مقدمة الطبعة الثانية

عشر سنوات مضت منذ أن ظهر هذا الكتاب في طبعته الأولى، عشر سنوات حاسمة في عمر العالم، وفي عمر الوطن، وفي عمر الفرد. في هذه السنوات العشر ازداد العالم تباعدًا عن تفكير نيتشه وعن كثير مما يمثله تفكير نيتشه، وازداد وقْع القضايا التي أثارها هذا الفيلسوف المنعزل غرابةً على الآذان. وعلى الرغم من أن العالم كان يشهد من آنٍ لآخر فتراتٍ انتعشت فيها فلسفة نيتشه بعد موته، فإن الشواهد كلها تدل على أن من الصَّعب أن تصل تعاليمه مرة أخرى إلى مثل هذا الازدهار، أو أن تُثير موجةً أخرى من موجات الحماسة الجارفة التي مرَّ بها العالم خلال النصف الأوَّل من القرن العشرين، وأكاد أقول: إنَّ نيتشه الَّذي ظلَّ «مفكِّرًا حيًّا» حتى أواسط هذا القرن، يتحوَّل الآن تدريجًا، وبحركة بطيئة قد لا يشعر بها الكثيرون، إلى «فيلسوف تاريخي».

على أن هذا التَّحول في موقع نيتشه من العالم المعاصر، أو في موقف العالم المعاصر منه، لا يدفعني إلى أن أعيد النظر في شيء مما قلته عن نيتشه من قبلُ. فقد ألَّفت هذا الكتاب وفي ذهني صورة محددة لنيتشه، عرضت معالمها العامة في مقدمة الطبعة الأولى؛ وهي صورة ما زلت أعتقد اليوم أنها أقرب إلى الصواب. ولو كنت قد نشرت هذا الكتاب لأول مرة في أيامنا هذه، لكان من الجائز أن تجيء بعض فصوله أوسع نطاقًا وأكثر إسهابًا مما هي عليه، ولكني ما كنت لأغيِّر شيئًا من الأفكار الرئيسية الموجودة فيه، أو من الموقف العام الذي اتخذته من هذا المفكر. ومن هنا آثرت أن يُعاد طبع الكتاب على ما هو عليه؛ فيما عدا بعض التصويبات المطبعية واللغوية الشكلية.

•••

ولكن، ماذا عسى أن تكون مبررات القول بأن العالم يزداد تباعدًا عن نيتشه يومًا بعد يوم، وأنَّ كل عام يمر يزيد من غرابة وقع كلماته على الآذان؟ إن نيتشه كان قبل كل شيءٍ مُفكِّرًا حضاريًّا، ورسالته في الحياة لم تكن رسالة فيلسوف صاحب مذهب نظري، وإنما كانت أساسًا رسالةَ ناقدٍ للحضارة التي يعيشها. وعلى الرغم من كل ما امتازت به نظرته إلى الحضارة الأوروبية المعاصرة له من عمقٍ ومن قدرة على النفاذ إلى أبعد الأغوار، فإنه كان ابنًا لحضارةٍ لم تكتمل؛ فنيتشه نتاجٌ أصيل للقرن التاسع عشر، وما كان في وسعه، وهو يعيش في ذلك القرن، أن يُصدر حكمًا دقيقًا شاملًا على الحضارة الغربية المعاصرة له، لسبب واضح هو أن تلك الحضارة كانت تمر بفترة انتقالٍ إلى عهد جديد لم تكن عناصره قد اكتملت بعدُ، بل لم يكن بعضها قد ظهرت بوادره أصلًا.

ففي القرن التاسع عشر كان النمط الفكري الشائع — في ميدان الفلسفة الحضارية — هو النمط القلِق المضطرب، ولم يكن من المستغرب على الإطلاق أن تَظهر نماذجُ شاذَّةٌ لمفكرين يدعون إلى الفردية المطلقة، أو إلى الفوضوية، أو إلى القومية الضيقة الأفق؛ إذ إن اضطراب التفكير وعدم استقراره كان أمرًا طبيعيًّا في عصر انتقل فيه العالم الغربي من حياةٍ قديمةٍ إلى حياةٍ جديدة، دون أن يدرك المعالم الكاملة لتلك الحياة الجديدة أو يستكشف أبعادها الحقيقية أو يهتدي بوضوح إلى طريقه خلالها. في ذلك القرن اختفت طبقات كاملة — طبقات النبلاء والأشراف والإقطاعيين الوراثيين — وظهرت طبقات جديدة لم يكن لها من قبلُ أي صوت مسموع — طبقات العمال وأصحاب الأعمال — وكان هذا التغيير الأساسي مقترنًا في البداية باختفاء بعض المعالم الثقافية التي كان يرعاها النبلاء، وظهور معالم أخرى أكثر ملاءمة للطبقات الناشئة التي لا تتميز بعراقة الأصل أو بامتداد جذورها في الماضي البعيد. وكان من الواضح أنَّ تحوُّلًا ضخمًا يطرأ بالفعل على حياة الإنسان الأوروبي، ولكنه بدا للكثيرين عندئذٍ تحوُّلًا إلى الأسوأ، وخُيِّلَ إليهم أن التاريخ يتدهور وأن القيم تنهار، وأن العصر الجديد لن يكون إلا عصر التفاهة والسطحية والابتذال. كان ذلك إذن «عصر تجربة» بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ، ولم يكن من الممكن أن تُثمر البذور التي غُرست في القرن التاسع عشر إلا في القرن العشرين، بل إنَّ بعضها لم يؤتِ ثماره كاملة إلى اليوم. وعلى أية حال فإنَّ الرؤية قد أصبحت الآن واضحة، ومعالم الطريق قد استبانت، والتجارب قد تبلورت، وبدأ يتحقق ما كان في القرن الماضي مجرد «مشروع» مبهم.

ولقد كان نيتشه يفخر دائمًا بأنه يتحدث للمستقبل، وبأن أفكاره لن تُفهَم إلا بعد مائة عام. وقد تكون بعض اتجاهاته الفكرية سابقةً لأوانها بالفعل؛ غير أن موقفه العقلي العام، ونظرته إلى الحضارة الغربية بوجهٍ خاص، تبدو لنا اليوم متخلِّفة عن رَكْب العصر إلى حد بعيد. إنَّ الإنسان الأرقى، أو «ما فوق الإنسان»، كما تصوَّره نيتشه، لن يظهر بوصفه امتدادًا وارتقاءً للفرد الأرستقراطي المنعزل، بل إن الشواهد كلها تدل على أنه سيظهر من «المجموع»؛ من أولئك الذين كان نيتشه يَعُدُّهم عبيدًا لا سادة. والصراع الثقافي والأخلاقي والفني في عصرنا الحالي لا يحمل شيئًا من آثار «تنبؤات» نيتشه، وإنما يسلك طرقًا لم يكن في مقدوره أن يتنبأ بها على الإطلاق.

ومع كل ذلك، فإن نيتشه سيظل دائمًا مفكرًا يقرأ الناس له ويقرءون عنه بشغف واهتمام. ومهما تباعَدَ تيار العصر عن أفكاره الأصلية، فسيظل الناس يجدون متعة في كتابات ذلك المفكر الذي لا يستطيع أحدٌ أن يُنكِر إخلاصه حتى للقضايا الخاسرة، والذي نادى الإنسان بأسلوب غنائي رائع، وتغلغلت بصيرته النفاذة في أعماق النفس البشرية، وخاطبَنا بصراحةٍ لا تخلو من القسوة، وعالج كثيرًا من أمراضنا التقليدية المزمنة بطريقة الصدمات العنيفة المفاجئة. إنَّ نيتشه يمثل نمطًا فريدًا من المفكرين والكُتَّاب، نجد متعةً في الرجوع إليه من آنٍ لآخر، وقد نجد في بعض الأحيان صعوبةً في الامتناع عن الانسياق وراءه والاستسلام لتياره الجارف، ولكن من علامات الاتزان العقلي أن نلتزم جانب الحذر إزاءه؛ إذ إنه كان — إلى حد بعيد — مراهقًا في عنفه ورومانسيته، ولا بُدَّ للعقل الناضج أن يتجاوز دور المراهقة الفكرية.

فؤاد زكريا
القاهرة في ١٥ مارس ١٩٦٦م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤