مذكرات عجائبي١

١

هب نشالًا عرف أني أراقبه باهتمام، أليس من المحتمل وقوعه إنه ربما انتهز هذه الفرصة لنشل ما في جيبي من النقود في الحين الذي أنا مشتغل فيه بالاهتمام بمراقبته وعيناي شاخصتان إليه؟ إذا أقررنا ذلك سهل علينا تفهُّم ما يأتي به العجائبي من المدهشات؛ فإنه يبني على هذه النظرية حيله المدهشة.

تعتقد أنني أحاول خداعك والعبث بك، فتحدق بي عندما تراني أقف على مسرحي كما هي الحال مع النشال حين تراقبه.

والعجائبي جدير أن يتعرف كثيرًا من مميزات وخواص الناس الضرورية البسيطة، فإن حيلنا يتحتم فيها الفشل؛ إذا لم نُعنَ بدرسك أيها القارئ عنايتنا بدرس صناعتنا واصطلاحاتنا الفنية.

ولقد يكون مثلًا من أكبر عوامل نجاحنا؛ قدرتنا على توجيه نظرك متى وأنَّى شئنا، فإذا صِحتُ فيك قائلًا: «انظر إليَّ، ها هو ذا الصندوق فارغًا لا شيء فيه.» أو قلت: «تأمل ها أنا ذا ليس في أكمامي شيء البتة!»

فإنما أفعل ذلك لتحصر انتباهك فيهما، بينما آتي بحركات خفيفة لا تراها لانشغالك بهما.

ولو أنك اهتممت بمراقبتي ولم تهتم بمراقبتهما مثلًا، لتمكَّنت من إدراك حيلتي وفطنت إليها بسهولة.

ولكن تحويل انتباهك هذه الثواني القليلة عن مراقبتي وقت أن آمرك بذلك فتلبي أمري هو أكبر عون لي على خداعك.

وقد اشتغلت بهذا الفن أكثر من ثلاثين عامًا، ولا أذكر أنني استطعت — رغم ذلك — أن أغالب عيني عن التحول عن الجهة التي يأمرني العجائبي بالتحول إليها عندما يصيح قائلًا: «انتبه إلى كذا …»

وذلك تقهقر طبيعي لا يمكن مغالبته، ولنفرض أني أريد الإتيان بحركة خفية فليس يكلفني ذلك عناءً كبيرًا في الإتيان بها دون أن تفطن إليها.

وذلك أنني إذا أردت نقل ساعة جيب، أو إخراج بيضة من قبعة، فإني أدق برجلي دقة شديدة تسترعي الأنظار؛ فتتحول إلى قدمي، وإذا بدا لي أن مراقبة الحاضرين جدية أشرت إلى مساعدي بالإتيان بحركة فجائية غير عادية لتحويل الأنظار عني قليلًا.

وإذا أردت إحضار كرسي، أو طاولة، أو سلة، إلى المسرح دون أن تراها فإني أنتقل إلى الجهة المضادة لها أولًا، وقد علمت من التجاريب أن أعين الناس تتبع العجائبي دائمًا إلا إذا أراد هو أن يحولها عنه إلى جهة أخرى.

كل هذه نظريات سهلة وبسيطة في تحويل الأنظار، وهي — مع ذلك — نافعة ومجدية.

ولكي ندرأ عنَّا كل شبهة، ونتحامى كل ريبة تحوم حول مساعدينا نجعلهم يتظاهرون بأقصى ما يمكن أن يتظاهروا به من العته والبلاهة، فيسقطون الأشياء من أيديهم، ويتعثرون بالكراسي، ويخطئون — عن عمد — حتى في أبسط الأشياء العادية المعروفة بالبداهة، متظاهرين بأن ذلك إنما يحدث عفوًا؛ لأننا نود أن تكون لديك عقيدة ثابتة، وفكرة لا تتزعزع عن جهل أولئك المساعدين، والاعتقاد بأنهم عاجزون عن تقديم أية مساعدة لنا على إنجاز حيلنا، بينما هم في — الحقيقة — أكبر عون لنا على إتمام عملنا.

ولقد جلست مرة إلى جانب سيدة من السيدات فرأيتها تظهر أشد الغرابة والدهشة من بلاهة أحد المساعدين وجهله، وأنا معتقد أنه أنشط وأمهر من عرفت في أداء عمله بدقة وإحكام، وقد رأيته ينجز تسعة أعشار العمل حينما عمل الساحر لم يذكر بجانبه؛ لأن الأنظار متجهة إلى الثاني غافلة عن الأول.

ولقد أتقن المساعد تمثيل دوره حتى لم تتمالك السيدة نفسها من أن تقول: «عجيب! — كيف! — ألم يجد هذا العجائبي أحدًا يستخدمه غير هذا الغبي الأبله؟! لشد ما يدهشني أن يُبقي العجائبي معه مثل هذا المعتوه!» ولقد هممت بأن أجيبها أن العجائبي بدون هذا المساعد الأبله لا قيمة له.

وكل إخواننا السحرة يعرفون أن الناس لا يهتمون بتحويل أعينهم كثيرًا عن المستوى الذي ينظرون إليه، ولذلك السبب يستعملون موائد مصنوعة بطريقة بعينها لتلائم أغراضهم ومقاصدهم، بحيث تكون مرتفعة قليلًا عن مستوى الأنظار، فبينما تحسب نفسك ترى كل ما فوقها إذا بك واهم مخدوع.

وإذا شئت رؤية ما فوقها فارفع بصرك قليلًا، والأمر الذي يجعلك تغفل هذا أنه يتطلب بعض الجهد.

وليس العجائبي وحده هو الذي انفرد بمعرفة ما للعين الإنسانية من مميزات وخواص، بل يشاركه في ذلك أصحاب الحوانيت والتجار؛ فإنهم يعلمون بأن اللوحات التي عليها الأثمان إذا ارتفعت قليلًا عن مستوى النظر؛ فإنها لا تُرى، ولهذا تجدهم يضعونها مائلة منحدرة قليلة بحيث تستطيع رؤيتها.

ومن مميزات العين التي قلما يفطن إليها الناس أنها تتطلع إلى الجهة اليمنى أكثر مما تتطلع إلى الجهة اليسرى. وينتفع زملائنا بهذه المميزات كثيرًا؛ إذ يجعلون أهم ألعابهم وأصعبها في الجهة اليسرى من المسرح بدلًا من الجهة اليمنى، وبهذه الطريقة يكون من الصعب عليك أن تكشف حيلتنا.

ولو أني كنت تاجرًا، أو صاحب حانوت، لوضعت كل ما يستدعي النظر وتسر العين رؤيته على الجهة اليمنى للداخل؛ بحيث تغريه برؤيتها عندما يقع نظره عليها.

ويسألني الكثيرون لماذا يهتم السحرة بالاستكثار من ضوء المسرح، وبذل همتهم في الحصول على أكبر كمية يمكنهم الحصول عليها من الضوء بحيث يصبح المسرح شديد الضوء، ويحسب أولئك المستفسرون أن ضوء المسرح كلما قل ضوءه أصبح أكثر ملاءمة لنا، وقد أوضحت لهم أن كثرة الضوء لا تقتصر فائدتها على إبطال زعم الناس أنهم عاجزون عن رؤية ما في المسرح بوضوح بسبب قلة الضوء، بل تتخطى ذلك إلى مساعدتنا على بهر أنظارهم وإغشائها.

ولعل الكثيرون من الناس يدركون فيما أظن أن تمتمتنا هي خير عون لنا على خداعهم، فإننا نكلمك أثناء القيام بالحيلة لا لأن لدينا أمرًا مهمًّا نريد أن نلقي به إليك، بل لأننا نريد أن نشغل أذنيك بينما نتمم حيلتنا.

ولولا ذلك لحصرت كل انتباهك وقواك في حاسة البصر، ففطنت إلى حيلتنا، ولكن أقوالنا تقسم انتباهك، وتضطرك إلى الإصغاء والنظر في آن واحد، فتتقاسم قواك حاستان لا حاسة واحدة.

وقد دلتني تجاربي على أنه أسهل على الإنسان أن يخدع النظر من أن يخدع الأذن؛ فإن أكثر الناس يستطيعون أن يضبطوا حاسة النظر كما يريدون.

ومن الغريب المدهش في الأفراد أننا نجد من السهل علينا جدًّا أن نخدع المتعلمين ونرى خداعهم أيسر من خداع العامة، ويرجع ذلك إلى تعمُّق العالم في نظرياته العلمية التي درسها لاستنباط فكرة غريبة يعلل بها غرابة ما رآه، أما الفرد العادي فإنه لجهله النظريات العلمية تجده يفكر دائمًا تفكيرًا عاديًّا بسيطًا، وقد يهتدي بذلك إلى الحقيقة.

ولهذا السبب عينه نتحاشى ونجبن عن اللعب أمام الأطفال؛ لأن عقل الطفل يتشكك بمجرد رؤيته شيئًا لا يفهمه فيصعب علينا خداعه.

وبهذه المناسبة أذكر ما حدث لي مع المستر «روزفلت»، فقد كنا عائدين معًا من لندن على باخرة واحدة، ولم يكن قد أعلن من قبل عزمه على السفر، ولا عن اسم السفينة التي أزمع أن تقله، ولكني حين ذهبت لابتياع تذكرة أخبرني الكاتب أن المستر «روزفلت» مرافقي في هذه السياحة؛ فسرني ذلك بالطبع، وعلمت أنهم بلا شك سيدعونني لإظهار بعض مدهشاتي أمامه، فعزمت في هذه المرة على إبداء شيء طريف لهذا السيد.

وكان المستر «روزفلت» قد رسم خريطة وبيَّن فيها اكتشافاته، وأرسلها إلى إحدى الصحف الإنجليزية، وأمر أن تنشر بعد أن تقلع السفينة بثلاثة أيام، ولم يعلم أحد بأمر هذه الخريطة إلا المستر «روزفلت» وشخص واحد، أو شخصان فقط، فاعتزمت أخذ صورة منها لأفاجئه بها.

أما كيفية حصولي على نسخة منها فأرجو أن يعفيني القارئ من ذكره، وحسبي أن أؤكد له أنني حصلت على نسخة منها بسهولة.

وفي اليوم التالي طلب إليَّ أن أعرض عليهم بعض الألعاب، وأن أجيب عن بعض الأسئلة، وقد كنت متحققًا من أن بعض الحاضرين سيطلب إليَّ أن أرسم الخريطة التي فيها اكتشاف المستر روزفلت، ولم يخطئ ظني؛ فقد سألني المستر «تيدي» — والضحك ملء فيه — نفس هذا السؤال، وهو واثق من أنه قد عثر على أمر لن أهتدي إلى حله، ولما شرعت في رسمها جحظت عيناه وظهر عليه من الدهشة والاستغراب والعجب ما لم أره على أحد في حياتي قط ثم اندفع إليَّ قائلًا: «ويلك يا خبيث! ذلك أقصى ما يصل إليه عجائبي من الإغراب والحذق!»

٢

وأنت حين تأتي بما يعده الناس مستحيلًا٢ تتحول إليك أنظارهم، وتشرئب أعناقهم، ويجلسون وكأن على رءوسهم الطير، وهذا هو الأمر الذي يحدوني إلى إظهار حيل متنوعة مثيرة للعواطف كل عام، ولي في هذا العام شأن عظيم في بعض ألعاب مدهشة منها: إخفاء الفيل، وإخفاء الإبرة التي تبتلع مائتي إبرة، ومائة قدم من الخيط، ثم إظهار هذا العدد مرة ثانية وفي كل إبرة خيطها.

ويسألني الكثيرون عن إبداع الحيل التي يميل إلى مشاهدتها الجمهور؛ وجوابي أن هذا يتوقف على نوع الحاضرين، فالسيدات مثلًا يرغبن في مفاجأتهن برؤية الأزهار والطيور الجميلة، والأشياء التي يرينها ويتناولنها يوميًّا، والرجال — على العكس من ذلك — يحبون لعبة الورق وحجرة العذاب الصينية، وأرى أن جميع الحيل التي يشتد فيها الخطر تروق الرجال أكثر مما تروق النساء.

ومن الملاحظات العجيبة أيضًا أن الناس يهتمون لرؤية الأشياء تختفي أكثر مما يدهشون لرؤيتها تظهر ثانية؛ فإنك حين تعيد لهم الأشياء التي أخفيتها عنهم يتهمونك بأنك كنت قد خبأتها في مكان لم يفطنوا إليه، أما حين تخفيها عنهم فإنك تزيد في حيرتهم وإعجابهم، ولهذا تراني أهتم بإخفاء الفيل الضخم الذي يزن عشرة آلاف وخمسمائة رطل عن أعينهم في بضع ثوانٍ في مضمار نيويورك، أكثر مما اهتم بإعادته ثانية من الهواء.

وإن فكرة إخفاء فيل زنته عشرة آلاف وخمسمائة رطل هي فكرة مروعة ومحيرة معًا.

وقد قمت بأعمال باهرة في السنوات الأخيرة في مناسبات عدة فأظهرت قدرتي على إنقاذ نفسي بعد أن يشد وثاقي.

على أن مثل هذه الحيل تكبدني عناءً لا يوصف؛ فقد كنت أوثق في جذع الشجرة وثاقًا محكمًا، وتغل يداي ثم أُغمر في الماء بحيث تكون رأسي إلى أسفل؛ فأنجو من تلك القيود الثقيلة المحكمة، وأتخلص من تلك الحبال التي أوثقوني بها بحيل عجيبة مدهشة، وفي هذا النوع من الألعاب من الخطر المحقق ما لا يستهان به، وهو أكثرها ملاءمة وتسلية للناس، والناس يأنسون برؤية الخطر وليس من مأربهم طبعًا أن يروني قتيلًا؛ ولكن من مأربهم أن يروني في خطر محقق أحاول النجاة منه، والخطر إذا كان الإنسان بمأمن منه حين يراه يصبح معجبًا.

•••

ولو أن قومًا رأوا مصورًا فوق سطح منزل ذي عشر طبقات لوقف بعضهم ينظر إليه، ولو أن ذلك الرجل نفسه قد زلت قدمه مثلًا وأمسكت إحدى يديه بحافة السطح فأصبح معلقًا في الفضاء لرأيت الجمع يحتشد، والزحام يشتد في أسرع وقت لرؤية هذا المنظر، ومشاهدة ما فيه من الخطر، وليس يغتبط الناس في أمثال هذه المواقف برؤية سواهم من الناس يهلكون؛ ولكنهم يودون ألا يفوتهم ذلك إذا حدث، ويحبون أن يكونوا في اللحظة التي يحدث فيها، وهذا هو السر في اغتباط الناس وشدة فرحهم حين يرونني أبدأ في اللعبة المعروفة بحجرة العذاب الصينية التي يعدونها من أمتع حيلي؛ لما فيها من الخطر الداهم.

ويرى الحاضرون — قبل شروعي في هذه اللعبة الشاقة — تلك اللعبة الزجاجية الضيقة وهي ملأى بالماء، وفي رجلي ثقل زنته ثلاثمائة وخمسون رطلًا، وأنا أنغمس فيها بحيث تكون رجلاي في أعلاها ويداي في أسفلها — كما مر — على مرأى من الناس جميعًا، ثم تغلق تلك العلبة الزجاجية التي تحتويني، والخطر الداهم المحقق في هذه اللعبة هو أن هلاكي يتحتم إذا لم أستطع التخلص من تلك القيود والأصفاد وأنجو من هذه العلبة الزجاجية توًّا؛ وذلك هو السر في إيجاد مساعدي بحيث يقف بجانب الزجاجة دائمًا حاملًا في يده مِلطسًا حتى إذا غبت دقيقتين دون أن أخرج اضطر إلى تحطيم الزجاجة وإخراجي في الحال.

وإذ يرى الحاضرون هذا المساعد واقفًا أمام الزجاجة يتحققون من أن هناك خطرًا عليَّ؛ فينصتون إنصاتًا، ويرهفون آذانهم إرهافًا، ولا يتحركون وكأنما على رءوسهم الطير، ويظلون كذلك حتى يروني أنجو من هذه الزجاجة، ويستغرق ذلك عادة نحو ثلاثين ثانية.

وإنه الخطر المحدق بي هو الذي جعل الجمع يحتشد ويكثر عندما يراني موثقًا مغلولًا أقفز من القنطرة إلى النهر، وخطر هذه اللعبة أيضًا في أن هلاكي محتمل جدًّا إذا لم تُتح لي فرصة النجاة منها، والعودة إلى سطح الماء ثانية وأنا حي.

وأذكر في ذات يوم من أيام الشتاء في بطرسبرج أنني آثرت في نفوس المتفرجين انزعاجًا حقيقيًّا، وسببت لهم جلبًا وصياحًا ورعبًا.

وذلك أنني أُغللت وقُيدت كما هي العادة، ثم رُبطت إلى جذع بالحبال والسلاسل، وأُلقيت في فرجة كبيرة قطعوها من مياه النهر المتجمد في ذلك الحين لهذا الغرض، ولما أراد البوليس التدخل لم نمهله ريثما يمنعنا، بل أسرعت بإلقاء نفسي في الماء قبل أن يقوم بعمل أي شيء ليحول بيني وبين ذلك، وهنا بدأ الجزء المروع من هذا الفصل؛ فإني بعد أن حللت وثاقي — دون عناء — حاولت الصعود إلى سطح الماء؛ فوجدتني قد أخطأت تلك الفرجة التي ألقوني فيها، ورأيت أن سمك الثلج فوقي يبلغ سبع بوصات، وأيقنت حينئذ أني لا محالة هالك، ولكن إيماني بالنجاة من هذا المأزق طمأنني قليلًا، ولم أشأ أن أستسلم للهلاك دون أن أبذل كل ما لدي من القوة في مقاومته، فقرَّبت أنفي من الجليد — بقدر استطاعتي — لأتنسم الهواء، وذكرت أني قرأت عن رجل نجا من مثل هذا المأزق بأن واصل السباحة على شكل دائرة ضيقة تزيد اتساعها شيئًا فشيئًا في كل مرة عن الأخرى، ففعلت ذلك وانتهيت أخيرًا إلى الفرجة التي ألقوني فيها، وظهرت على وجه الماء ثانية بعد أن مكثت تحته ثلاث دقائق.

وكان جسمي كالكتلة من الثلج، لشدة ما احتملته من البرد القارس، ولم أتمكن طبعًا من إخفاء ضعفي على المسرح، ولكني لم أعبأ بذلك؛ فقد كنت في شغل عن ذلك بما رأيته من ابتهاج بسلامتي من ذلك الهلاك، وشكرت — كل الشكر — الله على ذلك.

ولا أنسى ما حدث في «ملبورن» بأستراليا؛ فقد كان أغرب وأعجب ما لاقيته في جميع أطوار حياتي، ولقد جاء ستون ألف شخص وراقبوني وأنا أغطس في الماء — في ذلك اليوم — موثقًا إلى جذع شجرة، وشخصت إليَّ كل عين حين ألقيت نفسي في الماء، ولم يلبث الناس أن رأوا على سطح الماء جسمًا طافيًا لا حراك به ولا حياة؛ فتبادر إلى أذهانهم أن ذلك هو جسمي، وقد أخبرني مساعدي بعد ذلك أن انزعاجهم كان شديدًا، وأن الرعب والخوف قد وصلا بنفوس الحاضرين إلى حد لا يمكن وصفه. وقد أسرع إلى انتشال هذا الجسم سبعة قوارب، وعلا الصياح والجلبة والصخب، وإذا بي قد ظهرتُ بغتةً على وجه الماء، وليس بيني وبين ذلك الجسم إلا بضع خطوات، ويا لهول ما رأيت! أؤكد للقارئ أن انزعاج الحاضرين حين رأوا ذلك الجسم الهامد الذي حسبوه جسمي هو انزعاج — على ما وصل إليه من الشدة — لا يمكن أن يقاس إلى انزعاجي واضطرابي اللذين وصلا إلى حد أن أفقداني صوابي فيه، ولم تمر عليَّ لحظة، أو لحظتان حتى فقدت الحركة، وكان الحاضرون أيضًا يصخبون ويصرخون كما يفعل المجانين، وأسرع إليَّ رجالي فجذبوني إلى السفينة، وأنا مهما عشت ومرَّت بي عجائب ومروعات فلن أنسى فداحة ذلك الخطب الذي حدث لي يومئذ.

ويسألني الكثيرون من أصدقائي عن أحب الألعاب والحيل التي آتيها، وأنا أجيبهم على ذلك السؤال بأن جميعها حبيب إليَّ بلا ريب وإلا لما أتيتها، ولكن لعل ما أُفرده بأعظم الحب والشغف الشديد هو هروبي من السجون التي يعتقد الناس اعتقادًا جازمًا أن الهرب منها محال.

وقد دعيت منذ بضع سنوات إلى الهروب من الحجرة نمرة ٢ الخاصة بالمحكوم عليهم بالإعدام في سجن «فدرال» بواشنطون، وهي الغرفة التي سجن فيها قاتل الرئيس «جارفيلد»، وقد راهنني الضباط على الفرار منها، ولم أجد صعوبة في ذلك، فخرجت منها توًّا، ولكن عنَّ لي أن أتفكَّه بإتيان بعض الطرف، فذهبت إلى بقية الغرف الأخرى، وتمكنت من فتحها، ووضعت كل سجين في غرفة الآخر.

وكنت مجردًا من ملابسي حتى لا يتبادر إلى ذهن بعض المرتابين أنني أخفي معي بعض العدد والآلات لتساعدني على النجاة، فلما رآني السجناء على هذه الحال حسبوا أن الشيطان أو أحد أقربائه قد حضر إليهم، فارتعدت فرائصهم من الرعب، ولبوا أمري على الفور، وكم سخرت بهم حين أتى السجانون لرؤية مسجونيهم، وتبادر إلى أذهانهم أنهم هربوا من السجن، ولم تهدأ ثائرتهم إلا بعد أن ذكرت لهم الحقيقة.

وتقابلت مع اسكتلندي في إنجلترا ذات يوم، وقد أفلح في الفوز عليَّ بحيلة لم أفطن لها بعد، وهي تدل على ذكائه ومكره؛ فقد راهنني على أن أخرج من حجرة مغلقة، وحين وضعني فيها قال لي ساخرًا: «لا أحسب أنك قادر على الخروج من هذه الغرفة في هذه المرة!» فأجبته أنا أيضًا بابتسامة الهازئ الواثق من نفسه، وشرعت في فتح القفل دائبًا نحو ساعتين دون أن أصل إلى أية نتيجة مجدية، ولا أحسب أنني في نهايتهما قاربت فتحه أكثر مما كنت عند وقت دخولي الغرفة مباشرة!

ولكني لم أيأس، بل واصلت العمل حتى غلبني الإعياء على أمري أخيرًا، فاستندت إلى الباب لأستريح قليلًا، وإذا بذلك الاسكتلندي الماكر قد وقف أمامي فجأة وقال إنه لم يغلق الباب بالمفتاح — كما هي العادة — لعلمه أن أول ما أسعى إليه هو محاولة فتح الباب، وقد أصاب الحقيقة، فإنني لو كنت عالجت الباب نفسه — دون أن أهتم بمعالجة القفل — لخرجت في طرفة عين.

•••

ولا تتوهمنَّ أيها القارئ العزيز لحظة واحدة أن هذه التجارب والنظريات قد وصلت إلى علمي بسهولة؛ فإنني لم أدركها إلا بعد عناء لا يوصف، ولقد طالما وقفت أمام المرآة لأرى نتيجة ما أتيته من الحركات الخفيفة وأثق من النجاح.

وقد تعاون عليَّ عناء تلك الألعاب وأخطارها، فشيَّبا رأسي وأصبحت وأنا في السادسة والأربعين أبدو للناظر شيخًا قارب الستين!

هوامش

(١) هو «هوديني» الذي يطلق عليه العامة اسم «الحاوي»، وهذه المذكرات كتبها ذلك العجائبي الذائع الصيت.
(٢) من أجمل ما قرأناه في تعليل ما يأتيه العجائبي من ضروب الحيل قول العلامة «ابن حزم» في كتابه «الملل والنحل» بمناسبة قوله تعالى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ عند الكلام على السحر، وأنه تخييل لا حقيقة قال:

«ذلك أنهم رأوا صفة حيَّات قصار وطوال تضطرب، فسارعوا إلى الظن، وقد روا أنها ذوات حيَّات، ولو أمعنوا النظر وفتشوا لوقفوا على الحيلة فيها، وأنها ملئت زئبقًا ولد فيها تلك الحركات، كما يفعل العجائبي الذي يضرب بسكينه في جسم إنسان فيظن من رآه ممن لا يدري حيلته أن السكين غاصت في جسد المضروب، وليس كذلك، بل كان نصاب السكين مثقوبًا فقط، فغاصت السكين في النصاب، وكإدخاله خيطًا في حلقة خاتم، تمسك طرفي الخيط بيد ثم يأخذ العجائبي الخاتم الذي فيه الخيط بفيه، وفي ذلك المقام أدخله تحت يده، وكان في فيه خاتم آخر يرى من حضر حلقة الخاتم الذي في فيه، يوهمهم أنه قد أخرجه من الخيط ثم يرد فمه إلى الخيط ويرفع يده وفمه فينظر الخاتم الذي كان فيه الخيط. وكذلك سائر حيلهم، وقد وقفنا على جميعها.» (ارجع إلى كتاب الملل والنحل لابن حزم ج٥ ص٥).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤