مقدمة الطبعة الأولى

لي مع تفكير نيتشه Nietzche قصة ما كنت أرويها للقارئ إلا لعلمي أنها قصة الكثيرين معه؛ فمنذ ما يزيد عن ثلاث سنوات، قدَّمت بحثًا جامعيًّا بعنوان: «النزعة الطبيعية عند نيتشه»، عرضت فيه فلسفته عرضًا حاولت أن يكون موضوعيًّا إلى أبعد حد. واليوم، حين أعود بذاكرتي إلى هذا البحث، أتساءل: كيف أمكنني أن أوافق نيتشه على آرائه هذه؟ ذلك لأن صوت نيتشه، الذي بدا لي في ذلك الحين مُعبِّرًا عن موقف الإنسان في عصرنا الحالي تعبيرًا أمينًا، أصبح اليوم يبدو لي بعيدًا عن هذا الموقف كل البُعد. أصبح مجرد صدًى خافت، لا يلبث أن يتلاشى رنينُه في موجات الزمان. وأخذت أُفكِّر في هذا التغير الذي طرأ على نظرتي إلى نيتشه؛ فهل يُعقَل أن يناقض الإنسان نفسَه في مثل هذه الفترة القصيرة إلى هذا الحد؟ ولكنني سرعان ما اهتديت إلى التبرير، ولم يكن ذلك تبريرًا لموقفي من نيتشه، بقدر ما كان تبريرًا لموقف نيتشه من عالَمنا الحاضر.

فما الذي نأخذه اليوم على نيتشه؟ إننا نأخذ عليه، قبل كل شيء، نزعته إلى اللامعقول، وإلى الفردية المفرطة. والأمران مرتبطان؛ ذلك لأن العقل هو أساس اتفاق الناس وتوحيد اتجاهاتهم، وما إن تستقر عقولنا على فكرة معيَّنة، حتى تقف كلها من الفكرة موقفًا واحدًا. أمَّا المشاعر والانفعالات، فهي بطبيعتها فردية، تتباين من شخص إلى آخر؛ وعلى ذلك فهي أساسٌ للتفرق والتميز. وهكذا نجد الفلسفات العقلية تصطبغ على الدوام بصبغة العمومية، بينما تصطبغ الفلسفات اللاعقلية — أعني المبنية على المشاعر في مقابل العقل — بصبغة فردية. وبالمثل، فمن المُحال أن نجد فيلسوفًا ينادي بالفردية المطلقة، ويكون ذا اتجاهٍ عقلي، بينما تغلِب النزعة العقلية على من يضعون للإنسانية مُثُلًا عامةً مشتركة. فوقْع كلمات نيتشه يبدو اليوم غريبًا على آذاننا لأن نغمته الأساسية هي التي تدعو إلى اللامعقول، وإلى الفرد المطلق. ومع ذلك، فقد حاولت من قبلُ أن أستخلص من فيلسوف اللامعقولية هذا نوعًا من المذهب المترابط المتماسك الأطراف، وأن أكشف الخيط الجامع بين شعاب فلسفته المتفرقة. وعلى هذا النحو تبينت أنني لم أكن متناقضًا مع نفسي؛ فقد التزمت جانب المعقول على الدوام، حتى في بحثي لأعنف الفلاسفة نقدًا للعقل.

ولكن، هل ينبغي علينا أن نتخذ من نيتشه موقفًا كهذا على الدوام؛ أعني أن نستخلص من فلسفته العناصر المشتركة الموحَّدة الهدف، ونُغفل العناصر الأخرى، المتنافرة المتضاربة؟ الواقع أن لهذا التنافر والتضارب ذاته مغزاه العميق. والمهمة الكبرى بالنسبة إلى دارس نيتشه في عصرنا الحالي ليست هي أن يتساءل: هل كان نيتشه فيلسوفًا عقليًّا، فرديًّا، متناقضًا مع نفسه؟ وإنما أن يتساءل: «لِمَ» كان نيتشه فيلسوفًا لا عقليًّا، فرديًّا، متناقضًا مع نفسه؟ فإذا توصلنا إلى مثل هذا التعليل، فعندئذٍ تكون المشكلة كلها قد حُلَّت.

والحقُّ أن الحملة على العقل كانت في وقتٍ ما مظهرًا من مظاهر التحرر الفكري، بل من مظاهر تكريس الفكر من أجل التقدم بالإنسانية؛ ذلك لأن العقل كان في ذلك الحين مبدأً مضادًّا للحياة، يحمل على الطبيعة الإنسانية، ويحارب الواقع ويدعو إلى الهروب منه، كان ذلك في الوقت الذي ظُنَّ فيه أن للعقل مبادئه الثابتة التي ينبغي أن يخضع لها الواقع، بحيث إنه لو ظهر بينهما تعارض كانت مبادئ العقل هي الصحيحة دائمًا، وكان علينا أن نفسر الواقع تبعًا لما تقضي به هذه المبادئ. في تلك الفترة الكلاسيكية كان يُنظَر إلى العقل إذن على أنه مَلَكةٌ رفيعةٌ ذات محتوًى فطري، مصدره إلهي مباشر؛ فهو ليس قوةً تُيسِّر للمرء سبيل السلوك في هذه الحياة، بل هو قوة تعلو على هذه الحياة وتترفع عنها وترسم لها خطتها مقدَّمًا. وهكذا أدرك المفكرون الأحرار، في وقتٍ من الأوقات، أن العقل قوة مضادة للطبيعة، تعوق الإنسان عن ممارسة ملَكاته وإطلاق قواه في هذا العالم، وتربطه بعالَمٍ آخَر فيه من الجمود والأزلية والثبات ما لا تُطيقه طبيعة البشر، ولا يعرفه الواقع الإنساني؛ ومن هنا كانت حمْلتهم على العقل، ودعْوتهم إلى اللامعقول.

فمثل هذه الدعوة إلى اللامعقول كانت إذن — في الوقت الذي ظهرت فيه — دعوةً حرة ترمي إلى أهدافٍ إنسانية خالصة. وموقفنا بإزاء مثل هذه الدعوات لا ينبغي أن يُبنى على تلك الثنائية القاطعة، التي تؤكد أن الدعوة إلى العقل خير وإلى اللامعقول شر. فمثل هذا التقويم المطلق يُغفِل الظروف الخاصة التي مر بها الفكر الإنساني في مختلف عصوره، ويتجاهل أن دلالة الاتجاه إلى العقل قد تغيرت، ويحكم على التاريخ من خلال منظورنا الحالي وحده. وهكذا يكشف لنا مثلُ هذا التحليل أن النزعات الرومانتيكية في مظاهرها المختلفة — ومن ضمنها تفكير نيتشه في اتجاهه إلى اللامعقول — قد أدَّت إلى البشرية، بالنسبة إلى عصرها، خدماتٍ جليلةً، وساهمت مساهمةً كبرى في السَّيْر بها إلى الأمام؛ إذ ساعدت على تقويض صرح العقل بمعناه القديم؛ معنى الأزلية والثبات الأبدي، والعلو على الواقع والحياة.

على أنه إذا كان من الخطأ أن تحمل على هذه النزعات من خلال حكم عام مستمد من ظروف عصرنا نحن، فليس أقل من ذلك خطأ أن نتحمس لها حتى نعممها على عصرنا ذاته. فإذا قلنا إن الاتجاه إلى اللامعقول كان في وقت من الأوقات اتجاهًا إنسانيًّا سليمًا. فليس معنى ذلك أن هذا الحكم ينسحب عليه في عصرنا الحالي؛ ذلك لأن الحملة على العقل بمعناه القديم قد أدت إلى نتيجة كبرى، هي إعطاء معنًى جديدٍ له، بحيث لم يعُدْ قوةً مضادة للطبيعة أو عاليةً على الواقع، وإنما أصبح هو ذاته تعبيرًا عن الإيقاع المنتظم للطبيعة وللواقع؛ فهو قوة تخدم الحياة وتنظِّمها. وليس قوة مترفعة تُفرض عليه من مصدر عال، وإني لأذهب إلى أن الاتجاهات الرئيسية في العلم والفكر الحديث إنما كانت، في صورتها الأخيرة، تدعيمًا لهذا المعنى الجديد للعقل.

وحين يصبح للعقل مثلُ هذا المعنى، وحين يغدو وسيلةً تُعِين على تقدُّم الإنسان لا عائقًا يقف في وجه هذا التقدم، فعندئذٍ لا يعود ثمة مبرِّرٌ للحملة على العقل وللعودة إلى مبدأ اللامعقول مرة أخرى، بل تغدو مثل هذه الحملة مظهرًا من مظاهر التأخر الفكري فحسب.

وفي ضوء هذا التحليل ينبغي أن يكون موقفنا من تفكير نيتشه؛ فعلينا أن ندرك أن نزعته اللاعقلية كانت تبدو ضرورية، بالنسبة إلى عصره وإلى الفهم السائد فيه وقبله، للعقل. أمَّا بالنسبة إلى عصرنا الحالي، فلا بُدَّ أن نقابل مثل هذه الحملة بالنقد.

ومثل هذا يمكن أن يُقال على نزعة نيتشه إلى الفردية؛ ففي عصور التحول الكبرى — ولا جدال أن القرن التاسع عشر كان من هذه العصور — تضيق النفوس الحرة بالمُثُل السائدة، ولكنها لا تدري إلى أين تسير، فلا تجد أمامها إلا الترفُّع والانعزال والدعوة إلى الفردية؛ فالاتجاه الفردي، وتمجيد الأرستقراطية والترفع، ليس إلا تعبيرًا عن هذا الضيق بالأحوال السائدة. ولا شك في أن هذا التعبير سلبي تمامًا، فضلًا عن أن نيتشه قد بالغ فيه كل المبالغة، ومع ذلك فدلالته الحقيقية هي السخط على كل ما هو شائع، والهرب من الأوضاع الباطلة، والاعتصام في قلاع الفردية والأرستقراطية. وقد يكون لمثل هذا الحل ما يبرره في فترة معيَّنة، ولكن تعميمه على كل الفترات والعصور، والاعتقاد بأنه سيظل هو الحل الأمثل لمشكلة الإنسان الفكرية؛ يعني أننا قد حكمنا على الإنسان بالسلبية إلى الأبد.

ولنستخلص النتيجة الضرورية لكل هذه المقدمات؛ فنيتشه قد سار في الاتجاه إلى اللامعقول، وإلى الفردية، لأن عصره كان يقتضي منه ذلك. وإذن فنيتشه هو ابن العصر، مهما قال عنه أصحاب النزعات الأدبية والشعرية في التفكير، ومهما وصفه كهنة الفلسفة، مثل كارل ياسبرز K.Jaspers، بأوصاف الاستثناء المطلق. وإذا كنا نُحِسُّ في كل صفحة مما كتبه بنفوره من عصره، وبُعده عن ظروف الجماعة التي تعيش حوله، وبحثه عن مُثُله العليا في عصور ماضية بعيدة، فما ذلك إلا لأن الصورة المنفرة التي رسمها عصره في أذهان مفكريه قد أرغمته على أن يهرب منه، ويُحلِّق بتفكيره بعيدًا عنه.

وأخيرًا، فقد قلت في مستهل هذه المقدمة إن قصتي مع نيتشه هي قصة الكثيرين. ولست أشك في أن المرء، إذا بدأ حياته العقلية بداية سليمة، سيشعر حتمًا بحاجته إلى مفكرٍ ثائرٍ على الأفكار والمُثُل السائدة، يدعو إلى تحطيمها بقسوة وعنف، ولا يعرف في ذلك توفيقًا أو مهادنةً؛ وعندئذٍ لن يجد المرء خيرًا من نيتشه في ثورته، ولن يجد عونًا له خيرًا من مطرقته التي هدم بها أصنام العصر؛ غير أن فترة الثورة هذه تعقُبها — في كل تطور طبيعي سليم — فترة البناء الإنساني الهادئ. وعندئذٍ لن يجد المرء في نيتشه مرشدًا له؛ إذ إن قدرته كلها تنحصر في حملاته ذات النتيجة السلبية وحدها. فإذا سار تطوُّرنا الفكري في طريقه الصحيح، فلا جدال في أننا لن نقنع بما قال به نيتشه طويلًا، وسنبحث عن مُثُل إيجابية أخرى لا يرشدنا تفكيره إليها، ومع ذلك سنظل نذكر دائمًا صيحة الاحتجاج الأولى التي لا بُدَّ أن يبدأ بها كل تطور عقلي سليم.

فؤاد زكريا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤