أسرار الغدد

الجنس والنفس

أشرنا قبل ختام الفصل السابق إلى فعل الغدد في التفرقة بين الأمزجة، وإلى آثارها المرجوة في علاج أمراض النفس والجسد مع تقدم العلم بأسرار كل منها على حدة، أو على التعاون بينها وبين الغدد الأخرى.

وكل ما عرفه العلماء حتى اليوم من الأسرار لا يعدو أن يكون مقدمة وجيزة من كتاب ضخم متعدد الأجزاء والأبواب، ولكنه على قلته يبدو كالخوارق التي لا تقبل التصديق لولا أنه محسوس مؤيد بالتجربة المتكررة، وسينجلي من أسراره مع الزمن ما يعلم المنكرين المتهجمين كثيرًا من الأناة والروية قبل التهجم والإنكار. فإن الذين استغربوا أسرار الروح بالأمس، فأنكروها لغرابتها ليحارون اليوم بين تلك الغرابة وبين الغرابة التي تحيط بكل غدة من هذه الغدد في عملها المفرد وعملها المرتبط بغيرها، إن أغرب الغرائب ليدخل في حكم المألوف إذا قيس إلى هذه الغرائب، وهي كما أسلفنا لما تجاوز مقدمة الكتاب.

هذه الغدد تعمل معًا كالفرقة الموسيقية التي يعطي كل منها اللحن الذي يناسبه، ويناسب آلات الفرقة بأجمعها.

بل هي في تجاربها أدق من ذلك وأعجب؛ لأن الآلة الموسيقية إذا اختلت في أداء لحنها لم تصلحه لها آلة أخرى، أما هذه الغدد فكل اختلال فيها تتصدى لإصلاحه غدة أخرى بعينها، وإذا اختلت غدتان في وقت واحد تعاونت الغدد الأخرى على تعويض عملهما، وبادرت كل واحدة منها إلى أداء مهمة لم تكن تؤديها قبل ذلك، ولا يقع الاختلاط بين هذه المهام المتقابلة، أو المتناقضة في بعض الأحوال، إلا إذا كان الفساد قد عم البنية جميعها فلا يرجى لها صلاح.

والمعروف من عملها حتى اليوم في توجيه الجنس، وتحويل الأحوال النفسية يهول العلماء بما يرونه اليوم، وما ينتظرون غدًا أن يروه، ويحسب بعضه من الحقائق المقررة ويحسب بعضه الأكبر من الفروض والتأويلات، بل من الظنون والتخمينات، وهذه هي المرحلة الخطرة في طريق هذا العلم الجديد. لأنها توجب الحذر والانتباه، وقد يفوت الأوان إذا توغل الباحثون مندفعين وهم لا يحذرون ولا يتنبهون.

لقد مضت القرون الأولى ودراسة «الجنس» مهملة، أو مسكوت عنها باتفاق العلماء والجهلاء على السواء، وقد توطئوا جميعًا على السكوت؛ لأنهم لم يفلتوا بعد من أسر الطوطمية وتحريماتها، ولا من وهم المتوهمين أن العلاقة الجنسية دنس معيب، أو أنها وصمة مخجلة لمن يتحدث بها ولمن يسمعها ولمن يعنى بها ولو للعلم والعلاج.

ثم اندفع العصر الحديث من الحظر إلى الثرثرة بالجنس في الدراسات وغير الدراسات، وأوشك الخطر من الإفراط في القول أن يضارع الخطر من الإفراط في السكوت أو يزيد عليه.

وهذه كما أسلفنا مرحلة الحذر والانتباه، يواجهها الباحث كما يواجهها القارئ والسامع، وبخاصة حين نذكر أن كثيرًا من البحث في هذه المرحلة ضرب من الظن والتخمين.

ووسيلتنا نحن في الحذر والانتباه، أن نقسم أقوال الباحثين النفسيين في مسائل الجنس إلى قسمين: ملاحظات، وتعليلات أو تخريجات.

فأما الملاحظات فالكثير منها مقبول مقصور على الوقائع والمشاهدات، وأما التعليلات فالكثير منها تخمين يجوز عليه ما يجوز على كل تخمين، ولا استثناء في هذا الحكم لمذهب أحد من المتخصصين أو غير المتخصصين، فما اتفقت مدارس التحليل النفسي على أساس واحد من أسس البواعث النفسية الكبرى، فما الظن بغير الأسس من الفروع والتشاعيب؟

وليس أشهر في هذه المدارس النفسية، وما إليها من مدارس فرويد Freud ويونج Jung وأدلر Adler ورانك Rank وسليفان Sullivan وهورني Horney وفروم Fromm وبرنزهورن Prinzhorn، وهم أقطاب النفسيين في القارة الأوروبية، ولا نذكر النفسيين في إنجلترا وأمريكا؛ لأن أقطابهم لا يتوسعون في علم النفس «السيكلوجي» إلى التطبيق وتعليل الأخلاق على مثال المدارس الأوروبية، ولا سيما مدارس أوروبا الوسطى، وأعلى ما ترتفع إليه هذه المدارس عنهم إنما بمثابة المحاولات البوليسية للكشف عن الأمراض بدل الجرائم والجنايات.

وإذا سألنا هذه المدارس عن الدافع الأكبر في النفس الإنسانية فماذا نسمع؟ أهو الجنس؟ أهو تغليب الشخصية؟ أهو الغريزة الاجتماعية؟ أهو الدوافع الواعية؟ أهو الدوافع غير الواعية؟ وهل هي موروثة أو مكسوبة؟ وهل هي قابلة للتعديل قبل الولادة أو بعد الولادة؟

إن الجواب عن كل سؤال من هذه الأسئلة خمسة أجوبة أو ستة لا تتفق مدرسة واحدة على أحدها كل الاتفاق فضلًا عن الاتفاق عليها بين المدارس المتعددة، وربما ابتدأ الباحث منهم برأي في تجاربه الأولى، ثم عدل عنه إلى غيره في تجربة لاحقة، ولا يستطيع في الحالتين أن يقول: إنه يقرر «علمًا» قاطعًا باليقين، منزهًا عن ظنون التأويل والتخمين، وربما اتفقوا على الاصطلاح كما تتفق مدرسة فرويد فيما بينها على اصطلاحات أستاذها التي يطلقها على دوافع الوعي الباطن ودوافع النزعة الحيوية، من قبيل الإيد Id واللبيد Libido والذات العليا Super-ego إلى أشباه هذه الاصطلاحات المخترعة، ثم يفسرونها ويشرحون محورها الذي تدور عليه، فإذا ثم أشتات متفرقة في التصوير والتعليل، ينقض أحدهم ما يثبته زميله، وقد ينقضون جميعًا ما أثبته الأستاذ عند وضع الاصطلاح، أو عند التصرف فيه بعد المراجعة.

وأولى الأقطاب النفسيين بالحذر من تعليلاته وتعميماته هو رائدهم الأول سيجموند فرويد، وإنما كان الأولى بالمحاذرة؛ لأنه الرائد الأول وفيه إلى جانب فضائل الرواد كل عيوب الارتياد، ومنها الاقتحام.

فالفضل الذي يشكر عليه فرويد لا نزاع فيه بين مؤيديه ومخالفيه، فقد دخل بالتحليل النفسي في دور جديد لم يسبق إليه، ولكنه وثب منه إلى تعليلات وتعميمات لا تستند إلى الوقائع والمعلومات، وقد تبطلها وتفندها جميع الوقائع والمعلومات، كدعواه الأخيرة عن إرادة الموت في الإنسان، وأنها إرادة كإرادة الحياة.

وقد بدأ فرويد عمله بالعلاج الطبي، ثم عكف على دراسة الأعصاب، وانتقل منها إلى دراسة الحالات النفسية وهو في نحو السادسة والثلاثين، ثم بنى فلسفته في مسائل الجنس النفسية على أحوال العلاج، أو على حجرة الاستشارة Consulting room كما يقول ناقدوه.
وكان أستاذه في طب العلاج النفسي الدكتور بروير Breuer، الذي نقل هذا الطب من تجارب التنويم المغناطيسي وشعوذاته إلى الإيحاء البريء من الشغوذة، وكان معوله الأول في علاجه على قاعدة «التسرية»، أو رد الفعل التمثيلي Abreaction وهي تتلخص في البحث عن الصدمة العصبية، التي أحدثت المرض ثم إعادة تمثيلها للمريض بحيث يشعر بمنشأ العلة في نفسه، وقد استمد هذا العلاج من الراحة التي يشعر بها الإنسان إذا رأى شكواه النفسية ممثلة في قصة يقرؤها، أو ينظر إليها على المسرح، فأصاب في الملاحظة ولم يتوسع في القياس.

ولكن فرويد زاد على الصدمة العصبية التي يعرفها المريض أنه بحث عن صدمات الوعي الباطن، والصدمات التي لا يعيها أحد، فكان على بر الأمان وهو يتتبع الأعراض المرضية في كل مريض على انفراد، ولكنه لم يلبث أن وثب من حجرة الاستشارة إلى العالم بأسره، وإلى النوع الإنساني من أبعد نشأته، بل إلى الكيان الحيواني ومن ورائه الكيان المادي الذي يخبط فيه فلاسفة ما وراء الطبيعة، ولا يحسبونه في علم التجربة والمشاهدة، ولا يستخرجون منه علاج الأبدان والأخلاق.

وحسبك حذرًا من تعليلاته وتعميماته أنها تجعل الشذوذ أساس الحياة الإنسانية، فكل إنسان مصاب بعقدة الأب أو عقدة «أوديب» المكبوتة، وكل إنسان عرضة من جراء هذه العقدة للقلق في بيئته النفسية وعلاقاته الخارجية، وليست العقائد والشعائر والعبادات والفنون إلا تعبيرًا عن هذا القلق، أو دفاعًا عن النفس أمام طغيانه في داخلها وخارجها.

وعقدة أوديب هذه ما هي؟ وفي أي عصر كان الإنسان الهمجي براء من كبتها؟

إن عقدة أوديب Oedipus Complex هي غيرة الابن من أبيه على أمه، وتقابلها عند المرأة عقدة ألكترا Electra، وهي غيرة البنت من أمها على أبيها، ويقول فرويد: إن هذه العقدة ترجع إلى أيام قيادة القطيع ثم قيادة العشيرة، ثم كفالة العائلة، وفي هذه الأدوار يوجد ذكر واحد — وهو الأب — مستأثرًا بجميع الإناث في القطيع أو العشيرة أو العائلة، وتنجم نزعات الانحراف الجنسي بين سائر الذكور، كما تنجم بينها المؤامرة على قتل الأب تخلصًا من احتكاره للإناث.

هل شوهدت حالة من حالات الجماعات الإنسانية كانت سابقة لهذا الكبت المزعوم؟ هل توجد الآن حالة كهذه بين الجماعات الهمجية، التي تقاس عليها الجماعات البدائية في الأزمنة السحيقة؟ وإن كان هذا التطور مغرقًا في القدم فكيف عرفناه؟ هل وجد بين جماعات الحيوانات مثال لهذه النوازع يتأتى لنا أن نشاهد ما يقاس عليه؟

من المحقق أن كل ما شوهد ويشاهد من أطوار الجماعات الإنسانية، أو الحيوانية لا يسمح بهذه الوثبة الطويلة العريضة في التعليل والتعميم.

على أن الوثبة الطويلة العريضة لم تقف عند أطوار الإنسان الأول أو الحيوان الأعجم، بل جاوزتها بعيدًا جدًّا إلى ما وراءها، فاستخرجت من أطوار المادة «غير العضوية» ما يسميه فرويد غريزة الموت، ويكاد يحصر فيه كل دفعة لا تحتويها الغرائز الجنسية.

ففي طوية الإنسان — على رأي فرويد — دوافع ضارة به تهيئ له طريق الموت من حيث لا يشعر ولا يريد، ومرجع هذه الدوافع حنين المادة في كيانه إلى حالتها الأولى قبل الحياة!

هذا ضرب من التعليلات التي تنقض الحس والعلم والمشاهدة، ولا يعززها اللفظ في عبارة فرويد نفسها إذا أراد أن نفهم من اللفظ أصدق معانيه.

فهل فارقت المادة في الجسم الحي شيئًا من خصائصها «غير العضوية» حتى يقال: إنها تحن إلى معاودته، وإن حنينها إلى معاودته هو الذي يسمى بغريزة الموت. هل فارقت قانون الجاذبية؟ هل فارقت قوانين اللون والإضاءة؟ هل فارقت قانونًا واحدًا من قوانين الطاقة، سواء نظرنا إلى الطاقة الحيوية كلنها طاقة مادية أو طاقة روحانية؟

الواقع أن المادة تحافظ على خصائصها هذه مع قوة الحياة كما تحافظ عليها مع كل قوة، وينبغي أن يقال إذن: إن غريزة الموت تعم الكون كله ما دامت للمادة هذه المقاومة، أو هذا القصور الذاتي مع كل طاقة، فمن أين جاءت الطاقة التي لا تحتويها المادة؟ وإلى أين ننتهي إذا نحن ذهبنا نتخبط في هذه التعليلات والتعميمات.

إننا لا نستطيع في هذا العصر أن نصف المادة حتى «بالقصور الذاتي» الذي يعزلها عن الطاقة. ولا نستطيع أن نقول: إنها ذات طاقة تريد ما لا تريده الحياة، ولو كان معنى الإرادة المقصود أنها تطيع قانونًا لا فكاك لها من طاعته، فلا نستطيع أن نفهم غريزة الموت على أي معنى من معاني فرويد ومدرسته، وكل معنى نفهمه قد يصدق على المادة التي تحيط بالجسم الحي والمادة التي تكمن فيه.

أقل ما يقال عن هذه التعليلات والتعميمات أنها لم تثبت حتى يسوغ لنا أن نثبت ما يقوم عليها، وغاية ما تنتهي إليه أنها خواطر موحية تومئ إلى مواضع البحث والمناقشة، وتتفرق إلى كل مفترق حتى يختار منها الناقد ما هو أحرى بالاتباع.

فمن أراد أن ينظر فيها على أمان فلينظر إليها كأنها ضرب من الحدس لا يزال يتردد بين الافتراض والاحتمال؛ وليأخذ به على حسب اقترابه من المعرفة العلمية في تجارب الغدد، وتطور الوظائف الجنسية.

ونسميها المعرفة العلمية عمدًا للتمييز بينها وبين العلم المقرر، إذ لم تبلغ المعرفة بالغدد وتطور الجنس مرتبة العلم المقرر الذي تتفق عليه جميع المذاهب، وتتساوى تجاربه في كل حالة، وليس من السهل أن يرتقي إلى هذه المرتبة في مدى هذه السنوات القصار؛ لأنه متعلق بحياة الحيوان والإنسان، ولا يسهل ضبط الملاحظات على نمط واحد في جميع الأحياء.

ومن المعرفة العلمية العامة أن الغدد الصماء وثيقة العلاقة بتكوين الجسم، وتكوين وظائفه الجنسية على الخصوص، وهي الغدة النخامية والغدة الصنوبرية في الدماغ، والغدتان الدرقيتان والشبيهتان بالدرقيتين في الرقبة، والغدتان السعتريتان في أعلى الصدر، والغدتان الكظريتان فوق الكليتين، والخصيتان في الرجل والمبيضان في المرأة.

وليس من غرضنا في هذا السياق أن نتوسع في شرحها وبسط وظائفها، وإنما نكتفي بالمعلومات الحديثة عن كل منها فيما يتعلق بالوظائف الجنسية، والأطوار العاطفية أو النفسية.

فقد كان المنظور قبل هذه الكشوف أن الخصيتين والمبيضين هي الغدد الجنسية دون غيرها في جسم الرجل والمرأة.

فتبين بعد مراقبة الإنسان وإجراء التجارب الكثيرة على الحيوان أن الغدة النخامية ذات أكثر كبير في تكوين خصائص الحي، ومنها خصائص الرجولة والأنوثة.

الجنس

فالخصية تفرز الخلايا المنوية والخلايا البينية Interstitial المعروفة باسم خلايا ليدج Leydig، وهي التي ترتبط بها صفات الرجل الثانوية، فيشبه الرجال في بعض الصفات، ويشبه النساء في صفات أخرى على حسب إفراز الخلايا البينية،١ وهي تتلقى التنبيه بإفراز من الغدة النخامية، وتتوقف سلامتها على سلامة هذه الغدة.
وتبين من تجارب الدكتور ستيناخ Steinach أن وقف الخلايا المنوية يضاعف إفراز الخلايا البينية ويجدد الحيوية.
ومن تجترب الأستاذ زوكرمان Zuckerman أستاذ التشريح بجامعة برمنجهام أن الطيور وسائر الحيوانات، التي يراد تأخير مواسم الولادة عندها تتغير مواسم الحمل عندها بمقدار ما تتعرض له من النور، وأن التجارب المتكررة أظهرت أن هذا التأثير يسري من غددها النخامية إلى غددها التناسلية، وينقطع أثره في الأحيان التي تستأصل الغدة النخامية منها.
وإذا أفرط عمل الغدة النخامية تضخم الجسم، وأصابه المرض الذي يسمى بمرض الإفراط النخامي Hyper-pituitarism، فتطول العظام وتمتد القامة نحو ثمانية أقدام.

وتتعاون الغدة الدرقية والغدة السعترية على إنماء الجسم إلى سن المراهقة، ولكن الغدة الدرقية موكلة بنمو التطور، والغدة السعترية موكلة بنمو الحجم والبدانة، فإذا حقنت الشفدع (فرخ الضفدع) بإفراز الغدة الدرقية تطورت، وتحولت إلى ضفدع وهي على حجمها.

ويحدث عند ضمور الغدة الدرقية، أو إزالتها مرض التوقف العقلي والبدني Cretinism، فلا يتقدم المصاب به من حالة الطفولة العقلية أو الجسدية.

ويفهم من هذا أن النمو مرتبط بالغدد جميعها، ولا يرتبط بالغدد الجنسية أو التناسلية وحدها.

ولا بد من استمرار الغدة الدرقية في أداء وظيفتها قبل المراهقة، وبعد البلوغ وتمام النضج في الجنسين، أما الغدتان السعترية والصنوبرية، فتنموان إلى سن المراهقة، ثم تسلمان الجسم إلى عمل الغدة التناسلية التي تبدأ في تلك السن وظيفتها المولدة.

وشوهد فعل الغدة الكظرية في الصفات الجنسية، فتبين أن الطفل الذي تختل غدته الكظرية قبل الولادة يصاب بحالة شبيهة بحالة الجنس المشكل Ipeudo-hermophroditism، الذي يتميز فيه الجنسان ببعض الصعوبة.

أما إذا اعتراه الخلل بعد الولادة فقد تتميز فيه صفات الجنس، وتصاحبها سرعة المراهقة، فتظهر ملامح الذكورة أو الأنوثة في الخامسة أو السادسة.

وقد تصاب الغدة بعد سن المراهقة، فينبت الشعر على جسم المرأة ويغلظ صوتها، وتشتد عضلاتها.

وقد بسط بروستر Proster في كتابه «غلاف الغدة الكظرية» Adrenal Cortex أحوال نحو عشرين فتاة أصبن في غلاف غدتهن الكظرية، فغلظت أصواتهن وتغطت بطونهن بالشعر، وأشبه البظر عندهن شكل الذكر الصغير، ولا يلزم في جميع هذه الأحوال أن تتغير أطوارهن الأنثوية، وقد يشفى غلاف الغدة، ويخف ورمه فتزول هذه الأعراض وتعود الفتاة إلى أنوثتها.

ويشاهد على وجه التقريب أن العواطف والأحاسيس ترتبط بأعمال الغدة الكظرية، وأن أعمال الدماغ ترتبط بالغدة الدرقية، وأن تكوين العضل يرتبط بالغدة النخامية.

أما الغدة الصنوبرية فعملها مهم جدًّا، ولكنه لم يتميز من عمل الجزء المقارب لها من الدماغ Hypothalmus، فلا يتيسر الآن على سبيل اليقين أن يعرف أي هذه الآثار من فعلها، وأيها من فعل الدماغ كله.

ويذكر للفيلسوف ديكارت على سبيل الإعجاب ببداهته الفلسفية أنه أدرك شأن هذه الغدة قبل ثلاثة قرون، وخطر له أنها مركز القوة الروحية، وعزز هذا الخاطر عنده أنه رآها الغدة المفردة دون غيرها بين غدد الجسم كله، ويعترض عليه المحدثون بانفراد الغدة النخامية، فيرد عليهم أنصاره مشيرين إلى انقسام الغدة النخامية كأنها غدتان!

وكل غدة من هذه الغدد الصماء تفرز في الدم مباشرة مادة خاصة بها يطلق عليها اسم الهرمون من كلمة هرماو Hormao اليونانية بمعنى التنبيه أو التحريض، وكل هرمون من هذه الهرمونات يؤثر في الهرمونات الأخرى ويتأثر بها، ولا ينحصر تأثيره في مفرزات الغدد الصماء دون غيرها، بل يسري إلى الغدد الأخرى للتعاون تارة والمقاومة أو التعويض تارة أخرى، وقد لاحظ الأستاذ هوسى Houssay من بونيس أيريس بالأرجنتين أنه عند استئصال البنكرياس والغدة النخامية معًا من جسم الحيوان لا تنشأ من إزالتهما الإصابة بمرض السكر، كما تنشأ من إزالة البنكرياس وحده،٢ ولوحظ مثل هذا التجاوب بين الغدد التي تفرز هرموناتها في الدم مباشرة كالصماء، أو تفرزها بالواسطة كالغدد الأخرى.

ودلت مراقبة التوالد في الكائنات الحية على أن هذه الغدد تبدأ في الظهور مع انقسام الجنسين، ولا تتميز خصائصها كل التميز في أنواع الأحياء التي تميزت فيها الذكورة والأنوثة.

وهنا ينبغي أن نذكر أن الأحياء توالدت قبل أن يكون فيها جنسان متميزان.

فالأميبا Amoeba مثلًا — وهي حيوان من خلية واحدة — تتوالد بالانقسام، فتنشق الخلية شقين ينمو كل منهما حتى يستوفى نموه، ثم ينشق مثل هذا الانشقاق.

ويتم التوالد في أحياء أرقى منها بالنتوء، أو الأزهار تشبيهًا له بنتوء الكم من فرع الشجرة، فإذا أدرك الحيوان سن الولادة شوهد على ظاهره نتوء يكبر حتى ينفصل ويستقبل بكيانه، ويجري السؤال على هذا النمو في الأحياء التي تتعدد خلاياها، ومنها بعض ديدان الماء والطحالب.

التوالد

ويتم التوالد في أحياء أرقى من الطحالب بالطريقة الجرثومية Polysporogonia أي: بانعزال بعض الخلايا داخل الجسم وتطورها حتى تشابه جرثومتها الأصلية، ثم تخرج من جسم الحيوان كالجنين من الرحم، وتأخذ في النمو ثم التوالد على هذا المثال، والحيوانات المرجانية والدودة المتشعبة من هذا القبيل.
ويلي هذا التوالد الجرثومي توالد متوسط بين هذه الطريقة، وطريقة الحيوان ذي الجنسين، ويسمى البوغية أو الغبارية Sporogenia، ويجري التوالد فيها بانعزال خلية واحدة من الجسم تبدأ بالنمو بعد انعزالها، وتتعدد خلاياها وهي في جسم واحد حتى تشابه أصلها الذي نشأت فيه، وهذه الطريقة شائعة في بعض الفصائل من النباتات السفلى.
ويلي الطريقة البوغية طريقة تسمى بالتوالد العذري Parthenogenesis، ويكاد يحسبها بعضهم نكسة من طريقة أرقى منها.

فتتوالد من الحيوان جرثومة قابلة للنمو بغير تلقيح، وهي نفسها قد تلقح فيختلف النتاج، كما يحدث في جراثيم النحل الذي تنمو خلاياه غير الملقحة، فتصبح ذكورًا وتنمو خلاياه الملقحة فتصبح إناثًا، ولا يبقى النوع بغير هاتين الطريقتين.

ومن الأحياء الطفيلية ما يجمع بين الذكورة والأنوثة، ومنها ما يجري التلاقح فيه بين حيوانين كل منهما لاقح وملقوح، كالدودة التي تسمى دودة الأرض Earthworm والقوقعة الحلزونية Snail، وأعلى من هذه الطبقة قليلًا حيوانات تتناوب الذكورة والأنوثة موسمًا بعد موسم، فالمحار Oyster أنثى ويصبح ذكرًا في موسم تال، وقد يرتد إلى الأنوثة في موسم يليه.
والطبقة التي تعلو على هذه الطبقة هي طبقة التوالد من جنسين يستقل كل منهما بوظيفة لا يؤديها الجنس الآخر، والمسافة شاسعة جدًّا بين أدنى الحيوانات من هذه الطبقة وبين الإنسان، ولكن الإنسان مع هذا لا يزال مختلفًا في كيانه بأصول التوالد في طبقات الأحياء، ويوجد في شبك المبيض مثلًا جزء كخصية الرجل ولا يقال فيه: إنه الجزء المقابل للخصية وحسب، ويصح أن يقال بعبارة أخرى: إن كل أنثى تطوي في لباب المبيض «مشروع» خصية٣ قد ينمو حتى يعمل عمل الخصية في الذكور، ويغير أطوار المرأة في صفات الجنس الثانوية.
ويؤخذ من شواهد متكررة أن مبيض الأنثى يفرز الهرمون المذكر المسمى بالأندروجين Androgen، كما يفرز الهرمون المؤنث المسمى بالأستروجين Estrogen، ومن التجارب في الحيوان أن الدجاجة التي يستأصل مبيضها يضمر عرفها، ولا تعود إلى النمو الطبيعي إلا إذا ألقحت بالأندروجين دون الأستروجين، مما يفيد أن مبيض الدجاجة لا غنى له عن إفراز الأندروجين لاستقامة كيانها.
ويحتاج الذكر كما هو معلوم إلى وقت للنضج، واستيفاء كيان الرجولة أطول من الوقت الذي تحتاج إليه المرأة، فينضج الشاب في نحو العشرين، وتنضج الشابة في نحو الثانية عشرة، فإذا ألقح الحيوان بهرمون المرأة — أي: الأستروجين — بكر نضجه والتحمت كراديس جمجمته Epiphyses قبل الأوان.
والمعلوم أن الذكر في الحيوانات الفقارية أجسم من الأنثى، فإذا خصي الذكر والأنثى من صغار الحيوانات، فالخصي يعطل نمو الذكر ويعجل نمو الأنثى، كأنما هرمون الأنثى يعطل النمو فإذا غاب نما الجسم وإذا بقي أبطأ نموه، ويجري العلماء هذه التجربة على نحو آخر، إذ يلقحون ذكور الجرذان وإناثها بالأستروجين، فيتعطل نمو الذكور والإناث.٤

كذلك يحدث تضخم البروستاتة في الشيخوخة لنقص إفراز هرمون الذكر، أي: الأندروجين، وزيادة إفراز هرمون الأنثى، أي: الأستروجين.

ويشاهد على الأغلب أن أثر الأندروجين في عموم الجسم أقوى من أثره في جهاز التناسل مباشرة، فإذا نقص نقصت في الرجل صفات الذكورة الثانوية، وإن لم يضعف جهازه التناسلي، فتغلب عليه بعض أطوار الأنوثة، ولا تتعطل قدرته على التوليد.

ومن هذه المشاهدات المتكررة يجنح ذوو التجارب إلى القول بأن غياب أطوار الرجولة يبرز أطوار الأنوثة ولا يحدث عكس ذلك، أي: أن غياب أطوار الأنوثة لا يعطي الرجل صفات جنسه النفسية أو الجسدية.

وأيًّا كان مقطع الرأي في هذه التجارب، فالثابت من أطوار الصبغيات والناسلات أن أنوثة الجنين مطردة، حيث يغيب الصبغي الذي ينفرد الذكر بإفرازه، وإنه حيث يوجد هذا الصبغي يكون الجنين ذكرًا على الدوام.

فمن عجائب الخلقة أن الخلايا المولدة التي تصل إلى رحم المرأة تبلغ نحو مائتي مليون خلية، كل خلية منها تحتوي على أربعة وعشرين صبغيًّا، وكلها متشابهة إلا بعض صبغيات الذكر؛ فإن الصبغي الرابع والعشرين منها يشتمل على خلية واحدة ذات جزئين مختلفين، ولا يأتي هذا الاختلاف إلا على النسبة التي يتعادل بها عدد الذكور، وعدد الإناث في النوع الإنساني بوجه التقريب.

وأعجب من ذاك أن هذا الصبغي Chromosome يعين جنس المولود، ولكنه لا يعين الطبائع الموروثة، بل يرجع توريث هذه الطبائع إلى الناسلات Genes، فتنتقل إلى بعض الذرية ولا تنتقل إلى بعضها؛ لأن الناسلات تتزاوج، وتتلاقى ناسلات الأب وناسلات الأم، ويختلف الولدان من ثم في الذرية الواحدة، ولا يندر أن يكون الذكر وارثًا لصفات أمه، وأن تكون الأنثى وارثة لصفات أبيها، بل لا يندر أن تكون الصفات الموروثة منقولة من الأجداد والأسلاف: صفة من الجد الأبوي وصفة من الجد الأموي، وكلتا الصفتين قد خفيتا في الأب والأم على السواء.

وكثيرًا ما يرث الولد استعدادًا تحول البيئة دون ظهوره، ولكنه لا يكسب في البيئة خلقًا لم يكن على استعداد له بتكوينه.

وقد تقدم أن الصبغيات في النوع الإنساني أربعة وعشرون، أحدها هو الذي يعين الجنس، فينمو الجنين ذكرًا أو أنثى على حسبه، ويبقى ثلاثة وعشرون صبغيًّا تعمل في تكوين الجنين، فهذه الحقيقة يبني عليها بعض العلماء رأيًا قويًّا في تعليل الوراثة المختلفة، ويسمون هذه الصبغيات بالمستقلة أو الذاتية Altosomes تمييزًا لها من الصبغي المختص بتعيين جنس المولود، ولم ينكشف بعد من مراقبة مواليد الإنسان ما يكفي للجزم برأي في علاقة هذه الصبغيات الثلاثة والعشرين بوراثة الأخلاق والمزايا؛ لأن التجارب على الحيوان لا تصلح للقياس عليها.

ولكن العلماء يتابعون البحث على هذه الخطوط الواسعة؛ أملًا في الوصول إلى تعيين عمل الصبغيات جميعًا في نقل الأخلاق والخلال الموروثة، وهو بحث عويص محفوف بالمجازفات والصعوبات، ندرك شيئًا من صعوباته كلما أحضرنا في خلدنا دقة الناسلة التي تعد بمئات الملايين في إفراز الغدة الواحدة، وتحمل فيها ما ظهر، وما خفي من خلائق الآباء والأجداد من طرفي الأبوة والأمومة إلى أجيال لا ندرك أولها في القدم، ولا نهايتها في المستقبل، ومن المجازفة الشديدة أن يتصدى أحد — بالغًا ما بلغ علمه — لمحاولة التعديل في مثل هذه الناسلة الدقيقة حتى يمحو منها خلقًا، أو يسويه من عوج إلى اعتدال.

الفوارق بين الجنسين

وبعد فهذه عجالة توخينا الإلمام فيها بما هو ضروري من المعارف العلمية من أعمال الغدد، وتطور الوظائف الجنسية، فما هي النتيجة التي تنتهي إليها؟

إنها لا تنتهي بأية حال إلى تهوين الفوارق بين الجنسين، ولا إلى زعم الزاعم أن الإنسان مزدوج الجنسين Bisexual مختلط الذكورة والأنوثة بطبيعته، وأن الشذوذ الجنسي فيه فطرة عامة تتخذ أطوارها على حسب العمر من الطفولة إلى تمام النمو في الجنسين، كما يقول فرويد ومتبعوه، إن النتيجة التي تنتهي إليها بحوث المختصين بتطور الجنس لا تنتهي إلى هذه النتيجة، بل تنتهي إلى نتيجة تناقضها، وهي أن الفوارق بين الجنسين تتعدد وتتوزع، وتتشعب حتى لا يكفي لتعيينها جهاز التناسل وحده، ولا بد معه من دلائل أخرى تنطوي فيها وظائف الغدد وسائر أطوار البنية.

وإذا كانت هذه الخصائص لا تتوافر جميعها في بنية واحدة، فهذا شأن جميع الخصائص في كل تراكيب الأحياء أو الجماد، فلا يوجد إنسانان ولا شجرتان ولا حجران على مثال واحد، ولا يلزم من عموم المادة الكربونية مثلًا أن الفحم والماس، والسكر أشباه لا فوارق بينها في جميع المزايا والقيم والأغراض.

وللنوع الإنساني ولا شك خصال عامة يشترك فيها الجنسان، ولكن التطور الجنسي لم يتقدم هذا التقدم ليتشابه الجنسان في النهاية، وإنما تقدم الجنس لتظهر بينهما الفوارق اللازمة، ويبقى كل منهما بعد ذلك إنسانًا فيما عدا هذه الفوارق اللازمة؛ لأنها لا تخرج الذكر من إنسانيته، ولا تخرج الأنثى من إنسانيتها، ولن يكون النوع الذي ينتميان إليه نوعًا واحدًا إذا اختلفا في كل شيء.

وقد وجدت حالات من الشذوذ الجنسي لا شأن لها بالخصائص الموروثة، ومرجعها كلها إلى العوارض الاجتماعية، أي العوارض التي تطرأ بعد الولادة.

فالذين راقبوا الشذوذ الجنسي في الحيوانات وجدوا أنه يعرض للقردة والكلاب، وبعض الطيور كالحمام، ولكنه لا يعرض لها إلا في غيبة الإناث وحين يتربى الذكور من هذه الحيوانات في مكان واحد تنعزل فيه، ولا تظل على شذوذها بعد اختلاطها بإناثها.

والذين راقبوا الشذوذ الجنسي في القبائل البدائية وجدوا كذلك أنه يعرض للناشئين، وهم منعزلون في المزارع والغابات، ثم يتعقبونه بالسخرية والاشمئزاز.٥

وهذه هي العوارض التي يتخذها بعضهم شاهدًا على النزعة الفطرية في الشذوذ الجنسي؛ لأن الحيوانات والهمج يباشرونه كأنما كانت استقامة الفطرة وقفًا على الحيوان والهمج المتخلفين عن المدنية.

وقد درست في عواصم المدينة أحوال الشواذ المحترفين، فلم يوجد بمعظمهم شذوذ في تكوين البنية، ودلت دراستهم وفحصهم على أنهم يحترفون البغاء طمعًا في الكسب، ولا ينقادون للغواية بدافع فطري من النزوة الجنسية.

وتفعل البواعث النفسية فعلها في حالات شتى من الشذوذ الجنسي، الذي لا يقبل التعليل بغيرها ولا يتأتى خلوه منها، إذ لا يخفى أن الصلة بين الرجل والمرأة لا تقوم على الوظيفة التناسلية بمفردها، بل تسبقها في المجتمعات المتحضرة ومجتمعات البداوة أحيانًا أشواق نفسية، ومطالب اجتماعية، فيجوز أن يكون الرجل سليم البنية، ولكنه لا يروق المرأة ولا يثير شعورها أو يستولي على عواطفها، ويجوز أنه يشعر بذلك فيحجم عن طلب المرأة هربًا من المهانة وألم الخيبة، ويجوز أن يحس من نفسه ضعفًا فيتجنب الصلة التي تخجله أمام شريكته، ويجوز أن ينفر من امرأة واحدة ذات شأن عنده، أو ينفر من امرأة واحدة أضرته واحتقرها أو احتقرته، فيسحب احتقاره على جميع بنات جنسها، ويجوز أمثال ذلك كثير من علل الشذوذ الجنسي الذي ينفر صاحبه من المرأة، ولا يمكن أن يخلو من البواعث النفسية.

فإذا قيل مثلًا: إن الناشئ الذي نقصت وظائف الرجولة عنده يتشبه بالنساء وينقاد لشهوات الرجال، أو قيل: إن الناشئة التي جارت فيها هرمونات الذكورة على هرمونات الأنوثة تتشبه بالرجال، وتتعشق بنات جنسها، فكيف يمكن أن نعلل بعلة الهرمونات حالة الناشئ الذي لا يحب المرأة، ولا يميل بعاطفته الجنسية إلى غير أبناء جنسه؟ إن زيادة الهرمونات المذكورة خليقة أن تصرفه إلى الإفراط في حب الإناث، وإن نقصها خليق أن يلحقه بالمتأنثين: أما الرغبة التي تقيد الرجل بأبناء جنسه، فليس لها تعليل معقول من قبل الهرمونات، ولا بد من الرجوع بها إلى الحالات النفسية والعادات العارضة، سواء نشأت من ظروف المجتمع، أو من البيئة المنزلية في نطاقها المحدود.

وقد أحصى هرشفيلد Hirchfield وستيكل Steckel وستيناخ Steinack، وغيرهم حالات كثيرة يعزى النفور فيها من المرأة إلى علل نفسية، ولا ارتباط لها بفعل الهرمونات وما إليها.

إحدى هذه الحالات حالة فتى كان يحب أمه حب العبادة، ثم ماتت فوقع في صندوقها على رزمة من الأوراق قرأها، فوجد أنها رسائل غرامية، وعلم منها أن أمه كانت تخون أباه وتخون عشاقها، وأنهم كانوا يتبذلون في الكتابة إليها عن أفانين الرذيلة التي كانوا يقترفونها معها، ويستعيدون ذكراها.

وإحدى هذه الحالات حالة فتى أصابه المرض من امرأة يهواها، وغيرها حالة فتى أذلته فتاة، وصدمته في كبريائه فجعل يتمثلها في كل فرد من بنات جنسها، وأشباه ذلك حالات تحصى بالمئات.

فمن السخف أن يقال — اعتمادًا على المعرفة العلمية في مسائل الغدد، وتطور الوظيفة التناسلية: إن هذه المعارف أثبتت أن الشذوذ الجنسي طور من أطوار العمر كما هو مذهب فرويد وشيعته، أو أن الشذوذ الجنسي جنس ثالث مستقل بين الذكورة والأنوثة، كما هو مذهب هرشفيلد وطائفة من تلاميذه، وكل ما يصح بعد هذه المعارف العلمية في العصر الحديث أن الشذوذ الجنسي قد يرجع إلى أصل في البنية، وأنه قد يرجع إلى علل نفسية أو عوارض اجتماعية، ويجزم طبيب من أقطاب النفسيين الجنسيين بنفي العلل البيولوجية، ويقصر علل الشذوذ كلها على الصدمات العصبية والعادات المكتسبة، وهذا الطبيب هو ولهلم ستيكل الذي كان مديرًا للكلية الطبية بجامعة فيينا، وصاحب التواليف المعتمدة في العلاج النفسي والتحليلات النفسية، وأشهرها: كتاب «الأمراض العصبية في الشواذ» The Homosexual Neurosis وكتاب «حب الجنس المزدوج» Bisexual Love، وهما موضوعان لنفي العلل البيولوجية الموروثة، وإثبات العلل النفسية والعصبية بالأمثلة المستمدة من تجاربه الشخصية.
وقد سجلت الإحصاءات التي أشرفت عليها لجان العلماء المسئولين ممن خولوا درس هذه المسائل في الجامعات، والمدارس والمستشفيات والحقول، والمعاهد المزدحمة بأفراد الجنسين أو أفراد الجنس الواحد، فدلت هذه الإحصائيات على أن نسبة الشواذ مدى الحياة لا تزيد على أربعة في المائة، وأن الحالات التي تعرض بعض الناس للشذوذ الجنسي قد تعرض أمثالهم للاتصال بالحيوان، وأن الوسائل المصطنعة في العواصم تشجع الشذوذ، ومنها البؤر والمباءات التي يديرها طلاب الكسب، ويتردد عليها طلاب الاستطلاع ممن تستهويهم تجربة اللهو حيثما اطلعوا منه على لون غريب، ولا نظير لهذه البؤر والمباءات في القرى الصغيرة، فهي لذلك قليلة الشواذ بين أبنائها بالنسبة إلى العواصم الكبرى.٦
ويتحرج ومعظم العلماء في تقرير القواعد والأوصاف التي يسوقونها مساق الجزم واليقين في هذه الأمور، فلم يسلم من الملامة أمثال جريجوريو مارنون الإسباني Gregorio Maranon؛ لأنه سرد في بحثه العلمي عن تطور الجنس Evolution of Sex أشباهًا وملامح زعم أنها تلازم الشواذ وتميزهم من غيرهم، وربما شملت هذه الملامة أناسًا من أجل الأساتذة الموقرين بين تلاميذهم، ومريديهم من طبقة هرشفيلد وستيناخ المتقدم ذكرهما، أو طبقة العلامة الفرنسي أندريه تريدون Andre Tridon صاحب كتاب «التحليل النفساني والأخلاق»؛ لأنه زاد عليهم فعمم الحكم على طائفة كاملة لا تجمع بينها ملامح خاصة، بل يجمعها اليتم أو فراق الأبوين.

فمثل هذه التعميمات، في الحق تهجم لا مسوغ له من العلم ولا من أدبه، ولسنا نقصد بهذا أن الشواذ مجردون من الملامح والخصائص التي قد تدل عليهم، ولكننا نقصد أنها قد توجد فيهم وفي غيرهم، وقد تميز الشواذ حين تفترن بدلالات كثيرة تلصق بهم مجتمعةً ولا تميزهم متفرقة، وسنضرب المثل على ذلك بهذه المياسم المتعددة حين تجتمع في شخصية «أبي نواس».

وينبغي أن نثوب إلى قسطاس مفهوم لا يعتسف التفرقة بين العلامة الجسدية، وهي عرض من أعراض الشذوذ الجنسي، وبين هذه العلامة بعينها، وهي لا تدل على مرض من أمراض النفس، ولا تتعدى موضعها من البنية.

فالنفسانيون متفقون على أن العاهات النفسية إنما هي توقف في النمو، أو احتباس له يعوق المصاب عن أن يستوفي نمو العاطفة أو الفكر أو الحاسة الاجتماعية أو وظائف البنية، وتقترن بهذه العاهات أحيانًا علامة محسوسة أو عادة جسدية نابية، إلا أن هذه العلامات قد تكون موضوعية، فلا تدل على نقص مستتر، كعثرات النطق مثلًا، فإنها قد تدل على احتباس القوى الناطقة عند دور الطفولة، فيظل الرجل طفلًا تلازمه عيوب النطق الناقص إلى سن الشيخوخة، وقد تطرأ بعد تمام النمو فيلثغ الرجل في الخمسين أو الستين إذا سقطت ثناياه، ويتمتم أو يرت لسانه إذا اصطدم واختل جهازه الصوتي دون مساس بعاطفته وشعوره.

كذلك الطفل اليتيم أو الطفل الذي افترق أبواه، وتربى مهملًا أو مدللًا في حضانة أم جاهلة لاهية، فهو عرضة للشذوذ الجنسي إذا كان ضعيف المزاج في بيئة مغرية، شبيهًا بالنساء في سماته وملامحه، ولكنه قد يندفع إلى السطو والإجرام إذا كان قوي المزاج متغلبًا على أقرانه، وقد يسلم من الشذوذ والإجرام معًا وهو ضعيف المزاج مشابه للنساء إذا نشأ في بيئة بعيدة عن مغريات الرذيلة والجريمة، أو كانت الرذيلة والجريمة في بيئته مما ينفر الطفل، ويثير سخطه واشمئزازه.

فالعلامات الجسدية وحدها لا تكفي لتمييز الشواذ، والدلالة على عاهات الأخلاق والطباع، ولا بد معها من قرائن عدة تتناول البيئة في نطاقها المحدود، وفي نطاق المجتمع الكبير، وتأتي دلالتها حتمية قاطعة متى ثبت المرض، وتجمعت أعراضه الأخرى. أما قبل ذلك فهي دلالة ناقصة تسقط من كل تقدير صحيح.

•••

وسنرى عند تطبيق هذه العلامات على أبي نواس نماذج من الأعراض، التي لا تدل على شيء حين تنفرد، ولا تنقض دلالتها حين تجتمع؛ فإن أعراض البنية والتربية البيتية ونشأة المجتمع، وأحداث العصر قد اجتمعت في حالته الخاصة دون سائر الحالات التي وجد فيها شعراء عصره، فجعلته تلك «الشخصية النموذجية» التي تكاد لا تتكرر في جيل.

١  كتاب الغدد الصماء Endocrinology تأليف ورنر Werner.
٢  «الغدد التي في داخلنا» تأليف جون أبلنج “The Glands Inside Us”, by John Ebling.
٣  تقرير نوفاك ولونج عن أورام المبيض وعلاقتها بالتغيرات الجنسيه الثانوية Ovarian Tumours Associated with Secondary Sex Changes by Novak and Long.
٤  «الغدد التي في داخلنا» تأليف جون أبلج The Glands Inside Us, by John Ebling.
٥  النمو في غانة الجديدة تأليف مرجريت مين Growing up in New Guinea by Margaret Maine.
٦  السلوك الجنسي عند ذكور الإنسان. تأليف الدكتور كنسي وزملائه Sexual Behaviour in the Human male, by Kinsey and Others.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤