حقائق يجهلها الأطباء عن الغذاء١

يقولون إن أحد المشتغلين بالتنجيم حل ضيفًا عند أحد أمراء العرب فلقي من الحفاوة والإكرام ما لا مزيد عليه، فلما حان وقت الرحيل بصرت عيناه بطفل علم أنه وليد صاحب الدار؛ فأراد أن يسدي إلى مضيفه يدًا يكافئه بها على كرمه الحاتمي، وظل يضرب أخماسًا لأسداس، ويخط في رمله — على عادة الدجاجلة والمنجمين — ثم التفت إلى صاحب الدار متهلل الوجه متطلق الأسارير، وقال له: «أبشر أيها السيد العظيم، فقد أنبأني طالع ابنك السعيد أن سيكون له شأن عظيم، وأنه سيخوض المهامه والقفار، ويقهر الأعداء، ويغزو الممالك، ويفتح الأقطار وتدين له الجبابرة، ويخضع لسطوته الملوك و …» فأسرع رب الدار بمقاطعته قائلًا: «ولكن هذه بنت …!»

ومن عجائب الزمن أن يدور الزمن دورته، فنسمع أشباه هذه الحكاية يقصها رواة صادقون، ويرويها — بصيغة أخرى — عدول لا يرتاب إنسان في نزاهتهم وصدق روايتهم، وعن أية طائفة يروونها، عن طائفة من أكبر رجال العلم طالما تلقَّف الناس أقوالهم بلهفة وثقة حاسبيها الحق الصراح واليقين الذي لا يتطرق إليه الباطل، وهي طائفة الأطباء!

يا للعجب! لقد أظهر البحث أن كثيرًا — من أطباء اليوم، والأمس، والغد المشتغلين بمسألة الطعام — دجاجلة ومنجمون، تتناقض أقوالهم وتتضارب آراؤهم في المسألة الواحدة؛ فتصل مسافة الخلاف بينها إلى ما بين الضد والضد، ولعل أبدع ما نسوقه دليلًا على ذلك ما ترويه لنا مجلة من أشهر المجلات العلمية الأمريكية، إذ يقول راويتها الثقة — والتبعة عليه:

كان لي صديق — في مقتبل أيامه — وكان كثير الشكوى من اختلال صحته، فذهب ذات مرة إلى طبيب مشهود له بالكفاية، واسع الشهرة في فن الطب، وبعد أن أتم الطبيب فحصه — على أحدث الطرق العلمية — التفت إليه قائلًا: «اسمع يا صديقي، إن متاعبك وآلامك كلها ناشئة من كثرة تهافتك على أكل اللحم بمقادير كبيرة جدًّا!»

ولم يكد صديقي يسمع من طبيبه ذلك حتى بلغت دهشته أقصاها، وأجابه قائلًا: «ربما كنت مصيبًا في حكمك يا دكتور، ولكني لم أذق لحمًا منذ عامين!»

وهنا وجم الطبيب، ولم يكن خجله بأقل من خجل ذلك المنجم الذي روينا قصته في أول هذا المقال!

وغيَّر الطبيب تذكرته الطبية، وأشار عليه بوصفة أخرى، تتلخص في الابتعاد دائمًا عن الانفعالات النفسية التي تسبب له هذه المتاعب والآلام!

•••

هذه حكاية واقعة صحيحة أيها القارئ، وهي — على غرابتها — كثيرة الأشباه والنظائر، وربما حدث لكل إنسان ما يقاربها أو يماثلها، وإني لأكاد أجزم موقنًا أن ملايين من الناس يعانون من غموض نصائح الأطباء، وتناقض أقوالهم، واضطراب وصفاتهم، ما يعجز القلم عن وصفه!

والحق الذي لا مراء فيه، أن اتباع وصفة بعينها، أو السير على نمط خاص في التغذية، وتناول نوع واحد من الطعام، من الأشياء التي مني بها هذا العصر، بل هو — على الأصح — بدعة ممقوتة فيها من الأضرار ما لا قبل لإنسان باحتماله، وما أعجب غرام الأطباء، ومصالح الصحة بإصدار قوائم مطولة، يحصون فيها ما يجب أكله من الطعام وما لا يجب، ويقيدون بها ما يزعمونه صالحًا للتغذية وما يزعمونه ضارًّا من الأطعمة!

وفي الواقع أن النصائح الطبية للتغذية؛ لا يرضخ لها رضوخًا تامًّا إلا في أحوال مرضية حادة أو خاصة، وفي الحميات، وفي الحالات الجراحية، والبول السكري. وما أشد ما يغررون بنا؛ إذ يقررون لنا أن اتباع نصائحهم سيقودنا إلى السلامة ويكسبنا الصحة والعافية، ويرد لنا ما فقد من قوانا، وما بهت من ألواننا، ويطيل من أعمارنا، إلى آخر هذه المزاعم الطويلة العريضة التي لا آخر لها، وليس هذا شأن دجاجلة الطب وحدهم؛ بل إن كثيرًا من أفاضل الأطباء يندفعون في هذه الطريق بحسن نية، ويصفون ذلك بإخلاص وأمانة منساقين في تيار هذه البدعة الجارف!

لقد طالما نصحنا الأطباء بأكل كل الخضر نيئة، ثم نصحونا أيضًا بطبخها، وطالما أشاروا علينا بأكل الفاكهة، ثم أشاروا علينا بالكف عن أكلها، وهكذا وهكذا مما لا نهاية من الأوامر التي لا تلبث أن تصير نواهي، حتى أصبح الرجل الذي يستطيع أن يمنع نفسه من الحيرة والارتباك — أمام هذه الأوصاف المربكة المتناقضة ويستخلص من هذه الشعاب المتلوية طريقًا واضحة — جديرًا أن ندعوه بطلًا، وأن نطلق عليه اسم الإنسان الأعلى «السبرمان».

ولا تزال إلى اليوم فئة من الأغرار تنخدع بهذه النصائح، فتعكف على تناول طعام بعينه، حاسبة في ذلك نجاتهم وتوفر صحتهم، فتكون النتائج غير مرضية، أو — على الأصح — عكسية! ذلك أن الاقتصار على نوع واحد من الغذاء — بالغة ما بلغت فائدته وصلاحيته — يضرُّ بنا إضرارًا بليغًا، فإن جسمنا الذي اعتاد أن يتغذى بالأطعمة المختلفة إذا اقتصر على غذاء بعينه حرم مواد مغذية ليست في هذا الغذاء، وأدخل فيه عناصر متراكمة من هذا الغذاء ليس هو في حاجة إليها. ومن هنا ينشأ الإسراف في إدخال عنصر — مهما بلغ نفعه — فهو ضار إذا تجاوز المقدار الكافي منه، وربما دفعهم اليأس — بعد ذلك — إلى نقيض ما فعلوا، فأسرفوا في الخلط بين المآكل العديدة، واندفعوا في أكل الأطعمة المختلفة، ولكن:

بين إسراف وبخل رتبة
وكلا الأمرين — إن زاد — قتل!

ومن غرائب الأمور أن الكيميائي البارع — الذي كرس حياته لدراسة طبائع الأغذية — يكاد يحجم عن وصف طعام لك، بينما يندفع الجهلاء وأنصاف الجهلاء إلى تقرير ما يصلح لك من الطعام بلا تردد!

وإننا لنسجل بالإعجاب قول أحد العلماء الكيميائين — وهو تصريح له خطره وأهميته — قال: «قبل ستة أعوام، لم أكن قد تعمَّقت في درس الغذاء، فكنت إذا استشارني إنسان في نوع الغذاء الذي يصلح له؛ أجبته عنه بلا تردد، أما الآن — بعد أن أطلت البحث، والعمل بجد ونشاط، ووقفت على خصائص الأغذية، ومزايا كل نوع وأضراره؛ فقد وصلت إلى نتيجة أخرى، هي اقتناعي بعجزي وقصوري التامَّين عن وصف أي طعام لأي إنسان.

وكل ما وصلت إليه من الحقائق؛ هو أنني — وغيري — جاهلون جهلًا لا شك فيه بتخير الطعام الذي ننصح لك بتناوله بأكله.

•••

أذكر لك حكاية صديق آخر، لا عمل له إلا الاشتغال بتحليل الأطعمة ووصف ما يصلح للمرضى منها وما لا يصح، فقد أصابه ذات يوم مرض، فذهب إلى الطبيب العلامة «هوبكنز»، فماذا قال له الطبيب؟ قال له: «إن كل أعضائك سليمة، وليس عليك — إذا شئت الشفاء — إلا أن تقلل من أكلك، أو تكثر من النزهة، فإنك إن فعلت واحدًا من هذين نجوت وسلمت!»

وقد اتبع نصيحة الطبيب، واستفاد منها كثيرًا، وأصبحت صحته على أتم ما يرام.

فإذا كان المشتغلون بكيمياء الطعام وتحليله، ووصف ما ينفع الناس منه وما لا ينفع، عاجزون عن اختيار ما يلائمهم منه، فإن غيرهم من الناس أعجز!

•••

وموجز القول: أن في كل نوع من الأغذية مزايا وأضرارًا، وأن الأطعمة المختلفة يتمم بعضها بعضًا؛ فإن في كل طعام من المزايا ما ليس في الآخر، وأن تعود الجسم على تناول أطعمة بعينها يكسبه مرانة على هضمها، فإذا تركها فجأة وعدل عنها إلى نوع آخر من الطعام — لم يألفه — أضر به ذلك العدول، وإن أكثر الأطباء لا يعنون بتحري الدقة في أقوالهم إذا تكلموا عن الغذاء، وأنهم لو أرادوا الدقة لما وصفوا أي نوع من الأغذية، فإن اللبن وهو أصلح الأطعمة — في زعمهم — ناقص يحتاج إلى ما يكمله، وقس على ذلك غيره مما لا يتسع المقام للإفاضة في شرحه، ولقد كان الموز يعتبر — منذ زمن قريب — أخطر نوع من الغذاء للأطفال.

وكانت الأم إذا رأت طفلها يأكله مرة حسبته هالكًا لا محالة، وها هو قد تغير الزمن ودار دورته فأصبح المختصون يوصون الناس بتغذية أطفالهم به، ويقررون لهم أنه أصلح غذاء صحي لصغارهم.

ولعلنا نسمع في الغد نظريات جديدة تنقض كل ما يقررونه اليوم!

١  نشرت بمجلة الإخاء وهي مقتبسة من الإنجليزية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤