خاتمة وخلاصة ما تقدَّم

يتلخص الفصل الذي عقدناه لتاريخ الفلسفة اليونانية ليكون مقدمة لمائدة أفلاطون، وليكون حلقة اتصال بين القارئ الخالي الذهن وبين هذا الكتاب الجليل الجميل، في أن الإغريق أخذوا عن اليونان مبادئ الفلسفة والعلوم الرياضية وعلم الفلك وسواها من العلوم، وأنهم توسَّعوا فيها، وزادوا عليها، واشتهروا بها، واستنار العالَم بهديهم ونبراس حكمتهم إلى وقتنا هذا، وأنهم بدءوا بالاشتغال بالحكمة والعلوم في القرن السابع قبل المسيح؛ أي منذ ٢٦٠٠ سنة تقريبًا، ويلاحظ أن مصر التي ترجع آثار مدنيتها إلى خمسة آلاف سنة (تاريخ نحت تمثال أبي الهول) كانت علومها زاهرة، وحكمتها ظاهرة، وأنظمتها سائدة، وعظمتها ثابتة موطدة قبل اشتغال اليونان بالفلسفة بثلاثين قرنًا.

وأول مَن اشتغل بالفلسفة طاليس، وجاء في الأخبار الصادقة أنه قصد مصر، وساح فيها مدة؛ لأنها كانت مصدر العرفان الوحيد في العالم، وكسب منها فوائدَ جمة، ثم عاد إلى وطنه لينشر العلم بين أبنائه؛ فأسَّس مدرسة، وكان له الفضل في نقل عِلم الهيئة عن المصريين، وتوسيع دائرته؛ فقسَّم السَّنة إلى فصول، وهو أول مَن نزع من أفكار أهل وطنه خرافات كثيرة كانت سائدة عليها، كاعتقادهم أن الكواكب آلهة، فأثبت لهم بالبرهان أنها أجرام كأرضنا لا حياة لها، وقال إن للعالَم مبدعًا لا تُدرِك صفته العقول من جهة جوهريته، وإنما يُدرَك من جهة آثاره (الملل والنحل للشهرستاني، طبع لندن، صحيفة ٢٥٥).

وجاء في القفطي عن طاليس (صحيفة ٧٥) أن طاليس دي ميلت أو الملطي قال: إن الوجود لا موجِد له (تعالى الله العظيم (القفطي))، واعتذر له أصحابه أن الذي حمله على ذلك ما شاهده في هذا العالَم من الاختلاف، فتحقق أن الموصوف بالصفات الحسنى لا تصدر عنه هذه الأمور المختلفة، فقال بذلك.

ونقل عنه أن المبدع الأول هو الماء؛ لأنه قابل لكل صورة، ومنه أبدع الجواهر كلها، وهو علة كل مبدع، وأنه من جمود الماء تكوَّنت الأرض، ومن انحلاله تكوَّن الهواء، ومن صفوة الماء تكوَّنت الذار (الذرات أو «أتوم»)، ومن الدخان والأبخرة تكونت السماء، ومن الاشتعال الحاصل من الأثير تكوَّنت الكواكب، فدارت حول المركز دوران المسبب على سببه بالشوق الحاصل فيها إليه، وميَّز بين الجسم والجِرْم، فقال: الجسم ما كان لطيفًا ظاهرًا، والجِرْم ما كان كثيفًا داثرًا. وكان يقول: إن فوق السماء عوالمَ مبدعة لا يقدر المنطق أن يصف تلك الأنوار، ولا يقدر العقل على إدراك ذلك الحسن والبهاء. وقال الشهرستاني عن تفسير الماء الذي قال طاليس عنه إنه المبدع الأول «وفي التورية في السِّفر الأول مبدأ الخلق هو جوهر خلقه الله تعالى، ثم نظر إليه نظر الهيبة، فذابت أجزاؤه فصارت ماء، ثم ثار من الماء بخار مثل الدخان فخلق منه السموات، وظهر على وجه الماء زَبَد مثل زَبَد البحر، فخلق منه الأرض، ثم أرساها بالجبال.» وأظن أن مؤلف الملل يقصد بقوله السِّفر الأول سِفر التكوين في التوراة المقدسة؛ فقد جاء في الأصحاح الأول «وكانت الأرض خَرِبة، وخالية، وعلى وجه القمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه» (آية ٢).

وجاء بعد ذلك «وقال الله ليكن جَلَدٌ في وسط المياه، وليكن فاصلًا بين مياهٍ ومياهٍ، فعمل الله الجَلَد، وفصل بين المياه التي تحت الجَلَد، والمياه التي فوق الجَلَد (٦ و٧) وقال الله لتجتمع المياه تحت السماء (٩) ومجتمع المياه دعاه بحارًا (١٠).» أظن هذه الآيات المقدَّسة هي التي حللها الشهرستاني، وأوجزها، ثم إنه استمر في استنتاجه فقال (ص٢٥٦ من الطبعة السابقة الذكر): «والماء على القول الثاني شديد الشبه بالماء الذي عليه العرش، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِوَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ. ولا نعلم قصد الشهرستاني في قوله: إن طاليس الملطي إنما تلقَّى مذهبه من المشكاة النبوية، وأن الذي أثبته من العنصر الأول الذي هو منبع الصور شديد الشبه باللوح المحفوظ المذكور في الكتب الإلهية. ويدهشنا هذا القول من الشهرستاني؛ لأن طاليس من أهل القرن السابع قبل المسيح.

وجاء بعد طاليس أنكسيماندر، وسار على درب طاليس في الأبحاث الفلكية، فاخترع الساعة الشمسية، وقسَّم النهار إلى ساعات، وهو أول مَن بيَّن سبب تزايد القمر من هلال إلى بدر، ونقصانه من بدر حتى يصير كالعرجون القديم، وله الفضل في التعليل العلمي على كلِّ مَن عداه.

وجاء بعده أنكسمين، ويسميه العرب أنكسيمانس، وقال في أصل العالم قولًا مثل سلفه طاليس أن أول الأوائل ليس الماء كما قال طاليس، وإنما هو الهواء، ومنه يكون جميع ما في العالم من الأجرام العلوية والسفلية، وقال: إن ما كُوِّن من صفو الهواء المحض لطيف روحاني لا يدثر، ولا يدخل عليه الفساد، ولا يقبل الدنس والخبث، وما كُوِّن من كدر الهواء كثيف جسماني يدثر، ويدخله الفساد، ويقبل الدنس والخبث، ولعله جعل الهواء أول الأوائل لموجودات العالم الجسماني كما جعل العنصر أول الأوائل لموجودات العالم الروحاني، وقلنا إن أنكسمين يرجَّح أن يكون تلميذ أنكسيماندر.

ثم ظهر فيثاغورس دي ساموس في أواخر القرن السادس قبل المسيح، وقيل عنه أيضًا إنه قصد مصر، واستقى العلوم من منابعها العذبة بفضل الكهنة في المعابد، وقد اشتغل بالرياضيات والفلك، وكان للأعداد في نظره أعظم شأن حتى إنه بنى فلسفته عليها، ولأرسطو كلام طويل في تفنيد نظرية الأعداد، ولكن يلوح لأهل الفكر أن أرسطو لم يدرك تمامًا نظرية الأعداد أو تظاهر بذلك ليسهل عليه نقدها. أما فيثاغورس فقد قال بدوران الأرض حول الشمس، وأظهر في علم طبقات الأرض حقائق ثابتة لم تُنقض إلى هذا الوقت، كقوله إن البحر كان يابسة، وإن اليابسة كانت ماء، وإن الوديان تكوَّنت بفعل الأنهار، وعلَّل وجود الآثار البحرية كالمحار والأصداف وغيرها في أعالي الجبال، وهذا مفتاح طبقات الأرض (كما أثبت شارل ليل الإنجليزي في القرن التاسع عشر)، وهو أول مَن عرف الفلسفة، وأطلق عليها اسمها، وأول مَن سُمي فيلسوفًا، وكان بفضل علم الأعداد وعلم الفلك أول مَن شدَّ أوتارًا بحسب السُّلم الطبيعي في الموسيقى، وقد أسَّس مدرسة وفلسفة باسمه، وكان فيثاغورس يعتقد بالبعث والخلود، ويقول بأن فوق عَالم الطبيعة عالمًا روحانيًّا نورانيًّا، لا يدرك العقل حسنه وبهاءه، وأن الأنفس الزكية تشتاق إليه، وأن كل إنسان أحسن تقويم نفسه يصير أهلًا لهذا العالم الروحاني النوراني. وكان يعلِّم تقديس الحواس، ومذهبه أن يعلِّم الرجلُ الرجالَ، وأن تعلِّم النساءُ النساء. وكان معتدل المزاج، ولا يفرح بإفراط، ولا يحزن بإفراط، ولا يسمن، ولا يهزل، ولم يره أحد باكيًا، ولا ضاحكًا، وكان يعالج الأمراض بأنغام الموسيقى (وهذه طريقة أحياها بعض المحدثين في أوروبا لمعالجة الأمراض العصبية والعقلية)، وكان فيثاغورس تلميذ أنكسيماندر الذي سبق ذكره، وتعلَّم عليه الفلك والرياضة. ولما زار مصر تعلَّم الهيروغليفية على أساليبها الثلاثة، وبعد أن عاد إلى وطنه وأقام به وبغيره سنين طويلة حنَّ إلى مصر وعلومها فوردها، وقصد كهنة عين شمس (مدرسة كانت بمصر الجديدة المعروفة لعهدنا هذا بهليوبوليس وبها نكتب هذا الكتاب)، فامتحنه كهنتها، ثم بعثوا به إلى منف، ثم إلى ديوسبولس ليمعن الكهنة في امتحانه، وأكرمه الملك أماسيس إلى أن عاد إلى وطنه. وكانت زوجته تعلِّم سائر النساء، وابنته البتول تعلِّم سائر العذارى. واضطهده أهل وطنه، وطاردوه، وقتلوا بعض تلاميذه، واضطروه للفرار، وتبعه الاضطهاد حيثما حلَّ إلى أن لجأ إلى هيكل الموسن فتحصَّن فيه أربعين يومًا، فضربوا الهيكل بالنار، فلما أحسَّ أصحابه بذلك عمدوا إليه، فجعلوه في وسطهم، وأحدقوا به ليقوه النار بأجسامهم، فلما امتدت في الهيكل، واشتد لهيبها غشي على الحكيم من ألم حرارتها، ومن الجوع؛ لأنه قضى معظم أيام الحصار جائعًا، فسقط ميتًا، ثم اخترق جميع أنصاره (راجع [تاريخ الفلسفة اليونانية – سقراط العظيم والفلسفة السقراطية – ما كتبه العرب عن سقراط] وما بعدها من ابن أبي أصيبعة، وراجع كتاب مختار الحكم ومحاسن الكلم لمحمود الدولة أبي الوفاء المبشر بن فاتك).

ونسبوا إليه ثمانين كتابًا، وقالوا مائتين وثمانين كتابًا (هذا إحصاء كتَّاب العرب)، ولا نخفي على القارئ أن معظم ما رواه العرب عن فيثاغورس هو من قبيل الأساطير الموضوعة كما أنهم لم يدركوا أو لم يشاءوا ذكر الحقيقة؛ فالثابت في التاريخ الصحيح أن فيثاغورس ألَّف حزبًا علميًّا، واشتغل بالسياسة، وكان أتباعه من الخواص أو الأرستوقراطية، وأنهم لم يأنفوا من هضم حقوق الشعب، فتعقبتهم العامة، واضطهدتهم إلى أن أحرقتهم بوصف كونهم أعداء الشعب لا بصفة كونهم فلاسفة، ولم يدرك العرب حقيقة فيثاغورس، ونسبوا إليه علوم الدنيا والآخرة مع أنه كان رياضيًّا لا زيادة، وفضله راجع إلى مزجه الحساب بالهندسة كما فعل ديكارت بمزج الجبر بالحساب، وتفوُّق فيثاغورس في الرياضيات هو الذي جعله يعلِّق شأنًا كبيرًا على الأعداد وأسحارها. أما فلسفة فيثاغورس التي كانت دعامتها البعث، وتقمُّص الأرواح، وحلولها في أجسامٍ غير أجسامها الأولى، فقد مُحيت من عالم الفكر الإنساني في القرن الرابع، وذهبت تقريبًا بذهاب القائل بها إلا من أعمال المشعوذين من العرب الذين تمسَّكوا بأسرار الأعداد وسحرها إلى وقتنا هذا، ومن العجيب أن العرب ذكروا بالتفصيل مأكل فيثاغورس ومشربه، ولم يذكروا تاريخ مولده، ولا تاريخ وفاته، وقد ذكرناه معتمدين على مؤلفي الإفرنج، وفي هذا كفاية، ولولا ما كتبه أرسطو عن فيثاغورس في عرض نقده آراءه الفلسفية أو فلسفة الأعداد ما اهتدينا إلى شيء حقيقي عن حياة هذا الحكيم، ولا عبرة بما عدَّده العرب من كتبه؛ فقد نسبوا إليه ٢٨٠ كتابًا، ورووا عنه ألفَ مَثَلٍ وحكمة، مع أننا لم يقع لنا سطر واحد من مؤلفات فيثاغورس وأتباعه، ويمكننا تعليل ذلك بأن معظم أبحاثهم كانت رياضية، وكفى أنه وضع كلمة ماطيماطيقي (رياضيات) وآثار الرياضي في الأرقام والأشكال والمعادلات وهي آثار زائلة، وسيأتي الكلام على الرد على نظريته في الأعداد في عرض الكلام على أرسطو، وهو أول مَن اهتم بها ونقدها.

وكنا نود أن نأتي على نظرية فيثاغورس في الأعداد بشيء من الإسهاب، ولكن ذلك يصعب؛ لأننا نكتب وجيزًا لا مطولًا، على أن تلك النظرية مهمة جدًّا؛ لأن لمذهب صاحبها شأنًا كبيرًا؛ فهو أول مَن فرَّق بين إدراك الإنسان والحيوان بعبارة وجيزة؛ إذ قال إن هداية الحيوان مقدرة على الآثار التي جُبل الحيوان عليها، وهداية الإنسان مقدرة على الآثار التي فُطر الإنسان عليها، فكأنه يقول إن الحيوان يعيش بالغريزة، والإنسان يعيش بالعقل؛ لأن الفطرة هي الحالة الفكرية التي تحصل للإنسان من التأمُّل والتعليل، ثم يتوارثها الأبناء عن الآباء، ولا يوجد فرق عظيم بين هذا الرأي وبين العلم الحديث. ولكن نظرية فيثاغورس في الأعداد هي التي جعلت له شأنه العلمي الحقيقي، وأهم ما فيها أنه جرَّد العدد عن المعدود تجريدَ الصورةِ عن المادة، وقال مبدأ الموجودات هو العدد، وهو أول مبدع. وقسَّم العدد إلى زوج وفرد، ثم قال إن المتحركات السماوية ذات حركات متناسبة لحنية هي أشرف الحركات وألطف التأليفات، ويدعي فيثاغورس أنه سمع حفيف الفلك، ووصل إلى مقام الملك، وقال ما سمعت شيئًا ألذ قط من حركاتها، ولا رأيت شيئًا أبهى من صورها وهيأتها، وعندي أن هذا التخيُّل البعيد المدى الذي جعله يشهد العالَم بحسه وحدسه ويسمع حفيف الكواكب، إنما نوع من الانجذاب اللطيف الذي يعلله العلم الحديث بأنه غيبوبة مغنطيسية فيُخيَّل إليه أثناءه أنه صعد إلى السماء وحادث الملائكة … إلى آخر ما رُوي عن فيثاغورس وأمثاله. وهذه «الحال الانجذابية» هي التي تجعل لذويها أتباعًا وأنصارًا يفدونهم بحياتهم، ونحن لا نريد تكذيبها أو دحضها، إنما نحاول تعليلها تعليلًا علميًّا لتفسيرها وإدراك حقيقتها؛ فقد حدث مثلها في عهدنا هذا لسويد نبورج الذي قال إنه رأى شبحًا قال له: «أنا الله، الخالق، مخلص العالم، اخترتك لتنشر للناس معنى الكتب المقدسة، سأملي عليك بنفسي كل الذي تكتبه» (ص٢١٩، كتاب اعتلال العبقرية، تأليف نيسبت، طبع لندن)، وقد صار سويد نبورج بعد ذلك مصلحًا دينيًّا عظيمًا، وكان يقول عن نفسه ويقول عنه أتباعه إنه نبي.

نعود إلى فيثاغورس فنقول إن أتباعه تغالوا في أهمية العدد؛ فأوقعوا الألف في مقابلة الواحد، والباء في مقابلة الاثنين إلى غير ذلك، وقالوا إن مبدأ الجسم هو الأبعاد الثلاثة، ومن أحكم أقوال فيثاغورس أن الإنسان بحُكم الفطرة واقع في مقابلة العالم كله، وهو عالم صغير، والعالم إنسان كبير (انظر بعد ذلك فلسفة سبنسر الاجتماعية (سوسيولوجيا) فإنه أخذ فيها في شرح هذه النظرية، وتطبيق أحوال الكائن الحي على المجتمع)؛ ولذلك صار حظ الإنسان من النفس والعقل أوفر، فمن أحسنَ تقويم نفسه وتهذيب أخلاقه وتزكية أحواله أمكنه أن يصل إلى معرفة العالم، وكيفية تأليفه، ومَن ضيَّع نفسه، ولم يَقُم بمصالحها من التهذيب والتقويم خرج من عِداد العدد والمعدود، وانحل عن رباط القَدَر والمقدور، وصار ضياعًا هملًا. وقال فيثاغورس في سياق نظرية الأعداد: النفس الإنسانية تأليفات عددية أو لحنية، ولهذا ناسبت النفس مناسبات الألحان والتذَّت بسماعها.

وجاء بعد فيثاغورس فلاسفةُ مدرسة إيليه، وهم بارمنيد وزينون دي كولفون، وتلاهم الفلاسفة الطبيعيون المحدثون وأولهم هيراقليط، وهو في طليعة الحركة الفلسفية التي اهتمت بتحول الأشياء، وتغيُّرها أكثر من اهتمامها بمادتها.

واشتغل بالسياسة وحرب الديموقراطية، وكان يقول بوجود الانسجام في وسط الفوضى، وكان هيراقليط يخالف بارمنيد.

ثم تلاهما أناكساجور، وهو من نوابغ القرن الخامس قبل المسيح، واشتغل بالفلك، ورصد الكواكب، وهو أول مَن علَّل الخسوف، وفضْله على فيثاغورس ظاهر؛ فقد تنبَّأ هذا الأخير بكسوف حصل في عهده، ولكنه لم يستطِع تفسيره، ولكن أناكساجور علَّل الخسوف والكسوف معًا، وأنكر ألوهية الشمس، واضطهده أهل عصره لأجل هذا، وقد سُمي أناكساجور حكيم الذرات (الذار)؛ لأنه قال بأن المادة وُجدت منذ الأزل على صورة ذرات غير مرتبطة، ثم تناولها العقل الأزلي، فنظَّمها ورتَّبها حتى أخذت أشكالها المرئية، وأشرنا إلى أن آراء أناكساجور بقيت صادقة إلى أن قال بها باسكال وليبنتز، ونقول إنه من عهدهما إلى الآن لم يُنقض رأي أناكساجور؛ فقد ثبت للعالم الحديث أن المادة مكونة من ذرات، وأن جزئيات المادة لا تدركها العين المجرَّدة لشدة صغرها، وأنها من نوع واحد لا فرق بينها. وقال علماء هذا العصر بنظرية الإلكترونات، وهي قريبة جدًّا من نظرية أناكساجور، ففضل أناكساجور على العِلم عظيم، وكلامه في أصل الوجود ينطبق على العلم الحديث، وهو راجع إلى رغبته في تعليل مبدأ الموجودات، فقال إن مبدأها متشابه الأجزاء، وهي أجزاء لطيفة لا يدركها الحس، ولا ينالها العقل، منها: كون الكون كله العلوي منه والسفلي؛ لأن المركبات مسبوقة بالبسائط، والمختلفات أيضًا مسبوقة بالمتشابهات، هذه النظرية التي انتحلها دروين، وأطلق عليها اسم Differenciation.

وهو أول مَن قال بالكمون والظهور حيث قدَّر الأشياء كلها كامنة في الجسم الأول، وإنما الوجود ظهورها من ذلك الجسم نوعًا وصنفًا ومقدارًا وشكلًا وتكاثفًا وتخلخلًا كما تظهر السنبلة من الحبة الواحدة، والنخلة الباسقة من النواة الصغيرة، والإنسان الكامل الصورة من النطفة، والطير من البيض، وكل ذلك ظهور عن كمون، وفعل عن قوة، وصورة عن استعداد مادة، وإنما الإبداع واحد، ولم يكن لشيء آخر سوى ذلك الجسم الأول. ولأهمية هذه النظرية القديمة أُلفِت نظر القارئ إلى كيفية تجديدها، ونشرها كأنها مستحدثة في الفصول الخمسة الأُوَل من كتاب «لغز الكون»، تأليف أرنست هيكل.

وقال أنكساجور إن الأشياء كانت ساكنة، ثم إن العقل رتَّبها، وقال إن المرتب هو الطبيعة. وظهر بعد أنكساجور الفلاسفةُ السفسطائيون (المغالطون)، وأشهرهم بروتاجوراس وجورجياس، ولهم آثار عظيمة في تكوين الفلسفة، وهم أول مَن قال بوجوب الشك، وعدم إمكان وصول الإنسان إلى معرفة الحقيقة، وقالوا بنسبية الأشياء، وعدم وجود المطلق في الحق والجمال والعدل وغيرها، وفضلُ هؤلاء الفلاسفةِ كائنٌ في أن فلسفتهم كانت حدًّا فاصلًا بين الفلسفة القديمة والحديثة، ولولاهم ما تمكَّن سقراط وأفلاطون وأرسطو من الظهور؛ لأن هؤلاء الثلاثة لم يقوموا إلا على أنقاض الفلاسفة المغالطين.

ثم ظهر سقراط وهو والد الفلسفة الحديثة اليونانية.

وكان عظيمًا بأخلاقه كما كان عظيمًا بفلسفته، وكان عظيمًا في موته كما كان عظيمًا في حياته، وقد أتينا على ملخص آرائه نقلًا عن أعظم مؤلفي الإفرنج أمثال زيلر مؤلِّف كتاب «تاريخ أقطاب الفكر في بلاد اليونان»، واعتمدنا على ما تلقيناه عن أستاذنا جوبلو أستاذ تاريخ المذاهب الفلسفية في كلية الآداب بجامعة ليون (١٩٠٩)، ولا ريب في أن اسم سقراط أعظم أسماء الفلاسفة السابقين لأرسطو، وهو أستاذ أساتذة هذا الأخير، ويوجد شبه بين سقراط وبين إبراهيم الخليل؛ فقد كان والد كلٍّ منهما صانعًا للتماثيل، وقد ترك كلٌّ منهما عبادة الأصنام، وتعلَّق بأهداب الحكمة، وتوصَّل بها إلى الإيمان، وربما كانت قصة الخليل مأخوذة عن تاريخ سقراط، وكان سقراط يعتقد أنه تسلَّم رسالته من الأرباب، وكانت صفاته صفات المصلحين الثوريين؛ فقد عاش في حياته عيشة نقية، ولم يتردد في مخاصمة جميع الأحزاب والفِرق في سبيل الحق ونشر مذهبه.

والفرق بينه وبين إبراهيم الخليل أن سقراط لم يقتنِ ثروة، ولم يقدِّم زوجته مرارًا بصفة كونها أخته للملوك ليحصل على قطعان الغنم والإبل.

ولقد لخَّصنا مذهبه الفلسفي تلخيصًا وجيزًا، ونقول إن سقراط لم يؤثِّر في الناس بفلسفته ليس إلا، بل أثَّر فيهم بشخصيته، ومن العجيب أنه لم يؤلِّف كتابًا، ولم يدوِّن سطرًا، ولكنه خلق رجالًا ألَّفوا آلاف الكتب. كتبَ لندسي (ص٩، ترجمة مؤلفات زينفون): «إن سقراط لم يترك أثرًا مدوَّنًا، ولكن زينفون وأفلاطون خلَّداه بما كتباه عن حياته ومذهبه، كما أن أريستوفان المؤلِّف الهزلي الذي هزأه في رواية «الغيام» لم يُنكِر أنه أعظم رجل في أثينا، وناهيك ببطل إحدى روايات أرستوفان المر القلم واللسان.» وبالرغم من أن سقراط لم يكتب فإنه أوجد أربعة مذاهب فلسفية كان لها أعظم شأن في العالم، أولها مذهب الميجار (ميغاره)، ومذهب سيرانيك (القوريني)، ومذهب سنيك (الكلابية)، وإذا نظرنا إلى كل مذهب من تلك المذاهب الثلاثة نرى أثرًا جليًّا من شخصية سقراط وفلسفته، وأهم منها رابعها وهو مذهب أفلاطون وما تشعَّب عنه، حتى فلسفة أرسطو نفسه، فإنها لم تكن إلا نقدًا للمذاهب المذكورة، وشرحًا لها، وتنقيحًا لما جاء فيها، وتطبيقًا لمبادئ العلم الصحيح على ما أنتجته قريحة سقراط، وتلاميذه الذين هم أساتذة أرسطو.

ثم نقلنا ملخَّص ما كتبه مؤرخو العرب عن سقراط وهم ابن أبي أصيبعة والقفطي والقاضي صاعد وغيرهم، وقد نقلنا هذا الملخص، ونسَّقناه على طريقة حديثة ليكون لذيذًا في مطالعته، ولكن الناظر إليه يدرك الفرق بين طريقة العرب وطريقة الإفرنج، ونحن لا ننتقص هؤلاء، فهم أجدادنا وأساتذتنا وبلغتهم نكتب، ومن فضلهم نغذي عقولنا، وقد غذوا أوروبا ذاتها بلبان العلم والحكمة منذ آلاف السنين، ولكن انظر ماذا جاء في كلامهم عن سقراط: مجموعة حكم وأمثال، وقد بالغ ابن أبي أصيبعة في التقصِّي، فنسب إلى سقراط شعرًا عربيًّا! وكل ما كتب عنه رواية عن حبسه وموته، وهو مشوَّه مختلط. ولم يفقه العرب معنى تهمة الثورة التي نُسبت إلى سقراط، ولا طريقة المحاكمة، ولا تنفيذ الحكم، ولا دفاع سقراط مع أنهم بدون شك، وقفوا على كتاب احتجاج سقراط على أهل أثينا، تأليف زينوفون Mem’orabilia وفي آخره دفاع سقراط، وهو من أبلغ ما نطق به لسان، وفيه أن ملتيوس وأنيتوس وجَّها إلى سقراط تهمتين؛ «الأولى عدم الاعتقاد بآلهة المدينة، ومحاولته تقديس سواها وترويج عبادتها، والتهمة الثانية إفساد أخلاق الشبيبة.» وكان سقراط لا يريد الدفاع عن نفسه، ولكن هير موجونيس صديقه الحميم توسَّل إليه أن يدافع، فدافع بعد أن سُمعت شهادة الشهود عليه، وكلهم شهدوا زورًا بإيعاز من المدعي العام أنيتوس، وقد دحض سقراط التهمتين بطريقته القياسية البديعة، وكان في كل جملة يرغم أنيتوس على التسليم بصحة قوله، ولكن الحكم كان مدوَّنًا قبل سماع الدفاع، والنية كانت معقودة على إعدام هذا الحكيم قبل الجلوس على منصة الأحكام، فلم تُفِده حكمته وبلاغته، ولكن مؤرخي العرب ذكروا أنه كان لليونان مَلِك، وأن هذا الملك تآمر مع القضاة الأحد عشر على قتل سقراط خفية، وأنهم سجنوه لهذه الغاية، وأنهم اتفقوا على تقديم السُّم إليه ليتقوا قتله علانية إلى آخر ما جاء في كتبهم من تغيير الحقيقة لعدم إدراك الأنظمة الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة في اليونان، ومن اهتمامهم بالقصص والأحاديث الطلية، وانصرافهم عن خلاصة الفكر الحقيقي، وعلى الخصوص لاكتفائهم بالرواية عن بعضهم، فإن ما تجده في كتاب تجده في عشرة غيره مع تحريف بسيط، بحيث لا يدري الإنسان أي المؤلفين نقل عن غيره؛ لأنهم — سامحهم الله — يأنفون ذكر المصادر، وهم هم الذين وضعوا عِلم مصطلح الحديث، وألَّفوا في صحة الإسناد، وأسسوا كتبهم على صدق الرواية، وملئوا كتبهم بأسماء الرواة مثل كتاب الأغاني، وكتاب العقد الفريد وغيرهما، والذي يدهش في بعض كُتُبهم عدم التحري؛ فإننا نقلنا عنهم أن سقراط مات بعد المائة، مع أن الثابت عن زينفون أنه مات حوالي السبعين من عمره.

هذا ما أردنا إيراده موجزًا عن سقراط، وسنفيه حقَّه من التاريخ والتمجيد عند نشر «جمهورية أفلاطون» التي أخذنا في نقلها إلى العربية من مدة طويلة، وكلها على لسان سقراط، فسنفرد له فصلًا قائمًا بذاته نذكر به ما تشتاق إليه النفوس من تاريخ أحكم الحكماء، وأعظم الرجال، وأسعدهم حظًّا.

على أننا لا نريد الانتقاص من قدْر كتَّاب العرب؛ فإننا نُجلُّهم، ونمجِّد ذكرهم؛ لأن لهم علينا وعلى الإنسانية فضلًا لا يُقدَّر، وكفانا اعترافًا بذلك أن كاتب هذه الأسطر قضى أكثر من عشر سنين في درس تاريخ الفلسفة العربية، وتدوين تراجم حكماء العرب، وتفصيل مبادئهم، وقد نشر من ذلك الكتاب تاريخ الكندي والفارابي وفلسفتهما (راجع مقتطف يوليو ١٩٢٠)، ولكن الذي يغيظ المنقطِعَ للدرس ما يلحقه من خيبة الأمل بعد طول العناء؛ فها نحن نقرأ كتاب «عيون الأنباء»، ونبحث ساعتين أو ثلاثًا، فنجد شعرًا جميلًا، ونثرًا بليغًا، وسجعًا مرصَّعًا، ولا نجد تاريخًا، ولا واقعة معينة، ولا اسمًا علمًا يُركن إليه، ونعثر بنبذ طويلة منقولة بحذافيرها من كُتب أخرى بغير إشارة إلى مصدرها، فإذا انتقلنا إلى غيره وجدنا مثل ذلك، هذا الذي يحرج الصدر، ويهيِّج السخط، وقد ذكر لنا الأستاذ سانتيلانا، أستاذ تاريخ المذاهب الفلسفية في الجامعة المصرية في ١٩١٣، أنه يُقلِّب عشرين كتابًا، ويقرأ مائة صفحة، ولا يدوِّن إلا سطرًا أو سطرين. على أن هذا لا يمنع الاعتراف بفضل كاتب جليل قنعَ بذكر المبادئ الفلسفية، وترك تفصيل التراجم لغيره، وهو الخالد الذكر أبو الفتح محمد الشهرستاني (نقول وإن أتقن النسخ التي بين يدينا هي المطبوعة في لندن ١٨٤٢) فيا حبذا!

لقد جئنا عن سقراط وفلسفته بالقدْر الكافي، ولخَّصنا مبادئه التي كان يقولها ويلقِّنها؛ لأنه كان يأنف الكتابة والتدوين، وقلنا إنه كان يعتقد بوجود الله، ويقول عنه: «إذا رجعنا إلى حقيقة الوصف والقول فيه وجدنا النطق والعقل قاصرَيْن عن اكتناه وصفه وتحققه وتسميته وإدراكه؛ لأن الحقائق كلها من تلقاء جوهره.» ويقول عن علم الله وقدرته وجوده وحكمته إنها بلا نهاية، ولا يبلغ العقل أن يصفها، ولو وصفها لكانت متناهية، ويقول إنه حيٌّ وناطق من جوهره؛ أي من ذاته، وحياتنا ونطقنا ليسا من جوهرنا؛ ولهذا يتطرَّق إلى حياتنا، ونطقنا العدم والدثور والفساد، ولا يتطرق ذلك إلى حياته ونطقه.

ومذهبه في أصول الأشياء ثلاثة؛ العلة الفاعلة، والعنصر، والصورة. وعن النفس الإنسانية يقول سقراط كما أسلفنا: إن النفوس كانت موجودة قبل وجود الأبدان إما متصلة بكلها أو متمايزة بذواتها وخواصها، فاتصلت بالأبدان استكمالًا واستدامة، والأبدان قوالبها وآلاتها فتبطل الأبدان، وترجع النفوس إلى كليتها. أما النفس الناطقة فجوهر بسيط ذو سبع قوى يتحرك بها حركة مفردة وحركات مختلفة، فحركتها المفردة نحو ذاتها، ونحو العقل، وحركتها المختلفة نحو الحواس الخمس.

وكانت له أقوال كثيرة في الحكمة بعضها ظاهر مفسَّر بلفظه كقوله الذي يُنسب إلى الإمام علي «لا تُكرِهوا أولادكم على آثاركم؛ فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم» (الملل والنحل، ص٢٨٢)، ولا ندري لماذا تلقينا هذه الحكمة في المدارس منسوبة إلى الإمام علي بتحريف بسيط، فهل قالها الإمام علي، وانتحلها لنفسه، أم رواها عنه معجَبٌ حسنُ النية، ولم ينسبها إلى مصدرها؟ أم هي كلمة من الحِكم التي ينسبها كتَّاب العرب إلى سقراط ولقمان وأرسطو وإدريس والإمام علي؟ وكان لسقراط أقوال كثيرة من قبيل الألغاز كان يستر وراءها أغراضه، وقد روى منها ابن أبي أصيبعة والقفطي والشهرستاني، وصاعد مقاديرَ كثيرة، فليرجع إليها مَن يشاء، وقال عنها الشهرستاني إن سقراط ألقاها إلى تلميذه أزخانس (يقصد زينوفون)، وإن زينوفون أو أزخانس حلَّها في كتاب فاذن (يقصد فيدون)، فنقول إن الذي بلغ إليه علمنا القاصر هو أن أزخانس أو زينوفون لم يدوِّن كتابًا باسم فاذن، وإن الذي كتبه هو أفلاطون، وهو إحدى المحاورات الخمس وثلاثين التي ذكرناها لدى الكلام على أفلاطون وأشخاصها أيشكراط وفيدون، ثم سقراط وأبولودوروس وسيبس وسيمياس وكريتون وهي محاورة محكَمة، أما العبارات التي يرويها الشهرستاني فهي نُبذٌ مفكَّكة كقوله: «اسكت عن الضوضاء الذي في الهواء، وتكلَّم بالليالي حيث لا يكون أعشاش الخفافيش.»

نقول، وبعد أن فرغنا من سقراط العظيم، انتقلنا للكلام على المذاهب الفلسفية التي تشعَّبت عن تعليمه، وذكرنا أهل مغارة نسبة إلى بلدهم، وأولهم أريستيب أو أرسطيفن المنسوب إلى برقة، وهي إحدى المستعمرات الأفريقية في أفريقيا، وذُكر اسم بلدة قورينا معرَّبًا مباشرة من الاسم اليوناني سيرانيك، وقيل إن قورينا في القديم هي رفنية بالشام عند حمص؛ ولذلك يسمونه أرسطيفن الرفني، وكان أتباعه يُعرفون بالقورينائيين نسبة إلى البلد، ويعرف له العرب كتبًا رياضية غير المبادئ التي ذكرناها، وفرقة أريستيب قد سُميت من اسم البلد الذي كان فيه الفيلسوف الذي يُكتب اسمه أريستيب وأرسطيفن وأرسطيس.

ومن أتباع سقراط أيضًا فرقة ديوجين، وتُعرف بالكلبية أو الكلابية، وسبب تسميتهم في الحقيقة نسبة إلى المكان الذي كانوا يجتمعون فيه، ولكن العرب قد شرحوا ذلك بأنهم كانوا يرون اطراح الفرائض المفترضة في المدن على الناس، ومحبة أقاربهم، وبُغض غيرهم من سائر الناس، وقال القفطي بغير حياء ولا حرمة للحكمة: «وإنما يوجد هذا الخُلُق في الكلاب.» وكل هذا الخلط جاءه من التسمية، ومن جهله باللغة اليونانية؛ فإن مكان الاجتماع اسمه سيتوسارج، وكلمة سينو باليونانية معناها كلب، فصارت نسبة إلى كلمة سينو، فسُمُّوا «سينيك لا لأن أخلاقهم تشبه أخلاق الكلاب، فتأمل جهل القفطي، وسوء الاستدلال، وغرابة التعليل.» ولما شمَّر القفطي عن ساعديه ليدوِّن فلسفة ديوجين وأتباعه وزعيمهم أنتستين، وكلهم تلاميذ سقراط قال: «كان أحدهم يتغوَّط غير مستتر عن الناس، وينكح في الطريق، ويقبِّل الحسناء من النساء قدام الجمع.» فأين هذه السخائم والسخافات التي اخترعها الذهن المريض لمناسبة تسمية أدى إليها الجهل من الحكمة العالية، والتواضع المعروف، والقناعة النادرة التي بثها ديوجين وأنتستين؟ أيُقال هذا عن ديوجين، وقد كان حكيمًا فاضلًا متقشفًا لا يقتني شيئًا، وهو الذي استدعاه الملك الإسكندر إلى مجلسه يومًا، فقال للرسول قل له إن الذي منعك من المسير إلينا منعنا من المسير إليك منعك عني استغناؤك بسلطانك، ومنعني عنك استغنائي بقناعتي. أيُقال هذا أيها القفطي عن ديوجين، وهو الذي سُئل عن العشق فقال: سوء اختيار صادف نفسًا فارغة (٢٣٣ شهرستاني).

ثم انتقلنا إلى إقليدس المغاري، نسبة إلى بلده مغارة أو مجيار، وقلنا إن أفلاطون فنَّد آراءه في «محاورة المغالط».

ثم تكلَّمنا على حياة أفلاطون بما ليس وراءه غاية على قدْر ما يطيقه مقتضى الحال، وهو أفلاطون الإلهي، وآخر المتقدمين الأوائل الأساطين، وكان تلميذ سقراط، ورأيه القول بوجود محدِث مبدع للعالم، واجب بذاته، عالِم بجميع معلوماته.

وتكلَّمنا عن رأيه في العقليات والمعاني والصور، ولمَّحنا إلى نظريته في المُثُل؛ فقد أثبت لكل موجود مشخص في العالم الحسي مثالًا موجودًا غير مشخص في العالم العقلي، ويسمي ذلك المُثُل الأفلاطونية، وهي ترجمة لكلمة Prototypes الإفرنجية؛ فالمبادئ الأُوَل بسائط، والمُثُل مبسوطات، والأشخاص مركَّبات؛ فالإنسان المركَّب المحسوس جزئي ذلك الإنسان المبسوط المعقول، وكذلك كل نوع من الحيوان والنبات والمعادن والموجودات في هذا العالم آثار الموجودات في ذلك العالم. وقال إن العالم عالمان؛ عالم العقل، وفيه المُثُل العقلية والصور الروحانية؛ وعالم الحس، وفيه الأشخاص الحسية، والصور الجسمانية كالمرآة المجلوة التي تنطبع فيها صور المحسوسات، فإن الصور فيها مثل الأشخاص، كذلك العنصر في ذلك العالم مرآة لجميع صور هذا العالم يتمثل فيه جميع الصور.
ويتفرَّع عن نظرية المُثُل الأفلاطونية أن النفوس الإنسانية متصلةٌ بالأبدان اتصالَ تدبيرٍ وتصرُّف، وكانت موجودة قبل الأبدان. ومن أقواله المأثورة: «إن النفوس كانت في عالم الذكر مغتبِطة مبتهجة بعالمها، وما فيه من الروح والبهجة والسرور فأُهبطت إلى هذا العالم حتى تدرك الجزئيات، وتستفيد ما ليس بذاتها بواسطة القوى الحسية، فسقطت رياشها قبل الهبوط، وأُهبطت حتى يستوي ريشها، وتطير إلى عالمها بأجنحة مستفادة من هذا العالم»،١ ومما هو جدير بالذكر أن أفلاطون يقول بالبعث والنشور والخلود والثواب والعقاب، ويُلحق هذا كله بأفكار شعرية جميلة بعيدة المدى، ولكنها غير منطبقة على المنطق؛ ولأجل هذا ضرب تلميذه أرسطو عرض الحائط بمعظم آرائه في المعنى والصور والمُثُل والبعث والنفس، ولكن فضل أفلاطون على الحكمة لا يُنكَر، ومن الغريب حرية فكره وتعصُّبه؛ فقد كان في جمهوريته يبيح أن يكون الملك والنساء شائعة، ولكنه يعاقب على الإلحاد بالسجن لمدة غير معينة، وقد نظم لمحاكمة الملحدين محكمةً أفظع من محاكم التفتيش، ولكنَّ «الله» سلَّم.

ثم انتقلنا إلى الكلام على أرسطو، وهو أكبر عقل رآه العالم في الأزمنة القديمة والحديثة بلا ريب، وبه ابتدأت الفلسفة العلمية، وإليه انتهت، ومَن كانوا قبله قد مهَّدوا له السبيل، ومَن جاءوا بعده إنما كانوا يأكلون من فتات مائدته، وقد سمَّوه المعلِّم الأول؛ لأنه واضع التعاليم المنطقية، ومخرجها من القوة إلى الفعل، وحكمه حكم واضع النحو، وواضع العروض؛ فإن نسبة المنطق إلى المعاني التي في الذهن نسبة النحو إلى الكلام، والعروض إلى الشعر، والمنطق ميزان لأذهان المتعلمين يرجعون إليه عند اشتباه الصواب بالخطأ، والحق بالباطل. وقال عن النفس الإنسانية مخالفًا أفلاطون إنها حدثت مع حدوث البدن لا قبله ولا بعده، وإنها تَهْلك بهلاك البدن، وإنه ليس هناك ثواب ولا عقاب، ولا بعث ولا خلود، وهذه الأقوال هي التي أدت إلى تكفير مَن قال بها من فلاسفة العرب الذين نقلوا حكمته مثل ابن رشد. ويمكن القول بحق إن باب الفلسفة الحقيقية قد أُغلق بعد أرسطو؛ لأنه قال كل ما يمكن أن يقوله إنسان.

وقد طبع الشيخ السيد علي الطوبجي كتاب السعادة في الأخلاق لابن مسكويه، وفي آخره ملخص جليل لمؤلفات أرسطو آثرنا نقله بِرُمَّته زيادةً في النفع؛ قال ابن مسكويه:

«إن الحكيم أرسطو هو الذي رتَّب الحكمةَ، وصنَّفها، وجعل لها نهجًا يُسلك من مبدأ وإلى نهاية كما ذكره بولس فيما كتبه إلى أنوشروان؛ فإنه قال: كانت الحكمة قبل هذا الحكيم متفرقة كتفرُّق سائر المنافع التي أبدعها الله تعالى، وجعل الانتفاع بها موكولًا إلى جِبلة الناس، وما أعطاهم من القوة على ذلك مثل الأدوية التي توجد متفرقةً في البلاد والجبال، فإذا جُمعت وأُلِّفت حصل منها دواء نافع، وكذلك جمع أرسطو ما تفرَّق من الحكمة، وألَّف كل شيء إلى شكله، ووضعه موضعَه حتى استخرج منه شفاءً تامًّا يداوي النفوس من أسقام الجهالة، وكان من ترتيبه ذلك أن نظر في جزأي الحكمة؛ أعني النظري والعملي، فوجد النظري فيها إما أن يكون في الأشياء التي في موادَّ، وإما في الأشياء التي ليست في موادَّ، وكل واحد من هذين القسمين ينقسم أيضًا قسمين؛ لأن الأشياء التي في موادَّ، منها ما هو تحت الكون والفساد، ومنها ما ليس تحت الكون والفساد، والأشياء التي ليست في موادَّ منها ما هو منتزَع في المواد، ووجوده في الوهم، ولا وجود له من خارج، ومنها ما ليس بمنتزَع من المواد، بل له وجود في ذاته خارجًا عن الوهم؛ فهذه الأربعة هي الأقسام الأُوَل التي ينقسم إليها الجزء النظري؛ ثم إن الأمور التي في المواد منها ما هو مشترَك لها كلها، ومنها ما هو خاص ببعضها؛ منها ما يخص الأشياء السرمدية، ومنها ما يخص الأشياء الكونية؛ وما يخص الكونية منها ما هو مشترك لها كلها، ومنها ما يخص بعضها؛ وما يخص بعضها منها ما يخص الأشياء التي فوق الأرض، ومنها ما يخص الأشياء التي في الأرض؛ وما يخص التي في الأرض منها ما يخص الأشياء التي لا نفوس بها، ومنها ما يخص الأشياء التي لها نفوس؛ وما يخص الأشياء التي لها نفوس منها ما يخص ذوات الحس، ومنها لا حس له؛٢ فصنَّف أرسطو في كل قسم من هذه الأقسام هذه الأشياء كتابًا، فاشتملت كتبه على جميع ما سطَّر فيه حسًّا عقلًا، ولم يَفُته شيء.

ولما كانت عنايته مصروفة إلى تصحيح الإرادة في هذه الأمور كلها، وإعطاء اليقين، والإقناعات الكافية فيها، وأن يَسلَم من الخطأ والغلط في المعقولات اضطُرَّ إلى أن يبحث عن مراتب الإقناعات، وينظر في الأشياء التي لا يمكن أن يغلط فيها، ولا يأمن أن يقع في باطل يظنه حقًّا، ويعتقد في حق أنه باطل ما هي مراتب هذه أيضًا، وجعل لها صناعة وقوانين يُوقف بها على مراتب هذه الأمور، ومنازلها من اليقين وغيره ليسدد الإنسان طريق الصواب في كل مطلوب لئلا يجري في الحكمة جري أصحاب المذاهب في التخيُّل والأهواء؛ فإن هؤلاء غلطوا وهم لا يشعرون، وربما شعروا وانتقلوا عن رأي إلى رأي، ولا يأمنون أن يسخ لهم في الرأي الثاني ما كان سخ في الأول؛ فهم أبدًا إما على غلط، وإما في شك وحيرة، فإذا عرف الإنسان الأشياء التي من شأنها أن يغلط فيها تحرَّز منها، وتيقَّن فيما أنه قد صادف فيه الحق، ولم يغلط، فإن تخيَّل له في شيء أنه يسهو فيه رجع إلى قوانين الصناعة، فعلم للوقت بموضع غلط إن كان فتلافاه بسهولة، ويمكنه مع ذلك أن يصحِّح ذلك الرأي لنفسه ولغيره، فإن بدَّله وتبيَّنه له، وهذه صناعة المنطق، وأقربُ مثال أجده لها في الصناعات العروضُ والنحو؛ فإن كل واحد منها يناسب المنطق بوجه، وذلك أن ها هنا أوزان من الشعر صحيحة، وربما غلط فيها، ولم يكن صاحب صناعة فظنَّها مكسورة، وربما ظنَّ بالمكسور منها أنها صحيحة، وإذا رجع إلى القانون الصناعي عرف موضع الشك، وقدر على ما يجب وتيقَّن موضع الغلط إن كان، وأصلح ما سها فيه، ويناسبه أيضًا صناعة النحو بوجهٍ آخر؛ وذلك أن نسبة صناعة النحو إلى الألفاظ كنسبة صناعة المنطق إلى المعاني، وكما أن النحو يسدد اللسان نحو صواب القول، ويعطي القوانين التي يُعرف بها الإعراب، فكذلك المنطق يسدِّد الذهن نحو صواب المعاني، ويعطي القوانين التي تُعرف بها الحقائق، وكما أن النحوي، وإن كان غرضه إصلاح الألفاظ، فإنه ينظر أيضًا في المعاني ليصحح بها المعاني، والنحوي ينظر في الألفاظ بالذات وبالقصد الأول، وينظر في المعاني بالعَرَض، وبالقصد الثاني؛ والمنطقي ينظر في المعاني بالذات وبالقصد الأول، وينظر في الألفاظ بالغرض وبالقصد الثاني؛ فقد تبيَّن غرض الحكيم في صناعة المنطق، وإن من جهل هذه الصناعة عرض له بالضرورة أنه لا يقف على صواب مَن أصاب كيف أصاب، ومن أي جهةٍ أصاب، ولا على سهوِ مَن سها أو غلط، كيف وفي أين سها أو غلط، وتحيَّر في الآراء؛ فمنها ما يصحِّحه من غير ثقة، ومنها ما يزيِّفه بغير بصيرة، ومنها ما يتوقف فيه لا يدري بماذا يحكم له، ثم لا يأمن فيما صحَّحه اليوم أن يُرد عليه في غدٍ ما ينقضه عليه، وتشكك فيه، وفيما زيَّفه أن يصحَّ عنده في وقتٍ آخَر، فينظر فيما هو عنده صحيح أنه يجوز أن يفسد، وفيما هو فاسد أنه يجوز أن يصحَّ، وعسى أن يرجع إلى ضد ما هو عليه في الأمرين جميعًا؛ إما لخاطرٍ يرد عليه من نفسه عن اعتقاده الأول، وإما برأي غيره، فإذا غرض مَن يدعي الكمال في العلم والثقافة بالجدل، ويصيره ببراعته لم يكن عنده ما يمتحنه به، وإما أن يحسن الظن به فيقبله، وإما أن يتهمه فيرده.

وليس يخلو في حالَيه من أشياء تَرِد على عقله فيوهمه في شيء أنه حق، وفي آخَر أنه باطل، والمنطق يدله على هذه المواضع، ويصحِّح له الصحيح، ويعلِّمه لمَ صار صحيحًا، ويزيف الباطل ويريه له لم صار باطلًا؛ فنحن مضطرون إلى تصحيح المعاني في أنفسنا بقوانين صناعية تنفي بما يحوطنا من الغلط، وإلى تصحيح الألفاظ التي تدل بالمواطأة على تلك المعاني لئلا يعترض لغيرنا ما يغلطه فيها، فكلا هذين يُسمى صناعة المنطق، إلا أن أحدهما ينظر فيه بالذات، والآخر بالعَرَض كما بينَّا. ولما تأمَّل أرسطو مراتب إقناعات النفس، وأراد أن يرتِّبها ويجعل لها قانونًا صناعيًّا ليتوصل بها إلى حقائق الأشياء، قسَّم ذلك كما قسَّم العلوم التي تقدَّم شرحُنا لها،٣ ونظر فإذا أنواع القياسات والأقاويل يُلتمس بها تصحيح رأي، ويُتوصَّل بها إلى حقيقة مطلوب، إما عند أنفسنا، وإما عند غيرنا تنقسم إلى ثلاثة أقسام؛ إما أن تكون صدقًا كلها، ويقينًا لا شبهة فيها، وإما أن تكون كذبًا كلها وشكوكًا، وإما أن تكون صادقة في البعض، وكاذبة في البعض الآخر، وهذا النوع الأخير ينقسم ثلاثة أقسام؛ إما أن يكون صدقه أكثر من كذبه، وإما أن يكون كذبه أكثر من صدقه، وإما أن يتساوى فيه الأمران، فصار جميع أنواع القياسات خمسة يقينية وظنونية ومغلطة ومقنعة ومخيلة، فصنَّف لكل واحد من هذه الأقسام كتابًا وعلم تناول هذه الطريقة بقوانين لا يمكن أحدًا أن يؤدي إلا خلاف جوهر الشيء المطلوب، ولا يمكن أحدًا أن يرجع عنه ولا يقع فيه تهمة ولا شك، وسمَّاه كتاب البرهان.

وأما القياس الذي هو كذبٌ كله فهو ما يخيل في الشيء أنه على صورة، وليس هو عليها بالحقيقة، ومثاله ما يعرض للعين عند النظر إلى المحسوس، وربما تخيَّل الإنسان في الشيء خيالًا فاسدًا، ثم يبادر إلى العمل بما يقتضيه ذلك الخيال، فتجيء الأفعال رديئة قبيحة، فصنَّف فيه كتابًا دلَّ على وجوه هذه التخيُّلات من أين يقع وكيف يقع، وسمَّاه كتاب الشعراء والصناعة الشعرية؛ وأما الذي صدقُه أكثر من كذبه فهو ما توجد قياساته من أشياء مشهورة ليست ذاتية ولا جوهرية للمطلوب، ولا بها قوامه فيلتمس الإنسان إبداع ظن قوي، إما عند نفسه، وإما عند غيره حتى يقع له وإن لم يكن يقينًا، فصنَّف فيه كتابًا ودلَّ على وجوه هذه الظنون وأنى تصدق، ومن أين، وكيف، وأنى تكذب، ومن أين، وكيف، وسمَّاه الجدل والصناعة الجدلية؛ وأما الذي كذبُه أكثر من صدقه فهو الذي يغلط فيتوهم فيما ليس بحق أنه حق، وفيمن ليس بعالم أنه عالم، وهذا الغلظ يكون على وجوه وعلى ضروب، فصنَّف كتابًا دل فيه على وجوه التلبيسات والتمويهات والأغاليط كيف تقع، ومن أين، وسمَّاه صناعة السوفسطائية، وهي الحكمة في اللغة اليونانية، مشتقة من سوف وهو الحكمة، ومن أسطيس وهو التلبيس والتمويه؛ فكان معناه الحكمة المموهة، وكلُّ مَن كان قادرًا على التلبيس أو التمويه، إما في نفسه بأن يُوهم أنه حكيم وليس بحكيم فهو سوفسطائي، وليس كما يظنه معلمو الإسلام أنه كان في الزمن القديم رجل يُقال له سوفسطا، وكان يدفع حقائق الموجودات، وأنه له شيعة ينصرون مذهبه، ويسمونه به؛ فإن هذا ظنٌّ لا أصل له، ولم يكن قط رجل فيما سلف يُقال له سوفسطا، ولا سُمي به أحد، ولا نصر هذا الرأي قومٌ بأعيانهم، وإنما يُنسب إلى صناعة الجدل، فيُقال جدلي ليس أن هناك رجلًا يُقال له جدل.

وأما الذي كذبه مساوٍ لصدقه فهو الذي يُلتمس به إقناع ما في أي رأي كان، وأن يسكن السامع إلى ما يُقال له ويصدِّق به تصديقًا ما، وهو دون الظن القوي، فصنَّف فيه كتابًا دلَّ فيه على وجوه هذه الإقناعات، ومن أين، وكيف تقع، وسمَّاه كتاب الخطابة، وهذه هي الكتب الخمسة المنطقية. لكن أرسطو لما نظر في القياس وجد منه ما هو مشترك بهذه الفنون، ومنه ما هو خاص بكل واحد منها، فعمل للقياس الأول العام المشترك لجميع الصناعات الخمس كتابًا سمَّاه كتاب القياس، وهذا الكتاب يوجد في النقل القديم أحدهما كتاب القياس، والآخر كتاب البرهان، وهو باليونانية أنولوطيقا الأولى، وأنولوطيقا الثانية، ثم نظر في القياس فإذا هو مركَّب من ألفاظ ومعانٍ، وأقل الأقاويل القياسية ما كان مركبًا من لفظتين لفظتين، وأقل المعاني القياسية ما كان من معقولين معقولين، وأكثرها غير محدود، وهذه الأقاويل المركبة من لفظتين أجزاؤها ألفاظ مفردة لا محالة؛ فبالضرورة انقسمت له الصناعة إلى ثمانية أقسام، ذلك على طريق التحليل، فلما سلكه على طريق التركيب بدأ بالألفاظ المفردة الدالة على أجناس المعاني المفردة، فعمل فيها كتابًا، وحصر هذه الألفاظ في عشرة أجناس من المعاني، ثم قسَّم كل واحد فيها إلى أنواعها، وسمَّاه كتاب المقولات، وهو المعروف بكتاب قاطيغورياس، ثم ثنَّى بكتاب ذكر فيه الأقاويل المركبة، وسماه كتاب بارمينياس؛ أي العبارة، وثلَّث بكتاب القياس الذي ذكرناه. فعلم فيه قوانين الأقاويل التي يبين بها القياسات المشتركة للصنائع الخمس، وسمَّاه أنولوطيقا الثانية فعلم فيه قوانين القياسات التي لا تغلط، ولا يمكن فيها ذلك وهي اليقينية.

وخمَّس بكتاب ذكر فيه قوانين القياسات المأخوذة من الأمور المشهورة، وكيف يكون السؤال أو الجواب على هذه الطريقة، وعلم فيه القوانين التي تتم هذه الصناعة على أفضل وأكمل ما يمكن، وسمَّاه طوبقا، وهو كتاب الجدل. وسدَّس بالكتاب الذي ذكر فيه قوانين هذه الأشياء التي يغلط عن الحق وغيره، وأحضر الأمور التي يقصدها المموِّه، وبيَّن الأشياء التي تُظهِر فسادها، وكيف يُتحرَّز منها، وسمَّاه سوفسطيقا؛ أي الحكمة المموهة. وسبَّع بكتاب ذكر فيه قوانين الأشياء المقنعة بالخطاب، وأحصى جميع ما يتم به هذه الصناعة ليكون الإنسان فيها أكمل وأنفذ، وسمَّاه ريطوريقا. وثمَّن بكتاب ذكر فيه قوانين الألفاظ المخيلة، وأحصى جميع ما يتم به هذه الصناعة، وقسَّمها إلى أنواعها وأصنافها، وسمَّاه بويطيقا؛ أي الشعر لتتم هذه الصناعة على هذه الأقسام. وكان غرضه الأول فيها القياس البرهاني، ولكن أوجبت القِسمة والترتيب ما ذكرناه، وأيضًا فإن الأشياء التي تُعرف بطريق البرهان يسيرة بالإضافة إلى ما يُعرف بالقياسات الآخر، فواجب أن يرتِّبها، ويعلم طرقها، وأيضًا فإن بعضها طرق البرهان، وبعضها تحميه وتذب عنه. أما الثلاثة التي في أوائل الصناعة فهي التي تؤدي إليه الأربعة الأخيرة هي التي يحامي عليه لئلا يشتبه به ما ليس منه، وأشرف هذه الكتب كتاب البرهان؛ لأنه المقصود الأول، فوقع في القسم الرابع بالضرورة كما ذكرنا فيما سلف، وباقي الكتب إنما عُملت إما مداخل إليه وتوطئات له، وإما حامية عنه. أما الثلاثة التي تقدمه فهي المداخل، وأما الأربعة التي بعده فهي التي تحرزه وتميزه وتحميه من الطرق التي يوهم أنها تؤدي إلى ما يؤدي إليه هو، ومع ذلك إذا قصد الإنسان أن يكون مجادلًا قويًّا، أو خطيبًا مصقعًا، أو شاعرًا مفلقًا نحا نحو ما يلتمسه، واقتنى من الكتب الذي صُنف فيه قوانين الصناعة ليصير بها في أعلى درجة منه، وأرفع رتبة فيه، وإن اقتصر إنسان على الكتب الأربعة كفاه ذلك في تعلُّم الحكمة وقراءة الكتب بعدها، وهي الكتب التي عددناها، وشرحنا قسمة الحكيم لها، فبدأ منها بالكتب التي من ذوات المواد، وهي من الأمور الطبيعية. وآخر الكتب التي في الأمور المجردة في المواد؛ إذ الطبيعيات محسوسة لنا وهي إلينا أقرب، ونحن لها آلف، وبها أعرف، ومنها يمكننا الترقي إلى ما بعدها، فصنَّف فيه كتابًا ذكر فيه الأمور المشتركة لجميع الأشياء الطبيعية ما كان منها تحت الكون، وما ليس تحت الكون، وسمَّاه السماع الطبيعي، وصنَّف كتابًا فيما يخص الأشياء التي ليست تحت الكون، وسمَّاه كتاب السماء؛ ثم قسَّم الأشياء التي تحت الكون، فعمل كتابًا فيما هو مشترك للأشياء ذوات الكون كلها، وسمَّاه كتاب الكون والفساد، وعمل كتابًا فيما يختص في الأرض مما له نفس، ولا حواس له، وسمَّاه كتاب النبات، وكتابًا فيما يختص بذوات النفوس، وله حواس، وسمَّاه كتاب الحيوان، ولما أراد أن يرتقي في الطبيعيات، وهي الأمور ذوات المواد إلى الأمور التي لا مواد لها، وجد بين هاتين المنزلتين أمورًا لها شركة في الطبيعية، وشركة فيما بعد الطبيعية، فعمل فيها كتابه في النفس، وكتابه في الحس والمحسوس، ثم عمل فيها بعد الطبيعة كتبه التي رسم عليها الحروف، وهي المعروفة بالألف ياء، وما بعدها؛ فمنها ما نُقل إلى العربية، ومنها ما لم يُنقل، إلا أن فيما نُقل غنًى كثيرًا، وكفاية تامة.

ولما عمل في الجزء النظري هذه الأعمال العظام، ونظمها هذا النظام كمل أيضًا في الجزء العملي هذا العمل بعينه، وذاك أنه قسَّم إلى ما هو خاص بالإنسان في نفسه، وإلى ما هو خاص بما كان خارجًا عنه، وهذا الثاني ينقسم إلى قسمين: أحدهما تدبير المنزل، والآخر تدبير المدن، فعمل في كل واحد كتابًا.

أما في ما يخص الإنسان بذاته فكتابه في الأخلاق، وهو كتاب عظيم جدًّا، كثير المنافع، يعلِّم كيف يكتسب الإنسان هبة فاضلة، وسجية محمودة يصدر عنها الأفعال الجميلة، والأعمال المرضية، وأما كتبه في تدبير المهن والمدن فلم ينقل إلى العربية إلا ما وُجد من كتابه في تدبير المدن، وهو مقالنا، وقد ذكرت في فهرست كتبه، وله بعد هذه الكتب رسائل وكتب سمَّاها التذاكير، وهي كثيرة على ما يُذكر، ويُحكى في فهرست مصنفاته، وله كتب في التعاليم، ولم يُنقل منها شيء إلا أن في النظام الذي خرج إلى العربية والترتيب الذي رتَّبه غنًى عظيمًا، وراحة تامة لمن أحب أن يكمل ذاته، ويتوجه إلى مقصده ليصل إليه بسرعة. فأما مقدار الزمان الذي يُفرض لمن أراد تعلُّم الحكمة على ما رتَّبه هذا الحكيم المحسن إلينا، المنعم علينا، فعلى مقدار عنايته واهتمامه ومعونات الاتفاق إياه؛ أعني بها أن يكون ذكيًّا حفوظًا واجدًا للكتب، والأستاذ الفاتح، والكفاية في المعيشة لئلا يشتغل بها عما يقصد؛ فزوال العائقات التي لا يحتسبها الإنسان في عوارض الدنيا وهمومها، وأمراض النفس والبدن واجتماعهما، وحذر العوام مرة، والسلطان أخرى، ومراقبة أهل البلد؛ فإن الناس كما يقول القائل أعداء ما جهلوا، ومن شأنهم الوقيعة في أهل الفضل، ومعاداة كلَّ مَن خالفهم في مذاهبهم وأغراضهم، وقصد بكل مكروه وأذى،٤ فإذا سلم من هذه العوارض، وكانت القريحة والأسباب التي ذكرناها مجتمعة له، فما أقرب وصوله إلى بغيته، وراحته من تعب أبناء جنسه، وظفره بالكنوز التي زُخرت، ومدة ذلك على التقريب ما بين عشر سنين إلى عشرين سنة.
وهذا إذا شغلته الدنيا بعض الشغل، فإنه لا يجوز أن يُظن بإنسان أنه ينفرد وينكمش على العلم، ولا يجعل لبدنه راحة، ولنفسه حظًّا من اللذات فيما يحسن ويجمل، ولو تعاطى ذلك لخسره أو انقطع دون غايته، وقد رأى بعض أصحاب أرسطو ومدرسي كتبه أن يبتدئ المعلم لها بكتب الأخلاق٥ لتتهذب نفسه، وتصفو من كدر الشهوات، ويخف عنها انفعال عوارضها، فتتمكن من قبول الحكمة، ويعترف بعض الاعتراف بترك الانهماك في الشهوات، وهجران الملاذ الجسمية، ويعلم أن أكثرها خساسات ورذائل فيتنزَّه عنها، ثم ينظر في شيء من التعاليم ليعرف طريق البرهان، ويتدرب بها، ويأنس بطرقها، ويترك الإيغال فيها إلى وقت آخر؛ فإن بين يديه غرضًا بعيدًا، وشوطًا بطيئًا. ثم ينظر في المنطق الذي هو آلة في جميع ما يقصد، ثم ينظر في الطبيعيات وما بعدها على الترتيب الذي تقدَّم، فإذا وصل الإنسان إلى المرتبة الأخيرة اطلع على حقائق الموجودات، ونزَّلها منازلها، وتصورت نفسه بها، فإذا تصورت النفس بحقائق الأمور عقلها عقلًا تامًّا، فإذا عقلها تصوَّر بالصور العقلية، وزالت عنه رسوم الأعراض التي في الأمور الطبيعية؛ أعني الأشياء الدائرة، وحصلت صور الأشياء العقلية السرمدية، واتحد بها العقل، فصارت هي وهو شيئًا واحدًا، ومن شأن العقل أن يصير جزؤه كلًّا كما يتبين ذلك له إذا وصل إليه، فإذا فارقت نفسه بدنه انتقل إلى الوجود الثاني٦ الذي هو غايته الأخيرة، وكماله الأقصى، وهذه الحالة عسرة التصوُّر جدًّا، بعيدة فيما نشاهده ونعتاده، ولا يمكن النطق بها، ولا يسعها إلا بالطريق الذي يصل إليه مَن سلكه على الجادة التي بيناها، وإذا مثلت بالأمثال المحكية لها مما اعتدناه وألفناه عرضت في الأمثلة مناقضات ومحالات؛ لأجل أن المثال ليس من الممثل في شيء؛ فلذلك عدلَ عن ذكره، وقد عملت فيه على كل حال كل ما اجتهدت فيه أن يلوح منه أجلى ما يمكن.» انتهى كلام ابن مسكويه في كتاب السعادة.

•••

تُوفي أرسط أو أرسطو في ٣٢٢ق.م.، وبوفاته انقطع حبل الفلسفة، وارتج باب الحكمة، ولدى موته كان زينون مؤسس الفلسفة الرواقية في الرابعة عشرة من عمره؛ لأنه وُلد كما أسلفنا في ٣٣٦.

وقد تلقَّى العلم على أتباع الكلابيين، واختار من مذهبهم حُبَّ الطبيعة، والدعوة إلى العودة إلى رحابها، والاقتداء بها، والاستسلام إلى أنظمتها، وكان زينون مفكرًا عميقًا، ولو أنه وُجد قبل أرسطو وأفلاطون لكان له شأن يُذكر، لكن ظهوره بعد هذين الحكيمين يقلِّل كثيرًا من قدْره.

ومن دلائل فطنته وعلوِّ كعبه معارضتُه لآراء الحكيمين في الروحانيات، ودحضه ذلك، وقولُه إن سائر الأشياء مكونةٌ من عنصر واحد وهو الجسم أو الكيان المادي الظاهر، وهذا رجوع إلى المادية الأولى، وإحياء لطبيعيات هيراقليط. وقال إن العالم والسماء من حين إلى حين يهلكان، ثم يتجددان، واستعار من أتباع فيثاغورس القول بأن التاريخ يعيد نفسه، وهذه نظرية استعارها فردريك نيتشه، وسبكها في قالب جديد، ولم ينسبها إلى صاحبها، وينشأ عن القول بأن التاريخ يعيد نفسه التسليمُ بالقضاء والقدر بأكمل معنى؛ لأنه ما دام تكرير الحوادث على نسق واحد معيَّن أمرًا محتمًا، فكل حوادث الحياة إذًا لا بد واقعة كما سبق تنظيمها بإرادة الأقدار، وفي هذا المبدأ ما انتحلته بعض الأديان، وسارت عليه مستسلمة «مسلِّمة أمرها لمن بيده الأمر»، وسنرى بعد برهة تأثيرَ فلسفة الرواقيين في الأديان، فإن مذهبًا أساسه الاعتراف بكون الإنسان مسيَّرًا لا مخيَّرًا لا بد أن يجد قبولًا لدى أرباب الأديان وأنصارها والمتَّكلِين عليها، أما رأي زينون في الإلهيات فظاهر أنه مادي؛ لأنه يقول بأن الله «جسم» يملأ الكون كله، ويبعث فيه القوة والحياة، ومَثَلُ انتشار الدَّسم في وعاء اللبن الذي يضربه المتصوفون لتقريب معنى وجود الله في الكون أمرٌ معلوم، ولم يكن ليخفف وقع هذا الاستسلام الفلسفي إلا القول بأن العالم مخلوق بمنتهى الكمال والخير، وأن غايته سعادة المخلوقات وخيرها، وقد انتحل هذا الرأي ليبنتز بعد الرواقيين بعشرين قرنًا، وروى عنه الشهرستاني (ص٢٩٢) أن العوالم تتجدد في كل حين ودهر، وما كان منها مشاكلًا لنا أدركنا حدود وجوده ودثوره بالحواس والعقل، وما كان غير مشاكل لنا لم ندركه. وقال: إن الموجودات باقية دائرة، فأما بقاؤها فبتجدد صورها، وأما دثورها فبدثور الصورة الأولى عند تجدد الأخرى. ا.ﻫ. كلام الشهرستاني.

أما نسبتهم إلى الرواق؛ فلأن زينون اتخذ مدرسته في رواق مدهون بالألوان اسمه باليونانية Stoa Poikile كما تسمَّى تلاميذ أفلاطون بالمشائين نسبةً إلى مكان مدرستهم، وصار اسم الرواقيين عَلمًا على الاستخفاف بالآلام، وعدم الاكتراث للذة والأذى، وقد سارت هذه الكلمة وصفًا في كل اللغات الإفرنجية على تحمُّل الألم، فيُقال: «تحمل الشدائد بشجاعة رواقية.» ولا أعرف لهذا الوصف استعمالًا في اللغة العربية. وقد رُويت عن زينون أقوال تدل على تلك الحال النفسية التي مصدرها الاستسلام للقضاء والقدر؛ قيل له: إذا مُتَّ مَن يدفنك؟ قال: مَن يؤذيه نتنٌ جيفتي، ونُعي إليه ابنه فقال: ما ذهب ذلك عليَّ إنما ولدت ولدًا يموت، وما ولدت ولدًا لا يموت، وقال: محبةُ المال وتد الشر (ويكاد هذا يكون رأيًا مسيحيًّا).
وكانت مبادئ الرواقيين تعارض مذهب أبيقور عابد اللذائذ، قلت: إن فلسفة الرواقيين نالت حظوة الأديان، وضربنا مثلًا بالتوكل والاستسلام، ولكن ذلك لم يكن الوجه الوحيد الذي جمع بين الرواقية والأديان، إنما هناك رابطة أخرى وهي أن زينو استعار من هيراقليط الاسم الذي وضعه عَلمًا على الله، وهي Logos أو لوغوس، ومعناها الكلمة، وكان زينو يقول إن المبدع الأول كان في علمه صورة إبداع كل جوهر وصورة دثور كل جوهر؛ فإن علمه غير متناهٍ، والصور التي فيه من حد الإبداع غير متناهية، وكذلك صور الدثور غير متناهية، فكأن زينون يقول بازدواج المبدع الأول، وظهور ذلك في العقل الخالق أو الفعال، وفي المادة القابلة للتشكيل، أما كلمة Logos اليونانية فمعناها الكلمة؛ ولذا جاء في الأصحاح الأول من إنجيل يوحنا: «في البدء كانت الكلمة (لوغوس)، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس!» فتأمل كيف أن رأي هيراقليط ورأي زينو اتفقا بعد عدة قرون مع الكتب المنزَّلة المقدَّسة، وقد قرَّر هذا الرأي ووضَّحه المؤرخ العالم و. بن في كتابه: تاريخ الفلسفة القديمة، ص١١٤.

نقول وبعد زينون جاء كليانت، وكان شديد التديُّن، ونظم صلاة نقلنا معظمها إلى العربية في عرض الكلام عليه، وقد أدى به تشدُّده في الدين إلى التعصب الأعمى، فأمر بقتل أريستارخوس العالم الطبيعي لقوله بدوران الأرض حول الشمس، وحدث مثل هذا بعد مئات السنين على أيدي رجال الدين لجاليليه وسيرفيه وبرونو وغيرهم كثيرون، وجاء بعده خريسبوس، وعاش عيشة الحكماء، وبسط الفكر الفلسفي جهد طاقته.

ثم إن المذهب الرواقي اشتهر وانتحله الرومان الذين تغلبوا على اليونان، وظهر ثلاثة فطاحل لهذا المذهب هم: سنيكا، ومارك أوريل، وأبيكتت.

أما سنيكا فقد درست تاريخ حياته ومبادئه مذ كنت أَعُد المواد لرواية نيرون التي مُثلت في القاهرة في عام ١٩١٩، وأظن أن أبلغ وأوفى ما كُتب عنه ما ورد في كتاب تاسيت وسويتون المؤرخَيْن الرومانيَّيْن، والمعلوم من حياته أنه نُفي من روما على عهد كلوديوس إلى أن ردته أجريبينا إلى وطنه بعد أن قتلت زوجها كلوديوس بالسُّم، ووكلت إليه أمر تربية ولدها نيرون، وكانت رُزقت به (ورُزئت به الدنيا) من زوجها الأول إينوباربوس، وكان سنيكا صديقًا حميمًا للقائد بوروس الذي شاركه في تدريب العاتية الغشوم وهو في صباه، ويظهر أن سنيكا كان دسَّاسًا أكثر منه حكيمًا؛ فقد اشترك في كل المؤامرات التي تمت في قصر نيرون له وعليه، واتهمه نيرون أخيرًا بالاشتراك في مؤامرة غايتها خلع نيرون، وتولية سنيكا مكانه، ولم يشأ نيرون أن يقتل سنيكا جهارًا، فاكتفى بأن أمره بقتل نفسه؛ ففعل، وجاء في تاريخ تاسيت عن موته في الجزء الأول صحيفة ٥٠٢ ما يأتي:

لما بعث إليه نيرون بالجند مزودين بأمر الانتحار، قال لأصحابه الذين كانوا حوله: ترون أيها الرفاق عجزي عن شكركم، إنني أترك تاريخ حياتي نموذجًا تنسجون على منواله، وهو أثمن ما لدي فاعتزُّوا به، لقد حاولت أن أكون مثال الفضيلة والصداقة والإخلاص، فبكى الحاضرون وهموا بتقبيله، فقال لهم: أين مبادئ الفلسفة؟ وأين تعاليم الحكمة؟ ألم تتعلموا بعدُ كيف تَلقَون المصائب بصدر رحب، وعزم ثابت، ونفس مطمئنة؟! هل كانت قسوة نيرون مجهولة لديكم؟ لقد قتل أمه وأخاه (ونسي الحكيم أن نيرون اشترك مع أمه أجريبين وآخرين في قتل زوج أمه كلوديوس، وكانت هذه فاتحة عهد المذابح)، ولم يبقَ له إلا أن يقضي على أستاذه ومشيره، ثم ضم زوجته إلى صدره، وقبَّلها قُبلة الوداع، ثم أمر ففُتحت شرايينه، فلم تقطر دمًا، فأعدوا له جرعة من الساج (مثل التي شربها سقراط) فقال وهو في النزع: وا فرحتاه! إنني أموت بالكأس التي مات بها سقراط! وأمر خدمه فنقلوه إلى حمَّام البخار، فأخذ يرش أرقاءه بالماء، ويقول: ها أنا أتوضأ إكرامًا للمشتري إلهي ومنقذي من آلام الحياة. ا.ﻫ. كلام تاسيت.

وهذه النبذة الجميلة البليغة التي نقلناها عن تاسيت (وهو في نظري أعظم مؤرخي الرومان، وأعظم مؤرخي الأقدمين ما عدا هيرودوت وبلوطارح وهما في صفِّه) تعطينا صورة ناطقة لموت سنيكا، ولكنها تدل على معنى المذهب الرواقي كقوله: «أين تعاليم الحكمة؟ ألم تتعلموا كيف تقلوَن المصائب بصدرٍ رحب، وعزمٍ ثابت، ونفسٍ مطمئنة؟»

وكان سنيكا إسبانيًّا (أي من أبناء المستعمرات بالنسبة للرومان) وُلد في العام الثالث للمسيح، ومات في سنة ٦٥ب.م على دين آبائه وأجداده، ونحن لا نريد الانتقاص من قدْره بقولنا إنه كان دسَّاسًا أكثر منه حكيمًا، ولكن يظهر أن حياته السياسية اقتضت إغفال الحكمة والتضحية بها في سبيل مظاهر الحياة، وحب النفوذ حتى إنه حاول في نهاية أمره أن يكون قيصرًا رومانيًّا، وهذه الفكرة الجنونية لم تخطر ببال أحد من الحكماء.

أما إيبقت أو إيبكتت ومعناه «المشترى بالمال»، وليس هذا عَلمًا، ولكنه يشبه اسم «عبد الخير» في عُرفنا لما كان الرقيق مباحًا، هذا الحكيم المسكين الذي لم يستفِد من الدنيا شيئًا حتى ولا اسمًا يُعرف به غير وصف الرِّق والابتياع، كان رقيقًا لرجل من أخبث الناس، وأرذلهم، وأقبحهم ذكرًا في التاريخ، وهو المعتوق إيبافروديت، وقد درسنا حاله أيضًا في كتاب تاسيت، وكان إيبافروديت هذا رقيق نيرون، وصحِبه طول حياته، وسهَّل له كل الجرائم حتى جريمة الانتحار التي قضى بها على نفسه، فتأمَّل أيها القارئ اللبيب كيف أن بلاط نيرون أعظم الظالمين، وأشد الطغاة بغيًا، خرَّج فيلسوفَيْن معروفَيْن، هما سنيكا وإيبقت، وكان المسكين أعرجَ، ولعل عرجه نتيجة ضربة من إيبافروديت اللعين، وقد دفع به الظلم والأذى إلى أن يلتمس تفريجًا لكروبه في درس الفلسفة الرواقية التي تُعلِّم احتمالَ المصائب، ولقاءها بصدرٍ رحب، وبلغ منها الغاية فصار شبه أستاذ إلى أن طرده دوميتيان الإمبراطور في سنة ٩٠ب.م. مع جميع الفلاسفة؛ لأنهم ضايقوه بمبادئهم التي تقاوم ظلمه (العفو يا صاحب الجلالة) فلجأ إلى نيكوبوليس، وأخذ يعلِّم الحكمة، وهو في غاية الفقر، ولكنه بعد موته لم يعدم غنيًّا متهوسًا محبَّا للظهور، اشترى مصباحه الذي كان مصنوعًا من الفخار (مسرجة) بثلاثة آلاف دراخما (نحو ثلاثة آلاف فرنك) كما يصنع أغنياء الأمريكان لعهدنا في اقتناص آثار العظماء، وكان الحكيم الأعرج المريض الفقير أولى بها يقوم أَوَدَه في حياته، ولم يدوِّن شيئًا، ولكن تلميذه فلافيوس أريانوس كتب عنه كل مبادئه في كتابين رأينا لهما ترجمة إنجليزية في ستة أجزاء بقلم إليزابث كارتر، وخلاصة فلسفته استسلام الإنسان للألم، وتوطيد النفس عليه، وقوله بأن إرادة الإنسان فوق كل شيء، وهي التي تؤدي إلى سائر الأعمال، وأن جميع الناس أبناء الله، والمثل الأعلى للحكمة في نظره سقراط وديوجين الكلابي.

أقول: وأول ما علمت شيئًا عن إيبقت ما قرأته من الحِكَم والمواعظ التي اقتبسها جون لوبوك وزيَّن بها كتبه «سعادة الحياة» و«منافع الحياة» حتى يمكن القول بأن جون لوبوك كان تلميذًا لإيبقت في العصر الحديث، وإيبقت واضع مَثَل «احتمل واصفح»، وفيه ما فيه من نصائح المسيحية المكرمة، وإذا صحَّ ظني كان تولستوي من أتباع إيبقت، وبالجملة كانت فلسفته فلسفة استسلام وعدم مقابلة الشر بالشر، وتعميم الحب، ولم أرَ أحدًا من حكماء العرب أو كتَّابه قد اعتنى بآراء هذا الحكيم الذي لا يشبهه في حكمته وشقائه إلا أيثوب الذي كان رقيقًا وفيلسوفًا، وكتابه العيون اليواقظ، الذي انتحل معظمه لافونتين، ونقله محمد عثمان جلال نظمًا، معروفٌ ومتداول.

أما مارك أوريل الذي عاش ومات في القرن الثاني للمسيح، فكان قيصرًا حكيمًا، وقد شبهناه بالقديس لويس والملك أرتور الإنجليزي، وفي التشبيهين مبالغة؛ لأن أرتور كان متدينًا جدًّا، ولويس كان مجاهدًا في سبيل دينه، أما مارك أوريل فقد كان حكيمًا بحق، وقد أنشأه أبوه على الحياة البسيطة، واحتقار زخارف الحياة، وعلَّمه تحمُّل الشدائد، واختار له أفضل الأساتذة.

ولما تعيَّن قنصلًا فإمبراطورًا حارب للدفاع عن مملكته، وكان قائدًا قديرًا، ومكللًا بالفوز، حسن الإدارة في مُلكِه، واتبع الحكمة في الابتعاد عن أنواع الفساد، ونشر العدل في بقاع الأرض، وسنَّ القوانين لحماية الضعاف، وتخفيف مصائب الأرقاء، وعيَّن ذاته وصيًّا على الأيتام، ومنع الظلم عن الولايات، ومات على دين أجداده.

وبين يدينا كتابه الموسوم بالكتاب الذهبي، وهو مقسَّم إلى اثني عشر كتابًا، الأول خاص بذاته، وذكر مَن استفاد منهم، وبقيته تأملات ونصائح وخواطر سانحة في الخير والسعادة والحق وقواعد الحياة، وقد نقلت هذه الكتب إلى عدة لغات، وأفضل ما رأيت عنها ما دوَّنه إرنست رينان في المجلد السابع من تاريخ المسيحية، وهو خاص بعهد مارك أوريل ومبادئه (طُبع ١٨٨٢).

ثم تكلمنا عن مذهب المشككين أو المرتابين٧ وزعيمهم كارنياديس الذي بالغ في التشكيك إلى درجة القول بعدم التأكُّد من العلم بشيء على الإطلاق، وهذا قول قديم سبقه إليه أرسطفن القوريني أو الرفني الذي قال إن العلم بالحوادث إنما يصلنا عن طريق الإحساس، وهو نتيجة التأثُّر بالأمور الخارجة عنَّا، ولما كان الإحساس لا يشبه تلك الأمور الخارجة حتمًا، فلا يمكن أن نعلم الأمور الخارجة علم اليقين، وكان همهم محاربة فلسفة اللذائذ الأبيقورية، ويمكن القول بأنهم كانوا فلاسفة وسطًا بين الرواقيين والأبيقوريين.

ثم بسطنا الكلام على أبيقور بقدر ما وسعه المجال، وقد اهتم به العرب، فقال القفطي: «إن شيعة أفيقووس ويسمون أصحاب اللذة؛ لأنهم كانوا يرون الغرض المقصود إليه في تعلُّم الفلسفة اللذة التابعة لمعرفتها.» وهذا خطأ فاضح لا يقترفه إلا جمال الدين. وقال الشهرستاني وهو أقرب إلى الحقيقة إن رأي أبيقورس خالف الأوائل في الأوائل (تورية لطيفة)، فقال: المبادئ اثنان؛ الخلاء والصورة، وأما الخلاء فمكان فارغ، وأما الصورة فهي فوق المكان والخلاء، ومنها أُبدعت الموجودات، وكل ما كُوِّن منها فإنه ينحل إليها؛ فمنها المبدأ، وإليها المعاد، وربما يقول الكل يفسد، وليس بعد الفراق حساب ولا قضاء، ولا مكافأة وجزاء، بل كلها تضمحل وتدثر (ليس في الأمر «ربما» إنما هذا هو رأي أبيقور بالتأكيد).

والإنسان كالحيوان مُرسَل مُهمَل في هذا العالم، والحالات التي تَرِد على الأنفس في هذا العالم كلُّها من تلقائها على قدْر حركاتها وأفاعيلها، فإن فعلتْ خيرًا وحسنًا فيَرِد عليها سرور وفرح، وإن فعلتْ شرًّا وقبيحًا فيَرِد عليها حزن وترح، وإنما سرور كل نفس بالأنفس الأخرى، وكذا حزنها مع الأنفس الأخرى بقدْر ما يظهر لها من أفاعيلها (شهرستاني ص٢٩٧).

ولا حاجة بنا لتلخيص الأفلاطونية المستحدَثة لقرب عهد القارئ بها.

وهذا ختام ما أردنا ذكره من فلسفة اليونان، وذكر علمائهم الذين علمونا كيف يفكر الإنسان، ولفتونا إلى أصل العالم، ونبَّهونا إلى غايتنا من الحياة، وفتحوا لنا نافذة تطل على فضاء الموت، وهذا منتهى الحكمة الإنسانية!

١  هذا يذكِّرنا بقصيدة ابن سينا التي مطلعها:
هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاء ذات تعزُّز وتمنُّع
فليراجعها مَن يشاء.
٢  راجع كتاب السعادة، تأليف ابن مسكويه، طبع سنة ١٩١٧ الذي ذكرناه في [خاتمة وخلاصة ما تقدم].
٣  كتاب السعادة تأليف ابن مسكويه، طبع بمصر سنة ١٩١٧، وهو الذي ذكرناه في [خاتمة وخلاصة ما تقدم].
٤  تُعد هذه النبذة من أبلغ وأحكم وأصدق ما كتبه حكيم في وسائل تحصيل العلم، وهي تصدق على كل الناس في كل زمان ومكان.
٥  قال هذا ابن مسكويه؛ لأنه حكيم أخلاقي، راجع كتابه «تهذيب الأخلاق»، وحقيقة الواجب هو الابتداء بالمنطق.
٦  هذا ما لم يقل به أرسطو من انتقال النفس إلى الوجود الثاني، بل قال بهلاك النفس بعد الموت؛ أي إنه لم يقل بالخلود.
٧  [الفلسفة بعد آرسطو (الرواقيون) – السينيك المشككون أو «المرتابون»] من هذا الكتاب، وقد ورد اسمهم خطأ «سنيك» وصحته «سبتيك» كما ورد قبل ذلك وبعده في عدة مواضع من هذا الكتاب، والخطأ مطبعي محض فنرجو المعذرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤