الإنسانية والتقدم

تأثير الفلسفة اليونانية في العالم
وُجدت في أماكنَ متفرقةٍ عظامٌ مهولة، وهي عظام الفيلة الأولى التي انقرضت (ماموث)،١ وعظام الحيوان الذي انقرض أيضًا، وأطلق عليه كوفييه العالِمُ الطبيعي الفرنسوي مؤلِّف كتاب «عالم الحيوان» وغيره اسم «مستودنت»؛ أي ذا الأسنان الحلمية.
وهذه العظام وغيرها من الآثار الحيوانية والنباتية التي أطلق عليها علماء أوروبا وصف Fossile، ويمكن تسميتها بالعربية أحافير كانت معروفة منذ خمسة وعشرين قرنًا عند اليونان؛ فقد قال عنها زينوفون الحكيم الإغريقي مؤسس الفلسفة العقلية (التي ظهرت مبادئها في مدينة إيلية اليونانية القديمة، ونُسبت إليها) إن هذه الآثار وتلك العظام هي بقايا حيوانات ونباتات كانت حية في الماضي، واستنتج من وجود أصداف بحرية في رءوس الجبال، ومن انطباع صور السمك والفقم في أحجار مقالع أزمير وسرقوصة، أن تلك الأماكن كانت مغمورة بالمياه.
فإذا وجب ردُّ كل شيء إلى مصدره حق على العالم أن يعترف بأن زينوفون٢ الإغريقي هو واضع علم البالنتولوجيا أو الأحياء الأولى، وإذا كان الفضل يرجع إلى كوفيه في تنظيم مبادئ هذا العلم في القرن التاسع عشر بعد أن اتسع نطاق المعارف الإنسانية، فإن الفضل الأول راجع إلى العالم الذي عاش قبل كوفييه بأربعة وعشرين قرنًا.
كان الناس في العصور الوسطى يحسبون هذه العظام المهولة أنها بقايا من طوائف الجبابرة البشرية الذين كانوا يعيشون على سطح الأرض قبل الإنسان، كما كانوا يحسبون أحجار السليس Silex التي وُجدت في أنحاء أوروبا قطعًا هابطة على رءوسهم من السماء، ويسمُّونها حجر الصاعقة، وقد ثبت من أبحاث العلماء أن تلك الأحجار المنظمة التي وُجدت في مجاري الأنهار، وفي جوف المغاور بين طبقات متكدِّسة من الطمي والكلس وغيرهما من العناصر الحجرية لم تهبط من السماء كما هبطت الأرواح من المحل الأرفع، إنما هي أدوات كان الإنسان صنعها واستعملها في شئونه في العصر الحجري.٣

وإن في هذا الأمر لعبرة كبرى؛ فإن بعضنا يظن أن الحقائق العلمية التي تظهر في جيل من الأجيال تصبح ملكًا عامًّا شائعًا للإنسانية فتتلقفها الأجيال المتتالية، ويتوارثها الناس بالتعليم والتلقين فلا تضيع، بل تصبح جزءًا من الثروة العقلية التي تنمو بالإنتاج والاقتصاد والتوافر.

وكان هذا الأمر واجبًا، بل يدهشنا عدم ظهوره ظهور الشمس، ويذعرنا عدم انقطاع العلماء لتحقيقه؛ لأن إهماله يزيد الجهل تخييمًا على العقول؛ إن مصيبة الإنسانية ليست في عجزها عن إدراك الحقيقة، ولكنها في طمس معالم الحقيقة كلما ظهرت، ودفنها تحت أكوام مكدسة من تراب الجهل، إن كثيرًا من الحقائق التي نكتشفها اليوم ونظن أنها حديثة، وأن لنا الفضل في إظهارها من عالم الخفاء إلى نور الظهور كانت معلومة لدى الأقدمين، وثابتة لديهم ثبوت الشمس في رابعة النهار، ولكن الجهل الإنساني طمس آثارها، وأخفى معالمها، وجعل نارها رمادًا، ونورها ظلامًا؛ خُذ لذلك مَثَليْن واضحَيْن: الأول مثل اليونان؛ فقد بلغت بحكمتها وتدبيرها وعقول أبنائها وعلومهم وأنظمتها الاجتماعية والسياسية، ومظاهر حياتها الأدبية والفنية، مبلغًا جعلها معلِّمة العالم، ومرشدة الأمم، ويمكن القول بغير مبالغة، إن ما وصل إليه أرسطو وأفلاطون وسقراط وأبيقور وزينوفون وسوفوكليس وفيدياس وبركليس وصولون وديموستين لم يصل إليه إنسان بعدهم في سائر فروع الحياة العقلية التي نبغوا فيها، فقل لي: أين آثار هؤلاء؟ وأين علومهم؟ وأين حكمتهم؟ وأين فنونهم؟ وأين ثمرة جهودهم التي جعلتهم آلهة يسيرون على الأرض، إن لدينا من كل ذلك نتفًا ذات قيمة في ذاتها، ولكنها تافهة بالنسبة لمجموع ثمرات عقولهم التي لو جُمعت ونُظمت ودُرست على حقيقتها لكانت كافية لتنوير الإنسانية، وتقدمها إلى آخر الدهر، ودليلي على ذلك أن هؤلاء الحكماء الأوائل لا يزالون، ولن يزالوا المصدر الأول لكل مَن يريد أن يستقي الحكمة من منبعها، ولا يزال كلُّ مَن يجهل آثارهم لا يُعَد داخلًا في زمرة العلماء أو المتأدبين.

المَثَل الثاني مصر، وهي أشهر من أن تُذكر؛ فقد بلغت علومها وفنونها وآدابها منذ أربعين أو خمسين قرنًا مبلغًا لا تزال آثاره ظاهرة للعيان في آثارها ونقوشها وصحفها، وإذا حق لنا أن نذكر حكماء اليونان، وننسب إليهم الفضل في إخراج الإنسانية من غيابة الجهل، وإرشادها نحو المثل الأعلى في العلوم والفنون والآداب فيكفينا في التدليل على قدْر مصر أن هياكلها المقدسة كانت مدارس لفلاسفة اليونان أمثال مَن ذكرنا، وفيثاغورس نفسه أقام عدة سنين يتلقى العلم على الكهنة في معابد ثيبة وهليوبوليس، فأين هذا كله الآن؟ وهل نرى في مصر، وقد زاد خصبها، وزكا زرعها، وفاض نيلها، وتضاعف عدد سكانها، جزءًا من مليون من علوم مصر العظيمة التي فنيت؟ هل أشرق في سماء مصر شعاع واحد من تلك الأشعة التي انبعثت في فجر المدنية، فأضاءت اليونان أولًا، والعالم كله ثانيًا؟

إن كل فكرة وكل خاطر يمر بالنفس، وكل سطر يدوِّنه كاتب، وكل صورة ينقشها طفل، وكل بيت من الشِّعر تنطق به سجية حساسة على لسان الفطرة، بل كل نظرة تدل على الفطنة كلها ملك الإنسانية، وجزء من ثروتها العقلية، وينبغي تدوينها وتسجيلها على حقيقتها ونشرها بين الناس، وتلقينهم إياها ليستفيدوا منها سعادة عقلية، أو لذة معنوية، أو خبرة تنفعهم في حياتهم، إن الطفل يرث من والديه كل المميزات البدنية والنفسية؛ يرث الفضائل والرذائل، يرث الميول والشهوات، يرث المحاسن والأضداد، وليس قانون الوراثة بواقف عند حد الوالدين، بل هو يتعداهما إلى الأجداد مهما علوا، وقد ثبت هذا الرأي وأصبحت الرجعى Atavisme من المسائل المسلَّم بها؛ فكيف يستبيح الناس أو القائمون بأمرهم من العلماء والمرشدين والمعلمين، أن يسلموا الطفل إلى العالَم، وقد ورث كل العيوب الإنسانية، وهو مع هذا خلو من كل ما أدركته عقول أسلافه، ووصلت إليه جهود أجداده في سائر بقاع الأرض، وفي كل زمان سابق لمولده.

أليس من أعظم الجرائم أن تترك الإنسانية تائهةً ضالة في مهامه الجهالة؟ أليس من العبث كل ما يحاوله العلماء في سبيل البحث عن الحقيقة إذا كان كل ما وصل إليه أسلافهم قد ضاع، واختفت آثاره، وإذا ذُكر في كتاب على رأس قلم باحث جديد إنما يُذكر من قبيل خطرات الأفكار أو غرائب الأقوال أو فكاهات تروِّح عن النفس وتقطع الوقت وتقتل الزمن؟

إن العلوم التي تُلقَّن في المدارس هي أحقر وأضر معلومات البشر، وينبغي القضاء عليها، ومحوها من سجل التعليم الإنساني، إنها عبارة عن مجموعة سخافات تافهة مبهمة قد سبكها في قالب التدريس قوم جهلاء، وقد سارت الدنيا على هذه الأساليب العقيمة غير المثمرة أجيالًا لا تُحصى، وينبغي أن تزول تلك الأساليب وتلك المعلومات من عالم الوجود، ينبغي إحراق كل الكتب والكراسات التي تقدَّم للتلاميذ في كل أنحاء العالم، وينبغي أن يجتمع مؤتمر من علماء كل الأمم، وأن ينتقل في سائر بلاد الدنيا، ويقضي بين الشعوب المختلفة مدة كافية للوقوف على أحوالها وأخلافها ومواهبها وبيئتها الطبيعية والمعنوية، وبعد ذلك يتفرَّغ هذا المؤتمر لوضع برنامج لتعميم التعليم في أنحاء الدنيا، لا فرق في ذلك بين الأجناس والملل؛ ينبغي توحيد التعليم، وتوحيد المدنية، وتوحيد الحياة العقلية في كل مكان؛ ينبغي أن يقف كل إنسان على أهم ما أنتجته العقول الإنسانية من المباحث، وما وقف عليه العلماء من الحقائق في كل فرع من فروع الحياة؛ إن الماضي من هذه الوجهة أكبر شأنًا من المستقبل؛ لأنه مجموعة اختبارات جليلة عظيمة تفيدنا في خطواتنا إلى الأمام.٤

إن كثيرين من المفكرين ينسبون إلى الإنسانية غريزة البقاء على حالة واحدة، ويقولون إن الإنسان ميالٌ بفطرته للمحافظة على كل قديم، لا لأنه صحيح أو موافق للحقيقة، إنما للتعوُّد. إن الإنسانية أسيرة العادة، وهي كذلك شديدة الكسل؛ فهي تعوَّدت أن تدرك الأشياء على حال معينة، ولا تريد التغيير في طريقة التفكير، وتعتقد في صحة أشياء معينة؛ لأنها تلقنت الاعتقاد بصحتها، فلا تريد أن تنزع عن عقلها هذا الاعتقاد حتى ولو ثبت أنه فاسد، وأنه قائم على ضلال قديم، حتى ولو قامت البراهين العلمية والعقلية على صحة غيره من الآراء، وأصبحت تلك الآراء ملكًا مشاعًا لكل الناس يمكن الوصول إليها بسهولة، فإنك تجدهم يُعرضون عن الجديد الصحيح من العلم الموافق للعقل، ويتشبثون بالقديم الباطل من العقائد المخالف للعقل؛ لأن الإنسانية مِكسال تريد أن تجلس لتستقبل شمس الصباح دون أن تعرف كنه الحرارة، تريد أن تنظر بخمول إلى الكواكب، ولا تريد أن تعرف ما وراءها، تريد أن تُمتِّع نظرها بالمخلوقات دون أن تُعكِّر صفوها لحظة في التفكير في أصلها، ومَنشئها، ومصيرها، وموردها، الإنسانية أسيرة العادة وحليفة الكسل، وهي فوق ذلك محبة للتقهقر، ميالة للرجوع إلى حالها الأولى حال الحيوانية والتوحُّش دون أن تبذل جهدًا في السير إلى الإمام، الإنسانية أبيقورية المذهب.

وإذا خرج من أحشاء تلك المِكسال ربة الخمول أسيرة العادة، وحليفة كل قديم، مولودٌ جديدٌ، وحاول النظر إلى النور أو التنفس، فإنها فورًا بما لها عليه من حقوق الأمومة، وبما اكتسبته من الغلظة وحب الأذى حتى في تأديب أطفالها، تبادر إلى ضربه وتعذيبه، وكَمِّ فمه وحجب عينيه، فلا يشم إلا نتنها وعفونتها، ولا يرى إلا سواد ليلها وظلام عقلها؛ فإن تشدَّد في المقاومة، وكان طفلًا نجيبًا شجاعًا نابغًا، تحاول إخفات صوته باللين والملاطفة، فإن لم يذعن فإنها لا تتردد بعد ذلك لحظة واحدة في القضاء عليه؛ إنها تضحي به على هيكل العادة والكسل والبهيمية فتوعز إلى أبنائها الذين ثبتت طبيعتها في أفئدتهم بقتله؛ فتارة يُسجن حتى يموت، وطورًا يُلقى به من حالق، وطورًا يُصلب ومرة يُحرق، وبعد أن تَزهق روحه ويصير جسده ترابًا تعود الأم فتأخذها الشفقة على ولدها، وتقول: وا حر قلباه على ولدي! كان ذكيًّا، وكان حاضره ينبئ بمستقبل سعيد، فتأمر بتمجيد ذكره وإقامة الأنصاب على شكله، وتأمر بجمع آثاره ولَمِّ شعث أفكاره، وتقيم له مأتمًا فخمًا، فيظن الرائي أن ولدها لو عاد إليها لأحلته محل الإنسان من العين، ولكن إذا وصل إلى علمها أثناء تمجيد ذكر ذلك الذي بذلته وقتلته أن أخًا له حاله كحاله، فإنها لا تتردد لحظة في القضاء عليه لتعود بعد حين فتخلِّد ذكره، وهكذا تستمر تلك العجوز المِكسال الماكرة الذميمة الخَلْق والخُلُق تقتل النجباء، وتستبقي الجهلاء والسخفاء؛ لأنها لا يطيب لها العيش إلا في ظلال الجهل والكذب والخداع، ولا تحب النور؛ لأنها من بنات الظلام.

١  بعد تحرير هذا الفصل قرأنا خبر عثور العلماء على آثار حيوان يَعُدونه أقدم عهدًا من الماموث.
٢  هو غير زينون تلميذ سقراط، وهو مذكور في [تاريخ الفلسفة اليونانية – زينوفون].
٣  راجع مبحث الدكتور شبلي شميل في مذهب النشوء والارتقاء.
٤  إنني أقترح نقل جميع مؤلفات فلاسفة اليونان إلى اللغة العربية، ولا أرى وسيلة لتقدمنا العقلي بغير هذا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤