الفصل السادس عشر

الْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ الدَّاهِيَةُ

إِنَّ الْقَيُّوطَ لَدَاهِيَةٌ،
وَذَكَاؤُهُ حَادٌّ وَالْكَسْبُ لَهُ غَايَةٌ.

لَا شَيْءَ فِي الْعَالَمِ أَصْدَقُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَالْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ هُوَ أَكْثَرُ سُكَّانِ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ وَالْمُرُوجِ الْخَضْرَاءِ الصِّغَارِ دَهَاءً. فَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ شِدَّةِ ذَكَاءِ الْجَدَّةِ ثعلبة الْعَجُوزِ، فَإِنَّهُ لَا يُضَاهِي ذَكَاءَ الْقَيُّوطِ الْعَجُوزِ. وَإِنْ أَرَدْتَ خِدَاعَهُ، فَعَلَيْكَ أَنْ تَسْتَيْقِظَ فِي الصَّبَاحِ الْبَاكِرِ، ثُمَّ إِنَّهُ مِنَ الْأَرْجَحِ أَنْ تَكُونَ أَنْتَ ضَحِيَّةَ الْخُدْعَةِ لَا هُوَ. فَلَا يُوجَدُ الْكَثِيرُ مِمَّا يَجْرِي حَوْلَهُ دُونَ عِلْمِهِ. وَلَكِنَّهُ يَغْفُلُ عَنْ أَمْرٍ مِنْ حِينٍ لِآخَرَ. وَقَدْ كَانَ مَجِيءُ الْقُنْدُسِ بادي إِلَى الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ أَحَدَ تِلْكَ الْأُمُورِ؛ فَهُوَ لَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا عَنْ بادي حَتَّى فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ سَدِّهِ وَبَيْتِهِ، وَرَاحَ يُقَطِّعُ الْأَشْجَارَ الَّتِي سَتُمِدُّهُ بِمَخْزُونِ الطَّعَامِ فِي الشِّتَاءِ.

وَمَا حَدَثَ كَانَ الْآتِي: عِنْدَمَا نَمَى إِلَى عِلْمِ النَّسَمَاتِ الرَّقِيقَةِ الْمَرِحَةِ لِلرِّيَاحِ الْغَرْبِيَّةِ الْعَجُوزِ مَا يَحْدُثُ فِي الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ، وَأَسْرَعَتْ تَنْشُرُ الْأَنْبَاءَ فِي أَنْحَاءِ الْغَابَةِ وَمُرُوجِهَا الْخَضْرَاءِ، كَعَادَتِهَا، بَذَلَتْ قُصَارَى جُهْدِهَا لِتَتَجَنَّبَ أَنْ تَبْدُرَ مِنْهَا وَلَوْ إِشَارَةً عَنِ الْأَمْرِ إِلَى الْقَيُّوطِ الْعَجُوزِ؛ لِأَنَّهَا خَشِيَتْ أَنْ يَتَسَبَّبَ فِي الْمَتَاعِبِ، وَرُبَّمَا يَدْفَعُ بادي إِلَى الرَّحِيلِ؛ فَقَدْ كَانَ الْمَكَانُ الَّذِي اخْتَارَهُ بادي لِبِنَاءِ السَّدِّ مُتَوَغِّلًا فِي جَوْفِ الْغَابَةِ إِلَى حَيْثُ يَنْدُرُ أَنْ يَذْهَبَ الْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ؛ لِذَا لَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا عَنْ بادي كَمَا لَمْ يَعْلَمْ عَنْهُ بادي شَيْئًا لِفَتْرَةٍ.

وَلَكِنْ بَعْدَ حِينٍ لَاحَظَ الْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ أَنَّ سُكَّانَ الْمُرُوجِ الْخَضْرَاءِ الصِّغَارَ لَمْ يَعُودُوا مُتَوَاجِدِينَ بِالْقَدْرِ الْمُعْتَادِ، وَبَدَا أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ سِرًّا؛ فَذَكَرَ الْأَمْرَ إِلَى صَدِيقِهِ، الْغُرَيْرِ حفار.

كَانَ حفار شَدِيدَ الِانْشِغَالِ بِشُئُونِهِ حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَلْحَظْ شَيْئًا خَارِجًا عَنِ الْمَأْلُوفِ، وَلَكِنْ عِنْدَمَا ذَكَرَ الْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ ذَلِكَ الْأَمْرَ تَذَكَّرَ أَنَّ الْغُرَابَ بلاكي كَانَ يَتَوَجَّهُ إِلَى الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ كُلَّ صَبَاحٍ. وَقَدْ أَبْصَرَ طَائِرَ السِّنْدِيَانِ سامي عِدَّةَ مَرَّاتٍ مُحَلِّقًا فِي الِاتِّجَاهِ ذَاتِهِ وَكَأَنَّهُ يَتَعَجَّلُ الْوُصُولَ إِلَى مَكَانٍ مَا.

فَابْتَسَمَ الْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ وَقَالَ: «هَذَا كُلُّ مَا أَحْتَاجُ مَعْرِفَتَهُ يَا صَدِيقِي حفار؛ فَعِنْدَمَا يَزُورُ الْغُرَابُ بلاكي وَسامي مَكَانًا أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، يَكُونُ ثَمَّةَ أَمْرٌ مُثِيرٌ لِلِاهْتِمَامِ يَجْرِي هُنَاكَ. أَظُنُّنِي سَأَتَجَوَّلُ فِي أَنْحَاءِ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ وَأَتَفَقَّدُ الْمَكَانَ.»

ثُمَّ انْطَلَقَ الْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ فِي طَرِيقِهِ. وَلَكِنَّهُ كَانَ أَمْكَرَ وَأَدْهَى مِنْ أَنْ يَتَّجِهَ إِلَى الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ مُبَاشَرَةً. فَتَظَاهَرَ بِأَنَّهُ يَصْطَادُ عِنْدَ الْمُرُوجِ الْخَضْرَاءِ كَعَادَتِهِ، آخِذًا فِي الِاقْتِرَابِ طَوَالَ الْوَقْتِ مِنَ الْغَابَةِ. وَعِنْدَمَا بَلَغَ أَطْرَافَهَا، تَسَلَّلَ بَيْنَ الْأَشْجَارِ، وَعِنْدَمَا تَأَكَّدَ أَنَّهُ مِنَ الْمُسْتَبْعَدِ أَنْ يَرَاهُ أَحَدٌ، بَدَأَ يَرْكُضُ هُنَا وَهُنَاكَ وَأَنْفُهُ قَرِيبٌ مِنَ الْأَرْضِ.

وَبَعْدَ بُرْهَةٍ هَتَفَ: «هَاهْ! الثَّعْلَبُ ريدي كَانَ هُنَا فِي الْآوِنَةِ الْأَخِيرَةِ.»

وَسُرْعَانَ مَا وَجَدَ أَثَرًا آخَرَ. فَقَالَ: «إِذَنْ، فَقَدْ تَرَدَّدَ الْأَرْنَبُ بيتر عَلَى هَذَا الْمَكَانِ كَثِيرًا فِي الْآوِنَةِ الْأَخِيرَةِ، وَإِنَّ أَثَرَهُ يَسِيرُ فِي الِاتِّجَاهِ ذَاتِهِ كَأَثَرِ الثَّعْلَبِ ريدي. أَظُنُّ أَنَّنِي الْآنَ مَا عَلَيَّ سِوَى أَنْ أَتَقَفَّى أَثَرَ بيتر، وَهُوَ سَيُرْشِدُنِي إِلَى مَا أُرِيدُ مَعْرِفَتَهُ.»

فَتَقَفَّى الْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ أَثَرَ بيتر، وَسُرْعَانَ مَا بَلَغَ بِرْكَةَ الْقُنْدُسِ بادي. فَقَالَ، إِذْ رَفَعَ عَيْنَيْهِ وَأَبْصَرَ بَيْتَ بادي: «هَاهْ! إِذَنْ هُنَاكَ وَافِدٌ جَدِيدٌ فِي الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ! طَالَمَا سَمِعْتُ أَنَّ الْقَنَادِسَ شَهِيَّةٌ جِدًّا. صِرْتُ أَشْعُرُ بِالْجُوعِ فِعْلًا.» وَبَدَأَ لُعَابُهُ يَسِيلُ، وَبَدَتْ فِي عَيْنَيْهِ الصَّفْرَاوَيْنِ نَظْرَةٌ شَرِسَةٌ جَائِعَةٌ.

وَفِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ رَآهُ طَائِرُ السِّنْدِيَانِ سامي وَرَاحَ يَصْرُخُ بِأَعْلَى صَوْتٍ حَتَّى يَسْمَعَهُ الْقُنْدُسُ بادي فِي بَيْتِهِ. فَعَلِمَ الْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ أَنَّهُ لَا جَدْوَى مِنَ الْبَقَاءِ أَثْنَاءَ وُجُودِ سامي، فَأَلْقَى نَظْرَةً خَاطِفَةً عَلَى الْبِرْكَةِ وَعَرَفَ أَيْنَ يَأْتِي بادي إِلَى الْبَرِّ لِيَجْلِبَ طَعَامَهُ. ثُمَّ انْطَلَقَ عَائِدًا إِلَى الْمُرُوجِ الْخَضْرَاءِ، مُلَوِّحًا بِقَبْضَتِهِ فِي وَجْهِ سامي، وَقَالَ: «إِذَنْ سَأَزُورُ هَذَا الْمَكَانَ فِي اللَّيْلِ وَأُفَاجِئُ السَّيِّدَ قندس أَثْنَاءَ عَمَلِهِ.»

إِلَّا أَنَّ الْقَيُّوطَ الْعَجُوزَ، رَغْمَ شِدَّةِ دَهَائِهِ، لَمْ يَلْحَظْ أَنَّهُ خَلَّفَ أَثَرَ قَدَمٍ فِي الطِّينِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤