نظرات في تاريخ الإسلام١

وأشترط على نفسي أن لا أتعرض لذكر ما أعتمده فيما أجده مخالفًا لما أعتقده، فإن التقرير غير الرد، والتفسير غير النقد!

فخر الدين الرازي

(١) تمهيد

هذه فصول مختارة من كتاب العلامة المستشرق «دوزي»، آثرنا نقلها إلى العربية لتبيان وجهة تفكير عالم أوربي كبير، وهي — وإن خالفت آراءنا أحيانًا في بعض مناحيها — جديرة أن تقرأ بعناية فائقة، فليس كل ما لا نرضاه من الآراء خليقًا بالطرح والإهمال.

وإذا كان العلامة «فخر الدين الرازي» يقول في مقدمته لشرح «الإشارات» لابن سينا: «إن التقرير غير الرد، والتفسير غير النقد»، فما أجدرنا أن نقول بدورنا: «والترجمة أيضًا غير النقد.»

لهذا اقتصرنا على نقل آراء ذلك المستشرق بلا مناقشة أو تعليق إلا ما يقتضيه المقام من توضيح لما اعتقدنا أن أكثر القراء في حاجة إليه. وإلى القارئ الكريم ترجمة كلامه:

(٢) ديانة العرب في الجاهلية

كان كل شيء سائرًا في طريقه المعتادة في النصف الأول من القرن السابع الميلادي؛ سواء في الإمبراطورية البيزنطية أو الإمبراطورية الفارسية، ولا جرم كانت هاتان المملكتان في نزاع دائم؛ سببه الرغبة والطمع في تملُّك آسيا الغربية. وكانتا — في ظاهرهما — مزدهرتين، تجبى لهما الضرائب والخراج فتمتلئ الخزائن بالمال، وتتضخم ثروة الحكام، حتى أصبح الترف والأبهة — اللذان انغمس فيهما سكان العواصم — مضرب الأمثال.

على أن كل ذلك لم يكن إلا مظهرًا كاذبًا؛ فقد كان يسري في كيان هاتين المملكتين داءٌ كمين، وظل السوس ينخر في عظامهما دائبًا على تقويض أركانهما بسبب ما أظهرتاه من عسفٍ وجورٍ مهلكين، هذا إلى ما حدث من الفواجع التي نجمت من تلك الأسرات، وما لعبته من الأدوار المفجعة التي كانت — في الحقيقة — سلسلة متصلة الحلقات، من الاضطهادات والفتن الدينية الشعواء.

وثم رأينا شعبًا يظهر فجأة من بين تلك الصحراء التي لا يكاد يعرفها أحد، شعبًا جديدًا بدأ يمثل دوره على مسرح الحياة بعد أن ظل نهبًا مقسمًا؛ تناوئ كل قبيلة منه القبيلة الأخرى، فيحتدم النزاع وتقع الحرب الطاحنة. ها قد رأيناه يتحد ويتجمع شمله الشتيت للمرة الأولى.

ذلكم هو الشعب الناهض الذي تملَّك نفسَه حبُّ الحرية، وساعدته على النجاح صفاته النبيلة، فقد كان متقشفًا في طعامه، مخشوشنًا في لباسه، نبيلًا في أخلاقه. كما كان طروبًا، سريع البديهة، حاضر النكتة، ولقد كان شريف النفس أريحيًّا — فإذا استثرته مرة — فهو قاسٍ غضوب شرس، لا يني عن أخذ ثأره، ولا يرده عن انتقامه شيء.

ذلكم هو الشعب الذي قلب — في لحظة واحدة — إمبراطورية الفرس التي ظل السوس ينخر في عظامها قرونًا عدة، وانتزع من خلفاء قسطنطين أجمل ضواحيهم، ثم سحق مملكةً جرمانية حديثة العهد تحت قدميه، وشرع يهدد — بعد ذلك — بقية أوربا، ذلك بينما كان في الوقت نفسه يوالي فتوحه وانتصاره في الجانب الآخر من المعمورة، حتى وصلت جيوشه الظافرة إلى الحملايا.

لم يكن ذلك الشعب فاتحًا فحسب — كغيره من الشعوب الأخرى — بل كان داعيًا إلى دين جديد ومبشرًا به أيضًا.

كان داعيًا إلى دين جديد فقام يناوئ الثنوية٢ الفارسية والمسيحية التي أفسدتها الخرافات والبدع، حاملًا إلى الناس توحيدًا خالصًا، لم يلبث أن دان به الملايين من الناس، حتى بلغ عددهم في أيامنا هذه نحو عُشر الإنسانية كلها.

ذلك هو الدين الذي أخذنا على عاتقنا محاولة الكلام فيه وفي تاريخه العام. ولعل أول ما يعرض لنا هو هذا السؤال: «ممَّ نشأ؟ وكيف تفرَّع من الديانة التي سبقته ثم نما حتى وصل إلى ما وصل إليه؟»

فكيف نجيب على هذا السؤال الذي يجدر بنا الإجابة عليه قبل كل شيء؟ الحق أنني لم أكد أعرض لهذا حتى وقعت في حيرة لا مثيل لها، فقد اعترضتني — حتى في هذه الخطوة الأولى — صعوبة لم أكن لأتوقعها قبل أن أتصدى لبحث هذا الموضوع. وإليك البيان:

إنني — على إجلالي وتقديري لما قام به بعض الباحثين الذين تصدوا للكلام عن ديانة العرب القديمة وأصل الإسلام، وعلى إعجابي بفطنتهم واجتهادهم — أقرر ولا أرى بدًّا من المصارحة أن هذه البحوث الطريفة لا تكفيني قط؛ لأنها لم تستطع أن توضح هذه الأمور أكثر من قبل.

لذلك رأيتني مضطرًّا إلى إعادة البحث — من جديد — سالكًا طرقًا أخرى مخالفة لما نهجه غيري من الباحثين إلى اليوم، وقد وصلت إلى نتيجة أنا أول المدهوشين لها، وليس في وسعي أن أسردها في بضع صفحات، إلا أنها — في جوهرها وأساسها — مرتبطة بعدة نتائج أخرى لها خطرها وأهميتها، ولمَّا كانت نتائج بحوثي مناقضة — على طول الخط — كل الآراء السائدة إلى اليوم لغرابتها عنها، والعلم يقضي على الإنسان ألا يلقي للناس قضايا مسلمة لا يدعمها برهان، ولا تقوم على أساس متين من الحجج العلمية الناهضة والأدلة الصحيحة المستقاة من مصادرها الأصلية.

والدعاوى — ما لم يقيموا عليها
بيناتٍ — أصحابها أدعياء!
ولما كانت المصادر الأصلية التي أعنيها هي مصادر أجنبية بالنسبة لقارئي هذا السِّفر٣ رأيتني مضطرًّا إلى تفصيل ذلك الرأي في سِفرٍ مستقل آخر.٤ ولكن ماذا نصنع الآن في هذا الفصل؟

•••

أما أن نجتزئ ببعض الآراء التي وصلتنا، مبدِّلين فيها، رغبةً في أن نوائم بينها وبين آرائنا الخاصة فهذا محال؛ لأن منهجين متباينين من مناهج البحث لا سبيل إلى التقائهما والتوفيق بينهما، هذا فضلًا عن عقم هذه الطريقة التي لا غناء فيها، فليس ثَمَّ أية فائدة من تعرُّف جزء من الحقيقة.

لذلك أعملت الفكر فلم أجد إلا مخرجًا واحدًا من هذا المأزق، هو أن أتَّبع الفكرة المقررة، مقتصرًا على سردها وذكر ما وصل إليه الباحثون من النتائج في هذا الصدد. لا سيما «سبرنجر» أقرب الباحثين وأوفاهم درسًا، واستيعابًا للتاريخ الإسلامي وترجمة النبي.

على أنني جدير أن أقرر — من الآن — بأسلوب صريح لا يحتمل لبسًا ولا تأويلًا أنني إن استطعت بهذه الطريقة أن أرفع عن عاتقي عبء المسئولية والمؤاخذة بما أقرره في هذا الفصل من وصف الحال الدينية التي كان عليها العرب في القرن السادس الميلادي، فلن يكون ذلك شأني فيما أقرره في بقية الفصول.

دفعتني هذه الاعتبارات السابقة كما دفعني غيرها من الأسباب التي لا يصعب على القارئ فهمها، إلى الاقتصار على ذكر ذلك الزمن السابق بأقصى ما في قدرتي من الإيجاز الذي التزمته في تبيان ديانة العرب الأولى ونشأتها في بلادهم، فلم أَحِد عن هذا الشرط قيد أنملة.

(٣) ديانة العرب الأولى

كان العرب يؤمنون بكائن أعلى — هو الله تعالى — ويعتقدون أن له ذاتًا كذواتهم، وأنه محيط بالعالم وما يحويه من كائنات — هو بارئها — وإن اختلفت حظوظها من الطاعة والعصيان، وكانوا يدينون بأنه خالق السموات والأرض٥ وأنه الذات المنزهة التي لا حدَّ لحكمتها، ولا يمارون في أنه مدبر العالم، وأنه هو الذي يرسل عليهم المطر من السماء.٦

كانوا يعتقدون هذا، ويعتقدون أيضًا أن ليس له كهَّان ولا هياكل، كتلك التي خصوا بها أوثانهم.

(٤) العرب والجن

فإذا تركنا ذلك إلى سواه رأيناهم يعظِّمون الجن ويمجِّدونهم، وقد دفعتهم إلى ذلك صحاريهم وجبالهم التي كثيرًا ما يضلون فيها أسابيع كاملة؛ فيتمثلون رؤية هذه العوالم الغريبة، ويقوِّي في نفوسهم هذه التصورات ما يكابدونه فيها من ألم الجوع والعطش، وما يحتملونه من شمس الصحراء المحرقة، وهوائها اللافح، وسوافها المهلكة، هذا إلى ما يعانونه من تقلبات الجو الفجائية، حتى ليصل بهم الروع إلى حد أن يتخيلوا أنهم يسمعون أصوات الجن ويبصرون ذواتهم في أشكال عدة وعلى صور شتى، منها السخيف ومنها المعجب،٧ وكانوا يعتقدون بأن أجسامهم تشغل جزءًا من الفضاء — كما تشغله أجسامنا — وأنهم ينتشرون، ولكنهم يختلفون عنا في تكوينهم؛ لأن أجسامهم مخلوقة من النار أو الهواء،٨ ومن ثم لا تراها العين الإنسانية إلا شذوذًا، وفي قدرتهم أن يأتوا كثيرًا من ضروب الشر والخير، ومن كانوا كذلك فقد وجب عليهم أن يتحببوا إليهم ويمجدوهم ويقدسوهم. ومما سهَّل عليهم الوصول إلى تحقيق هذه الغاية اعتقادهم أن لكل جني موطنًا خاصًّا به، فهذا في حجر، وذلك في نصب، وثالث في شجرة.٩ وكانت تجمع قبيلة — أو عدة قبائل أحيانًا — على تمجيد جني بعينه، وتكِلُ العناية به إلى أسرة بعينها منوط بها أمر رعايته وتلبية رغباته، وكانت هذه الفئة تقوم بحراسته وتعظيم شأنه؛ سواء في الحجر أو الشجرة، أو الصورة التي تمثله، كما تؤدي له حقه من المراسم الكهنوتية؛ والطقوس الدينية التي تقيمها في محرابه، وربما سُمع لذلك النصب صوت — كما يحدث ذلك في كثير من الأحيان — ومن الواضح أن الكهنة القائمين بحراسة الوثن قد مرنوا بالحيلة على إحداث تلك الأصوات لإيهام الناس أنها تتكلم — وكان لكل منها صوت خاص به يميزه عن غيره — وكان العرب يعدون ذلك من الخوارق والمعجزات التي يعزونها إلى أوثانهم.

كذلك كانت تحرص كل قبيلة على صنمها، وتشيد بذكره وتفرُّده بأقصى ما تستطيع من حب؛ لأنها ترى فيه نوعًا من الملكية. وكان الكهَّان ينضحون عنه، ولا ينون في طلب القرابين لذلك النصب، وإن كانوا — على الحقيقة — يطلبونها لأنفسهم ويجرون المغانم لهم باسم الله تعالى.

هذا ما نستطيع أن نستخلصه بسهولة من القرآن وأقوال المفسرين على وجه الإجمال، على أن أحد المؤرخين الذين تخصصوا في درس ترجمة حياة النبي يعزون ذلك إلى قبيلة «خولان» وحدها، وهي التي كانت تقطن اليمن في ناحية منه تعرف باسمها.

وكان من عادتهم، حين تقدم القرابين إلى الآلهة — وهي من البر أو الفصال١٠ — أن يقسموها قسمين؛ أحدهما وقف على الله، وهذا من نصيب المعوزين وأبناء السبيل الذي يحلون ضيوفًا على أهل القبيلة، والآخر وقفٌ على النصب، وهو من نصيب الكهنة وحدهم.
فإذا وقع في القسم الأول بطريق المصادفة بعض النفائس، استأثروا به وجعلوه من نصيب الوثن، ووضعوا مكانه النصيب الأدنى لله.١١
ولكن ما علاقة هذه الأرباب الصغيرة بالله؟ لقد كانوا يعتقدون أن تلك الأرباب بنات الله،١٢ وأن مثلها منه كمثل الفروع من الأصل تمامًا؛ فهي تحكم الناس كما يحكم حاكم الأقليم بعد أن يخوله مليكه سلطة الحكم، وثم كانوا يرون في تلك الأرباب وسائط بين الناس وبين الله.١٣

(٥) مكة والكعبة

وكانت مكة حاضرة الثقافة في أواسط بلاد العرب، وقد بنتها قريش في منتصف القرن الخامس الميلادي، في وادٍ رملي شديد الضيق؛ حتى ليبلغ أقصى اتساع فيه نحو سبعمائة خطوة — أما أضيق مكان فيه فلا يزيد عن مائة خطوة — وتكتنفه جبال جِدُّ عارية يتراوح ارتفاعها بين مائتي قدم وخمسمائة.

في هذه المدينة المحراب الذي يفخر به كل من يملكه ويقع في حوزته، ذلك هو محراب الكعبة الجليلة الشأن،١٤ وهو أقدم من المدينة نفسها بكثير، وإن جدد وأعيد بناؤه عدة مرات، وهو مؤلف من أربع حوائط مبنية بحجارة لم يهذِّبها الصقل، وقد رصف بعضها إلى بعض دون أن يتخللها الملاط، وقد غطيت بريطةٍ١٥أو بقطعة من القماش، أما ارتفاعها فلا يزيد عن ارتفاع الرجل، وأما مساحتها فتبلغ مائتي قدم.
وكان «هبل»١٦ اسم الصنم الرئيسي الكبير بين أصنامها، منذ النصف الأول من القرن الثالث، وهو تمثال عقيقي١٧جلبه من الخارج بعض الرؤساء،١٨وكان «هبل» في ذلك العهد ربًّا لقبيلة قريش.

أما الكعبة نفسها فلم تكن ملكًا للقرشيين، بل كانت — على الحقيقة — ملكًا مشاعًا لأكثر القبائل التي تربطهم بها وشائج المصلحة السياسية العامة، وثم كان للكعبة صبغة عالمية عندهم.

وقد وضعت كل قبيلة من تلك القبائل صنمها الذي تعبده في ذلك المحراب «الكعبة» حتى بلغ عدد الأرباب التي بها ثلثمائة وستين ربًّا، وكان التسامح الديني سائدًا، وقد وصل بهم إلى أعظم حدوده، فقد كنت ترى في الكعبة — زيادة على ما أسلفنا ذكره من الأصنام — صورة إبراهيم الخليل، وصورة الملائكة، وصورة العذراء مع طفلها عيسى.

(٦) الحجر الأسود

على أنهم كانوا لا يقدسون شيئًا كما يقدسون «الحجر الأسود»، وهو الحجر الذي يزعم المسلمون أنه كان في أول أمره أبيض، ثم اسودَّ من توالي الحريق الذي حدث في الكعبة، وقد لعب هذا الحجر فيما بعد — في قابل الإسلام — دورًا خطيرًا في التاريخ الإسلامي، ولا زال يعده المسلمون — حتى أيامنا هذه — حجرًا مقدسًا، وسنذكر في بعض الفصول التالية بعض أقاصيص يرويها بعض علماء الكلام واللاهوت من المسلمين عن هذا الحجر.

وقد وصفه لنا بعض السائحين الأوربيين الذين شاهدوه، فذكر أنه قطعة من حجر البازلت البركاني تلمع في أنحائه نقط بللورية، وتبدو في بعض جهاته قطع صغيرة من النوع الذي يطلقون عليه اسم «فيلسبار» لونها تارة أحمر بأسفله ظلال قاتمة، وتارة أسمر يميل إلى السواد.

وقد تعاورته ظروف مختلفة، فكسر أكثر من مرة حتى غدا في هذه الأيام مؤلفًا من اثنتي عشرة قطعة مضموم بعضها إلى بعض، والكثيرون يجمعون على أنه حجر من الرجوم الساقطة من السماء.

•••

أما احترامهم الكعبة فقد بلغ بهم حد التقديس،١٩ وزاد إجلالهم لها فقدَّسوا ما جاورها من البقاع — التي خلعت عليها الكعبة مسحة القداسة — وثم أصبح ما يكتنفها — إلى بُعد عدة فراسخ — حرامًا لا يجوز لكائن من كان أن يفتك بسواه فيها، أو يصطاد من حيوانها احترامًا لها.

ويؤم الكعبة في كل عام جمهور ضخم من الناس من شتى الأنحاء؛ لتأدية الشعائر الدينية المقدسة فيها!

(٧) عبادة الأصنام٢٠

أما العبادة فقد فقدت معناها الأول في القرن السادس من الميلاد، ودبَّ فيها الفساد وتغيَّر جوهرها؛ فأصبحت طائفة من الخرافات والأوهام — التي يمجُّها العقل — تدين بها طائفة من المبطلين.

قال أحد معاصري محمد٢١—: «كنا — إذا عثرنا على حجر جميل — عبدناه، فإذا عزَّ علينا أن نجده أنشأناه من الرمل إنشاء، ثم سقيناه لبن ناقة درور مدة من الزمن، ومتى تمَّ لنا ذلك عبدناه، ثم لا نزال نفعل ذلك ما دمنا في ذلك المكان!»

•••

ولكن هناك طائفة كبيرة من الناس كانت — على العكس من ذلك — على جانب عظيم من الرقي والحضارة، فلم يكن عندهم عقيدة في أرباب هي من صنع أيديهم من الحجارة أو الخشب!

ولقد كان الناس — في ظاهر أمرهم — يمجِّدون تلك الأرباب ويحجُّون إلى محرابها، ويحتفون بمواسمها السنوية، ويذبحون القرابين في هياكلها، ويريقون دماءها على تلك الآلهة التي يعبدونها؛ سواء أكانت من الحجر أم من الخشب، بل لقد كانوا يلجأون إليها كلما حزبهم أمر؛ ليلتمسوا منها البركات، ويتكشَّفوا بوساطتها مستقبل أمرهم الغامض.

على أن عقيدتهم فيها لم تزد على هذا القدر من المظاهر، أما فيما عدا ذلك فقد كانوا لا يترددون في تحطيم آلهتهم إذا لم تتحقق نبوءتها، أو إذا جرؤت على إذاعة شيء يكرهونه، ويخشون إذاعته مما اقترفوه من الدنايا.

وقد تنزل بأحدهم كارثة فينذر لأحد الأصنام أن يذبح نعجة قربانًا له إذا تكشَّفت غمَّته، فلا يكاد يزول عنه الخطر٢٢ حتى يستبدل النعجة — وهي قيِّمة عنده — بغزال لا يكلفه ثمنه أكثر من أن يصطاده بيده، يفعل ذلك وهو معتقد أن ذلك المعبود لا يكاد يفرق بين النعجة والغزال!٢٣

أضف إلى ذلك أن نبوءات الآلهة لم يكن لها خطر عندهم ما لم توافق رغباتهم وتعبر عما يقصدون إليه من التفاؤل بما هم قادمون عليه من الأمور.

يؤيد ذلك أن أعرابيًّا اعتزم أن يثأر لأبيه ممن قتله، فأتى «ذا الخلصة»٢٤ وهو نصب مربع الشكل من الحجر الأبيض — ليستشيره فيما هو قادم عليه، وبدأ يقترع — على عادة العرب في ذلك — فرأى في السهم الأول أمرًا بالمضي في طريقه، وفي الثاني نهيًا عن ذلك، وفي الثالث أمرًا بالانتظار والتريث؛ فلم ترضه هذه النتيجة وأعاد الكرَّة مرة بعد أخرى؛ فكانت النتيجة واحدة في المرات الثلاث، وثم غضب وألقى بالسهام في وجه الصنم وقال له: «مصصت بظر أمك! لو كان أبوك قتل ما عوَّقتني!».٢٥

كذلك كانوا يغضبون لأتفه الأسباب، وكلما تعارضت أوامرها مع رغباتهم، ولم تعبِّر عما يودون سماعه من الكلام، انهالوا عليها بالسباب والتحقير.

وأقبل رجل من بني ملكان٢٦ على «سعد» صنم قبيلته المعبود — وهو صنم في الصحراء — وكان مع الرجل إبله جاء بها ليقفها عليه يريد التبرك به، وبينما كانوا يريقون عليه دماء العثائر٢٧— حسب عادتهم — نفرت الإبل وولت هاربة، فغضب صاحبها وتناول حجرًا فرمى به وقال: «لا بارك الله فيك إلهًا أنفرت عليَّ إبلي.»، ثم خرج في طلبها حتى جمعها، وانصرف عنه وهو يقول:
أتينا إلى «سعد» ليجمع شملنا
فشتَّتنا «سعد» فلا نحن من «سعد»
وهل «سعد» إلا صخرةً بتنوفةٍ
من الأرض لا يُدعى لغيٍّ ولا رشد!

وكان بنو حنيفة أنفسهم أقل الناس احترامًا لآلهتهم؛ إذ كانوا يأكلونها! ونحن جديرون أن نقرر عذرهم في ذلك؛ فقد كانوا يصنعون آلهتهم من نوع — بعينه — من العجوة، ومن اللبن والزبد؛ فلما وقعوا في قحط ومجاعة أكلوها.

•••

ومن هنا يتضح أن العرب لم تكن تعتقد في تلك الأرباب اعتقادًا جديًّا؛ فقد كان أكبر شيء يحترمونه هو الله تعالى، علي أن الله لم يكن له عندهم أيضًا عقيدة قوية راسخة في قرارة نفوسهم؛ لأنهم كانوا لا يعرفون عنه شيئًا كثيرًا، إذ لم يكن له كهَّان يدعون الناس إليه، ويرغِّبونهم في عبادته وطاعته، ويذيعون إرادته ويوضِّحون لهم ما قدَّره من خير وشر.

(٨) عقيدة البعث

ولم يكن الناس على عقيدة واحدة، بل كانوا شديدي الاختلاف؛ فمنهم من كان يؤمن بحياة ثانية بعد هذه الحياة ويدين باليوم الآخر، ولا يقف عند حد الاعتقاد في بعث الإنسان، بل يدين ببعث الحيوان أيضًا، ومن ثم كان يدفن راحلته إلى جانبه أو يتركها تموت على قبره، ليركبها يوم القيامة، فلا يتكبد عناء السير على قدميه.

على أن سوادهم كان يستهزئ بفكرة البعث ويسخر منها، وكانوا يدينون في كل مكان برأي القائل:

حياةٌ، ثم موت،ٌ ثم حشرٌ
حديث خرافةٍ يا أم عمرو
وليس في هذا موضوع عجب، فإن هذه الفكرة — فكرة البعث — المحببة إلى نفوس الآريين؛ شديدة الغرابة عند الساميين! وآية ذلك أن اليهود أنفسهم لم يقبلوها من الفرس إلا بعد تشريدهم٢٨ إن لم نقل في أوائل التاريخ الميلادي، على أن جماعة الصدوقيين نفسها — وهي كبيرة العدد — قد رفضت فكرة البعث ولم تقبلها قط.٢٩
كذلك لم يلقَ محمد مقاومة جدية من العرب إلا حين دعاهم إلى هذه الفكرة، ونادى فيهم بوجوب الإيمان بصحتها، وما زال البدوي — إلى أيامنا هذه — لا يعنيه أمر البعث ولا يكترث له.٣٠

(٩) المسيحية واليهودية

قلنا إن ديانة العرب الأولى كانت واهية لا ترتكز على أساس متين، ومتى أقررنا ذلك سهل أن نفرض أنه كان من اليسير على العرب أن يقبلوا دينًا آخر — غير دينهم هذا — فيدينوا بالمسيحية أو اليهودية مثلًا، وهذا كلام صحيح ولكن إلى حد ما، فقد انتشرت المسيحية لهذا السبب نفسه في جهتين: انتشرت في بلاد الحبشة — جنوبًا — وفي سوريا — شمالًا — حيث لقيت شيئًا من القبول، وقد انتصرت كذلك في مدينة نجران في وقت مبكر، ودانت شبه جزيرة سينا بالمسيحية؛ وأصبح علم النصرانية خفاقًا على كثير من الأديرة والكنائس، كما تنصر عرب سوريا.

على أن هذا النجاح كله لم يكن — في أي مكان تقريبًا — إلا مظهرًا من المظاهر لا حقيقة من الحقائق.

أما في أواسط بلاد العرب، وفي قلب جزيرتهم، حيث نبتت جرثومة العربي القح وأرومته، فلم تنجح فيها الدعاية للدين المسيحي. ولم نكن لنرى ثَمَّ إلا أثرًا ضعيفًا له، إن لم نقل معدومًا.

وكانت المسيحية في ذلك الزمن — على وجه عام — بما تحويه من معجزات، وبما فيها من عقيدة التثليث، وما يتصل بذلك من ربٍّ مصلوب؛ قليلة الجاذبية بعيدة عن التأثير في نفس العربي الساخر الذكي، وآية ذلك ما تراه واضحًا فيما حدث للأساقفة الذين سعوا إلى تنصير المنذر الثالث ملك الحيرة — حوالي عام ٥١٣ من الميلاد — وإن المنذر ليصغي إلى ما يقولون بانتباهٍ إذ دخل عليه أحد قواده فأسرَّ إليه بضع كلمات؛ ولم يكد ينتهي منها حتى بدت على أسارير الملك أمارات الحزن العميق، فتقدَّم إليه أحد القساوسة يسأله متأدبًا متلطفًا عما أشجاه. فأجابه الملك: «يا له من خبر سيئ! لقد علمتُ أن رئيس الملائكة قد مات. فوا حسرتاه عليه!»

فقال القسيس: «هذا محال أيها الأمير، وقد غشَّك من أخبرك بذلك، فإن الملائكة خالدون يستحيل عليهم الفناء!»

فأجابه الملك: «أحقٌّ ما تقول؟ وتريد أن تقنعني بأن الله ذاته يموت؟»

•••

أما حظ اليهودية في اجتذاب العرب إليها فهو أكثر من حظ المسيحية، فقد رحلت جمهرة كبيرة من اليهود بعد أن شرَّدهم الإمبراطور أدريان الذي ثاروا عليه فألحق بهم الأذى، وشتَّت شملهم، فوجدوا في بلاد العرب ملجأً لهم، وبثوا دعايتهم فيها؛ فدان باليهودية قبائل عدة من سكان الجزيرة العربية، ولعل هؤلاء هم وحدهم المتهوِّدون الذين أخلصوا لليهودية حقًّا، وقد صارت اليهودية نفسها — في زمن ما — دين اليمن الرسمي.

على أنها ضعفت — على مرور الزمن — وقلَّ إقبال العرب عليها؛ لأن اليهودية لا تلائم إلا شعبًا مختارًا، أما أن تكون دينًا عامًّا للناس قاطبة فلا!

ذلك أنها ملأى بالشكايات والآمال الغامضة التي تعلَّق بها اليهود بعد أن خرب بيت المقدس، وليس هذا مما تلائم طبيعته الشعب الطموح إلى المجد!

وليس من أصالة الرأي أن نقول: إن سواد العرب كانوا يشعرون بحاجة إلى دين آخر، فإن العربي — ذلك البدوي الحر كما سنراه في كثير من المناسبات التي ستتيحها لنا الفرص أثناء دراسته — ليس متدينًا بطبعه، كما أن كل محاولة بذلت في سبيل جعله كذلك كان نصيبها الفشل التام.

فالعربي رجل عملي، مادي، لا يُعنى بغير الحقائق حتى في شِعره، فهو لا يسبح في الخيال والوهم، ولا يميل إلى الأخذ بتلك الألغاز والمعميات الدينية التي يعتمد الإنسان في استيعابها على التخيل أكثر من اعتماده على التعقل.

•••

إن ديانة العرب التي ألفوها لم تكن مهيمنة على نفوسهم ومشاعرهم، بل كانت ضعيفة الأثر قليلة الخطر، ولكنها كانت دين سوادهم على كل حال، فإذا كان من الحق علينا أن نعترف أن المستنيرين منهم لم يؤمنوا بتلك الأرباب، فمن الحق علينا أن نقرر أيضًا أن عدم إيمانهم بها لم يكن كافيًا للقضاء عليها.

والحق أن أحدًا لم يكن مضطرًّا إلى العقيدة، فقد كان البدو لا يبالون أن يسخروا حتى من أربابهم التي يعبدونها، ولا يترددون في إلحاق الأذى والضرر بها بقلوب جِدُّ مغتبطةً، بيد أن القضاء — بعد كل هذه الاعتبارات — على عبادة كان يدين بها أجدادهم وآباؤهم من قبل، كان يثير في نفوسهم كبرياءهم القومي، أنفةً من أن يتركوا دين أسلافهم الذين كانوا يفردونهم بكل إجلال وإكبار.

وجماع القول أن الديانة كانت في نظر العربي القديم — كما هي في نظر البدو في أيامنا هذه — أمرًا لا خطر له؛ وآية ذلك أن شعراء الجاهلية لا نكاد نراهم يذكرون دينًا أو عقيدة في أشعارهم، ولو فتَّشنا أناشيدهم لم نرَ فيها — إذا استثنينا أسماء الآلهة، وبعض الشعائر المختلفة — إلا عبارات مقتضبة لا تكاد تعثر فيها على ذكر لعبادتهم القديمة.

لقد عاش العرب للحياة الحاضرة، ولم يشغلوا أذهانهم بشيء من مسائل ما وراء الطبيعة، وكان مؤمنوهم يتابعونهم في ذلك الشعور ويصدرون عنه.

ومع كل هذه الاعتبارات، فقد وجدت لهذه القاعدة شواذ — شأن كل قاعدة — فإن وجود جماعات شتى من متألهي العرب الذين يدينون بوحدانية الله، وإن اختلفت وجهاتهم، وتباينت نحلهم — لتديُّن بعضهم باليهودية أو المسيحية — كان أمرًا له خطره عند العرب، وله أثره في نفوسهم، إذ كان أولئك المتألهون لا يفتئون يبثون عقائدهم فيمن حولهم من العرب.

(١٠) الحنيفية

ومن ثم رأينا في أواخر القرن السادس الميلادي لبعض الشعراء دلائل وآثارًا لإيمان عميق بوحدانية الله، ورأينا منهم شعورًا يقظًا بالنبعة المترتبة على ما تصنعه أيديهم من خير أو شر، وهذه الفئة — التي ترى هذا الرأي — هي طائفة الحنفاء،٣١ وقد كانوا في شتى الأنحاء لا تربطهم أية آصرة ولا تضمهم مذهب بعينه. كما تفعل الصابئة المنتسبون إلى إبراهيم الذين كانوا يسمون أنفسهم الحنفاء أيضًا!

وكان لهاتين الطائفتين — من الحنفاء — رأى واحد في رفض اليهودية والمسيحية معًا والاعتراف بدين إبراهيم، وإبراهيم هذا — الذي عرفوه من اليهود والنصارى — هو الأصل الذي ينسبون إليه، فهو والد جدهم إسماعيل، وهو الذي بنى الكعبة في مكة.

وكانت شريعة الحنفاء سمحةً رشيدة، واضحة المحجة، سهلة الإقناع لهؤلاء العرب العمليين، وهي في جوهرها صالحة لأن تكون دين العرب قاطبة، ولم يكن ينقصها — لبلوغ هذه الغاية — إلا أن تكون عقيدة ثابتة مستقرة، وأن تكون لها هيئة روحية ذات سيادة دينية، وأن تكون منزَّلة من السماء، أو تُفهم على أنها كذلك.

•••

وهذا هو العمل العظيم الذي أخذ محمد على عاتقه القيام به؛ ليتمم نقص الحنيفية، ولكن هذا العمل — على ما فيه من صعوبة — قد ضوعفت مصاعبه؛ لأن العرب لم يكونوا في غير حاجة إلى الدين فحسب، بل كانوا — إلي ذلك — ينفرون بطبيعتهم من كل مظهر من مظاهر العبادة ومراسمها، كما كانوا يكرهون الفروض الغامضة والمعميات التي تتصل بما وراء الطبيعة.

ولا بد من إقناع جازم ويقين لا يتزعزع للتغلب على هذه العقبات.

الشرائع٣٢

كم من شرائع أبلى الدهر جِدَّتها
وأصبحت — بعد حين — طي أرماس
لكل جيلٍ جديدٍ ما يلائمه
من الشرائع والأخلاق والناس

(١١) بعد وفاة النبي٣٣

مات النبي ولم يترك ولدًا له، ولم يعين خليفة يخلفه، فكانت الساعة غاية في الحرج، وأصبح كيان الإسلام نفسه مهددًا نهب الحوادث والظروف، وقد انتشر خبر وفاته بسرعة لا مثيل لها، وكان له وقع شديد على أصدقائه المخلصين، وكأنما أصابتهم صاعقة حين بلغهم هذا النبأ المروع، وكان الناس قسمين، قسمًا يحسبه خالدًا لا يموت، وقسمًا لا يتوقع موته بهذه السرعة، بل يؤمل له حياة طويلة، وعمرًا مديدًا، وكان «عمر» — خاصة — ممن يؤمل هذا الأمل.

وبعد أن مات النبي وأسلم آخر أنفاسه بزمن يسير، دخل «عمر» مخدع «عائشة» فرفع الغطاء — الذي كانت جثة النبي مسجاةً به — وتأمل محيا سيده مليًّا وهو في نومته الأبدية — فرأى كل شيء هادئًا، ونظر إلى ما حوله فرأى سكونًا طبيعيًّا، فلم يعد يصدق ذلك النبأ المروع، وصاح: «كلا لم يمت النبي بل هو في غيبوبة!»

وكان «المغيرة» حاضرًا فحاول عبثًا أن يرشده إلى خطئه، فقد صرخ فيه عمر: «كلا بل تكذب، إن رسول الله لم يمت ولكن خبث طويتك، وفساد نفسك الشريرة قد أدخلا في روعك هذا الوهم الخاطئ، ولن يموت النبي قبل أن يقضي على المنافقين ويبيد أهل الشرك.»

ثم ذهب «عمر» — من توِّه — إلى المسجد فصاح فيمن تجمهر من الناس: «لقد زعم الزاعمون، وأرجف المرجفون أن محمدًا قد مات، وبئس ما يتقوَّلون، ألا إن محمدًا لم يمت، وإنما ذهب للقاء ربه كما فعل موسى إذ غاب عن قومه أربعين يومًا ثم رجع إلى أصحابه — بعد أن يئسوا من عودته — ووالله ليعودن النبي كذلك، ثم ليعاقبنَّ كل من اجترأ على هذا القول!»

ولم يكد يسمع الحاضرون قوله حتى آمنوا عليه، ولا غرو في ذلك؛ فقد كانوا — إلى زمن يسير جدًّا — يرون محمدًا في نفس المكان الذي يخطبهم فيه «عمر»، فلم يكن أحب إليهم من تصديق ما يقوله «عمر».

وجاء «أبو بكر» في هذه اللحظة فاخترق المسجد، وأصغى هنيهة قصيرة إلى كلام «عمر» المتأجج عاطفة وحماسة؛ ثم أسرع إلى مخدع «عائشة» ووقف أمام جثة النبي أيضًا، فرفع الغطاء عنها، وقبَّل وجه صاحبه — وهو مستغرق في نومته الأبدية — ثم صاح قائلًا: «طبت حيًّا وميتًا.» ورفع رأس النبي بتؤدة وأناة، وتأمَّل أسارير ذلك الوجه الذي طالما تملَّى به من قبل، ثم قال: «نعم لقد متَّ، فوا أسفا عليك أيها الصديق المحبوب! بأبي أنت وأمي؛ فقد قاسيت من غمرات الحمام ما قاسيت، وتجرعت من غصص الموت ما تجرعت. وإنك لأكرم على الله من أن تتجرع هذه الكأس مرة أخرى!» ثم وضع رأس النبي برفق — على وسادته — وقبَّل رفيقه مرة أخرى، ثم سجَّاه بغطائه ورجع — أدراجه — إلى المسجد فوجد «عمر» لا يزال يتأجَّج حماسة، وهو يخطب الناس ليقنعهم أن الرسول لم يمت، فصاح فيه: «حسبك يا عمر! هدئ من ثائرتك واجلس حيث أنت!»

فلم يصغ إليه عمر وطفق يخطب الناس، فولَّى أبو بكر وجهه شطر الناس، فأقبلوا عليه وتركوا عمر، فقال لهم أبو بكر: أما قال تعالى — في محكم آياته — لنبيه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ أما قال تعالى في آية أخرى — بعد موقعة أحد: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ.

ألا من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت!

•••

وكأنما كان الناس في حلم فأفاقوا منه بعد ما سمعوه من قول أبي بكر، فقد ذهل الناس من فداحة الخطب عن هذه الآيات القرآنية حتى إذا ذكَّرهم بها «أبو بكر» الرزين أيقنوا جميعًا أنهم لن يروا النبي بعد!

(١٢) انتخاب الخليفة

بقيت عقدة خطيرة لا بد من حلها؛ وهي أن محمدًا قد مات ولم يعيِّن من يخلفه، فلا مندوحة إذن عن انتخاب أمير لهم، ولكن من الذي يعيِّن هذا الأمير؟

أيعيِّنه كل المسلمين؟ هذا حسن، فهل من سبيل إلى تحقيقه؟

لقد كان الوقت عصيبًا، وكان من السهل أن يرى الإنسان أمامه أزمة رهيبة وشيكة، وجمهرة من القبائل لن تلبث أن ترتد عن الإسلام؟

إذن يتعيَّن أن يقتصر انتخاب الخليفة على القبيلة التي لها الصدارة والسلطان — بين قبائل العرب قاطبة — وثم اجتمع الأنصار «أهل المدينة» الذين عز بهم الإسلام وانتصر، فمن يختارون؟

لا مجال للتردد والحيرة، فأمامهم الفارس النبيل «سعد بن عبادة» رئيس الخزرج، وقد كان من الطبيعي المألوف أن يختاروه — ولم يكن حينئذ تم شفاؤه من مرض خطير كان قد ألمَّ به — فحملوه مدثرًا مدوَّجًا إلى جمهور المدنيين، وكان ضعيفًا من أثر المرض فلم يستطع إبلاغهم صوته؛ فقام أحد أصحابه يردد ما يقول.

وقد ذكَّر «سعد بن عبادة» أصحابه بأنهم أول من دخل الإسلام من القبائل، وأن نصرته لم تتم إلا بهم بعد، وأنهم لذلك جديرون بالزعامة على العرب قاطبة.

فقابلوا كلامه بالاستحسان والتحبيذ، وأظهر جمهورهم له حماسة شديدة، ونادوا به — في الحال — خليفة لرسول الله، ولكن فئة قليلة منهم أبدت خوفها من رفض المهاجرين هذا الرأي وعدم رضائهم عنه؛ فأجابهم أصحابهم: «لا علينا من ذلك، وسنقول لهم حينئذ: «لقد اخترنا لنا أميرًا، فاختاروا لكم أميرًا وافترقوا عنا، فلن نذعن — بحال ما — لغير أميرنا الذي اخترناه.»

ولم يكد يبلغ «أبا بكر» هذا النبأ حتى أقبل عليهم بأقصى ما في قدرته من سرعة، ومعه عمر، وأبو عبيدة — وما كادوا يصلون حتى انبرى عمر للكلام فمنعه أبو بكر — وله كل الحق فيما فعل — خشية من تحمُّسه واندفاعه، وقال له: «تريَّث حتى أتكلم ثم قل ما شئت بعدي.»

•••

وبدأ أبو بكر يخطب في الناس — بكل تواضع — فاعترف للمدنيين بما قاموا به من خدمات جليلة للإسلام، ثم أظهر لهم — إلى هذا — جدارة المهاجرين بالخلافة؛ لقرابتهم من الرسول وكونهم من أسرته، ثم لأنهم أول من دان بالإسلام، وقد لقوا في سبيله ألوانًا من العسف، وضروبًا من النكال، واحتملوا ذلك كله صابرين!

ثم قال: «فأنتم تلوننا في هذه المرتبة، فليكن الأمير منا والوزراء منكم.» فأجابوه: «بل منا أمير ومنكم أمير!»

فصاح عمر: «كلا، ومحال أن نولِّي أميرين، ولن تعترف العرب بمن تختارون؛ فليس نبيهم من قبيلتكم، ولن يخضعوا لأحد إلا أن يكون قريبًا للنبي، ومن رفض ذلك أرغمناه على قبوله إرغامًا.»

وحمي وطيس الكلام، وكاد اللجاج ينقلب خصومة؛ لو لم يقل لهم «أبو عبيدة»: لقد كنتم أول ناشر للإسلام، وأول معين للنبي، فلا تكونوا الآن أول ساعٍ في التفرقة وتشتيت الوحدة الإسلامية.

وهنا قام «بشير» — قريب «سعد» ومنافسه — فقرر ما للمهاجرين المكيين من الحقوق في أعناق المسلمين، فأثَّر كلامه في نفوس فئة من الخزرج، ولكن الأثر لم يبلغ أشده إلا في نفوس القبيلة المدنية الأخرى، وهي قبيلة «الأوس»، بسبب ما كان بينها وبين قبيلة «الخزرج» من نفور قديم جعلهم لا يرتاحون إلى سعد، ولا يرضون به أميرًا عليهم، وكانوا — منذ لحظة — يقررون حق المهاجرين وجدارتهم بالخلافة، فلما سمعوا كلام أبي عبيدة ثبتوا على رأيهم، وظاهروا المهاجرين على الأنصار.

وبذلك سنحت فرصة ملائمة، فأسرع أبو بكر إلى انتهازها وأمسك بيده — عمر وأبا عبيدة — داعيًا المدنيين إلى اختيار واحد منهما لمبايعته بالخلافة، فصاحا في نفس واحد: «بل أنت خير منا، فامدد يدك نبايعك ونقسم لك على الخضوع والطاعة.» وامتدت بين يديهما يد ثالثة إلى يد أبي بكر، وهي يد «بشير» الذي أسرع بمبايعته معهما؛ ثم نهج الأوس منهجه وأقبل المسلمون يبايعونه أفواجًا، واشتد الزحام وعلت صيحات الفرح؛ فاختلطت بأصوات الدهشة، وأراد حباب الخزرجي أن يناوئ الدعوة فصرخ مهددًا بالحرب، واستلَّ سيفه فانتزعه «عمر» من يده.

ورأى «سعد» آماله في الخلافة تتبدد هباءً، وليت الأمر وقف عند هذا الحد، فقد أصبح «سعد» نفسه في خطر حين تكأكأت عليه الجموع، فكادت تسحقه — وهو في محفته التي كان محمولًا عليها — وعبثًا حاول أصحابه أن يقنعوا جمهرة المسلمين بوجوب احترامه؛ فإن «عمرًا» نفسه لم يتورَّع عن إهانته ووصفه بأقبح النعوت — على الرغم من أنه خصم أعزل جليل القدر — وقد تداركه أبو بكر فصدَّ هذه الجموع عنه وأنقذه من أذاهم وشرهم.

•••

وإذن فقد تم انتخاب الخليفة — خليفة النبي — وسط هذه الفوضى الشاملة، كما اعترف بهذه الحقيقة «عمر» نفسه على ملأٍ من الناس في المسجد المدني فيما بعد. وقد كسب المكيون بهذا الفوز أمرين: «زعامة العرب، وحسن اختيار الخليفة».

فقد ولوا أمورهم رجلًا كان أخلص صديق لنبيهم، ولو ترك أمر اختيار الخليفة إلى الرسول فقد لا يختار سواه؛ ذلك أنه جمع — إلى حبه الرسول — متانة الإيمان وقوة اليقين وصدق العزيمة في إعزاز الإسلام ونصرته.

وبهذه الصفات نجح أبو بكر في التغلب على المصاعب والعقبات التي كانت تكتنفه.

وفي الحق أن الوقت كان عصيبًا، وكانت الظروف غاية في الحرج، فقد كان موت النبي — الذي كانت تترقبه العرب منذ زمن طويل بفارغ الصبر — مؤذنًا بالثورة في كل مكان، ولقد كنت ترى الثائرين — في حيثما ذهبت — رافعين علم الثورة والتمرد، وقد رجحت كفتهم أيما رجحان حتى لقد طردوا ولاتهم من بلادهم، فلم يجد هؤلاء أمامهم ملجأً إلا المدينة؛ فتقاطروا عليها من كل فجٍّ يحتمون فيها من أذاهم.

وكان لا يمر يوم حتى يفد على المدينة بعض الولاة، والعمال المطرودين، وأعدت القبائل المجاورة للمدينة عدتها لحصارها.

فكيف يقاومهم «أبو بكر» وليس لديه جيش يحاربهم به بعد أن أرسل جيشه إلى سوريا ليفتحها؛ تنفيذًا لأمر النبي — برغم نصيحة المسلمين الذين رأوا خطورة الحال، ولقد ألحوا عليه أن يعدل عن تنفيذ فكرة الفتح حينئذ، فقال لهم: «لن أخالف ما أمر به النبي ولو أصبحت المدينة نفسها نهبًا للثائرين والمتمردين، ولا بد لي من تحقيق مشيئته!»

ومن ثم ترى الخطر العظيم باديًا، على أنه — على الحقيقة — خطر أقل مما تدل عليه ظواهره، فإن قوة الخصم الحقيقية لا تقاس بما لديه من عدةٍ ورجال، بل بما عنده من قوة معنوية، وبما يصبو إلى تحقيقه من غاية سامية يتطلع إليها ويخوض غمار الحرب من أجلها، باذلًا في سبيلها النفس والنفيس.

فما هي الغاية التي يسعى إليها الثائرون؟ وأي حافز يدفعهم إلى إضرام هذه الحرب؟

أهو إيمان وثيق متوشجٌ في أعماق قلوبهم كإيمانهم القديم الذي كانوا عليه قبل البعثة؟ لو كان ذلك لما كان ثمة شك في انتصارهم الحاسم!

ولكن شيئًا من ذلك لم يكن، فإنهم لا يحاربون الآن لينصروا دينهم القديم ويؤيدوه؛ بل هم يثورون على دينهم الجديد؛ لأنهم لا يطيقون احتماله.

وليس هذا بالسبب القوي الذي يلهب حماستهم ويحفِّزهم إلى الإتيان بجلائل الأعمال، ولا هو بالسبب الذي يخلق البطولة والأبطال، فقد كان رؤساء القبائل المتمردة أنفسهم شاعرين كل الشعور بضعف قوتهم المعنوية؛ فلجأ بعضهم إلى فكرة سخيفة حسبوا أنها تعيد إليهم تلك القوة، فادعوا النبوة! وخيِّل إليهم أن محمدًا لم ينجح إلا بهذه الفكرة؛ فأرادوا تقليده.

ولكنهم نسوا أمرًا واحدًا — هو سر نجاحه في بث دعوته — ذلك أنه كان مؤمنًا بما يدعو إليه إيمان المستيقن الجازم، وهذا هو الذي يعوزهم وبغيره لا يتم نجاح.

وكانت تلك الثورة الهائلة وتلك الحرب الشعواء — على ما أريق فيهما من دماء غزيرة إذا قورنت بما أتاه المسلمون في غزواتهم التي عز بها الإسلام — ظاهرة سخيفة مضحكة، يتمثل فيها الإنسان — عن غير قصد — كيف قلبوا تمثيل هذه الرواية الجدية التي مثلها النبي وأصحابه مهزلة وعبثًا!

ألا ترى إلى مسيلمة الذي مثل دور النبي في اليمامة؟

ألا ترى إلى ذلك الدجال السوقي التعس، ذلك المشعوذ السمج، الذي لا يصلح لغير التدجيل وإدخال بيضة في زجاجة ضيقة الفوهة، ألا ترى إليه ينشئ قرآنًا سخيفًا يقلد به محمدًا، ثم يرخِّص لأتباعه في شرب الخمور أنَّى شاءوا، ولا يكاد ينشر دعوته حتى يصادفه سوء الحظ فتحاصره «سجاح» وتنازعه النبوة.

•••

أما «سجاح» هذه فقد كانت مسيحية نشأت في «بلاد النهرين»، وجاءت تبث الدعوة لنفسها — على رأس جيش عظيم — فماذا يصنع مسيلمة؟

ليس أمامه إلا أن يلجأ إلى طريق المسالمة — وقد فعل — فأرسل إليها هدايا فاخرة، ودعاها إلى محادثته، وطال بينهما الحوار.٣٤

ولما عادت «سجاح» إلى قومها سألوها عن رأيها في «مسيلمة» فقالت لهم: «لقد رأيته نبيًّا حقًّا فتزوجت منه!»

فسألها التميميون: «وهل أهدى إلينا شيئًا من مهر الزواج؟»

فقالت: «لا.» فقالوا لها: «عار علينا أن نزوِّج نبيتنا بلا مهر! ولن نقبل ذلك بحال ما!»

فأرسلت إليه بذلك — وكان مسيلمة خائفًا متحصنًا — فلما جاءه الرسول لم يأذن له حتى عرف الغرض الذي جاء من أجله، فاطمأن إليه وقال له: «عد إلى قومك فأخبرهم أن مسيلمة بن حبيب رسول الله قد رفع عن التميميين — من الصلوات الخمس — صلاتي الصبح والعشاء».

ولقد فرح التميميون بذلك، وساروا عليه حتى بعد أن عادوا إلى الإسلام من جديد.

•••

ومن ثم أن هؤلاء التائبين ليس لهم عقيدة جدية يدافعون عنها، فلا غرو إذا قهرهم رجل كأبي بكر وثيق الإيمان قوي الإرادة صلب العزيمة، لا يعرف هوادة — في إرغام أنوفهم — ولا رحمة!

ولو شاء أبو بكر أن يهادنهم لتنازل لهم عن قليل من مطالبه، فكسب بذلك مساعدة كثير من القبائل — أو ضمن حيادهم على الأقل — فقد وعدوه بالمواظبة على إقامة الصلاة المفروضة عليهم؛ على شريطة أن يعفيهم من إيتاء الزكاة، ونصحه أعيان المسلمين أن يقبل ذلك منهم، فرفض رأيهم بإباء شديد، وقال لهم:٣٥ «إن الإسلام قانون واحد لا يتجزأ، وليس لأحد أن يأخذ ببعضه ويرفض البعض الآخر».

وقد كان هذا الإصرار الحازم، وذلك الحقد الشديد على أهل الردة سببًا في منحه قوة أكبر مما نتصور.

•••

ولم يكد ينتهي من إخضاع القبائل المجاورة له حتى بدأ يهاجمه «طليحة» الذي كان بطلًا من قبل، وقد جاء يدعي النبوة كغيره ثم يجبُن عن دخول المعركة؛ فيرقب الحرب — وهو بعيد عن الميدان — مدثرًا في عباءته كأنما يؤمل أن ينزل وحي من السماء، أو تحدث معجزة خارقة، وقد ترقَّب ذلك زمنًا طويلًا ثم وقعت المعجزة؛ إذ بدأت تنهزم قبيلته أشنع انهزام، وحينئذ صاح في جنده: «احتذوا حذوي إن استطعتم.» ثم امتطى جواده، وأطلق له العنان، وأمعن في فراره.

•••

وكانت تلك المعركة التي اصطلاها المسلمون، معركةً مروِّعةً هائلة، وفي الحق أن الدماء التي أريقت في هذه الحرب كانت أكثر مما أريق في تلك الحروب الطاحنة التي نشبت فيما بعد بين المسلمين والفرس، ثم بين المسلمين، والإمبراطورية الرومانية، وقد اقترف العرب من الفظائع في هذه الحرب «حرب الردة» شُنعًا لم يعرفها الإسلام قط، فكانوا إذا انهزم العدو تعقَّبوه ونكَّلوا به؛ لأن الردة جزاؤها القتل، لا هوادة في ذلك ولا رحمة، وقد بعث أبو بكر إلى خالد يأمره بقوله:

«عليك بإبادة الكفرة بالحديد والنار، ولا تأخذنَّك فيهم رحمة قط!»

•••

ولقد انهزم أصحاب مسيلمة — وكان عددهم زهاء عشرة آلاف مقاتل — ومزقهم المسلمون شرَّ ممزقٍ، وغرقت بلاد العرب كلها في الدماء!

ولكن الإسلام قد خرج من تلك المعارك — الناشبة في كل مكان — مؤيَّدًا منصورًا، ودان به العرب بعد ذلك — طوعًا أو كرهًا — فقد أقنعهم خذلانهم بوجوب الاعتراف بالدين الإسلامي؛ إن لم يكن اعتراف المستيقن المؤمن، فاعتراف الخائف الذي يعرف قوة هذا الدين العظيمة التي لا تجدي معها أية مقاومة.

(١٣) بعد النصر

ولم يكد يتم انتصار أبي بكر حتى وجَّه هؤلاء البدو الظامئين إلى الدماء، إلي مهاجمة فارس والإمبراطورية الرومانية، وهذا العمل عند من ينظر إلى ظواهر الأمور وحدها جرأة وتهور، ولكنه — على الحقيقة — رزانة وتعقُّل.

وإنما سار أبو بكر في هذا على خطة النبي التي كان يتبعها، وهي أن يشغل العرب عن التفكير في خضوعهم، ولا يدع لهم وقتًا كافيًا لذلك، وقد رأى أن خير ما يربطهم بالإسلام لا يكون إلا عن طريق الفتح والانتصارات الحربية وما يجره ذلك من الغنائم.

•••

وهكذا انتهت حروب الردة، ولم تقم للمرتدين بعدها قائمة، فقد كان عقاب الردة القتل؛ ومن هنا تظاهر الناس بالإسلام ووقفوا عند هذا الحد.

ونحن إذا استثنينا صفوة المسلمين ونواتهم المؤلفة من المهاجرين والأنصار وبعض من يمتُّون إليهم بسبب، لم نجد بعد ذلك من يعرف القرآن وتعاليمه إلا عددًا غاية في القلة، أما العرب الذين استوطنوا أفريقيا فقد ظلوا — حتى بعد مضى قرن من الهجرة — لا يعرفون من الإسلام أكثر من أنه دين أتى بتحريم الخمر.

أما أولئك الذين استوطنوا مصر فإنهم ما تحدثوا عن الإسلام، أو شغلوا به أنفسهم قط، وكانوا لا يذكرون إلا أيام الوثنية وعهودها الطيبة بالثناء والحنين.

•••

ولما انتصر العرب على الفرس في موقعة القادسية «٦٣٥م» وأخذ كل واحد نصيبه من الغنائم، بقيت نفائس أخرى وافرة لم تقسم بعد، فكتب الخليفة «عمر» — أمير المؤمنين حينئذ — يأمر القائد بتوزيع باقي الغنائم على من يحفظ أوفر قسطٍ من القرآن.

فجمع القائد إليه أبطال الجهاد الذين تم بفضلهم النصر والفوز، فسأل «عمرو ابن معد يكرب» النبيل عما يحفظه من القرآن فأجابه: «لا شيء لأنني دنت بالإسلام في بلاد اليمن، ثم صرفتني الحروب العديدة عن القرآن وعن الاشتغال به.»٣٦

فالتفت القائد إلى بشر بن طائف يسأله، فكان جوابه: «ليس حظي من ذلك بأوفر من حظ عمرو: «بسم الله الرحمن الرحيم».» وقد كان هذا هو كل ما يحفظه من القرآن!

•••

زد على ذلك أن الإسلام، وإن لم يلق معارضة قوية أثناء فتوحاته المتوالية المظفَّرة فإن ثراة مكة وطبقة الأرستقراطية العربية لم يغفروا لأصحاب هذا الدين الجديد ومؤسسيه هذا الفوز الذي أحرزوه، ولم يرضوا عن ذلك السلطان الذي أراد الموحِّدون أن يبسطوا ظلَّه عليهم.

ولقد كانت تقوم المنازعات والشغب على مسألة من المسائل ظاهر أمرها أنها شخصية لا علاقة لها بمبدأ أو عقيدة، وهي — في حقيقتها وجوهرها — غير ذلك؛ فقد كان يتخذ النزاع غرضًا يحوم حوله ومبدأً يناضل عنه؛ ليتخذ منه تكأةً يبرر بها غايته من الشغب.

وقد بدأ ذلك بحادث عثمان — ثالث الخلفاء — حين تولى الخلافة بعد وفاة «عمر» «٦٤٤م»، وكانت سن «عثمان» حينئذ سبعين عامًا، وكان حليمًا ليِّن العريكة، ضعيف الإرادة أمام أسرته، وأعيان مكة، وثراتها ورجال بني أمية؛ أي إنه كان ضعيف الإرادة أمام كل من ناصبوا «محمدًا» العداء عشرين عامًا، ثم أسلموا فكان في إسلامهم مجال واسع للظنون والحذر، ولقد نالوا بفضل «عثمان» أرفع المناصب، وانتهت المأساة الكبرى بقتل المسلمين خليفتهم الشيخ المسن «عثمان».

ثم ولي الخلافة بعده «علي» ابن عم «محمد»، ولكن لم يتم الاعتراف به في كل مكان، فقد هبَّت سوريا متحمسة إلى امتشاق الحسام وعلى رأسها واليها «معاوية بن أبي سفيان» — وكان انتصاره حينئذ هو انتصار جمهرة المعادين للإسلام، الذين كانوا يناوئونه من صميم قلوبهم، على أن المسلمين حقًّا لم يخضعوا لهم، فقد أشعلوا نيران الحرب — من جديد — في زمن «يزيد الأول» ابن معاوية الذي ولي الخلافة من بعده، ولقد قام «الحسين» وهو الابن الأصغر لعلي يطالب بالخلافة، ولكنه صُرع هو وفئته القليلة التي كانت تناصره في موقعة كربلاء.٣٧

ومن ثم قام «عبد الله بن الزبير» — وهو ابن صحابي من صحابة الرسول — إلى مكة رافعًا علم الثورة، وظل سنة كاملة لا يحفل به الخليفة، ولا يلتفت إليه استصغارًا لشأنه، ذلك أنه لم يغادر مكة إلى غيرها من البلدان فلم ير له الخليفة خطرًا يستحق أن يناوئه من أجله، ورأى أن من الحزامة أن يتركه وشأنه؛ حتى لا يثير عليه حفيظة المسلمين أكثر مما أثار من قبل — بلا حاجة — فلم تكن ثمة ضرورة قاهرة تضطره إلى إراقة الدماء في بقاع كانت — — حتى في زمن الوثنية — حرمًا مقدسًا لا يمسه أحد بسوء.

ولكن لكل شيء حدًّا، فقد صبر يزيد حتى عيل صبره، فلما لم يبقَ في قوس الصبر منزع طلب إلى عبد الله بن الزبير — للمرة الأخيرة — أن يبايعه، فلما رفض امتزج الخليفة بالغضب، وأقسم أنه لن يقبل من هذا الثائر طاعة حتى يؤتى به بين يديه مكبلًا بالأغلال، ولما هدأت ثائرة الخليفة ندم على قسمه — وكان طيب السريرة — ففكر في وسيلة يبرُّ بها في قسمه — دون أن يمسَّ كبرياء «عبد الله» — ثم استقر على أن يرسل إليه غلًّا من الفضة، ومعه حلة فاخرة ليخفيه تحتها — إذا شاء — وبعث إليه برسل يحملون معهم هدايا ثمينة، فساروا من مقر مُلكه «دمشق» حتى بلغوا «مكة»، ولكن «عبد الله» رفض — بطبعه — أن يقبل تلك الهدايا، وعبثًا حاول الرسل أن يتوصلوا إلى إقناعه وإنزاله عن رأيه، فقد أصر «عبد الله» على عناده؛ لأنه كان يعتقد أن كائنًا من كان لن يفكر — بحال ما — أن يلجأ إلى العنف والشدة معه — وهو في تلك البقاع المقدسة — وكان هذا سر طمأنينته، وقد أكد له الرسل بصراحة أن الخليفة لن يعنف معه، ولن يقدم على مثل ذلك العمل.

على أن «عبد الله» لم يكن أول من تعرض لغضب الخليفة ونقمته، فقد سبقه إلى ذلك ثوار «المدينة»، وكانت روح الشر مهيمنة عليهم في ذلك الحين، فقد وقعت بينهم وبين الوالي — حينئذ — خصومة بسبب النزاع على تملُّك بعض الأراضي. وأراد الوالي إزالة أسباب الخلاف — وكان ابن أخت الخليفة يزيد — فنصح ثراة المدينة وأعيانها أن يذهبوا إلى بلاط الخليفة، فلما ذهبوا قابلهم الخليفة أحسن مقابلة وأكرم وفادتهم وتلطَّف معهم؛ رغبة في أن يستميلهم إليه، ولكن يزيد كان — رغم أدبه ونبله — غير مشبَّع بروح احترام الدين الذي كان يمثله وهو خليفة المسلمين الأعظم، فبدرت منه آراء — عن غير قصد — صدمت بعض أصول الدين التي يقدِّسها أهل المدينة، فلما عادوا إلى بلادهم عادوا ساخطين، وأخذوا يشهِّرون بالخليفة ويذمُّونه عند مواطنيهم متأثرين بعامل الغضب، وقالوا لهم: «إنه يشرب الخمر، ويعزف على الأوتار، ويصرف نهاره بين كلاب الصيد — وقد كان «محمد» يمقت ذلك أشد المقت — فإذا جنَّ الليل جلس بين اللصوص وقطاع الطرق.» يعنون بذلك البدو والأعراب الذين نشأ بينهم يزيد وترعرع، فلما كبر أدناهم من مجلسه.

•••

وزادوا على ذلك أنه لا يصلي قط، وأنه جاحد، وعزوا إليه — فوق هذه التهم التي بنوها على أساس واهٍ أو متين — تهمًا أخرى لا أساس لها ولا وجود، وإن كان ذكرها مما يثير في نفس خصومه من أهل المدينة حفائظ وأحقادًا بعيدة الأثر.

وقد كانوا يميلون إلى تصديق كل تهمة تلصق بكل أموي.

ومن ثم انقلب المسجد مسرحًا عجيبًا تصب فيه اللعنات على يزيد وأتباع يزيد، واجتمع أهل المدينة قاطبة — وهم صاخبون — فشرع كل واحد منهم يتجرد من شيء من ملابسه فيلقي به صائحًا: «إني أخلع يزيد كما أخلع قبائي هذا.» أو «عمامتي» أو «نعلي».

ثم طردوا كل من في المدينة من الأمويين ووقفوا عن تعيين خليفة جديد لهم، فقد كان القرشيون الذين في المدينة لا يحبون أن يعترفوا بأهلها، كما كان أهلها كذلك لا يحبون أن يعترفوا بهم.

فقرَّ رأيهم على أن يتريثوا في تعيين الخليفة حتى يتم خلع يزيد!

واستحوز عليهم عداء جنوني — لا يحدوه رشد — فلم يتبصروا عواقب هذا الاندفاع وكيف تقف مدينة واحدة أمام جيوش الإمبراطورية الإسلامية العظيمة كلها.

ولقد حاول عبثًا أحد المدنيين — وكان قد عاش في بلاط الخليفة ثم أوفده سيده إلى المدينة — أن يبين حقيقة الخطر لمواطنيه، ولكن الغضب أعماهم؛ فأصبحوا لا يعيرون الناصحين التفاتًا، ولا يصيحون إلى أية موعظة تقدَّم إليهم بحسن نية.

•••

وحينئذ رأى الخليفة أنه مضطر إلى الالتجاء إلى القوة، فأرسل إليهم جيشًا عهد بقيادته إلى «مسلم»، وكان «مسلم» أقرب إلى الوثنية منه إلى الإسلام، فأمره أن يترك لأهل المدينة ثلاثة أيام يفكرون فيها، فإذا أبوا أن يخضعوا — بعد ذلك — هاجمهم ودمر مدينتهم تدميرًا في ثلاثة أيام أخرى، ثم أخذ على من فيها المواثيق بأنهم عبيد يزيد، وأمرهم أن يقسموا على ذلك، فإذا رفض أحدهم أن يفعل قُطعت رقبته.

ولم يكد يبلغ أهل المدينة رسالته حتى هبُّوا ثائرين أنفة من الخضوع، وأعدوا عدتهم للقاء العدو، وجاهد الفريقان بشدة وصبر نادرين — وكانت موقعة الحرة سنة ٦٨٣م — وظهرت الخسائر من الفريقين متكافئة، وكان أهل المدينة متحمسين يذكي فيهم الحرارة والقوة تعصبهم الشديد، واعتقادهم الثابت أنهم المختارون، وأن أعداءهم — من جيش سوريا — هم عند الله كالوثنيين سواء، وكانوا على يقين من أن خصومهم إذا ماتوا صبَّت عليهم اللعنات وباؤوا بغضب من الله؛ أما هم فإنهم سالكون — بلا شك — مسالك الشهداء والأبرار.

وبقي مصير الحرب معلقًا في كفِّ الأقدار زمنًا طويلًا؛ حتى كشفت الخيانة عنه، فقد ارتشت أسرة من المدنيين؛ ففتحت أحد أبواب المدينة لفرقة من جيش العدو، فدخل السوريون وسمع أهل المدينة من خلفهم — فجأة — صيحات النصر من أفواه السوريين، فضاع كل أمل لديهم في الفوز والغلبة، وأصبحت المدينة في قبضة العدو، وصار كل هجوم عبثًا ومستحيلًا، على أن جمهرتهم لم تفكر في الخطر المحدق بها، فهجم أهل المدينة على أعدائهم فرادًا، وباعوا حياتهم بأغلى ثمن استطاعوا أن يبيعوها به!

وكان من بين القتلى سبعمائة من حفظة القرآن، وأربعة وعشرون من الصحابة، ولم يكن أحد من الصحابة الذين حاربوا مع النبي قد حارب — بعد أن نصروه في حرب بدر على المكيين — حتى شهدوا هذا اليوم المشئوم.

ودخل «المدينة» فرسان سوريا، فلما لم يجدوا مكانًا يربطون فيه خيلهم ربطوها في مسجد المدينة، بين جدث النبي وكرسيه؛ أي في نفس المكان الذي طالما سمَّاه النبي نفسه جنة «من جنان الفردوس».

•••

ثم نبَّهوا المدينة في ثلاثة أيام، وسبَوْا كل من فيها من نساء وأطفال؛ ولم ينجُ أحد ممن بقي من أهلها — وقد فر أكثرهم — إلا بعد أن أقسم أن يكون عبدًا من عبيد يزيد. وهكذا أقسموا جميعًا على أن يكون الخليفة «يزيد» سيدهم ومولاهم، وأن يكون في حلٍّ من التصرف فيهم بما شاء، من عتق أو بيع، كما أقسموا أن يكون له الحق في كل ما تملك أيمانهم من نساء وأولاد وأرواح.

ولما رأى أبناء مؤسسي الإسلام أنهم مضطهدون معذبون، وأن بني أمية قد أرهقوهم إرهاقًا، لم يجدوا أمامهم وسيلة إلا المهاجرة؛ فهاجر الكثيرون منهم إلى حيث انضموا إلى جيش أفريقيا، ثم انضم أغلبهم — فيما بعد — إلى جيش العرب في إسبانيا.

وكان «مسلم» مكلف أيضًا بإخضاع مكة؛ ولكن الموت عاقه عن تحقيق إربته، فأخذ «الحصين» — وهو أحد رجال جيشه — على عاتقه أن يحقق ذلك، فتولى قيادة الجيش، وبدأ يحاصر مكة، ويقذف الكعبة بالحجارة والصخور؛ حتى حطَّم عُمُدها وقواعدها، ثم نجح أخيرًا في إحراقها جملة، ولقي الحجر الأسود في هذه المرة أول نكبة حاقت به؛ لأنه لم يطق مقاومة النار فتحطم أربعة أجزاء.

على أن مكة لم يتم إخضاعها؛ فقد حال دون ذلك موت يزيد، وما أعقبه من الفوضى التي اضطرت الجيش إلى رفع الحصار والرجوع بالجيش توًّا إلى سوريا. وبهذا استعاد «عبد الله بن الزبير» قوته، واستتب له أمر الخلافة في «مكة» وخارجها أيضًا.

ولكن الأمويين ما لبثوا أن تم لهم الأمر من جديد بعد أن تولى الخلافة «عبد الملك» وخضعت البلاد كلها له، ولم تبقَ إلا مكة وحدها ثائرة وفيها «عبد الله بن الزبير»، فلما رأى «عبد الملك» ذلك وجه إليها جيشًا بقيادة الحَجَّاج، فذهب إلى تلك البقاع المقدسة وحاصر المدينة، وطفق يرمي الكعبة بالصخور والحجارة ليدكَّها دكًّا، وبينما كان يقذفها بالنار — ذات يوم — هبَّت عاصفة شديدة فأحرقت النار اثني عشر جنديًّا؛ فرأى الجيش في ذلك عقابًا من الله على انتهاك حرمة ذلك المكان المقدس، فأحجم رجال الحجاج وكفوا عن ذلك.

•••

فاغتاظ الحجاج وخلع بعض ملابسه وتقدم إلى المنجنيق، فأخذ بيده حجرًا ووضعه فيه، ثم حرك حباله بعد ذلك وهو يقول: «لقد أخطأتم الفهم، فليس معنى ما حدث هو ما فهمتموه، ألا إنني لخبير بطبيعة هذه البلاد؛ ففيها ولدت وقد رأيت لهذه العاصفة أشباهًا لا تحصى!»

•••

وظل يشدد الحصار عليها بقوة عدة أشهر، ثم أخذت المدينة بعد أن مات «عبد الله بن الزبير» سنة ٩٦٢م.

هوامش

(١) صحف مختارة من كتاب العلامة دوزي.
(٢) الثنوية دين المجوس الذين أثبتوا — كما يقول الشهرستاني — أصلين اثنين مؤثرين قديمين يقتسمان الخير والشر والنفع والضر والصلاح والفساد، ويسمون أحدهما النور والثاني الظلمة، وبالفارسية «يزدان» و«إهرمن». وهذا رأي من يدينون بالثنوية والمانوية، وقد أشار التمنبي إلى ذلك في قوله من قصيدة مدح بها سيف الدولة:
وكم لظلام الليل عندك من يد
تخبِّر أن المانوية تكذب
(٣) يعني الأوربيين.
(٤) ارجع إلى كتابه «الإسرائيليون في مكة».
(٥) كان العرب يعتقدون بوجود الله، ويعتقدون أن شئون الكون كلها بيده كما ترى في الكتاب الكريم في قوله: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ وقوله في آية أخرى: قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلهِ ۚ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلهِ ۚ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلهِ ۚ قُلْ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ.
(٦) قال تعالى: قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ اللهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ.
(٧) قال أبو العلاء على لسان جني في رسالة الغفران:
فتارةً أنا صلٌّ في نكارته
وربما أبصرتني العين عصفورا
نلوح للإنس حولًا أو ذوي عورٍ
ولم نكن قط لا حولًا ولا عورا
(٨) بعض الأساطير عن الجن
افتن رواة العرب وشعراء العرب في رواية الأساطير الرائعة عن الجن، ولعل أجمل ما قرأناه في ذلك هو تلك القصة البديعة التي تخيلها أبو العلاء في رسالة الغفران بين ابن القارح وشيخ من أدباء شيوخ الجن، وفي هذه القصة يرى القارئ حوارًا ممتعًا لا نغالي إذا قلنا إنه منقطع النظير في العربية كلها، ومن أجمل ما نختاره من تلك القصة قول الجني — وهو يقص على ابن القارح بعض ما حدث له في الدار الأولى:
وكنت آلف من أتراب قرطبة
خودًا، وبالصين أخرى بنت «يغبورا»
أزور تلك وهذي غير مكترثٍ
في ليلة قبل أن أستوضح النورا
ولا أمرُّ بوحشي ولا بشر
إلا وغادرته ولهان مذعورا
إلى أن يقول:
وأحضر الشرب أعروهم بآبدة
يزجون عودًا ومزمارًا وطنبورا
فلا أفارقهم حتى يكون لهم
فعل يظل به إبليس مسرورا
وأصرف العدل ختلًا عن أمانته
حتى يخون وحتى يشهد الزورا
إلى آخر القصيدة.
ومما ذكره ذلك الجني لابن القارح قوله: «ولسنا مثلكم يا بني آدم يغلب علينا النسيان والرطوبة؛ لأنكم من حمأ مسنون وخلقنا من مارج من نار».
وقوله: «وهل يعرف البشر من النظيم إلا كما تعرف البقر من علم الهيئة، ومساحة الأرض، وإنما لهم خمسة عشر جنسًا من الموزون قلَّ ما يعدوها القائلون، وإن لنا لآلاف أوزان ما سمع بها الإنس.»
وقوله: «ولا بد لأحدنا أن يكون عارفًا بجميع الألسن الإنسية، ولنا بعد ذلك لسان لا يعرفه الأنيس.»
وقد قص الجني على ابن القارح — في قصيدة أخرى — شيئًا كثيرًا مما ينسبه الناس إلى الجن، فمن ذلك قوله:
ونخرج الحسناء مطرودةً
من بيتها عن سوء ظن حديس
نقول: لا تقنع بتطليقها
واقبل نصيحًا لم يكن بالدسيس
حتى إذا صارت إلى غيره
عاد من الوجد بجد تعيس
نذكره منها — وقد زوجت —
ثغرًا كدر في مدام غريس
وفي هذه القصيدة يقول:
ويقتري جن «سليمان» كي
يطلق منها كل عاوٍ حبيس
صير في قارورة رصصت
فلم نغادر منه غير البسيس
يعني بذلك أنهم يجوبون أنحاء البلاد باحثين عن إخوانهم من عصاة الجن الغاوين الذين سجنهم نبي الله «سليمان» في قوارير أحكم سدادها بالرصاص؛ حتى لا يجدوا سبيلًا إلى الفرار، فلم يبقَ منهم ذلك الحبس الطويل إلا الرمق.
وقد أشرنا — في رسالة الغفران — إلى ذلك إشارة موجزة لا بأس من إثباتها لفائدة القراء:

أساطير الجن وسليمان النبي

شاعت أساطير «سليمان» والجن وانتشرت منذ أقدم أزمنة التاريخ؛ فنسبوا إليه القدرة المطلقة على تسخير الجن، ومعرفة لغاتهم المختلفة، وعزوا إلى خاتمه — المشهور بما عليه من النقش — معجزات لا تحصى، كما عزوا إلى بساطه قدرة خارقة على الطيران بما يحمله في الجو بسرعة لا يكاد يتصورها العقل.
وقد كادت تُجمِع تلك الأساطير على عدة أمور أنضجها الخيال، ونسقها التواتر، فمن ذلك أن «سليمان النبي» كان يهيمن على الجان ويطلب منهم خدمات شتى تتفاوت صعوبة ويسرًا، وقد يعنُّ له أمر هام لا يستطيع إنفاذه إلا جني بعينه يكون مشهورًا بقدرته الخارقة؛ فيرسل إليه، فإذا لبَّى دعوته فذاك، وإلا نكَّل بـه أو ختم جبهته بالنقش الذي على خاتمه؛ فأحرقه توًّا أو سجنه في قارورة مرصصة أو قمقم من النحاس، وربما سجنه في عامود طويل من الصخر بعد أن أوثقه بالسلاسل والأغلال وختـمه بخاتمه.
وقد اشتهر وزيره الحكيم «آصف بن برخيا» بمساعداته القيمة لسليمان على إذلال الجن وإخضاعهم لأوامره.
وقد ذاع من تلك الأساطير — بين العامة والخاصة — شيء كثير، وافتن الناس في رواياتها بأساليب شتى وطرق متباينة، ولهذه الأساطير مصادر عدة نخص بالذكر منها — عدا روايات وأقاصيص رواة العرب — مصدرين رئيسيين نعدهما من أخصب المصادر وأغناها؛ وهما «أساطير ألف ليلة وليلة» و«أسطورة سيف بن ذي يزن».
ففي «ألف ليلة وليلة» ترى:

«حكاية الصياد والجني»

وموضوعها أن صيادًا عائلًا طاعنًا في السن كان من عادته أن يرمي شبكته كل يوم أربع مرات.
فخرج في صبيحة يوم حسب عادته، وطرح شبكته وصبر إلى أن استقرت في الماء، ثم جمع خيطانها فوجدها ثقيلة فجذبها فلم يقدر على ذلك.
فأخذ يعالجها حتى إذا تمكن من إخراجها وجد فيها حمارًا ميتًا فحزن، ثم أخرجه ورمى شبكته مرة ثانية.
فلما جذبها وجدها ثقيلة — كما وجدها في المرة الأولى — فظل يعالجها حتى استطاع إخراجها؛ فوجد فيها زيرًا كبيرًا مملوءًا رملًا وطينًا فزاد حزنه، ثم أخرج ما فيها، ولما ألفاها للمرة الثالثة وجذبها، وجد بها شقافة وقوارير؛ فعجب من سوء بخته ونكد طالعه.
وقبل أن يلقي الشبكة — للمرة الرابعة والأخيرة — توسل إلى الله أن ييسر له، ثم سمى باسمه وألقى شبكته، وصبر إلى أن استقرت، فإذا بها أثقل منها في المرات السابقة.
فبذل أشد الجهد في إخراجها حتى تمكَّن من ذلك بعد عناء شديد فوجد بها قمقمًا من نحاس أصفر مسدودًا بالرصاص، ومطبوعًا بخاتم سليمان النبي، فتبدل حزنه سرورًا.
وقال في نفسه: «سأبيع هذا القمقم في سوق النحاس؛ لأنه يساوي عشرة دنانير ذهبًا، ولكن لا بد من فتحه لأعلم ما يحتويه.»
figure
صورة الصياد والجني والقمقم.
وأخرج مدية كانت معه فعالج بها الرصاص حتى فكَّه، ثم أزال غطاء القمقم فتصاعد منه دخان كثيف إلى عنان السماء، لم يلبث أن تجمَّع واكتمل حتى رأى الصياد أمامه ماردًا هائلًا مروعًا من الجن، فارتعدت فرائصه، واضطرب بلباله، ولم يعده إلى رشده إلا قول الجني له: «العفو يا نبي الله سليمان، التوبة التوبة! آمنت بك وأطعتك ولم أعد أخالف لك قولًا أو أعصي لك أمرًا، فلا تقتلني فإني تائب نادم على ما فرط مني من العصيان!»
فعاود الصياد الرمق وقال له: «أين سليمان النبي أيها الجني؟ لقد مات منذ عدة قرون، فما قصتك؟ وما سبب حبسك في هذا القمقم؟»
فلما علم الجني بموت سليمان النبي التفت إلى الصياد قائلًا: «سأجازيك على جميلك بالقتل، ولكني سأترك لك اختيار ميتتك!» فقال له الصياد: «أهذا جزاء من أحسن إليك وأخرجك من سجنك؟» فقال له الجني: «لقد كنتُ من الجن المارقين، وقد عصيت سليمان بن داود — واسمي صخر الجني — فأرسل إلى وزيره آصف بن برخيا فأتي بي مكرهًا وقادني إليه ذليلًا، فلما وقفت بين يدي سليمان النبي أمرني بالدخول في طاعته فأبيت، فحبسني في هذا القمقم، وختم عليَّ بالرصاص، وطبعه بخاتمه المنقوش عليه (الاسم الأعظم)، وأمر الجن فألقوني في وسط البحر، فمكثت مائة عام وقلت في نفسي: كل من خلَّصني أغنيتُه إلى الأبد، ولما مرت مائة عام ولم يخلِّصني أحد قلت: «كل من خلَّصني في خلال هذا القرن الثاني فتحت له كنوز الأرض.» فلم يخلِّصني أحد، ومرت عليَّ أربعمائة أخرى فقلت: «كل من خلَّصني قضيت له ثلاث حاجات.» فلما مرت تلك المدة الطويلة كلها ولم ينقذني أحد تملَّكني الغضب الشديد فقلت في نفسي: «كل من خلَّصني قتلتُه وتركتُ له اختيار ميتته.» فأي ميتةٍ تختار أن تموتها الآن؟»
فارتمى الصياد على قدميه متوسلًا إليه أن يعفو عنه، ولكنه وجد منه الإصرار على قتله.
فلجأ إلى الحيلة — بعد أن يئس من استعطافه — فقال للجني: «ولكن لي سؤالًا أرجو أن تجيبني عليه قبل أن تهلكني، وأن تصدقني في الإجابة عنه.» فقال له الجني: «وما هو؟» فقال الصياد: «قل لي بحق الاسم الأعظم المنقوش على خاتم نبي الله سليمان: كيف كنت في هذا القمقم الضيق — وهو لا يسع يدك ولا رجلك؟» فلما سمع الجني هذا القسم اضطرب، ولكنه لم يلبث أن قال له: «ألا تصدق أنني كنت فيه؟» فأجابه الصياد: «كلا، ولن أصدق ذلك أبدًا إلا إذا رأيته بعيني؟» فانتفض العفريت وصار دخانًا في الجو، ثم اجتمع وأخذ يدخل في القمقم حتى أصبح كله في داخله؛ فأسرع الصياد وسد فم القمقم بالسدادة التي كانت عليه من قبل، فلما رأى الجني مكر الصياد، توسل إليه أن يفك أسره — ودار بينهما حوار طويل ممتع يجده القارئ مفصلًا في الجزء الأول من كتاب ألف ليلة وليلة، وقد انتهى ذلك الحوار بأن أقسم له الجني أن ينفعه إذا أطلقه، وقد برَّ للصياد بقسمه.

•••

أما أسطورة «سيف بن ذي يزن» فنعدها — على عامية أفكارها وفساد خيالها واضطرابه في عدة مواضع منها — أغنى المصادر التي عنيت بذكر هذه الخرافة وأشباهها من وصف الجان، وبيان كفاياتهم وأقدارهم وهيمنة السحرة عليهم وأثر الطلاسم فيهم، وإظهار الفروق التي بين طوائفهم ونحلهم المختلفة … إلخ إلخ. وقد أوسعت تلك القصة لهذا النوع من الأساطير أرحب مكان فيها، فازدحمت بها ازدحامًا أفردها من بين الأساطير العربية، ولسنا نعرف في كل ما قرأناه من القصص العامية — وقد قرأنا كل ما طبع منها بلا استثناء — قصة تعدلها في هذه الميزة غناء وخصبًا.
فليس من بدٍّ لمن أراد أن يكوِّن فكرة واسعة عن أساطير السحرة والجان والأرصاد والطلاسم أن يقرأ تلك القصة الطويلة الجديرة بالعناية.
ومن بين أساطير تلك القصة ما ترويه لنا أسطورة «الرهق الأسود» وقد ذكرت في موضعين منها؛ أولهما بمناسبة سفر «سيف بن ذي يزن» إلى كنوز «النبي سليمان» وثانيهما بمناسبة حفر «شلالات النيل».
فمثلت لنا ذلك «الرهق الأسود» ماردًا عنيدًا تخاف الجن كلها سطوته وبأسه، ولا تكاد تؤثر فيه الأرصاد والطلاسم، وقد بلغ من عتوِّه أنه عصى النبي سليمان واستخف به وبسلطانه.
ففي ذات يوم كلَّف «سليمان» — تلبية لرغبة زوجه «بلقيس» — أعوان الجان بعمل شاق لم يستطيعوا القيام به؛ فأظهروا له عجزهم عن القيام به، وذكروا له قدرة «الرهق الأسود» — دون غيره من الجان — على إتمامه.
فكلف وزيره «آصف بن برخيا» بإحضاره، وكان «آصف» يعلم مقدار صلابة هذا الجني وعناده، فبعث إليه برسالة تركها له أحد الجان عند رأسه — وهو نائم — خوفًا من سطوته، فلما أفاق قرأ فيها قوله: «إذا لم تحضر إليَّ بعثتُ إليك الوهم!»
فذهب إلى «آصف» وسأله عن الوهم وأين هو؟ فاغتنم فرصة حضوره فقيَّده بطلاسمه — التي اشتهر بمقدرته الفائقة على الافتنان فيها — ثم أمره بالقيام بذلك العمل الذي أرغمه عليه إرغامًا.
وبينما هو قائم بعمله الشاق — مرت به «بلقيس» مصادفة، فهام بحبها، ولما رأى «سليمان النبي» طلب إليه أن يزوِّجه منها، ووعده بالرضوخ لأوامره كلها — إن فعل — فلما علم أنه يعني زوجه، أراد أن يطبعه بالنقش الذي على خاتمه ليحرقه، فاستغاث بالوزير «آصف»، فاقترح الوزير على «سليمان» أن يسجنه في عامود من الرخام؛ ليشقى بالعذاب طول حياته، فسجنه في عامود طويل أحكم سداده بالرصاص، وختمه بخاتمه، وظل محبوسًا حتى أنقذه «سيف بن ذي يزن» إلى آخر تلك الأسطورة الطويلة التي أوجزناها أشد إيجاز، وفصَّلتها قصة «سيف بن ذي يزن» «في الجزء الثامن ص٤٥ و٤٦، وفي الجزء الحادي عشر من ص٤٤ إلى آخر الجزء، ومن أول الجزء الثاني عشر إلى ص٨.»
ومما هو جدير بالملاحظة في تلك الأساطير أنها تكاد تنتهي جميعًا بإظهار ميل أولئك الجن العصاة إلى الإساءة إلى من يحسنون إليهم بإطلاقهم، مما يدل على تأصُّل روح الشر في نفوسهم.

•••

وقد أشار المتنبي إلى ما اشتهر به «سليمان النبي» من معرفة لغات الجن وقدرته على تفهُّم ألسنتهم المختلفة، في نونيته التي مدح بها عضد الدولة وذكر فيها شعب بوان، فقال:
ملاعب جنة لو سار فيها
«سليمان» لسار بترجمان
وأبدع النابغة في الإشارة إلى ما اشتهر عن «سليمان» من إذلال الجن وإخضاعهم لأوامره، فقال من معلقته الجميلة أثناء مدحه للنعمان:
ولا أرى فاعلًا في الخير يشبهه
ولا أحاشي من الأقوام من أحد
إلا «سليمان» إذ قال الإله له
قم للبرية فاحددها عن الفند
وخيس الجن إني قد أذنت لهم
يبنون «تدمر» بالصفاح والعمد
فمن أطاعك فانفعه بطاعته
كما أطاعك وادللـه على الرشد
ومن عصاك، فعاقبه معاقبة
تنهي الظلوم ولا تقعد على ضمد
ونختم هذا الفصل بقول الأعشى — وهو يمثل منحًى آخر من اعتقاد العرب في ذلك:
ولو كان شيء خالدًا ومعمرًا
لكان سليمان البري من الدهر
براه إلهي فاصطفاه عباده
وملَّكه ما بين ثريا إلى مصر
وسخَّر من جن الملائك تسعةً
قيامًا لديه يعملون بلا أجر
(٩) ومن الأشجار التي كان يعظمها العرب في الجاهلية شجرة «ذات أنواط»، وفيها يقول بعض الشعراء:
لنا المهيمن يكفينا أعادينا
كما رفضنا إليه ذات أنواط
وفي هذه الشجرة يقول أبو العلاء في لزومياته:
والحظ يدرك أقوامًا فيرفعهم
وقد ينال إلى أن يعبد الحجرا
وشرَّفت «ذات أنواط» قبائلها
ولم تباين — على علاتها — الشجرا
وفي هذين البيتين أيضًا إشارة إلى ما ذكره «دوزي» من عبادة العرب للحجر.
(١٠) الجمال الصغيرة، قال الشاعر
لا أمتع العوذ بالفصال ولا
أبتاع إلا قريبة الأجل
(١١) قال تعالى: وَجَعَلُوا لِلهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا ۖ فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللهِ ۖ وَمَا كَانَ لِلهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ ۗ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ.
(١٢) ومما جاء في القرآن الكريم قوله: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ۚ وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ وقوله: وَيَجْعَلُونَ لِلهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ ۙ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ وقوله: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا ۚ أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ۚ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ * وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم ۗ مَّا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ.
(١٣) ينص القرآن على أن العرب لم يعبدوا الأصنام لذاتها — كما يتوهم بعض الناس — وقد ذكر عبد الله بن عباس في تفسير قوله تعالى: وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا أن هذه الأسماء التي أطلقوها على أوثانهم ليست إلا أسماء قوم صالحين، ماتوا فقالت عشائرهم: «لو أنا صورناهم ليكون في ذلك تذكير لنا، وتنشيط على العبادة، وحسن الاقتداء بهم، فصوروهم حتى إذا طال عليهم الأمد عبدوهم «المترجم».
(١٤) سميت كذلك لأنها ترى من بعيد على شكل مكعب منتظم الاضلاع «دوزي».
(١٥) «ملاية».
(١٦) قال ابن الكلبي: «كان لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها، وكان أعظمها هبل» «المترجم».
(١٧) روى ابن الكلبي «أنه كان من عقيق أحمر، على صورة إنسان مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك، فجعلوا له يدًا من ذهب.» «المترجم».
(١٨) قالوا: وكان أول من نصبه «خزيمة بن مدركة»، وكان يقال له: «هبل خزيمة» «المترجم».
(١٩) روى ابن الكلبي في كتابه الأصنام: «أنه لما سكن إسماعيل بن إبراهيم (عليهما السلام) مكة، ولد له بها أولاد كثيرون حتى ملأوا مكة ونفوا من كان بها من العماليق، وضاقت عليهم مكة، ووقعت بينهم الحروب والعداوات، وأخرج بعضهم بعضًا، فتفسحوا في الأرض التماس المعاش.»
قال: «وكان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجرًا من حجارة الحرم تعظيمًا للكعبة وصيانة وصبابة بمكة، فحيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة، تيمنًا منهم بها، وصبابة بالحرم وحبًّا له، وهم بعد يعظِّمون الكعبة ومكة ويحجون ويعتمرون على إرث أبيهم إسماعيل من تعظيم الكعبة والحج والاعتمار.» «المترجم».
(٢٠) قالوا: «إن أول من أدخل عبادة الأصنام هو عمر بن لحي، وإنه أول من غيَّر دين إسماعيل ونصب الأوثان، وقد جاء في كتاب الأصنام: أن السبب في ذلك أنه مرض مرضًا شديدًا، فقيل له: إن البلقاء من الشام «حمة» إن أتيتها برأت. فأتاها فاستحم بها فبرأ، ووجد أهلها يعبدون الأصنام فقال: «ما هذه؟» فقالوا: «نستسقي بها المطر، ونستنصر بها على العدو.» فسألهم أن يعطوه منها ففعلوه، فقدم بها مكة ونصبها حول الكعبة.»
(٢١) هو أبو رجاء العطاردي. تجد ترجمته في كتاب ابن قتيبة ص١١٩، وفي مسند الدارمي ص ٣٦٤ «دوزي».
(٢٢) هذا هو حال أغلب الناس — على اختلاف أديانهم وأزمانهم — وليس أبلغ في أداء هذا المعنى من قوله تعالى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ.
وفي ذلك يقول ابن دريد في مقصورته الرائعة:
نحن — ولا كفران لله — كما
قد قيل للسائق أخلى فارتعى
إذا أحس نبأة ريعٍ وإن
تطامنت عنه اطمأن ولها
(٢٣) كان للنعجة قيمة كبيرة عند العرب؛ لأنهم كانوا ينتفعون بلبنها وصوفها ولحمها، وما أجمل قول أحد العرب يهدد زوجه متهكمًا:
غضبت عليَّ لأن شربت بصوف
ولئن غضبت لأشربن بخروف
ولئن غضبت لأشربن بنعجة
كوماء مالئة الإناء سحوف
(٢٤) كان ذو الخلصة — فيما يقول ابن الكلبي — مروة بيضاء، منقوشًا عليها كهيئة التاج، وكانت «بتباله» — بين مكة واليمن على مسيرة سبع ليال من مكة — وكان سدنتها بنو أمامة من «باهلة بن أعصر»، وكانت تعظِّمها وتهدي لها خثعم «وبجيلة» و«أزد الشراه» ومن قاربهم من بطون العرب من «هوازن» ومن كان ببلادهم من العرب بتباله، قال: وكانت العرب جميعًا تعظمه. «المترجم».
(٢٥) قالوا: إن امرأ القيس بن حجر لما أقبل يريد الإغارة على بني أسد، مرَّ بذي الخلصة — وكانت له ثلاثة أقدح «الآمر والناهي والمتربص» — فاستقسم عنده ثلاث مرات، فخرج الناهي؛ فكسر القداح وضرب بها وجه الصنم وقال هذه الجملة. وتُروى — في رواية أخرى — بأشنع من ذلك.
قالوا: فكان امرؤ القيس أول من أخفره، ثم غزا بني أسد فظفر بهم!
وفي رواية أخرى أن رجلًا كان أبوه قد قتل؛ فأراد الطلب بثأره فأتى ذا الخلصة فاستقسم عنده بالأزلام فخرج السهم ينهاه عن ذلك، فقال:
لو كنت يا ذا الخلص الموتورا
مثلي، وكان شيخك المقبورا
لم تنهَ عن قتل العداة زورا
(٢٦) قال ابن الكلبي: «وكان لمالك وملكان ابني كنانة، بساحل جدة وتلك الناحية، صنم يقال له «سعد»، وكان صخرة طويلة، فأقبل رجل منهم بإبل له ليقفها عليه يتبرك بذلك فيها، فلما أدناها منه نفرت منه — وكان يهراق عليه الدماء — فذهبت في كل وجه وتفرَّقت عليه، وأسف فتناول حجرًا فرماه به وقال: «لا بارك الله فيك إلهًا أنفرت على إبلي.» ثم خرج في طلبها وانصرف عنه وهو يقول «الأبيات».
(٢٧) هو الاسم الذي كانوا يطلقونه على ذبائح الغنم التي يذبحونها عند أصنامهم.
(٢٨) يُعرف تشريد اليهود ونفيهم عند المؤرخين باسم جلاء بابل!
فقد تولى بختنصر في عام «٦٠٦ ق.م» وأجلى اليهود عن بيت المقدس وضربه، وأخذ آنيته الثمينة، وقد مكث مخربًا نحو مائة عام، وشرد اليهود كل مشرد، وذهب فريق منهم أسرى إلى بابل وبلاد مادي. وفي عام «٢١ ب.م» جاء طيطوس فنكب اليهود مرة أخرى وهدم بيت المقدس، وشتَّت شملهم وحرَّم عليهم الإقامة في فلسطين، وقد كتب «يوسيفوس» المؤرخ كتابه عن اليهود وما حدث لهم في تلك الموقعة. «المترجم».
(٢٩) الصدوقيون
فرقة من اليهود ظهرت في وقت العهد الجديد، وهي تنسب — في رأي بعض المؤرخين — إلى صدقيا؛ وهو من أسرة أرستقراطية من أحبار «بيت المقدس» في زمن سليمان (عليه السلام)، وفي رأي آخرين أنهم منسوبون إلى الكلمة العبرية التي معناها «الحق»، وهي قريبة الحروف من الكلمة العربية. وأهم مميزات الصدوقيين هي: أنهم كانوا حزب الأرستقراطية.
وأنهم كانوا لا يعترفون بغير التوراة المكتوبة، ويرفضون كل ما عداها مما زيد عليها من الأحاديث الشفوية المروية عن موسى (عليه السلام)، كما كانوا يرفضون كل ما أضيف إليها من التفاسير والشروح، التي أدخلها فيها النُّسَّاخ؛ ولهذا رفض الصدوقيون الإيمان بأهم الأسس التي بنيت عليها الديانة اليهودية؛ فلم يؤمنوا بالبعث، ولم يقبلوا فكرة الخلود ولا فكرة الجزاء في الدار الآخرة، وكانوا — إلى ذلك — ينكرون الملائكة، ويجحدون الأرواح، ويقررون — تقرير الجازم المستيقن — أن الإنسان مخيرٌ — بأوسع ما تحويه هذه الكلمة من معانٍ — وأنه متمتع بحرية الإرادة في كل ما يفعله من خير أو شر، وأن سعادته وشقاوته — على هذا — ثمرة غرسه ونتاج عمله.
ويرى بعض المؤرخين أن الصدوقيين لم ينكروا وجود الملائكة والشياطين كما يتبادر إلى الذهن من أقوالهم، وأن هذا الوهم سببه عدم تحري الدقة في فهم عبارتهم التي التبس على الكثيرين فهمها، وإنما أنكر الصدوقيون أن يكون للملائكة والشياطين دخل في أعمال الإنسان، فعبارة إنكارهم الملائكة والشياطين يجب أن يفهمها المؤرخ بعد أن يعرف المناسبة التي قيلت فيها، والقرينة التي اقترنت بها.
ولقد كان ينقص الصدوقيين حرارة الإيمان وقوة العقيدة اللتان امتازا بهما خصومهم الفريسيون الذين كانوا يعقدون آمالهم على الدار الآخرة، وما يتوقعونه فيها من الجزاء، فلم يحفلوا بالاعتبارات الدنيوية، على أن الإنصاف يقضي علينا أن نقرر أن ذلك لم يكن إلا في ظاهر معتقداتهم، وأنهم قد تاجروا بهذه المبادئ واتخذوها وسيلة إلى المداهنة والرياء، حتى أصبح خصومهم يطلقون من اسمهم هذا — على سبيل المجاز — صفة لكل من ينافق أو يُعنى بظاهر اللفظ، ويستغني بالقشور عن اللباب ويفضِّل المصطلحات والمظاهر على جوهر الحقيقة الخالصة المقصودة لذاتها.
وكان سقوط الدولة اليهودية مصحوبًا بالقضاء على الصدوقيين، وقد ورد ذكرهم في التلمود، ولكن عبارة التلمود غامضة لا يسهل اجتلاؤها لمن يريد تعرف الحقيقة. وقد قسم ابن حزم — في كتاب الملل والنحل— اليهود إلى خمس فرق وهي:
  • (١)

    السامرية: وهم يقولون إن مدينة القدس هي نابلس — وهي من بيت المقدس على ثمانية عشر ميلًا — ولا يعرفون حرمة لبيت المقدس ولا يعظمونه، ولهم توراة غير التي بأيدي سائر اليهود، ويبطلون كل نبوة كانت في بني إسرائيل بعد موسى (عليه السلام) وبعد يوشع(عليه السلام)، فيكذبون بنبوة شمعون، وداود، وسليمان، وأشعيا، واليشع، وإلياس، وعاموص، وحبقوق، وزكريا، وأرميا، وغيرهم، ولا يقرون بالبعث البتة، وهم بالشام لا يستحلون الخروج عنها.

  • (٢)

    الصدوقية: وينسبون إلى رجل يقال له «صدوق»، وهم يقولون من بين سائر اليهود: إن العزير هو ابن الله — تعالى الله عن ذلك — وكانوا بجهة اليمن.

  • (٣)

    والعنانية: وهم أصحاب عانان الداودي اليهودي، وتسميهم اليهود العراس والمس، وقولهم إنهم لا يتعدون شرائع التوراة وما جاء في كتب الأنبياء، ويتبرأون من قول الأحبار ويكذبونهم، وهذه الفرقة بالعراق ومصر والشام، وهم من الأندلس بطليطلة وطليبرة.

  • (٤)

    والربانية؛ وهم الأشعنية: وهم القائلون بأقوال الأحبار ومذاهبهم، وهم جمهور اليهود.

  • (٥)

    والعيسوية: وهم أصحاب أبي عيسى الأصبهاني — رجل من اليهود كان بأصبهان — وبلغني أن اسمه كان «محمد بن عيسى»، وهم يقولون بنبوة عيسى بن مريم، ومحمد ويقولون إن عيسى بعثه الله (عز وجل) إلى بني إسرائيل — على ما جاء في الإنجيل — وإنه أحد أنبياء بني إسرائيل.

ويقولون إن محمدًا نبي أرسله الله تعالى بشرائع القرآن إلى بني إسماعيل (عليهم السلام) وإلى سائر العرب، كما كان أيوب نبيًّا في بني عيص، وكما كان بلعام نبيًّا في بني مواب، بإقرار من جميع فرق اليهود. «المترجم».
(٣٠) قال أبو العلاء في رسالة الغفران: «وبعض العلماء يقول: «إن سادات قريش كانوا زنادقة.» وما أجدرهم بذلك! وفي ذلك يقول شاعرهم:
ألمت بالتحية أم بكرٍ
فحيوا أم بكرٍ بالسلام
وكائن بالطوي طوي بدرٍ
من الأحساب والقوم الكرام
ألا يا أم بكرٍ لا تكري
على الكأس بعد أخي هشام
وبعد أخي أبيه وكان قرمًا
من الأقرام شراب المدام
ألا من مبلغ الرحمن عني
بأني تاركٌ شهر الصيام
إذا ما الرأس زايل منكبيه
فقد شبع الأنيس من الطعام
أيوعدنا «ابن كبشة» أن سنحيا
وكيف حياة أصداء وهام؟
أتترك أن ترد الموت عني
وتحييني إذا بليت عظامي؟
ولا يدَّعي مثل هذه الدعاوي إلا من يستبسل وراءها للحمام، ولا يأسف له عند إلمام. ا.هـ» «المترجم».
(٣١) يذهب الأستاذ «سبرنجر» إلى أن كلمة حنيف معناها في الأصل ملحد أو كافر، وعندي أن في هذا التفسير إسرافًا ومغالاةً لا يقبلها باحث، وليس يتسع المقام لإظهار حقيقة الحنيفية والحنفاء التي سأبيِّنها في بعض الفصول الأخيرة من هذا الكتاب، فلأكتفِ الآن بإحالة القارئ على ما كتبه في أوائل هذا الفصل. «دوزي»

الحنيفية

اختلف الناس في تفسير هذه الكلمة، واضطرب الشراح في معانيها اضطرابًا شديدًا، بلغت مسافة الخلف فيه من النقيض إلى النقيض، ولهم العذر في ذلك؛ فقد تطورت معاني هذه الكلمة — بمرور الزمن — فكان هذا التطور سبب الحيرة والشك اللذين وقع فيهما أكثر المفسرين، وقد ذكر صاحب لسان العرب وغيره معاني مختلفة لهذه الكلمة لا تربطها صلة، وليس هنا مجال التوسع في سرد ما قالوه وكتبوه في ذلك، فلنجتزئ بشرح معناها الذي نفهمه بإيجاز، وهو فهم يلائم بين تلك الآراء كلها:
كلمة الحنيف: أصل معناها المائل عن الطريق المعبَّد السوي الذي ألِفَه سواد الناس إلى طريق آخر، وهذا هو ما فعله إبراهيم (عليه السلام)؛ فقد خالف ما كان عليه قومه من الشرك والوثنية، ومال عن سنتهم إلى طريق التوحيد؛ فأطلق عليه قومه اسم الحنيف، ثم خلفه من بعده من أبنائه فاتبعوه في حنيفيته، ولكن مذهب إبراهيم وشريعته دخلهما كثير من الضلالات والأوهام والبدع، ومن ثم تباين أتباعه في نحلهم وعقائدهم، فوجد منهم المؤمن الحق والمشرك والوثني، ولكن كلًّا منهم احتفظ لنفسه باسم الحنيفية، وأطلقوا على أنفسهم لفظة الحنفاء، فلما جاء الإسلام وجد لفظة الحنيفية في حاجة إلى تحديد، فلم يكتفِ بوصف إبراهيم (عليه السلام) بالحنيفية، بل احترس فقال عنه إنه كان حنيفًا مسلمًا.
ولعل خير ما نختم به هذه الكلمة هو قول الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسير الآية: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وإليك ما قال:
قال بعض المشتغلين بالعربية من الإفرنج إن الحنيفية هي ما كان عليه العرب من الشرك، واحتجوا على ذلك بقول بعض النصارى في زمن الجاهلية: «إن فعلت هذا أكون حنيفًا.» وإنها لفلسفة جاءت من الجهل باللغة، وقد ناظرت بعض علماء الإفرنج في هذا فلم يجد ما يحتج به إلا عبارة ذلك النصراني، وهو الآن يجمع كل ما نقل عن العرب من هذه المادة لينظر كيف كانوا يستعملونها، ولا دليل في كلمة النصراني العربي على أن الكلمة تدل — لغة — على الشرك، وإنما مراده بكلمته؛ البراءة من دين العرب مطلقًا، وذلك أن بعض العرب كانوا يسمون أنفسهم الحنفاء وينتسبون إلى إبراهيم، ويزعمون أنهم على دينه، وكان الناس يسمونهم الحنفاء أيضًا؛ والسبب في هذه التسمية هو الدعوى أن سلفهم كانوا على ملة إبراهيم حقيقة، ثم طرأت عليهم الوثنية فأخذتهم عن عقيدتهم وأنستهم أحكام ملتهم وأعمالها، فنسوا بعضها بالمرة، وخرجوا لبعض آخر عن أصله ووصفه كالحج.
ونفي الشرك عن إبراهيم — في آخر الآية — احتراس من وهم الواهمين وتكذيب لدعوى المدعين» ا.هـ. «المترجم».
(٣٢) مترجمة عن الإنجليزية.
(٣٣) فصل آخر مختار من كتاب «نظرات في تاريخ الإسلام» للعلامة «دوزي».
(٣٤) لهذه المحادثة التي أقنع بها مسيلمة سجاحًا بنبوته قصة طريفة يعرفها أكثر القراء، ولا حاجة لذكرها في هذا المقام.
(٣٥) قال له عمر: أليس قد قال رسول الله : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: «لا إله إلا الله» فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله!»
فقال له أبو بكر: ألم يقل: «إلا بحقها»؟ وهذه الزكاة من حقها، والله لا أفرق بين الصلاة والزكاة وقد جمع الله بينهما، والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه.» «المترجم».
(٣٦) وفي هذا يقول عمرو بن معد يكرب:
نعطي السوية في طعن له نفذ
ولا سوية إذ تُعطى الدنانير! «المترجم»
(٣٧) وفي ذلك يقول الكميت:
يحلئن عن ماء الفرات وظله
حسينًا ولم يشهر عليهم منصل
كأن حسينًا والبهاليل حوله
لأسيافهم ما يختلي المتبقل «المترجم»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤