الوعظ القصصي

قال لي صَاحِبِي وهو يُحاورني: «لقد نَكَبَتْنَا وَزَارَةُ الأَوقافِ؛ حين حَتَّمَتْ علينا أن نُؤَلِّفَ خُطَبًا ونسجلها في الدفاتر!»

قلت: «لقد أَسْدَتْ إليكم معروفًا أي معروف!»

قال: «أَفِي مَقْدُوْرِيَ أن أَعِظَ وأن أَخْطُبَ؟»

قلت: «ولم لا؟»

قال: «إني لَأَعْجَزُ عن تَسْجِيعِ جُمْلَتَيْنِ اثنتينِ في يومٍ واحدٍ.»

قلت: «وما شأنُ هذا بالخَطابة؟»

قال: «وكيف تكون خطابة بلا سَجْعٍ؟»

قلت: «بل كيف يَكون سجع وخطابة؟»

قال: «أَمْرُكَ عَجِيْبٌ!»

قلتُ: «أمْرُكَ أعجب!»

قال: «دَعِ المِزَاحَ جانبًا وَخُذْ في الجِد»

قلت: «إني لا أَمْزَحُ؛ إلا إذا كنت تُسمي الصدق مِزَاحًا، إنك تتصور الخطابة تَصَوُّرًا فَاسِدًا خاطئًا، وهذا التَّصَوُّرُ وحده هو عِلَّةُ عَجْزِكَ عن القيام بها، إن الوعظَ أَيْسَرُ مما تظن بكثير.

إن كل أمر بالمعروف، وكل نهي عن المنكر؛ هو وَعْظٌ له قيمته وخطره فإذا سِرْتَ في الطريق ورأيت حادثًا من الحوادث — خيرًا كان أو شرًّا — فَقَصَصْتَه على سامعيك مُثْنِيًا على جانب الخير مُنَدِّدًا بالجانب المَرْذُولِ حَاثًّا الناسَ على الاقتداء بالأول مُحَذِّرًا إياهم من الوقوع في الثاني، فقد أحسنت، وأجدت، وَكنت الخطيب المُفَوَّهَ، والواعظ المُرْشِد الأمين.

وبهذا تكون قد قَدَّمْتَ للناس أمثلة يَقْتَدُونَ بها، وأمثلة يحذرون الوقوع فيها، ووعظتهم بما حدث لِسِوَاهُم من خير وشر.

«والسعيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ والشَّقِيُّ من وعظ بنفسه.»

قال: «ما كنت أَحْسَبُ الوَعْظَ بهذه السهولة.»

قلت: «إن سُوْءَ فَهْمِ كَثِيرٍ من الخطباء معنى الوعظ؛ هو عِلَّة تَخَبُّطِهِمْ فيه وعجزهم عن القيام به.»

•••

قالوا: إنَّ مُرَبِّيَةَ أولاد لويس الرابع عشر طلبت إلى أحدهم — وكان صغير السن — أن يَكْتُبَ كتابًا إلى أبيه، وكان بعيدًا عنه، فقال لها مَدْهُوشًا: «أَفي قدرتي أنا أن أكتب كتابًا؟»

فقالت له: «هَبْ أباك حضر فماذا أنت قائل له؟»

قال: أقول له: «لقد أَوْحَشْتَنَا واشْتَقْنَا إلى رؤيتكَ!»

قالت: «فاكتب له هذا.»

ثم قالت له: «قل له: إنْ البيت يَحْتَرِقُ!»

فقال لها: «هذا كَذِبٌ!»

قالت: «قل له إذن: إن الخَادِمَ يُنَظِّفُ غُرفة الاستقبال.»

قال: «وهذا خَبَرٌ تَافِهٌ!»

قالت: «لقد عرفت الآن كيف تَكْتُبُ الكِتاب، فليس يُكلفك ذلك أكثر من أن تكتب ما تشعر به مُبتعدًا عن الكَذِبِ، وعن الحقائق التَّافِهَةِ!»

وهذه أيها السادة هي وظيفة الخطيب تمامًا.

•••

وفي إحدى روايات «موليير» نرى أحد المُوْلَعِينَ بالدرس — على كِبَر — يشرح له معلمه النَّظْمَ والنَّثْرَ، فيقول له: «النَّظْمُ هو الكلام الموزون المقفى.»

فيسأله: «وما النثر؟» فيقول له: «هو ما تَتَكَلَّمُهُ الآن.»

فيقول: «وا عجبًا، إذن فأنا أتكلم النثر أربعين سنة وأنا لا أدري!»

•••

ولعل أكثركم سيدهش أيضًا حين أقول له إنك كثيرًا ما تكون خطيبًا — عن غير قصد منك — وإنك تكون واعظًا بليغًا كلما قصصت على إخوانك أو أهلك أو طلبتك قصة بليغة ذات مغزى حكيم!

ولعل أيسر وأبلغ طريقة يتبعها الواعظ — في بيته وطريقه وعلى منبره — هي ضرب الأمثال ورواية القصص.

ولقد فرغ علماء التربية من التدليل على أهمية الأمثال والقصص، وقد سبقهم القرآن الكريم إلى ذلك فقال: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وقال: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلِينَ.

•••

ولقد بلغ وُلُوعُ بعض الناس بالأسلوب القَصَصِي حَدًّا عجيبًا:

أَذْكُرُ لكم — على سبيل المثال — أنَّ مُدَرِّسًا فاضلًا من مُدرسي العربية كان يُدرِّس لنا — في مدرسة أم عباس الابتدائية — وكانت نتائجه أَبْهَرَ النتائج وتلاميذه أقوى التلاميذ، وكان السِرُّ في ذلك؛ هو إسرافه في حب القَصَصِ، وقد بلغ به وَلَعُهُ بالأسلوبِ القَصَصِي حَدًّا مُدهشًا جعله يشرح لنا — في قواعد اللغة — «أثر كان وأخواتها، وأثر إن وأخواتها» بأسلوبٍ قَصَصِي جذَّاب يُحَبِّبُ في النحو أَزْهَدَ الناس في النحو.

كان يشرح لنا أَثَر كان وأخواتها في مَعْمُولَيْهَا، وأثر إن وأخواتها كذلك فيقول المبتدأ والخبر أَخَوَانِ، وهما دائمًا رافعا الرأس، ففي ذات يوم بينما هما جالسان في بيتهما، إذ سمعا قَرْعًا بالباب؛ فأسرعا إلى زائرهما ففتحا له الباب ورحبا به، وأرادا أن يُقدما له شيئًا من الحَفَاوَةِ، بعد أن سألاه عن اسمه فقال لهم «اسمي كان» فقالا له: «أهلًا وسهلًا بك ومرحبًا، ماذا نستطيع أن نقدم لك من قِرًى؟» فقالت: «أريد أن أصاحبكما وأن تترك صُحبتي أثرًا ظاهرًا تُمَيِّزَانِي به من بين رِفَاقِكُمَا جميعًا.»

فقالا: «وَأَيَّ أَثَرٍ تُرِيدِينَ؟»

فقالت: «أن أَنْصُبَ أحدكما.»

فلا تكاد تُتِمُّ قولها حتى يتقدم إليها الخبر مُرَحِّبًا بشرطها هذا راضيًا بحكمها.

وإنهم لكذلك إذ يسمعون قَرْعًا عنيفًا بالباب، فإذا فتحوه وجدوا طائفة من الضيفان، فيسألونهم: «من أنتم؟» فيقولون لهم: «نحن أخوات كان.»

وَبَعْدَ أَخذٍ وَرَدٍّ يَظْفَرْنَ بمثل ما ظَفِرَتْ به كان.

فإذا جاء اليوم التالي جاءت «إن» زائرةً، وطلبت إليهما أن يَمْنَحَاهَا مِيزَةً كما مَنَحَا كان بالأمس.

فيتقدم المبتدأ في هذه المَرَّة مُرحِّبًا بشرطها، ولا يكاد يفعل حتى تأتي جميع أخوات إن طَالِبَةً مثل طلبها فَيَظْفَرْنَ به.

هكذا كان يَسْلُكُ ذلك المُدَرِّسُ الظريف في شرح النحو وتحبيبه إلى نفوس الطلبة، وهي طريقة طَرِيْفَةٌ كانت تُحَبِّبُ الطلبة في دروسه، وترغِّبهم في الاستفادة من علمه.

•••

وكثيرًا ما لجأ أبي — في تربيتي — إلى ضرب الأمثلة، والقَصَصِ. أَذْكُرُ لكم أن بعض أشقياء الصِّبْيَةِ أَغْرَانِي بِتَسَلُّقِ «الترام» — وأنا صغير — فرآني أبي وأنا أفعل ذلك ولم أَرَهُ.

فلما عاد إلى المنزل قال لي: «لقد حدث اليوم يا ولدي أمر عجيب، فقد هَوَى وَلَدٌ شَقِيٌّ تحت عجلات الترام فقطعته شَطْرَيْنِ، وظل الناس يَلعنونه ويلعنون أهله.

«وهنا ذَكَرْتُكَ يا ولدي فَحمدت الله على حُسْنِ أدبك وَبعدك عن هذه الدَّنَايَا.»

أقولُ لِحَضَرَاتِكُمْ: إن الأرض كادت تَغُوصُ بي، وكان هذا آخر عهدي بهذا العمل المَمْقُوت.

•••

وفي ذات يوم قُلت له — وكنت طفلًا: «إني لأخشى العفاريت، والحشرات المُؤذِيَةِ حين أصعدُ سُلَّمَ البيت في ظلام الليل.»

فقال لي: «من الذي يَحْرُسُكَ وأنت نائم؟»

قلت: «هو الله.»

قال: «أتظن أن من يحرسك وأنت نائم لا يحرسك وأنت يقظان؟» فكان ذلك آخر عهدي بالخوف أيها السادة.

ولقد قرأ لي أبي كثيرًا من القصص في فجر حياتي، لا أزال مَدِينًا لها — إلى الآن — بما يَظنه في بعض من يُحْسنون الظن بي من خيال وأدب.

•••

ليست وظيفة الواعظ مُنْحَصِرَةً في أن يقول للناس: «اتقوا الله واخْشَوا عذابه واحذروا ناره»، في كل أسبوع بعبارات مختلفة، وأن يقول:

عباد الله

أُوْصِيكُمْ وإياي بطاعته، وَأُحَذِّرُكُمْ وإياي من عصيانه ومخالفة أمره.

إلى آخر هذه الكليشيهات والعبارات المحفوظة حفظًا، والجمل المرصوفة رصفًا.

ولكن وظيفته وواجبه في أن يُحْسِنَ التعبير عما يشعر به من خوالج، وعواطف صادقة.

ولو كنت خطيبًا في مَسجد لما صَعُبَ عَلَيَّ أن أهتدي إلى موضوع صالح — كل يوم — بلهْ كل أسبوع.

فأمامي الحياة اليومية أَقْتَبِسُ منها ألف مثل مما أراه في الطُرُقَاتِ وغيرها.

وأمامي التاريخ الحَافِلُ بالعِظَاتِ، والعِبَرِ، والمُثُلِ العُلْيَا.

(١) موقعة أُحُد

خذوا مثلًا على ذلك موقعة أُحُد فهي وحدها تصلح موضوعًا لعدة خُطَبٍ.

(١-١) عاقبة المخالفة

كان النصر مُحقَّقًا للمسلمين في بَدْئِهَا فلما خالفوا أمر النبي — عليه السلام — وانتقلوا من موضعهم، كَرَّ عليهم المشركون، وقتلوا منهم عددًا كبيرًا فيهم «حمزة» عم النبي واستطاع العدو أن يَخْلُصَ إلى النبي؛ فَيَرْمِيَهُ بالحجارة. قالوا: «ووقعَ لِشَقِّهِ؛ فَأُصِيبَتْ رُبَاعِيَتُهُ وَشُجَّ وجهه، وَكُلِمَتْ شفتاه، ودخلت حلقتان من حلق المِغْفَرِ في وَجْنَتِهِ، وسقط في إحدى الحُفر التي حفرها المشركون ليقع فيها المسلمون … إلخ.»

أليس هذا موضوعًا جليلًا يبين لنا عاقبة المخالفة؟

(١-٢) وفاء الصحابة

وفي هذه الموقعة يَتَجَلَّى لنا مَثَلٌ عَالٍ من أمثلة الإخلاص، والتفاني في الوفاء؛ إذ يُقْبِلُ الصحابة على النبي مُسْتَبْسِلِينَ يفدونه بأرواحهم، يأخذه عَلِيٌ بيده، ويرفعه طلحة بن عبيد الله، ويحيط به جماعة من الأنصار والمهاجرين؛ لِيَقُوهُ السوء بنفوسهم، وتتجلَّى شجاعة المرأة العربية واضحة، فلا تقل عن شجاعة «جان دارك» التي لا يكاد يخلو من ذكرها كتاب فرنسي من كتب التاريخ، والتي ملئوا الدنيا إعجابًا بها.

تنحاز «نسيبة بنت كعب» إلى النبي وتتفانى في الذَّوْدِ عنه — وكانت تسقي في أول النهار — فلما رأت هزيمة المسلمين أسرعت إلى النبي تفديه بنفسها، ضاربة بسيفها مرة، ورامية عن قوسها أخرى، حتى أَثْخَنَتْهَا الجروح.

أَتريدون أمثلة أخرى من هذه الموقعة؟ لو شئتم لما وَفَتِ الليلة كلها إذا قَصَرْنَاهَا على هذه الموقعة وحدها، فلنجتزئ بذلك ففيه الكفاية. أتريدون أمثلة على فضل الصبر؟

فضل الصبر (صبر الصحابة)

كان النبي يذكر يومًا ما لقي من قومه من الجهد والشدة، قال: «لقد مكثتُ أيامًا وصاحبي هذا (يُشِيرُ إلى أبي بكر) بضع عشرة ليلة ما لنا فيها من طعام إلا البَرِير «ثمر الأَرَاكِ» في شِعَبِ الجبال.»

•••

وكان «عتبة بن غزوان» يقول — إذا ذَكَرَ البلاء، والشدة التي كانوا عليها بمكة: «لقد مَكَثْنَا زمانًا، ما لنا من طعام إلا ورق البشام، أكلناه؛ حتى تَقَرَّحَتْ أَشْدَاقُنا، ولقد وجدت يومًا تَمْرَةً، فجعلتها بيني وبين سعد، وما منا اليوم إلا وهو أمير على كَوْرَة.»

وكانوا يقولون في مَنْ وجد تمرة فقسمها بينه وبين صاحبه: «إن أسعد الرجلين من حصلت النواة في قِسمه يَلُوكُهَا طُول يومه وليلته من عدم القُوت.»

قال : «لقد رَعَيْتُ غُنَيْمَاتَ أهل مكة لهم بالقَرَارِيط.»

•••

أتريدون أمثلة على الاعْتِدَادِ بالنفس؟!

جاء يومًا ليدخل الكعبة فدفعه «عثمان بن طلحة العبدري» فقال: «لا تفعل يا عثمان، فكأنك بمفتاحها بيدي أضعه حيث شئت!» فقال: «لقد ذلَّتْ قُريش وَقَلَّتْ.» قال: «بل كَثُرَتْ وَعَزَّتْ.»

وانظروا إلى حواره مع قريش حين قالت له تُفَاخِرْهُ: «أتباعك من هؤلاء الموالي (كبلال، وعمار، وصُهيب) خيرٌ من قُصَيَّ بن كِلاب، وعبد مناف، وهاشم، وعبد شمس؟»

فقال: «نعم، والله لئن كانوا قليلًا لَيَكْثُرُنَّ، ولئن كانوا ضعفاء لَيَشْرُفُنَّ، حتى يَصِيرُوا نُجُومًا يُهْتَدَى بهم وَيُقْتَدَى فَيُقَالُ: «هذا قول فلان» «وذكر فلان». فلا تُفَاخروني بآبائكم الذين مُوِّتُوا في الجاهلية فلما يُدْهِدْهُ الجُعْلُ بِمِنْخَرِهِ خير من آبائكم الذين مُوِّتُوا فيها.

فاتَّبِعُوني أجعلكم أنسابًا. والذي نفسي بيده، لَتَقْتَسِمُنَّ كنوز كسرى وقيصر!»

فقال له عمه أبو طالب: «أبْقِ عليَّ وعلى نفسك!» فظن النبي أنه خاذله فقال: «يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يُظْهِرَهُ الله أو أَهْلِكَ فيه ما تركته.» ثم اسْتَعْبَرَ باكيًا، ثم قام فلما وَلَّى ناداه: «أقبل يا ابن أخي.» فأقبل فقال: «اذهب وقل ما شئت، فوالله لا أَسْلَمْتُكَ لِسُوء أبدًا!»

•••

أرأيتم خيرًا من هذه الأمثلة يَسُوقُهَا الخطيب يَعِظُ بها قومه، ويضرب لهم بها أعلى الأمثال؟

مثال الطمع وعاقبته

فإذا شاء الخطيب أن يُقَرِّبَ للناسِ مَثَلَ الطمع وعاقبته، فلعل أبلغ مثال يسوقه إليهم هو أن يَقُصَّ عليهم: «حكاية الدرويش وصاحب الجمال»

وخلاصتها أن رجلًا كان يملك ثمانين جَمَلًا، فكان يستأجره الناس لحمل مَتَاجِرِهِمْ من بلد إلى بلد، ففي ذات يوم كانت جماله الثمانون تَحْمِلُ خشبًا من بغداد إلى البصرة؛ فلقيه في طريقه درويش وسار معه زمنًا، ثم جاء وقت الغداء فأكل الدرويش معه، وبعد قليل قال له الدرويش: «لقد صرنا رفيقين وصديقين، وسأرشدك إلى كَنْزٍ ثمين تحمل منه ما شئت من ذهب ولآلئ — على جمالك — ثم نقتسم هذا الغنم معًا، فما رأيك؟»

فَهَشَّ الرجل، وطار فرحًا بهذه الصفقة الرابحة التي تضمن له الغنى طول حياته.

وقاده الدرويش إلى ذلك الكنز الثمين، وفتحه، وَحَمَّلا الجمال الثمانين ما استطاعت حمله من نفائس وذخائر.

ورأى الدَّرويش صُنْدُوقًا صغيرًا من الخشب فأخذه ثم سارا معًا إلى مفترق الطريق، فَتَعَانَقَا بشوق شديد، وأخذ كل منهما أربعين جملًا وسار في طريقة، ولم يَكَدِ الرجل يبتعد قليلًا حتى وَسْوَس له شيطان الطمع فقال في نفسه: «تُرَى لو طلبتُ من ذلك الدرويش عشرة جمال أكان يرفض طلبي؟» ولم يكد يمر بذهنه هذا حتى أسرع يجري إلى الدرويش ويناديه بأعلى صوته وَيُلَوِّحُ له بيديه: «يا درويش! يا درويش!» فعاد إليه الدرويش وسأله: ما الخبر؟ فقال له: «ماذا عليك إذا أعطيتني عشرة جمال من جمالك وأنت رجل زاهد لا يعنيك من أمور الدنيا شيء؟» فقال له الدرويش: «لك ما طلبت.»

ففرح الرجل بذلك، وأخذ الجمال العشرة مُغْتَبِطًا، ثم ودَّع صاحبه وعاد إلى طريقه.

ولكنه لم يَكَدْ يسير قليلًا حتى وسوس له شيطان الطمع مرة ثانية، فقال في نفسه: «إنه رجل طيب القلب لَيِّنُ العَرِيكَةِ، وما أحسبه يرفض أن يعطيني عشرة جمال أخرى إذا طلبتها منه.»

وما كاد يستقر في نفسه هذا الهاجس حتى أسرع يَعْدُو نحو الدرويش ويناديه بأعلى صوته: «يا درويش! يا درويش!» فلما عاد إليه الدرويش وسأله عما يريد، قال له: «ألا تسمح لي بعشرة جمال أخرى أيُّها الرجل الكريم؟» فقال له الدرويش: «لك ما طلبت يا أخي.»

ففرح وأخذ منه الجمال العشرة، ولم يكد يودِّعه ويسير بضع خطوات، حتى عاوده الطمع فقال: «إن الجمال جمالي، ولولاها لما استطاع أن يحمل هذه النفائس الكثيرة، ثم إن هذا الدرويش زاهد في الدنيا، وأحسب أن عشرة جمال مُحَمَّلَةً نفائس وذخائر ثمينة تَكْفِيه وَتُغْنِيه طول حياته.» وَثَمَّةَ أسرع يجري نحو الدرويش ويناديه: «يا درويش! يا درويش!» فعاد إليه الدرويش مُسْتَفْسِرًا عما يريده فقال له الرجل: «إنك قد غمرتني بفضلك وكرمك، وأحسبني إذا طلبت منك عشرة جمال أخرى، لم تُخَيِّبْ رجائي.» فقال له الدرويش: «خذ ما شئت.» فأخذها وودَّعه، ثم عاوده الطمع مرة ثالثة في نفسه: «وما فائدة هذه الجمال العشرة لهذا الزاهد المُشْتَغِلِ بعبادة الله، إنه رجل مُتَقَشِّف وربما شَغَلَتْه عن دينه، هذا إلى أنه رجل ضعيف وليس في قدرته أن يمنعني ما أطلب، وما أَجْدَرَنِي أن أنتهز هذه الفرصة النادرة فآخد منه بقية جمالي؛ فإذا أَبَى أن يُعْطِنِيهَا قتلته أو أخذتها منه قَسْرًا.»

وَثَمَّةَ أسرع إلى الدرويش، وقال له: «أنت رجل زاهد متقشف، ولست في حاجة إلى هذه الجمال العشرة، فماذا عليك إذا سمحت لي بها وأضفت إلى إفضالك فضلًا آخر لا أنساه لك ما حييت؟» فقال له الدرويش: «لك ما طلبت.» فشكره وودَّعه وأخذها وانصرف، ولكنه لم يكد يبتعد عنه قليلًا حتى ذكر الصندوق الصغير الذي أخذه الدرويش من الكنز، فقال في نفسه: «لولا أن لهذا الصندوق الصغير قيمة أثمن من كل هذه النفائس لما سمح لي الدرويش بها جميعًا راضيًا مُغْتَبِطًا!»

وما كاد يَطِيفُ بذهنه هذا الخاطر حتى أسرع يجري نحو الدرويش، فلما أدركه قال له: «لقد رأيتُك تأخذ صندوقًا صغيرًا من الكنز، وأحب أن أعرف فائدة هذا الصندوق!»

فقال له الدرويش: «فائدة هذا الصندوق أن من يَكْحَلُ به إحدى عينيه يرى كنوز الأرض قَاطِبَةً؛ فإذا كَحَلَ عَيْنَهُ الأخرى عَمِيَتْ عيناه جميعًا.» فقال له الرجل: «إذن فاكحل عيني.» ولم يكد الدرويش يفعل حتى رأى الرجل كنوز الأرض كلها أمام عينيه، فقال في نفسه: «إذا كان من يَكْحَلُ عينًا واحدة يرى كل هذه الكنوز، فكيف بمن يَكْحَلُ عينيه جميعًا! لا شك أن هذا الدرويش يخدعني ويحرص على أن يحرمني فوائد عظيمة!»

ثم التفت إلى الدرويش وقال له: «اكْحَلْ لي عيني الأخرى.»

فحذَّره الدرويش من عاقبة هذا الشَّطَطِ؛ فلم يَزِدْهُ التحذير إلا إلحاحًا وَعِنَادًا، وبعد لَجَاجَةٍ طويلة أَذْعَنَ له الدرويش وَكَحَلَ له عينه الأخرى؛ فعميت عيناه جميعًا، فأخذ الدرويش جِمَالَهُ الثمانين وسار بها إلى حيث شاء وترك صاحبنا يلقى جزاء طمعه وأنانيته.

•••

أَتَرَوْنَ أيها السادة أبلغ من هذه الحكاية يَقُصُّهَا الخطيب؛ ليقرر للناس عاقبة الطمع؟! إليكم مثالًا آخر:

عاقبة الغفلة

زعموا أنه كان أسد في أَجَمَةٍ، وكان معه ابن آوى يأكل من فواضل طعامه فأصاب الأسد جرب، وَضَعْفٌ شديدٌ وَجُهد؛ فلم يستطع الصيد، فقال له ابن آوى: «ما بالك يا سيد السباع، قد تغيرت أحوالك؟»

قال: «هذا الجرب الذي قد أجهدني وليس له دواء إلا قلب حِمَارٍ وَأُذُنَاهُ.» قال ابن آوى: «ما أيسر هذا وقد عرفت بمكان كذا حمارًا لِقَصَّارٍ يحمل عليه ثيابه، وأنا آتيك به.»

ثم دَلَفَ إلى الحِمَارِ فأتاه وسلم عليه، فقال له: «ما لي أراك مَهْزُولًا؟» قال: «ما يطعمني صاحبي شيئًا.» فقال له: «وكيف ترضى المُقَامَ معه على هذا؟» قال: «فما لي حِيلَة في الهرب منه، كلما أَتَوَجَّهُ إلى جهة أَضَرَّ بي إنْسَانٌ فَكَدَّنِي وأجاعني، قال ابن آوى: «فأنا أَدُلُّكَ على مكان معزول عن الناس لا يمر به إنسان؛ خصيب المرعى، فيه قطيع من الحُمُرِ لم تَرَ عَيْنٌ مثلها حُسْنًا وَسِمْنًا.» قال الحِمَارُ: «وما يحبسنا عنها؟» فانطلق به ابن آوى نحو الأسد، وتقدم ابن آوى ودخل الغابة على الأسد، فأخبره بمكان الحمار فخرج إليه وأراد أن يَثِبَ عليه فلم يَسْتَطِعْ لضعفه، وتخلص الحمار منه، فَأَفْلَتَ هَلِعَاً على وجهه، فلما رأى ابن آوى الأسد لم يقدر على الحمار، قال له: «أعجزتَ يا سيد السباع إلى هذه الغاية؟» فقال له: «إن جئتني به مرة أخرى فلن ينجو مني أبدًا.»

فمضى ابن آوى إلى الحمار فقال له: «ما الذي جرى عليك؟ إن أحد الحُمُر رآك غريبًا فخرج يتلقاك مُرَحِّبًا بك، لو ثَبَتَّ لَآنَسَكَ ومضى بك إلى أصحابه!»

فلما سمع الحمار كلام ابن آوى — ولم يكن رأى أسدًا قط — صَدَّقَهُ وأخذ طريقه إلى الأسد، فسبقه ابن آوى إلى الأسد، وأعلمه بمكانه، وقال له: «اسْتَعِدَّ له فقَد خَدَعْتُهُ لك، فلا يُدْرِكَنَّكَ الضَّعف في هذه النوبة فإن أَفْلَتَ فلن يعود معي أبدًا.»

فَجَاشَ جَأْشُ الأسد؛ لتحريض ابن آوى، وخرج إلى موضع الحِمَار فلما بَصَرَ به عَاجَلَهُ بِوَثْبَةٍ افترسه بها، ثم قال: «قد ذكر الأطباء أنه لا يؤكل إلا بعد الغسل والطهور، فاحتفظْ به حتى أعود فآكل كل قلبه وأذنيه وأترك لك ما سوى ذلك قوتًا.» فلما ذهب الأسد ليغتسل عمد ابن آوى إلى الحمار فأكل قلبه وأذنيه رجاء أن يتطير الأسد منه فلا يأكل منه شيئًا، ثم إن الأسد رجع إلى مكانه فقال لابن آوى: «أين قلبه وأذناه؟» فقال له: «ألم تعلم أنه لو كان له قلب يفقه وأذنان يسمع بهما لم يرجع إليك بعدما نجا من الهَلَكَةِ؟!»١

•••

أليست هذه مصداق الحديث: «لا يُلْدَغُ المُؤْمِنُ من جُحْرٍ مرتين.»؟

•••

ثم ذكر المحاضر أمثلة أخرى كثيرة وختم محاضرته بقوله: «فإذا أردت مَثَل العقوق ومثل الوفاء فأمامك حكاية «أبي صير وأبي قير» وهي في ألف ليلة، وإذا أردت مثل القضاء والقدر؛ فأمامك حكاية «الملك عجيب» وهي في ألف ليلة أيضًا.

وإذا أردت مثلًا على أن لكل مقام مقالًا فاقرأ حكاية العم «عمارة» وهي مشهورة لا حاجة بنا لذكرها.»

•••

وجماع القول أن القصص وضرب الأمثلة محببان إلى نفوس الكبار والصغار معًا، وهما من خير الوسائل التي يلجأ إليها الخطيب لتقرير فكرة أو تعزيز مبدأ في أذهان سامعيه.

هوامش

(١) من كتاب «كليلة ودمنة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤