أبو العلاء المعري في لزومياته

أبو العلاء رجل سوداوي المزاج؛ ممعنٌ في السخط على الحياة، بالغٌ في سخطه وبرمه مدًى لا يشركه فيه إلا القليل النادر من الفلاسفة المتشائمين.

وهو مطلع واسع الاطلاع على آداب أكثر الأمم التي نقلت آدابها إلى العربية، وعالم واعٍ أخبارها، صادق حين يقول:

ما مر في هذه الدنيا بنو زمنٍ
إلا وعندي من أخبارهم طرف

وهو — مع هذا العلم الغزير بتواريخ الأمم المختلفة، والرواية الواسعة لآدابهم المتباينة — ممحصٌ فطنٌ خبير بتمييز الأخبار، دقيق في نقد زائف القول من صحيحه.

وأبو العلاء مفكر؛ عميق التفكير، ملهم المعنى ملَقَّى الحجة، وعالم من أكبر أساطين اللغة المشهود لهم بالسبق والتفوق.

وهو — إلى ذلك — شاعر فنان، عريق في الفن، عارف بروائعه، خبير بأسرار الجمال، ومواطن الجلال، وهو حر الفكر واسع الخيال فياض المعاني مشرق الديباجة لا يعوقه عن بلوغ غايته شأوٌ، ولا يقف في سبيله حاجز.

•••

هذه الميزات الباهرة هي أول ما يبدهك من شعر أبي العلاء — الحافل بروائع الفن والفلسفة — حين تقرأ كتاب اللزوميات؛ فتطالعك كل صفحة منه بما يزيدك اقتناعًا بتلك المزايا العالية التي أفردت أبا العلاء فأحلَّته أسمى مكان بين شعراء العربية جميعًا، وتعاونت على تكوين شخصيته الجذابة فمازته من بين جبابرة الفكر وأساطين الفن المبرزين.

وأي روضٍ من رياض الفكر، أحفل بروائع الفلسفة والفن من ذلك الروض الفكري البهيج الذي تتملى به في كل صفحة من صفحات اللزوميات؛ إذ تقرؤها فتطالع فيها سفرًا من أسفار الحياة حافلًا بأسمى وأروع ما يبدعه العقل الإنساني، ونتمثل فيها الخوالج النفسية واضحة جلية، لا لبس فيها ولا إبهام.

•••

اقرأ كل صفحة من صفحات الكتاب برويةٍ وأناةٍ، وأنا الزعيم لك بأنك لن تجد إلا ما حدثتك عنه من الروعة والجلال، فإذا حال دون إمتاعك به كلمة غريبة عنك، أو لفظة تنبو عنها أذناك، فحذار أن تعجل بالحكم على الرجل قبل أن تتثبَّت من وجهها الصحيح، فليس هذا ذنبه، وليس من العدل أن يؤخذ بتبعته، وإنما إثم ذلك عائد إلى تسرعنا في الحكم أو قلة محصولنا اللغوي، أو عدم إلمامنا بقسطٍ كافٍ من تاريخ الأمم العربية والأمم الأخرى التي أثرت في تاريخها، وفي أدبها معًا، أو قصورنا في درس جغرافية تلك البلاد.

•••

وليس على أبي العلاء إثم إذا عثرت كذلك في شعره بكلمةٍ غريبة، وتبادرت إلى ذهنك كلمة حسبتها أليق منها وأبلغ في أداء المعنى، فمضيت في حكمك لا تلوي على أحد!

نعم! فإن الرجل دقيق يعني ما يقول، وليس مغرورًا يولع بالبهرج، ولا منافقًا يكذبك نفسه، ولا قليل البضاعة يزجيها عليك؛ ولكنه رجل واسع الفكر بعيد المرمى، وليس أجدر بالروية والأناة من قارئ الأدب العلائي، فإذا وقع بصرك على مثل قوله:

لقد جاءنا هذا الشتاء وتحته
فقيرٌ معريًّ، أو أمير مدوَّج
وقد يرزق المجدود أقوات أمةٍ
ويحرم قوتًا واحدٌ وهو أحوج

فتبادر إلى ذهنك أن كلمة «مدوَّج» ثقيلة على السمع، وأن التزامه الإغراب هو السر في التجائه إليها، وأنه كان جديرًا أن يقول بدلها «متوَّج». وما أليق هذه الصفة بالأمير! وما أخفها على السمع وألطف مدخلها في القلب …!

فتريث قليلًا، وانظر إلى المعنى — بعد أن فتنك بهرج اللفظ — وخبِّرني بعد ذلك: «أيقابل عري الفقير تاج الأمير؟» وقل لي بربك: «كم تفقد تلك الصورة الشعرية من الجمال إذا وضع هذا اللفظ بدل ذاك؟»

•••

إذن فقد أراد أبو العلاء اللفظة الأولى، وقصد إليها قصدًا، ولو كان يتكلم نثرًا لأتى بها ولم يرضَ عنها بديلًا، وما أروع تلك الصورة الشعرية الجميلة التي تتمثلها في هذا البيت الدقيق؛ إذ «ترى الشتاء زاحفًا بقرِّه ومطره وزمهريره، وترى فقيرًا بائسًا يستقبل هذا الفصل القاسي عاريًا لا يجد ما يدفئه أو يقيه غائلة البرد، ثم ترى — إلى جانبه — أميرًا مثريًا متدثرًا بلحاف فوقه لحاف، لا يكاد يشعر بألم البرد القارس أو يحس زمهريره.

وترى في البيت الثاني مجدودًا، تكدست أمامه أقوات أمة بأسرها؛ وإلى جانبه مسكين قد حرم قوت يومه!»

•••

حسبنا هذا المثل من أمثلة عديدة يعيينا استقصاؤها ولا يتسع الوقت لذكرها، ولكن حذارِ أن يدخل في روعك، أو يدور بخلدك — لحظة واحدة — أننا ننزِّه أبا العلاء عن الزلل؛ وأننا نطلق القول إطلاقًا، فنعصمه من كل خطأ أو نزعم له شيئًا من ذلك، فإنما هو إنسان قبل كل اعتبار وبعد كل اعتبار.

ولكن كل ما نقوله: إننا ألِفْنَا منه الدقة والإحكام؛ ولم يعوِّدنا الثرثرة، والهذيان، وإننا وضعنا في البوتقة جُلَّ ما قدمه لنا من المعادن؛ فألفيناه ذهبًا خالصًا غير مختلطٍ بنحاس، فإذا شذ من ذلك شيء فهو الفكر الإنساني الذي لا يسلم صاحبه من عثارٍ أو كبوةٍ إلى الأرض — أثناء تحليقه في سماواته العلي — وهو الشعر كالشجر:

ركب فيه اللحاء والخشب اليا
بس والشوك بينه الثمر

ونوجز فنقول: «إننا إذا عددنا نخبة المفكرين، والفلاسفة المعدودين الذين تركوا أوضح أثر في تاريخ الفكر الإنساني والذين هم أبعد الناس عن الإسفاف واللغو، فإن أبا العلاء بلا شك يكون في أعلى ذروةٍ يجلس فيها أساطينهم وجبابرتهم.»

وهذا كلام نؤكد للقارئ أننا نعنيه تمامًا وأننا نقوله جادين، وأننا أبعد الناس عن المبالغة حين نقرره.

فليس يمتري أحد درس أبا العلاء حق دراسته في أنه قد خط للشعر العربي طريقًا جدية فلسفية، وأنه قد أودع لزومياته أسمى المبادئ الاجتماعية، وأرقى أساليب النقد الصحيح، والسخرية الخفية اللاذعة، والدعابة القاسية التي تحوي الجد المر بين ثناياها، والتي تكشف عن النفس الإنسانية، وعن الطبيعة الخالدة سجفها، وأستارها الكثيفة؛ فتجليها في أبهى حللها، وتطلع الإنسان على أخفى خفاياها.

•••

وهذه الميزات الباهرة التي نكبرها في «أبي العلاء» والتي نعجب بأدبه من أجلها وندعو الناس إلى الإقبال على آثاره الخالدة؛ ليمتعوا أنفسهم بها، هي وحدها السر في عزوف فريق الأدباء الجامدين عن كتب أبي العلاء، وبغضهم للأدب العلائي والفلسفة العلائية، فإن أذهانهم الضيقة لا تتسع لفهم معانيه العميقة، وصدورهم الحرجة لا تنفسح لحريته البعيدة المدى.

ولا غرو إذا عجزوا عن فهم شعره فنتـقصوه وعابوه، فقد ألفوا من الشعر لغوًا وهذيانًا، ودعابةً، وترديد معانٍ سخيفةٍ أنهكها التكرار الممل، ونوعًا من الشعبذة الكلامية تلتئم مع طبائعهم الممسوخة وأذهانهم الملتوية الفاسدة. وما أجدر هؤلاء أن يبغضوا شعر أبي العلاء ويعزفوا عنه! وما أخلقهم أن لا يصدعوا أدمغتهم بجده القاسي الذي لا تحتمله أذهانهم اللطيفة!

•••

فإذا كان لا بد لهم أن يحفظوا شيئًا يتندرون به من كلام أبي العلاء ليتمموا به سلسلة محفوظاتهم الأدبية، فأمامهم بضع قصائد قالها في أول حياته الأدبية — في كتاب سقط الزند — وتبرأ منها في مقدمته؛ كقوله مثلًا:

إذا خفقت لمغربها الثريا
توقَّت من أسنته اغتيالًا

وقوله:

ولو أن الرياح تهب غربًا
وقلت لها: «هلا» هبت شمالا
وأقسم لو غضبت على ثبيرٍ
لأزمع عن محلته ارتحالا

وقوله:

يذيب الرعب منه كل عضبٍ
فلولا الغمد يمسكه لسالا

وقوله:

وكأن الهلال يهوى الثريا
فهما للوداع معتنقان

وقوله:

وعلى الأفق من دماء الشهيديـ
ـن — عليٌ ونجله — شاهدان

إلى آخر ذلك الهذر والعبث الذى يلائم مزاج تفكيرهم وأسلوبهم.

•••

على أنهم سيجدون — حتى في هذه القصائد الأولى وأشباهها — بضع أبيات فلسفية رائعة تبغضهم في شعر أبي العلاء، وتستدر نقمتهم على أدبه!

ولكن ما لنا ولهذه الفئة الأمية الفكر الحقيرة الشأن، وقد أوشكت تنقرض وسمعنا صوت احتضارها الخافت، لا شأن لنا بهم بعد أن اكتسحت نهضتنا المباركة أكبر زعمائهم — فيما اكتسحته — وستأتي على الباقين منهم في القريب العاجل!

فلنترك إذن هذه الفئة تحتضر، ولنغتبط برواج الأدب الحي، وانتشار الفن الصحيح بين أبناء الشرق الناهض، فليس أدعى إلى الاغتباط من نفاد طبعات ثلاث من هذا السفر الأدبي النفيس، وشدة الإلحاح المتواصل في طلبه.

وما أجدر الأدباء بذلك، وما أجدر الأدب العلائي أن يجذب إليه أنظار المفكرين في هذا العصر الناهض الحافل بالجد والحياة! وأخلق بذلك الإقبال أن يتخذ دليلًا لا يقبل الشك، على صدق نهضة الشرق، وعنايته بالأدب الصحيح، والفن العالي!

وفي بعض هذا ما يفسح مجال الأمل في رقيِّه، ويدعو إلى التفاؤل الصادق بنجاح سعيه، وإدراك غايته النبيلة التي يسعى إليها بخطواته السديدة، فقد فرغ الباحثون من التدليل على أن كل نهضة لا تعتمد على الأدب زائفة وشيكة الإخفاق، وأن الأدب الصادق أساس كل نهضة حقة، ورائد كل حركة قومية منتجة.

•••

وأي أدب أصدق من الأدب العلائي الذي يحوي لب اللباب، ويشرح أخفى الخوالج الإنسانية، ويوضح أدق وأسمى إحساسات النفوس العالية؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤