بداية الأسرة التاسعة عشرة

كان عهد ملوك الأسرة التاسعة عشرة بداية عصر جديد في تاريخ الأمة المصرية من الوجهتين السياسية والدينية، كما كان كذلك عهد رخاء وإصلاح داخلي من ناحية الإدارة والعمارة، فقد رأينا أن الفرعون «حور محب» آخر ملوك الأسرة الثامنة عشرة قد أعاد للبلاد ديانتها الأصلية، كما استرد لها بعض مكانتها السياسية بإخضاع بلاد النوبة ثانية للحكم المصري، وبالانتصارات التي أحرزها على أقوام البدو و«خيتا» الذين كانوا قد أغاروا على أملاك مصر في سوريا وفلسطين، هذا إلى أنه وطَّد أركان السلام في داخلية البلاد بسنِّ القوانين التي أصبحت فيما بعد مضرب الأمثال؛ ومما يؤسف له أن هذا العاهل العظيم لم يكن في مقدوره أن يسترد للبلاد مكانتها الأصلية في آسيا، وقد ترك ذلك لأخلافه من بعده، غير أنه لم يعقب من يرث الملك من نسله؛ فخلفه أحد قواده. والواقع أن ما لدينا من المصادر التاريخية عن وراثة العرش بعد «حور محب» أحيط بحجاب كثيف من الغموض والإبهام، وبخاصة عندما نعلم أن ما وصل إلينا عن طريق الكتَّاب القدامى من مؤرِّخي العصر اليوناني الإغريقي يتناقض مع ما تستنبطه من الآثار الباقية لنا من هذا العصر؛ ولذلك تعترض المؤرِّخ عندما يتناول درس تاريخ الأسرة التاسعة عشرة مسألتان؛ أولاهما: من أول ملوك هذه الأسرة؟ والثانية: إلى أي بيت يُنسب هذا الملك، وبأي حق استوى على عرش مصر؟

والجواب عن السؤال الأول ينحصر في رأيين؛ أولهما: أن بعض المؤرخين، ومن بينهم الأستاذ «برستد» يظن أن هذه الأسرة تبتدئ بالفرعون «حور محب». والرأي الثاني: ما يزعمه البعض الآخر من المؤرخين، ومن بينهم الأستاذ «أدورد مير»، والأستاذ «فلندرز بتري» من أن «حور محب» كان آخر ملوك الأسرة الثامنة عشرة، وأن أول ملوك الأسرة التاسعة عشرة هو الفرعون «رعمسيس الأول»، وهذا الرأي الأخير هو المرجح وقد اتبعناه. غير أن ما وصل إلينا من التقاليد التي نقلها لنا كتاب الإغريق، وغيرهم لا يتفق مع هذا الرأي.

والواقع أن ما جاء في قائمة «مانيتون»، وما ذُكر في مختصر «أفريكانوس»، ومختصر «يوزيب» يبدو قلقًا عند هذه النقطة، يضاف إلى كل ذلك أن «يوسفس» المؤرخ اليهودي يبتدئ الأسرة التاسعة عشرة بالملك «سيتي الأول». ولا نزاع في أننا إذا نظرنا إلى هذا الموضوع من الوجهة التاريخية ظهر لنا بطبيعة الحال وجوب أن يكون «حور محب» هو الحد الفاصل بين الأسرتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة؛ إذ إن الحقيقة لا مراء فيها هي أن نسل الذكور في ملوك الأسرة الثامنة عشرة كان قد انقطع حبله بموت الملك الشاب «توت عنخ آمون»، إذ إنه قُضِيَ دون أن يعقب ذكرًا، ومن أجل ذلك خلفه على عرش الملك الفرعون «آي» أقوى رجل في البلاد وقتئذ، وقد عزز اعتلاءه عرش المُلك زواجه من أرملة «توت عنخ آمون» (راجع الجزء الخامس). وقد خلف «آي» القائد «حور محب» الذي يُعد بلا نزاع الممهد الأول لبناء ملك الأسرة التاسعة عشرة؛ لما قام به من إصلاحات عظيمة، كان الغرض منها إقالة مصر من عثرتها، وإنعاشها من رقدتها، وإنهاضها من كبوتها التي جرَّها عليها «إخناتون» بسوء سياسته داخل البلاد وخارجها. والظاهر أن «حور محب» قد قُضِيَ دون أن يترك خلفًا على عرش الكنانة؛ ويدل ما قام به قبل موته على أنه كان يشعر بذلك قد هيأ الأمور لوزيره وقائد جيشه المسمى «بارعمسيس» ليخلفه على أريكة البلاد وفقًا لسياسة اختطت من قبل، ثم خلف «رعمسيس» هذا بدوره ابنه «سيتي الأول»، ومن ثم تعاقب الملك أخلافه من ظهره قرنًا ونصف قرن من الزمان. ومن بعض المؤرخين «رعمسيس الأول» على رأس ملوك الأسرة التاسعة عشرة، وقد أخذنا بهذا الرأي؛ لأنه على ما يظهر هو الرأي الصواب.

أما الجواب عن المسألة الثانية، وهي البيت الذي يُنسب إليه ملوك هذه الأسرة فنجد الإجابة عنه قد وردت في متن لوحة أربعمائة السنة التي عُثر عليها في «تانيس» (راجع الجزء الرابع)، هذا بالإضافة إلى أن أسماء أعضاء الأسرة المالكة الجديدة قد ركبت تركيبًا مزجيًّا مع اسم الإله «ست» الذي كان يُعبد في «ستوريت»، وهي المقاطعة السادسة عشرة من مقاطعات الوجه البحري، (راجع كتاب أقسام مصر الجغرافية في العهد الفرعوني ص٩٧)؛ مما يدل على أن أسرته نبتت من هذه الجهة.

أما شرعية اعتلاء «رعمسيس الأول» عرش مصر، فليس لدينا حتى الآن براهين معاصرة قاطعة تؤكد لنا هذا الحق، وكل ما لدينا في هذا الصدد بعض احتمالات منطقية يقبلها العقل، وتعززها النقوش إلى حد بعيد، وسنستعرضها هنا ليحكم عليها القارئ بما تستحق من منزلة تاريخية.

(١) «مانيتون» وتواريخ الأسرة التاسعة عشرة

كان المفروض إلى عهد قريب جدًّا أن قائمة الملوك التي خلفها لنا المؤرخ المصري «مانيتون» تبتدئ ملوك الأسرة التاسعة عشرة باسم الملك «سيتي الأول» على حسب قراءة الأستاذ «إدوردمير»، وغيره من فحول المؤرخين في التاريخ القديم، غير أن «إدوردمير» يقول: إن ترتيب «مانيتون» للجزء الأول من ملوك هذه الأسرة يعتوره ارتباك بالغ، وخلط في الحقائق، إذا وازنا ما جاء فيها بما بقي لنا على الآثار، يضاف إلى ذلك أن المؤرخين الذين نقلوا عن «مانيتون» وبخاصة «أفريكانوس»، و«يوسفس»، ثم «يوزيب» قد اختلف بعضهم عن بعض في كتابة أسماء هؤلاء الملوك، وقد بقيت الحال كذلك حتى عام ١٩٢٨م عندما نشر الأستاذ «ستروف»١ مقالًا؛ الغرض منه موضوع ظهور نجم الشعرى الذي ذكر فيما كتبه «ثيون Theon» الرياضي الإسكندري الأصل. فقد ذكر لنا «ثيون» هذا أن نجم الشعرى بدأ دوره في عهد ملك يُدعى «منوفيس» في عام(١٣٢٢ق.م) ولا بد أن هذا التاريخ يقع في حكم أحد الملوك الثلاثة التالين، وهم؛ «حور محب»، و«رعمسيس الأول»، و«سيتي الأول»، وقد حكم على حسب ما ذكره «بتري»٢ ما بين عامي (١٣٢٨–١٣٢٢ق.م) وعلى حسب ما ذكره «برستد»٣ ما بين عامي (١٣٢٠–١٣١٥ق.م).

وإذا نظر الإنسان نظرة سطحية وجد للمرة الأولى عدم التجانس اللفظي بين أسماء هؤلاء الملوك وبين اسم «منوفيس»، ولكن لا بد أن نذكر هنا أن اسم «سيتي» العلم الكامل هو «سيتي مرنبتاح»، وأن الجزء الأخير من هذا الاسم — وهو«مرنبتاح» — يمكن أن يعادل الاسم «منوفيس» على حسب النطق اليوناني، كما ذكر لنا ذلك الأثري «لبسيوس». يضاف إلى ذلك أن تاريخ حكم «سيتي الأول» يتفق على وجه التقريب مع عام (١٣٢٢ق.م) الذي ذكره لنا «ثيون»، وأن حذف كلمة «سيتي» من الاسم كان يحدث أحيانًا في تاريخ هذا الفرعون، كما يمكن تفسيره بسهولة؛ وذلك أن المصادر التي استقى منها «ثيون» معلوماته كان قد حذف منها كلمة «سيتي» التي تدل على اسم الإله الشرير المخيف الذي قتل أخاه «أوزير» الطيب المحبوب، ويعزز ذلك الرأي من جانبنا أن «سيتي» نفسه كان يتحاشى كتابة اسمه بصورة هذا الإله الشقي.

وتدل شواهد الأحوال على أن ملوك البطالمة كان يعز عليهم أن يذكروا أحد أسلافهم المبجلين باسم مُشين مرذول؛ ولذلك فضلوا إسقاط الجزء الأول من الاسم وهو الممقوت، واكتفوا بالدلالة على هذا الملك بالجزء الثاني من اسمه العلم، وهو«مرنبتاح»، وهو ما يقابل في الإغريقية «منوفيس». ويمكن الاعتراض على ذلك من ناحية أخرى بأن قائمة «مانيتون» لا تحتوي على اسم «ستوس» الذي قال عنه كل من فحص هذه القائمة من مؤرخي اليونان أنه يقابل اسم «سيتي الأول». ولكن طالعنا الأستاذ «ستروف» ببحث حاول فيه أن يثبت خطأ توحيد هذين الاسمين؛ وأن ذلك قد نتج عن غلطة ارتكبها النُّسَّاخ الذي نقل عن «مانيتون»، يدل على ذلك أن «يوسفس» الذي اقتبس عن «مانيتون» في كتابه (Contra Apion I, 15.) لم يوحد اسم «سيتي» باسم «ستوس»، بل إن الوقائع التي ذكرها «يوسفس» لا يمكن أن تُنسب إلا ﻟ «رعمسيس الثاني»؛ من أجل ذلك يعتقد «ستروف» أن اسم «ستوس» ليس إلا تحريفًا لاسم «سوس» الذي يمكن توحيده باسم «سسي»، وهو الاسم المحبب الذي كان ينادَى به الفرعون «رعمسيس الثاني». فإذا كان الرأي الذي جاء به «ستروف» مقبولًا فإن رواية «مانيتون» عن الأسرة التاسعة عشرة تصبح مفهومة لا خلط ولا ارتباك فيها، وتتفق مع الحقائق المعاصرة، ومن ثم يمكن ترتيب أسماء ملوك هذه الأسرة كما يأتي:
  • (١)

    حور محب، حكم خمسة أعوام.

  • (٢)

    رعمسيس الأول، حكم عامًا وبعض عام، أو عامين على الأكثر.

  • (٣)

    سيتي الأول، حكم تسعة عشر عامًا.

  • (٤)

    رعمسيس الثاني (سسي)، حكم سبعة وستين عامًا.

  • (٥)

    مرنبتاح، حكم عشرين عامًا.

  • (٦)

    سيتي الثاني، حكم ستة أعوام.

  • (٧)

    رعمسيس الثالث، حكم سبعة أعوام.

  • (٨)

    أمنمس، حكم خمسة أعوام.

  • (٩)

    الملكة توزرت، حكمت سبعة أعوام.

والواقع أن قائمة ملوك هذه الأسرة — كما ذكرها «مانيتون» — لا تحتوي إلا على ثمانية ملوك، في حين أنه وُجد على الآثار تسعة ملوك كانوا حكام هذه الأسرة، والملك الذي لم يأتِ ذكره في قائمة «مانيتون» هو «سيتي الثاني مرنبتاح». وقد فسر ذلك «ستروف» بأنه قد سقط من قائمة «مانيتون» إهمالًا من الناسخ، ويقول: إنه من المحتمل حدوث ذلك بسبب حذف كلمة «سيتي» من اسم «سيتي مرنبتاح»؛ وبذلك أصبح موحدًا باسم «مرنبتاح» الذي سبقه في ترتيب القائمة. والحقيقة الهامة التي يمكن استخلاصها إذا وحدنا اسم «منوفيس» باسم «سيتي الأول» هي أنه يصبح في استطاعتنا تحديد عهد هذا الفرعون بعام (١٣١٨ق.م) تقريبًا، كما يرجح ذلك ظهور نجم الشعرى في اليوم الأول من السنة الجديدة، على أن كل ما ذكرنا هنا لا يتعدى حد نظرية مقبولة في ذاتها وحسب.

١  راجع: A. Z., Vol. LXIII, pp. 45–50.
٢  راجع: History of Egypt II, p. 104.
٣  راجع: Breasted History of Egypt p. 599.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤