فن الكتابة أو كيف ندرس فن الإنشاء١

اقتباس وترجمة

ليست الصعوبة — التي تعترض الكاتب أو الشاعر — في أن يكتب أو ينظم في أي موضوع شاء؛ بل الصعوبة كلها في أن يقول ما يعنيه بالضبط في هذا الموضوع.

هكذا يقول بعض كتاب الإنجليز وأساطين مدرسي الإنشاء، وقد استشهدنا بهذا القول في مقدمة ديوان ابن الرومي حين عرضنا للكلام على دقته التي امتاز بها في شعره، كما استشهدنا بقول الشاعر العربي:

وفضَّلني في القول والشعر أنني
أقول على علمٍ، وأعلم ما أعني

وهذه هي الغاية الجليلة التي يجب أن يفوق إليها كل رامٍ سهامه ويجعلها نصب عينيه وحفل أذنيه، وهي الغاية التي نريد أن نبين الطريق المؤدية إليها، تاركين الكلام إلى أساتيذ التربية، وكبار المنشئين الذين قضوا حياتهم في تدريس هذا الفن الجليل، ملخصين آراءهم حينًا، ومقتبسين بعض عباراتهم حينًا آخر؛ رغبة في الاختصار الذي تحتمه علينا هذه المقالات الموجزة، وإلى القارئ خلاصة هذه الآراء:

(١) تمهيد

أول ما نرمي إليه بتأليف هذا الكتاب هو أن نرسم لطالب الإنشاء خطة واضحة المحجة، ونبين له منهجًا يترسَّم خطاه؛ ليصل إلى غايته رأسًا، دون أن يضيع وقته عبثًا في تمارين، لا نقول: إنها عديمة الفائدة فحسب، بل إنها — على الحقيقة — عائق يقف حجر عثرة في طريقه، ويحول دون نجاحه في الكتابة الصحيحة التي ينشدها.

أما التمارين التي نعنيها بهذا النقد فهي تمارين الإعراب، وتصريف الكلمات، وحل الجمل حلًّا لفظيًّا لا طائل تحته، فهذه — في نظرنا — وسيلة عقيمة بيِّنة الخطل محققة الفشل، وهي كالمستنقع الضحضاح المملوء بالوحل، لا يستطيع السالك أن يسبح فيه أو يمشي.

ولبعض المؤلفين ولع شديد بإرهاق النشء بما يكدسه أمامهم من القواعد النظرية التي يحاول أن يقررها في أذهانهم ويجعل منها ضابطًا لا معدي للطالب عنه ولا مفر من اتباعه، وليس ذلك من همنا، فلنترك النظريات التي يستحيل اتباعها عمليًّا مولين وجهنا شطرًا آخر؛ فنعمل على أن نثبِّت أقدامهم، ونمكِّنهم من الكتابة التي تجمع بين الرشاقة والقوة، وتكون — إلى ذلك — خالصة من الشوائب دقيقة التعبير حسنة الأداء.

وللوصول إلى هذا طريق عملية واحدة؛ هي الإكثار من التمارين الإنشائية، إلى حد قد يظنه البعض غير ضروري، أو يرى فيه إسرافًا لا داعي إليه — إسرافًا في الجهود وإسرافًا في الزمن — ولكن سلوك هذه الطريق الطويلة ضروري لا مناص منه، وليس طول الطريق دليلًا على أن الطريق الأخرى — التي هي أقصر منها — خير منها.

ألا ترى إلى طالب العود أو البيانو؟ قل لي بربك: كم عامًا يقضي في سبيل غايته؟ وكم من الزمن يمر عليه حتى يصل إلى درجة الإتقان، أو — على الأصح — حتى يدنو من درجة الإتقان؟

وإذا كان ذلك كذلك، فما بالك بمن يتطلع إلى إتقان الكتابة، والتصرف في فنون القول؟ ما بالك بمن تطمح نفسه إلى مثل هذا المطلب الوعر؟ وكم من السنين يجدر به أن يقضيها حتى يصل إلى غايته؟ «ومن يخطب الحسناء لم يغلها مهر.»

ما بالك بمن يريد أن يمتلك ناصية البيان، ويسمو بأسلوبه عن الركاكة، واللبس والتعقيد، وما إلى ذلك من عيوب الكتابة وصعاب اللغة، ويجمع — إلى ذلك — ذوقًا فنيًّا عاليًا.

أضف إلى ذلك أن من يريد أن يتعلم فن الإنشاء إنما هو — على الحقيقة — يريد أن يتعلم كيف يفكر، فهو في بحثه عن الكلمة الصحيحة الفصيحة، وتخيره الأسلوب الدقيق الأداء الموفق التعبير، يسلك كثيرًا من شعاب القول وفنونه، ويمر بمنعرجاته ومنعطفاته الكثيرة، باحثًا منقبًا عن الفكرة المنشودة، متخيرًا من بينها أمثل طريق، وهو بهذا يتعلم كيف يتعرف الخطأ والصواب، ويميز بين الحسن والأحسن، وكلما سار في هذه الطريق، تفتحت أمامه كنوز اللغة وفرائد المعاني، وكان مثله كمثل «سول» ذلك الفتى الذي تحدثنا الأساطير أنه ذهب يبحث عن جحوش أبيه وعيرانه فظفر بمُلكٍ عظيم.

(٢) تمارين الإنشاء

أما تمارين الإنشاء فيجب أن تكون قصيرة، وأنا ألحف في الرجاء أن يعنى حضرات المدرسين بهذا الأمر كل العناية، وأن يجتنبوا دائمًا المقالات الطويلة، بل أن يحرموها على طلبتهم بتاتًا؛ ذلك أنها منهكة لقواهم، مضيعة لوقت المدرسين بلا طائل، وهي — إلى ذلك — تعوِّد الطلبة أن يجمحوا كثيرًا، وربما تركوا جوهر الموضوع — كما يحدث ذلك أحيانًا — وبعدوا عن أساسه. وشر عيوب الكتابة الشطط.

أضف إلى ذلك أن التطويل يعوِّد الطالب الإهمال في صوغ عباراته بدقة، كما يعوِّده الإهمال في تخيُّر الألفاظ؛ فلا ترى له إلا كتابةً مفككة الأوصال، ركيكة التعبير، على حين أنه لو كتب موضوعًا قصيرًا لا يتجاوز عشرة أسطرٍ — أحسن تنسيقها وعني بأدائها خير أداء — لكان ذلك أجدى عليه وأعود بالفائدة من كتابة موضوع مسهب في عشر صفحات قد رصفت فيه الكلمات رصفًا بلا روية ولا إحكام. ويجدر بالمدرس أن يرشد الطالب إلى الطريق التي يسلكها ثم يدع له وحده تخير الجمل، وصقل الأسلوب.

أما الطالب فهو خليقٌ أن يتخير من الموضوعات والمعاني ما يلائم تفكيره ويتناسب مع ميوله ومداركه؛ حتى يجيد أداءه.

ويجدر بالمدرس أن يصحح التمارين الإنشائية في الفصل — أمام التلاميذ — فإن ذلك أعون على توسيع مدارك الطالب وتنمية عقله، ثم ليقرأ الطالب موضوعه بصوت عالٍ، وتبدأ المناقشة بين المدرس والطلبة في نقط الموضوع، وتبيان وجهات الخطأ والصواب فيه؛ فتتاح للطلبة فرصة الانتقاد، والأخذ والرد، والمناقشة، ويمتلئ الدرس حياة ونشاطًا، ويتعود الطلبة الكلام والمحاجة منذ حداثتهم.

(٣) حوار شائق بين طالب ومدرس

طالب ناشئ يريد أن يصل إلى درجة عالية في فن الإنشاء، ويصبح قادرًا على التعبير عن أغراضه بعبارة بليغة وأسلوب دقيق، وقد امتلأت نفسه بهذه الرغبة — التي تملكت عليه مشاعره — فلم يجد أمامه من يسترشد به في معرفة الطريق التي يسلكها للوصول إلى تحقيق غايته غير أستاذه، ولم يكد يوضح لأستاذه غرضه حتى دار بينهما الحوار التالي:

الطالب : «أريد أن أصل إلى درجة عالية في الإنشاء، وأن أصبح قادرًا على الكتابة بأسلوب بليغ وعبارة مختارة، فما هي أقرب الطرق إلى ذلك؟»
المدرس : «إن غايتك التي ترمي إليها غاية نبيلة، ومطلبك الذي تسعى إلى تحقيقه مطلب سامٍ جليل، فليس أبهج للنفس من القدرة على أداء الأغراض، والتعبير عن خوالج النفس بعبارة صحيحة بليغة، وسترى من إحكام لغتنا العربية، ووفرة أساليبها، ودقة تعبيرها ما يساعدك على إدراك طلبتك، فلقد تكون لغتنا أغنى لغة في العالم كله!»
الطالب : «ألا تنصح لي بقراءة شيء من الكتب التي ألِّفت في هذا الفن؟»
المدرس : «كلا كلا! لا حاجة بك إلى قراءة شيء من ذلك أبدًا، أو — على الأقل — لا حاجة لك في هذه المرحلة الأولى التي تجتازها إلى قراءة تلك النظريات والقواعد البيانية والبلاغية وما إليها!»
إن كل ما تحتاجه الآن هو المرانة على الكتابة، والتعبير عن أغراضك بأسلوب عربي واضح، ولك أن تمارس ذلك في أي يوم تشاء أو في كل يوم.

وأحب أن أقص عليك تلك الحكاية المشهورة التي يروونها عن سيدة فرنسية كانت مربية لأولاد «لويس الرابع عشر» ملك فرنسا العظيم، لترى فيها المثال الذي أريد أن أنبهك إليه، وخلاصة هذه القصة أن تلك المربية سألت ولدًا من أبناء لويس الرابع عشر — هو الدوق دي مين — أن يكتب إلى أبيه كتابًا، فقال لها مدهوشًا: «أمثلي يستطيع ذلك وأنا لا أعرف كيف أخط جملة واحدة منه؟»

فقالت له المربية: «ألست تفكر في أبيك أحيانًا؟»

فقال: «أفكر فيه كثيرًا، وأحزن لغيبته الطويلة عني أشد الحزن!»

فقالت له: «هذا حسن! هذا حسن! اكتب له ذلك إذن!

ولكن خبِّرني، أهذا هو كل ما تفكر فيه؟ ألا تشعر بشيء آخر؟»

فقال: «نعم؛ أود أن أراه، وسأكون سعيدًا جدًّا إذا عاد إلينا من سفره!»

فقالت له: «ها هو كتابك قد تم إنشاؤه، ولم يبقَ عليك إلا أن تكتب له ذلك وتجعل له افتتاحًا وختامًا؟»

فقال لها متعجبًا: «ما كنت أحسب أن كتابة الرسائل بمثل هذه السهولة! فقد كنت أتخيل أن من يريد كتابة رسالة جديرٌ أن يملأها بألفاظ لغوية، وجمل منمقة لا يقدر على الإتيان بها إلا كبار البلغاء وأساطين الكتاب!»

فقالت له: «لا حاجة بك إلى شيء من هذا، وليس عليك إلا أن تكتب ما تشعر به بأسلوب واضح، وكلمات سهلة بسيطة!»

•••

ولعلك تتبين من هذا المثال الخطة التي أريد أن أرسمها لك لتنتهجها في فن الإنشاء.»

الطالب : «وما رأي سيدي الأستاذ في القواعد النحوية، والتمارين الصرفية وما إلى ذلك، ألست مضطرًّا إلى معرفتها؛ لمراعاتها أثناء الكتابة؟»
المدرس : «كلا، لست في حاجة إلى ذلك كله؛ فستعرف الشيء الكثير منها أثناء الطريق. وأنت — إذا ملأت ذهنك بتلك القواعد في هذه المرحلة، وشغلت نفسك بها — كان مثلك كمثل من يود أن يتعلم المبارزة فيذهب إلى قاعة التمرين حيث يقلدونه حسامًا؛ فيترك العناية بما جاء لأجله من التدريب إلى الاشتغال بالنظر إلى حسامه وكيفية وضعه، وربما عثر به أثناء التفكير فيه.
يجب أن ينصرف عقلك — أثناء الكتابة — إلى الموضوع الذي تكتبه، وألا يبقى في ذهنك أي فراغ للتفكير في قواعد النحو، والصرف، والبيان حتى لا يشغلك ذلك عن متابعة المعنى، وتقصيه، وتخير الأسلوب الملائم الذي يؤديه أحسن أداء».
الطالب : «ولكنني — إذا فعلت ذلك — وقعت في أغلاطٍ لغوية، ونحوية!»
المدرس : «قد يكون هذا، ولكنك — بلا شك — ستقرأ موضوعك بعد أن تتم كتابته، وهذه فرصة حسنة تعنى فيها بتصحيح ما وقعت فيه من الأخطاء! أما وقت الكتابة فيجب أن ينصرف عقلك إلى التفكير في الموضوع الذي تتصدى للكتابة فيه!»
الطالب : «وما رأي سيدي الأستاذ في تمارين الإعراب والتطبيق — وما إلى ذلك — أليست تساعدني على التفوق على أقراني في الإنشاء؟ ألا ترى فيها مرشدًا لي؟»
المدرس : «بل أرى فيها شر مرشد يا ولدي، ويجدر بي أن أوضح لك ما أعنيه في هذه النقطة الدقيقة، وأن أجلِّي لك وهمًا يقع فيه كثير من أقرانك:
إن فائدة هذه التمارين — الخاصة بالإعراب والتطبيق ونحو ذلك — تنحصر في شيء واحد، هو تدريب عقلك على تعرف سر تركيب الجمل، وموقع الفاعل والمفعول من الجملة … إلخ.

ولكن الإنشاء شيء آخر غير هذا كله، شيء يخالف ذلك كل المخالفة، وأوجز ما أقوله لك: إن عملك في الإنشاء هو عكس عملك في الإعراب وتطبيق القواعد النحوية … إلخ.

ربما خطر ببالك أن التفوق في النحو— الذي يكسبك خبرة صحيحة بمواقع الكلمات من الجمل — سيكسبك نفس هذه الخبرة في إنشاء موضوع ما، وهذا وهمٌ يكذِّبه الواقع، وتنقضه التجربة؛ فليست هذه القواعد عديمة الجدوى في تفوقك في الإنشاء فحسب، بل هي — إلى ذلك — أكبر عقبة تعترض سبيلك وتعوقك عن التقدم في هذا الفن والنجاح فيه.

وما ظنك برجل يريد أن يعلمك المشي مثلًا، فلا يحفل بتدريبك عليه، بل يدع ذلك جانبًا؛ ويبدأ بتعريفك كل دقيقة وجليلة من عضل الساق، وسر تركيبها، وعمل كل منها أثناء السير، وتوقف تحريك تلك العضلة على تحريك هذه، إلى آخر ذلك البحث المضني الشاق الذي لا يعنى به إلا المختصون من الأطباء بدراسة التشريح.

إنك تستطيع أن تدرك — بأدنى تأمل — أنك في غير حاجة إلى تفهم كل هذه المباحث العويصة، وأنك في حاجة إلى التمرين — قبل كل شيء — وأن التدريب وحده هو خير الطرق لتعويدك المشي، وحسبك إذا شئت أن تعرف أسماء العضل الرئيسي في الساق تاركًا بقية التفاصيل إلى الأطباء المختصين.

ولقد تعلَّم الناس المشي — منذ آلاف السنين — قبل أن يعرفوا أسماء هذه العضل، ولم يكلفهم ذلك أكثر من محاكاة غيرهم وتقليدهم في ذلك.

واعلم يا ولدي أن المشي والكلام والكتابة غاية في اليسر، وأن كلًّا من هذه الأشياء الثلاثة لا يُكتسب بغير المرانة، وأن على هذه المرانة وحدها يتوقف سر النجاح فيها جميعًا.

إن في هذه الكتب — التي يضعها مؤلفوها لتعليم الإنشاء — كثيرًا من العجائب إن لم أقل السخافات، مثال ذلك:

اكتب ثلاث جمل في كل منها فعل يتعدى إلى مفعولين، أو ثلاثة مفاعيل، أو نحو ذلك، أنشئ ست جمل مبتدأة أولاها بحرف ألف، وثانيتها بحرف باء … إلخ. هذا نظام غير طبيعي، وهو نوع من التمارين الإنشائية المتكلفة التي لا تنطبق على حاجتنا في أداء أغراضنا ومعانينا في الحياة العملية، فإن أول شرط في الكتابة أن تكون طبيعية كالكلام والمشي، ولا جرم أن الإنسان — إذا تكلم أو كتب — لا يعنى بأمثال هذه السفاسف، وهو لا يتكلم — أو يكتب — إلا معبرًا عما يدور بخلده من المعاني والأغراض، ومن ثم تواتيه الكلمات والجمل — عفو الخاطر — حتى يتم موضوعه دون أن يحفل مطلقًا بجعل هذه الجملة قصيرة أو طويلة، فيها أفعال تتعدى إلى مفعول واحد أو ثلاثة مفاعيل، مبتدأة بحرف جيم أو حرف زاي، إلى آخر هذه الصغائر!

وموجز القول أن الإعراب والإنشاء متعارضان كل التعارض، وأن نظام هذا وطبيعته مناقضة كل المناقضة لنظام ذلك وطبيعته.

فعمل الإعراب: هو تفكيك الجملة — بعد أن وجدت — وعمل الإنشاء هو خلق تلك الجملة قبل أن توجد، هذا يُفهمك مواقع الكلمات ووظيفتها؛ فيفكك أوصال الجمل للوصول إلى غرضك، وذلك يعلمك كيف تنشئ الجمل إنشاءً من العدم لتؤدي المعاني المطلوب أداؤها منك، هذا هدم وذلك بناء، أو — بعبارة أخرى — هذا يمثل الفناء وذلك يمثل الخلق.

واعلم أنك — إذا عنيت بالنحو والإعراب وما إليهما، وشغلت نفسك بمراعاة مواقع الفاعل والمفعول، ونحو ذلك من كل جملة أثناء الكتابة؛ التوى عليك القصد وفسد المعنى، وجاءت كتابتك آية من آيات المسخ والتكلف والتشويه، ووقفت تلك القواعد التي تحسبها معِينة لك — عقبة كأداء في سبيل نجاحك وتفوقك في الإنشاء.»
الطالب : «شد ما أدهشني يا سيدي الأستاذ! لقد كنت — إلى هذه اللحظة — أرى قواعد النحو والصرف أكبر معين لي على إدراك طلبتي!»
المدرس : «إنك إذا أتقنت النحو والصرف وصلت إلى نتيجة أخرى، وهي تعرُّف صحة الجمل، وتمييز الخطأ والصواب فيما تقرأه من الكلام، ولكن هذا كله لا يفيدك في تنظيم أغراضك، ولا يعدِّل من طريقة تفكيرك وكتابتك، بل أنا أقول لك: إن انشغال بالك بالنحو والصرف، وانصرافك إلى التفكير فيهما — أثناء الكتابة — قد يضرانك أشد الضرر، وربما جعلاك حذرًا خائفًا تتوقع الخطأ في كل جملة تكتبها أو تقولها.»
الطالب : «إذن يجدر بي أن ألقي بكتب النحو والصرف، وأن أركن إلى نفسي ما دمت في غير حاجة إليها!»
المدرس : «إنك — إن فعلت ذلك — ارتكبت أشنع الخطأ؛ فإن لهذه الكتب فائدة كبيرة، وحاجتك إليها شديدة — على شرط أن تستعملها في مكانها ووقتها الملائمين — ولكن هذه الكتب — بعد ذلك — لا تجدي في الإنشاء، ولا علاقة لها بضعفك أو تفوقك في هذا الفن، لأن النحو شيء والإنشاء شيء آخر!»

•••

الطالب : «فبماذا إذن أسترشد، وبأي دليل أهتدي للوصول إلى غايتي في فن الإنشاء؟»
المدرس : «ليس لك إلا مرشد واحد، وهو انتهاج طريق الكتَّاب الممتازين، والإكثار من مطالعة كتاباتهم، وتفهُّم أسلوبهم الرصين وعباراتهم الرشيقة، أمامك رجال الفكر العربي، وأساطين الكتاب الممتازين — في مختلف العصور — فاقرأ كلامهم واستوعب كتابتهم؛ فإنك بذلك واصل إلى بغيتك.»
الطالب : «ألا يتفضل سيدي الأستاذ بذكر نخبةٍ يختارها لي من أقوال الكتاب الذين يعنيهم؟»
المدرس : «إنهم كثيرون، وإني أذكر لك من هؤلاء الكتاب — على سبيل المثال — ابن المقفع، وأبا الفرج الأصبهاني، وعلي بن عبد العزيز الجرجاني، وعبد الحميد.
كما أذكر لك خطب الحجاج وزياد، وأحب ألا تفوتك تلك المحاورات الشائقة التي دارت بين علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان، ولا تلك المراسلات المعجبة التي دارت بين على ومعاوية، فإن أمثال هذه الكتابات آية من آيات الدقة والإحكام، ونموذج عالٍ من نماذج الإبداع، والافتنان!

ولا تنسَ قراءة كلام النابغين من كتَّاب عصرك، الذين امتازوا بتوخي الدقة وحسن الأداء، ومتانة الأسلوب؛ هذا إذا أردت التفوق في الكتابة العربية، فإذا وليت وجهك شطر الأدب الإنجليزي وأردت التفوق في الكتابة بالإنجليزية؛ فاقرأ من نوابغهم أمثال «ماكولي» و«فرود» و«كنج ليك».

وجماع القول أن الوسيلة الوحيدة للتفوق في الكتابة بأية لغة — أجنبية كانت أو قومية — هي الاطلاع الدائم على كتابة بلغاء تلك اللغة، وقادة الفكر والبيان فيها، ومحاكاة كتاباتهم بكل وسيلة ممكنة!»
الطالب : «وكيف أستطيع محاكاتهم في كتابتهم؟»
المدرس : «أما طريقة المحاكاة فسهلة هينة وهي:
إذا عثرت على قطعة مختارة لمثل هؤلاء الكتاب الأفذاذ الذين ذكرتهم لك — مما يثير إعجابك — فاقرأها متأنيًا فاحصًا، واكتب في ورقة بيضاء أهم نقاطها الجوهرية، ثم اترك القطعة التي قرأتها، والورقة التي كتبتها — يومًا أو يومين — ثم عد إلى ورقتك التي كتبتها مسترشدًا بها في كتابة الموضوع — من جديد — مفرغًا قصارى جهدك في تقليد عبارة الكاتب وأسلوبه.

ومتى انتهيت من ذلك فارجع إلى أصل المقال، وقارن بينه وبين ما كتبت وأصلح كل ما وقعت فيه من خطأ أو إهمال مما يؤدي إلى اختلاف في الأداء لا يتفق مع الدقة، والإحكام اللذين رأيتهما في الأصل.

عوِّد نفسك ذلك التمرين مرتين أو ثلاثًا في كل أسبوع؛ فإنك قادر على الكتابة — بعد قليل من الزمن — بأسلوب رائع!»
الطالب : «ولكني — إن فعلت ذلك — كنت مقلدًا، وقد أجمع المفكرون على أن التقليد شر لا خير فيه، ولا فائدة ترجى منه إلا الإملال، ولا شك أن المنقول أقل روعة وبهاء من النموذج!»
الأستاذ : «لا ريب أن الفن قائم على الابتكار، وأن التقليد فيه لا يكون إلا شرًّا لأن كل صورة — مهما كانت جميلة — هي أقل بهاء وروعة من النموذج الذي أخذت عنه، ولكن الناشئ الذي يتعلم ليس أمامه إلا طريق واحدة للوصول إلى غرضه، وهي أن يجعل همه الأول تقليد أساتيذ الفن الذي يتعلمه.
وهذه هي نفس الطريق التي سلكها «ستيفنسن» حين شرع يتعلم الكتابة، و«ستيفنسن» — كما يعرفه قراء الإنجليزية — منقطع النظير بين الكتَّاب الحديثين، وقلما داناه كاتب من كتاب الإنجليز، في جمال أسلوبه، ودقة عبارته، وروعة بيانه.

وقد كان في أيام الدرس والتحصيل — وهو في جامعة «أدنبرج» — يقلد كتابة «ماكولي» شهرًا، ويسلك في تقليده تلك الطريقة التي شرحتها لك، ثم يدع «ماكولي» — بعد ذلك — ويأخذ في تقليد كتابة «فرود» شهرًا آخر وهكذا، ولم يترك كاتبًا من المشهورين إلا قلده، حتى «كارليل» وأضرابه.

ولقد أدرك — بهذه الطريقة — التي كان يسميها «طريقة المواظبة على التقليد» كل ما يبغيه في فن الكتابة، وقرر — في صراحة وجلاء — أن لهذه الطريقة عليه أكبر فضل، وقد عزا إليها كل ما في أسلوبه من قوة ورصانة، وميزات باهرة لا تزال موضع إعجاب قارئيه إلى اليوم.

كذلك كان «فيكتور هيجو» يقلد في أول نشأته «شاتوبريان» الكاتب الفرنسي العظيم؛ حتى كتب على مقعده في الفصل — وهو طالب: «أريد أن أكون «شاتوبريان» آخر!»

وليس التقليد عيبًا في المرحلة الأولى من التعليم، فإن لكل طالب أستاذًا يراه الطالب محل إعجابه كما يراه نموذجًا جديرًا بالتقليد والمحاكاة، ولقد كان أبو نواس في صباه يعجب بوالبة بن الحباب، كما كان البحتري يعجب بأبي تمام ويقلده في صغره، وقلَّد أبو العلاء المتنبي في حداثته أيضًا.

فإذا شئت أن تتعرَّف مني الوسيلة الوحيدة التي تبلغ بها مأربك في فن الإنشاء فليس لي ما أقوله لك إلا هذه الكلمة: «التقليد! التقليد! التقليد!» أفهمت الآن يا ولدي؟ عليك بالتقليد وأنا الزعيم لك بأنك واصل إلى ما تريد.»
الطالب (وقد بدت على وجهه دلائل الارتباك) : «إذن فما فائدة كل هذه الكتب المؤلفة في فن الإنشاء؟ وما فائدة الكتاب الذي ألفته أنت في فن الإنشاء؟ أأتَّبع هذا الكتاب أم أتَّبع البلغاء من الكتاب الممتازين الذين ذكرتهم لي الآن؟»
الأستاذ : «لقد أحسنت يا ولدي في هذا السؤال ويجدر بي أن أصارحك القول، وأن لا أكتمك شيئًا، فإنني أرى وأنا على يقين مما أراه أنك — إذا استطعت أن تسلك الخطة التي شرحتها لك وأوصيتك باتباعها — ثم ثابرت عليها دائبًا، كان ذلك — بلا ريب — أنفع لك من كل ما كتبه المؤلفون من الكتب في فن الإنشاء إلى اليوم.
بل أنا أقرر لك ما هو أغرب من ذلك، فإنني أعتقد أن المعلم — في المرحلة الأولى التي تبدأ فيها قدرة الطفل على الكتابة — إذا عني بتمرين طفله على كتابة جملتين اثنتين في كل يوم، إحداهما مما يذكره من الدرس الذي طالعه، والأخرى مما رآه أو عمله في يومه من الأعمال، أقول لك واثقًا: إن المعلم — لو سلك مع الطفل هذه الطريق — لم يلبث الطفل أن يصبح قادرًا على الكتابة بطبعه دون تكلفٍ وتصبح الكتابة عنده طبيعية كالكلام — سواء بسواء! — ومن ثم لا يصبح الإنشاء فنًّا كما يريد الأساتيذ أن يمثلوه، بل يصبح طبيعة أخرى كطبيعة الأكل والتنفس والجري، فيكتب الطالب كما يتكلم، ويأكل، ويتنفس، ويجري سواء بسواء!»

•••

الطالب : «كل ما تقوله حسن يا سيدي الأستاذ، فما فائدة هذا الكتاب الذي ألَّفته في فن الإنشاء؟»
الأستاذ : «أردت بذلك أن أسد الفراغ الذي يشعر به طالب ناشئ مرَّ بهذا الدور من التعليم، ورأى عقم الطريقة التي يسلكونها معه للوصول إلى الدرجة العالية التي ينشدها في فن الإنشاء.
أردت — بهذا الكتاب — أن أضع للطلاب كتابًا يعلِّمهم الإنشاء بأسلوب جديد في التربية، يخالف ذلك الأسلوب العقيم الذي ألَّفه مدرسو الإنشاء ومؤلفو الكتب في هذا الفن.

أردت أن أسلك بالناشئ منهجًا مجديًا نافعًا، فلم أملأ رأسه بالقواعد النحوية والصرفية والبيانية وما إلى ذلك من الفنون التي لا تجديه في التفوق في الإنشاء ولا تغنيه أي غناءٍ!

فإذا أردت أن تتعرف فائدة هذا الكتاب، فليس لي ما أقوله لك أكثر من أنه كتاب جمعتُ فيه عددًا كبيرًا من التمارين المختلفة لتدريب الطالب على الكتاب — أو بعبارة أدنى إلى فهمك — إنني هيأت في هذا الكتاب المواد الأولى التي لا غناء لمن يريد الكتابة عنها، كما تهيأ مواد البناء الأولية لمن يريد البناء. فلا بد من التمرين لمن يريد أن يتعلم هذا الفن، كما لا بد من الأحجار والملاط وما إلى ذلك لمن يريد بناء بيت.

لهذا عنيت بالتمرين كل العناية، وأكثرت منه كل الإكثار!

فليس لمدرس الإنشاء بدٌّ من أن يدرب تلاميذه على خلق الجمل مرة، وتحويرها مرة أخرى، وهذا ما فعلته، وقد عنيت بالإكثار من التمارين على استعمال الكلمات في مواضعها الحقة وبمعناها الصحيح، وفي هذا تدريب على تنظيم التفكير عند الناشئ أيضًا.

وقد بذلت وسعي في تعويد الطالب الدقة في الأداء، وتدريبه على نثر الشعر، إلى آخر هذه التمارين النافعة!»
الطالب : «نثر الشعر! ماذا تعنيه بهذه الكلمة يا سيدي الأستاذ؟
إنني بحاجة إلى كثير من الإيضاح، فقد كنت — وما زلت — أسمع أن هذا النوع من التمارين قليل الخطر، إن لم أقل: إنه عقيمٌ لا فائدة منه بتاتًا!»
الأستاذ : «هذا رأى خاطئ، فليست تلك التمارين بمثل هذا الحد الذي يصفونها به من العقم، وليست تخلو من فائدة للطالب!»
الطالب : «وأية فائدة يجنيها الطالب من مثل هذه المحاولات؟»
الأستاذ : «إنها تعينه على ادخار محصول لغوي وفير، من المفردات والجمل معًا؛ ولولاها لتضاءل محصوله واضمحل، وربما تلاشى، وهذه التمارين تعين الناشئ على استعمال ما في رأسه من الكلمات واجترارها اجترارًا.واعلم أن المرانة والتطبيق والعمل، يتوقف عليها وحدها كل شروط الحياة، ولا سبيل إلى تنمية ثروة مهملة، إلا أن تستعملها، ولن يزيد ما نملكه إلا إذا استعملناه وإلا تلاشى تلاشيًا!ولقد قالوا في أمثالهم: «الحاجة تفتق الحيلة.»
وقالوا: «كلما اشتدت الحاجة كان ذلك داعيًا للاضلاع بجلائل الأعمال!»
الطالب : «ولكن ألا ترى يا سيدي الأستاذ أن من الخطل — إن لم أقل من الحماقة — أن نستبدل شعرًا جميلًا بنثر رديء، وأن نحوِّل نظمًا رائعًا إلى كلام منثور ركيك؟ وماذا تقول فيمن يعمد إلى مقطوعة نظميَّة لمؤلف كبير خبير بدقائق المعاني، ومرامي الأسلوب، وقوة الصياغة، وتخير العبارة، فيمسخها مسخًا ويشوهها تشويهًا، ويحيلها إلى كلام سخيف مفكك الأسلوب ضعيف المعنى؟»
الأستاذ : «الحق معك في هذه النقطة وحدها، ولكن فائدة هذا العمل — رغم ذلك — لا يستطيع منصف أن يغفلها!»
الطالب : «أية فائدة نجنيها من المسخ والتشويه؟»
الأستاذ : «إنك — حين تتصدى لحل الشعر — إنما تبرهن لأستاذك — ولنفسك أيضًا — أنك قد فهمت معنى القصيدة أو المقطوعة فهمًا، واستوعبتها استيعابًا.
هذا إلى أنك تنمي بذلك محصولك اللغوي، وتمرن نفسك على استعمال كلمات جديدة، فيزيد بذلك محصولك اللغوي أيضًا.»
الطالب : «هذا حق، ولكني أسمع أن في هذه الطريقة عيوبًا ومآخذ يجب أن يتجنبها الطالب!»
الأستاذ : «لا جرم أن هناك كثيرًا من العيوب، فإن لكل طريقة عيوبًا ومحاسن. على أن أكبر عيب في هذه الطريقة يقع فيه الطالب، ويجدر به أن يبذل كل ما في وسعه لتلافيه، هو ما يسمونه «الحرفية».
فالحرفية شر يجب تجنبه والفرار منه؛ لأنها تسيء إلى صاحبها أبلغ إساءة، ومتى سلكها في حل الشعر لم يجئ نثره عاديًّا معقولًا، بل يصبح مشوهًا سخيفًا مفكك الأسلوب ضعيف الأداء؛ ذلك أن الحرفية تبعد الطالب عن التشبع بروح الأصل، وتجعله يعنى بالقشور دون اللباب؛ ومن ثم لا نرى إلا جملًا ركيكة لا تؤدي معنى واضحًا، ولا شك أن التزام الحرفية — الذي يلجأ إليه الطالب حاسبًا أنه يوصله إلى أبعد غايات الدقة — لا ينتج عنه دائمًا إلا ضياع المعنى، وتشويه العبارة، وفقدان الدقة المنشودة.
الطالب : «وكيف نتقي خطر الحرفية؟»
الأستاذ : «يجب أن يكون النثر معبرًا عن الأصل الشعري — كما تعبر الترجمة عن روح الأصل — فإذا أردت حل الشعر، وجب عليك أن تستوعب القطعة وتملأ بها شعاب نفسك، ثم تبدأ في نثرها بما يلائم روحها.
فشعر «ملتون» مثلًا يجب ألا تنثره إلا في أسلوب يلائمه ويتناسب مع رصانته وجزالته.

وإذا نثرت شعر «تنيسون» وجب عليك أن تراعي في ذلك نبل اللغة مع جمال الموسيقية الذي في الأصل.»
الطالب : «وكيف أصل إلى هذه الغاية؟»
الأستاذ : «أول ما يجدر بك أن تفعله للوصول إلى هذه الغاية هو أن تقرأ الأصل قراءة متفهِّم مستوعب، لتتشبع بروحه، وأن تقرأه — مرة أو مرتين بصوت عالٍ قراءة من يحس ويشعر، ويتأثر بمعانيه، ويتذوق جماله بكل ما في نفسه من إحساس وشعور وذوق!
فإذا تم لك ذلك وجب عليك أن تحصر — في ذاكرتك — الفكرة الجوهرية التي تنتظم القصيدة — أو المقطوعة — فإذا انتهيت من ذلك وضعته في الأسلوب الذي تجده ماثلًا في ذهنك بما يواتيك من بيان!»
الطالب : «ولكن ألا ترى بدًّا من أن نكتب بأسلوب جميل؟»
الأستاذ : «لا بد من ذلك يا ولدي، ويجب عليك أن تبذل كل ما أوتيت من قوة وجهد في تحسين الأسلوب وتجميل العبارة؛ حتى تتناسب مع جمال الأصل، كما يجدر بأسلوب أن يجمع بين الوضوح والرشاقة والجمال، بحيث يعجب به كل من لم يطلع على الأصل!
وعليك أن تتجنب في نثرك العبارات الشعرية والكلمات والجمل والأساليب التي اختص بها الشعر وحده، فإن للشعر لغة وخصائص كثيرًا ما تخالف لغة النثر وخصائصه.

وربَّ كلمة — هي في قافية قصيدة آية من آيات الجمال والموسيقية — إذا وضعت في جملة نثرية كانت آية من آيات فساد الذوق وضعف الأسلوب!»
الطالب : «فما هو الغرض الأول الذي نجعله نصب أعيننا حين نتعلم الإنشاء؟ وما هي الغاية الحقيقية التي نتطلع إليها من دراسة هذا الفن؟»
الأستاذ : «يجب أن ترمي إلى أمرين، إلى أمرين فقط؛ الوضوح، وحسن الصياغة! وهذان الغرضان من اليسير على أي طالب ذي كفاية متوسط أن يصل إليهما، إذا عني بهما عناية خاصة، ومرَّن نفسه على بلوغ هذه الغاية!
فإذا كنت ممن وهبه الله بلاغة، وقدرة على الافتنان في الأسلوب، والتصرف بفنون القول؛ نلت أعلى منزلة في الكتابة، على أنك — إذا لم يساعدك طبعك — وأردت أن تكون رشيق التعبير رائع البيان؛ فلن تصل إلى تلك المنزلة مهما بذلت من جهد في الدرس والتحصيل!»
الطالب : «ولكن من المؤكد أن في استطاعة كل إنسان أن يكتب بوضوح، وأن يكون أداؤه حسنًا، فقد يظهر أن ذلك طبيعي جدًّا.»
الأستاذ : «ليس من السهولة بحيث تظن يا ولدي، فليس من الهين أن يكتب الإنسان كتابة واضحة حسنة الأداء.
لقد أصبح عصرنا حافلًا بالكتب والصحف والمجلات، وأصبح إقبال المتعلمين على القراءة يفوق كل وصف، وكثيرًا ما تزدحم أذهان الشباب بما قرأوه — مما لم يستوعبوه جيدًا — فإذا حاول أحدهم أن يؤدي لك فكرة أدَّاها مضطربة مشوشة لا سبيل إلى أن تفهمها؛ لأنه هو نفسه لم يفهمها حق الفهم! وليس لهذا من دواء إلا أن يعنى الناشئ بتفهُّم ما يقرأه واستيعابه؛ حتى لا تزدحم في ذهنه صور شتى من المعاني مضطربة متناقضة، ولخيرٌ للإنسان أن يقرأ كتابًا واحدًا وأن يفهمه حق الفهم من أن يقرأ ألف كتاب قراءة عجلى لا تمكنه من استيعاب شيء مما قرأ.

واعلم أن القراءة — كالغذاء — يجب أن يلائم صاحبه، وأن لا يزيد عن حاجة معدته، وإلا أصبح شرًّا عليه!

على أنني لا أريد أن أختم نصيحتي إليك، دون أن أشير إلى طريق سهلة تصل بها — إذا سلكتها — إلى الدقة، وتكون خير مرانة على الكتابة، وهي الترجمة إن كنت تعرف لغة أجنبية.»
الطالب : «كيف تشير عليَّ بالترجمة، وقد سمعت الكثيرين يعيبون هذه الطريقة، ويقررون — تقرير المستيقن الجازم — أن الترجمة تضر أكثر مما تنفع، وأن خير الطرق لتعلم لغة هو تعلمها رأسًا من غير وساطة الترجمة!»
الأستاذ : «لأنصار هذا المذهب كل الحق فيما يقولون، وأنا أدين بهذا الرأي أيضًا، ويخيل إليَّ أنك لم تفهمه على وجهه الصحيح!
إن الترجمة لا تنفعك — بل تضرك — إذا حاولت أن تتعلم لغة أجنبية عن طريقها؛ لأنك تضطر إلى اصطناع أساليب لغتك التي ألِفتها فيما تترجمه؛ فتفسد بذلك كتابتك!

وعلى العكس من ذلك، إذا أردت أن تترجم من لغة أجنبية إلى لغتك العربية فإنك تكتسب بذلك فوائد جمة متى ابتعدت عن خطر الترجمة الحرفية!

وإني أوجز لك فوائد الترجمة فيما يلي:
  • (١)

    أنها تطلعك على معانٍ جديدة، وطرقٍ في الأداء جديدة.

  • (٢)

    أنها تدربك على البحث عما يؤدي هذه المعاني من العبارات التي تلائمها.

  • (٣)

    أنها تعوِّدك الدقة والإحكام في التعبير.

وحسبك بهذه الفوائد مغريًا لك ومنشطًا، ولا تنسَ أن الترجمة إلى لغتك القومية تشبه — من وجوه كثيرة — الطريقة التي اقترحتها عليك من قبل، وهي طريقة حل الشعر، كما أنها تشبه ما طلبته إليك، من صوغ ما تقرأه من كلام البلغاء الممتازين في لغتك في أسلوب يتناسب مع جماله ودقته وحسن أدائه!»
الطالب : «ألا يتفضل عليَّ سيدي الأستاذ بإرشادي إلى قطعة بعينها من كلام البلغاء، أتخذها نموذجًا أحتذيه، وأنسج على منواله؟»
الأستاذ : «حاول جهدك أن تقلد القطعة التالية مثلًا — بعد أن تستوعبها قراءة وفهمًا — وهي لأشهر كتَّاب العربية «ابن المقفع»، ويجدر بك أن تتبع في محاكاتها الطريقة التي أسلفت لك شرحها، وإليك القطعة المنثورة:

«زعموا أن ناسكًا كان يجري عليه من بيت رجل تاجر في كل يوم رزق من السمن والعسل، وكان يأكل منه قوته وحاجته ويرفع الباقي، ويجعله في جرة فيعلِّقها في وتد في ناحية البيت حتى امتلأت، فبينما الناسك ذات يوم — مستلقيًا على ظهره، والعكازة في يده، والجرة معلقة على رأسه — تفكَّر في غلاء السمن والعسل فقال: «سأبيع ما في هذه الجرة بدينار، وأشتري به عشرة أعنزٍ؛ فيحبلن ويلدن في كل خمسة أشهر بطنًا؛ ولا تلبث إلا قليلًا حتى تصير غنمًا كثيرة إذا ولدت أولادها.»

ثم حرر على هذا النحو بسنين؛ فوجد ذلك أكثر من أربعمائة عنزٍ، فقال: «أنا أشتري بها مائة من البقر، بكل أربعة أعنزٍ ثورًا أو بقرة؛ وأشتري أرضًا وبذورًا، وأستأجر أَكَرةً٢وأزرع على الثيران، وأنتفع بألبان الإناث ونتاجها، فلا يأتي عليَّ خمس سنين إلا وقد أصبت من الزرع مالًا كثيرًا؛ فأبني بيتًا فاخرًا، وأشتري إماءً وعبيدًا، وأتزوج امرأة جميلة ذات حسن؛ ثم تأتي بغلام سريٍّ نجيب، فأختار له أحسن الأسماء، فإذا ترعرع أدَّبته وأحسنت تأديبه، وأشدد عليه في ذلك، فإن يقبل مني، وإلا ضربته بهذه العكازة.»

وأشار بيده إلى الجرة فكسرها؛ فسال ما كان فيها على وجهه!

هوامش

(١) فصل مختار من كتاب للمؤلف بهذا العنوان لم يُطبع بعد.
(٢) حراثين (جمع أكَّار).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤