النهضة العلمية والدعوة الوهابية

ولا يظن ظان أن الحركة التعليمية في جزيرة العرب قد بقيت كما كانت من ذي قبل، فأما في نجد والحجاز فلا يخفى أن الدعوة الوهابية توجب حمل جميع الناس على التعليم بدون استثناء، وهو عندهم بمقام الجهاد، فترى المعلمين والفقهاء يجوبون الحواضر والبوادي ويفتحون الكتاتيب للأحداث وربما شرقت قبائل من العرب وغربت والمعلمون معها حتى لا ينقطع التعليم بالرحيل، فالأمية في البلاد الخاضعة لسلطان ابن سعود ستكون نادرة، ولكن يعترض بعضهم قائلًا:

إن هذا التعليم النجدي لا يساعد الرقي المدني، بل هو من النمط القديم الجامد الذي ليس فيه كبير جداء لأهل هذا العصر، وهذا القول مردود من وجوه؛ أولًا: أن النجديين يلتزمون تعميم القراءة والكتابة في البدو والحضر؛ فزوال الأمية هو بنفسه درجة عالية من العلم، ثم إنهم يُحفظون الأحداث القرآن الكريم ويفسرونه لهم بعد رشدهم، وأي كتاب حث على العلم والتعليم والسير والنظر أكثر من القرآن؟! وأي كتاب قدَّس العلم والعلماء ونوه بالحكمة والحكماء أكثر من القرآن؟!

الإصلاح والعمران في المملكة السعودية

ثم إن منزع النجديين في الدين نزع إصلاح وترقية وتنقية، ومشربه بعيد بالمرة عن الخرافات؛ فهو مشرب إصلاحي مستحب جدًّا في العصر الحاضر، وإذا سألت الأوروبيين أنفسهم قالوا لك: إن مثل هذا المشرب هو الذي فك قيود الأفكار، وحل عُقَل العقول في أوروبا، وكان فاتحة عهد الارتقاء، وكثيرًا ما أطلق الأوروبيون على الوهابيين لقب «بروتستان الإسلام»، ثم إن هذا الملك عبد العزيز بن سعود إمام الوهابيين القائم بتنفيذ مبادئهم لا يقف عن قبول أي علم نافع أو اختراع عصري مفيد؛ فهو يجهز مملكته بجميع طرق العمران الحديثة، وعنده التلغراف السلكي واللاسلكي في جميع بلاده، وعنده التليفون والراديو، وعنده السيارات الكهربائية تسير في طول البلاد وعرضها، حتى صارت تلك الأرض الشاسعة الواسعة تُطوَى طي السجل للكتاب. ومن أعمال ابن السعود اعتناؤه بالصحة العمومية وتعويله فيها على الوسائل العصرية الحديثة، وقد بدأ يستخدم الطيارات في الجيش، ولو كانت ميزانيته المالية تأذن له في الإنفاق كما يشاء لما سبقه في هذا الميدان سابق، ولكانت الأدوات العصرية في جيشه لا تقل عن مثلها في أي جيش أوروبي، ولكن المال قوام الأعمال، ثم إذا كان المراد من العلم والتعليم هو إيجاد الأمنة في السوابل فلا يكون في هذا المعنى أرقى من مملكة ابن سعود؛ لأن الأمن العام ضارب أطنابه في بلاده كلها وواصل إلى الدرجة التي يتحدث عنها المؤرخون في الكتب بعد أن كانت تلك الصحاري أشبه بمسبعة تزأر فيها الضواري من كل فج. وبالاختصار، فالوهابيون يقبلون كل إصلاح ما لم يصادم الدين، والعلم والدين لا يتصادمان في الحقيقة إلا عند من لم يحسن فهم كل منهما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤