي، ومنحتني وجودي، بعد أن كنت وجودًا مشاعًا في شخص آخَر: ملك يمين! ثم أجهدت مخيلتي لأراه كما كان أمس، لأرى لحظة الأبدية التي ارتفعت ورفعته إليها … في بذل حنون واثق فخور» (ص١٨٥).

لنلتقط — إذَن — عناصر المأساة، وها هي ذي تكتمل: رد الفعل العنيف عند المرأة المعاصرة إزاء المكاسب الحضارية الواسعة التي أحرزتها هو التمرُّد على الشكل القديم للعلاقة بينها وبين الرجل، ما دام مضمون هذه العلاقة تغيَّرَ تغيُّرًا كيفيًّا. والتمرُّد على الشكل القديم يتسع لابتلاع قيمة أخرى مصاحبة له هو الزواج من رجل يماثلها في السن أو يزيد، فيتجه في ثورتها على الشكل القديم إلى استهواء الفتيان من سن أبنائها. ويلتقي هذا التمرُّد بآخَر يقابله في منتصف الطريق من جانب الفتيان أنفسهم، فالفتاة التقليدية التي تصغرهم ما تزال في مرحلة متخلفة بالنسبة إلى المرحلة التي يعبرها المجتمع كشكل. إنها ما تزال مشدودة بوضعيتها التاريخية إلى المرحلة القديمة، لذا تنخر عظامها الجراح الرومانسية. أما الفتى فيتَّجه مباشرةً إلى المرأة الناضجة الأنوثة المكتملة الوعي في نظره، المرأة في سن أمه. هذا اللقاء بين الشاب الصغير والمرأة الناضجة، يختلف تمامًا عن اللقاء الأوروبي بين الفتاة الصغيرة والرجل الناضج. كما يختلف بديهيًّا عن مأساة الفقر في بلادنا التي تدفع الطفلة الصغيرة الجميلة إلى أقرب أحضان عجوز ثري!

وحقًّا، نحن نستمع إلى أميرة، تتهم عوني بأنه دفعها إلى اكتشاف ضعفها (ص١٨٩)؛ «إنه السبب في كل ما حدث لي من انهيار» (ص١٩١). «هو الذي حطَّم مناعتي … وضعني وجهًا لوجه أمام ضعفي ورغبتي … مزَّق الستار الذي كان يُخفي حقيقة أعماقي عني» (ص٢٠٠).

وليس هذا بالضعف الأنثوي إزاء قوة الرجولة، إنه قوة الأغلال القديمة، إزاء الحرية الجديدة التي تتعثَّر غالبًا في خطوتها الأولى. والصراع بين القوتَين يحقِّق مكسبًا لهذه أو لتلك، ولكنه على الدوام يصنع شيئًا جديدًا، كأن تخرج عملية الأخذ والعطاء من طبيعتها الحسابية هذه إلى المعنى الإنساني الشديد العمومية والإطلاق، كما تقول أميرة «كان عطاءً ولم يكُن استسلامًا» (٢٠٠).

وبذلك تكون الكاتبة خطَّطت في نهاية قصتها تعبيرًا ناضجًا عن أن ضياع المرأة العربية المعاصرة هو خلاصة اللحظة الحضارية المأساوية التي نعيشها. وقد اعتمدت أحداث القصة على التصوير الخاطف لجزئيات شخوصها، والتحليل النفسي بتركيز الحوار إلى أبعَد حد، فأنضجت أجواء التراجيديا.

والبناء الفني للشخصيات، كان حريصًا على صياغة أميرة من الداخل والخارج صياغة تعبيرية ناجحة في تجسيم البنيان الداخلي والخارجي، لذاتها وتجربتها الخصبة العميقة، بحيث كانت بطلًا تراجيديًّا ممتازًا في تمثيل المرأة البرجوازية المعاصرة ومأساة ضياعها الراهن. فأوضحت أن الفراغ ليس مرادفًا للضياع، وإن كان أحد مظاهره، وأن أزمتها ليست تناقضًا بينها وبين الرجل الشرقي المتخلف، بل على العكس، بين أغلالها القديمة ومكتسباتها التحرُّرية على يدي الرجل الحديث.

وشخصية عوني لا يمكن فهمها على ضوء الأبعاد الفوتوغرافية للإنسان العربي الجديد، وإنما هو شخصية رمزية منذ البداية إلى النهاية … شخصية تكاملت فيها مقومات تحرُّرنا الحديث، وانعكاسه على أكثر جوانب «الرجل» خصوصية، وهي علاقته — الزوجية — بالمرأة، ومن هنا لن ندهش كثيرًا لذلك الوجه الغريب في علاقته بأميرة، العلاقة التي تتسم بالصراحة والشجاعة والتسامح.

أما شخصية خورشيد، فلم تبذل الكاتبة جهدًا في تصويرها، فجاءت تلخيصًا باهتًا لمجموعة من اللمسات السريعة للغاية. لم تكُن في المستوى المطلوب من هذا النموذج الهام، الطرف الحيوي الثاني في التراجيديا. ولقد أثَّر تكوينه الباهت أيما تأثير في صورة أميرة وعوني، والتجربة الجامعة لهذه الأطراف الثلاثة.

على أنَّ صوفي عبد الله استطاعت أخيرًا أن تقدِّم لنا أول أضخم تجربة فنية — بين الكاتبات العربيات المعاصرات — أوجزت بها تلك المرحلة الدامية من حياة الرجل والمرأة المعاصرين اللذين يتمدَّد في كيانهما معنى الجنس تائهًا ضائعًا في غمرة الفراغ البرجوازي. الفراغ الذي يمزِّق ذلك الكيان جراحًا عميقة لا تتصل بالرؤية الرومانسية الزائفة، أو القيم السوداوية الرابضة في طور متخلف عن حضارتنا … وإنما يلتحم الفراغ النفسي والضياع الجنسي في أزمة البحث عن الوجود، بل خلال تحقيق هذا الوجود.

•••

ولعلَّنا نستطيع الآن أن نضع أيدينا على أهمِّ الخيوط الرئيسية التي تصل بين ليلى وصوفي وكوليت، والضياع الحائر بينهما. إن صورة الجنس عند الأديبات الثلاث تستمد خطوطها من وعيهنَّ المتقارب بالقيمتَين — الفنية والإنسانية — للجنس في الأدب. مهما تفاوتت هذه القيمة وذلك الوعي من واحدة إلى أخرى. هذه الصورة للجنس تتجاوز اللحظة الميكانيكية في العلاقة البدنية بين الرجل والمرأة، وتتجاهل العلاقات الشاذة المشوَّهة، وتعتمد إمَّا على خواطر التأمُّل الفكري (ليلى)، أو تتَّسم برومانسية حالمة شفافة (كوليت)، أو تستولي على حواسنا بشريحة تتشابك فيها الجذور الاجتماعية للمأساة وتتجلى شعيراتها (صوفي).

والجنس عند جميعهنَّ تعبير مأساوي عن ضياعنا … تَبهت دلالته في تحقيق وجود الأنثى العربية لعجز الرجل الشرقي عن اللحاق بمستواها الحضاري (ليلى وكوليت). وتنضج دلالته في جراح المرأة المعاصرة التي يدميها التناقض بين القيم القديمة والحياة الجديدة (صوفي).

والضياع عند الكاتبات الثلاث قد تتلمَّسه في خلو حياة المرأة والرجل من الحب، فيصبح الجنس ملجأً من الضياع كأي صنف من المخدرات، (ليلى وكوليت)، وربما يكون الضياع تعبيرًا عن الحب نفسه، والجنس تلخيصًا للاثنين (ليلى وكوليت أيضًا بالإضافة إلى صوفي).

والفراغ الفكري عند ليلى بعلبكي غيمة بنفسجية، والفراغ العاطفي عند كوليت سهيل غيمة رومانسية، والفراغ الزماني عند صوفي عبد الله غيمة تراجيدية.

غير أنَّ الكاتبة العربية، في خاتمة المطاف، كانت في مستوى مسئوليتها، وأخلصت في التعبير عن نفسها وجيلها ومجتمعها وحضارتها وعصرها جميعًا.

١  راجع مقال عايدة في عدد يناير سنة ٦١ من الآداب، ومقالًا منشورًا في أحد أعداد مجلد عام ١٩٦١م، من مجلة العالم العربي القاهرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤