الفصل الثاني

وقائع حياته

في أواسط القرن التاسع عشر، وعلى التحديد في ١٥ أكتوبر من عام ١٨٤٤، وُلد نيتشه في ريكن Rœcken وهي بلدة صغيرة قرب ليبتسج. وأهم ما ينبغي أن نذكره عن أسرته أن أجداده لأبيه؛ أعني عائلة نيتشه، كان معظمهم من رجال الدين، وكذلك تنحدر أمه من أسرة إيلر Œhler وهي بدورها أسرةٌ شَغَل كثير من أفرادها مناصب دينية. وهكذا كان الدين يلعب دورًا أساسيًّا في طفولة ذلك الذي أسمى نفسه «عدو المسيح»، والذي كرَّس جهد حياته ليوجِّه إلى الروح الدينية أعنف نقد تعرضت له خلال ألفَي عام.

ويبدو أن وفاة أبيه وهو في سن الخامسة جعلته يرسم له صورة أسطورية، ويمتدح فيها صفات لا شك أنه لم يلمسها فيه عن كثب؛ إذ لا يُعقَل أن يكون قد حلل شخصية أبيه وهو دون الخامسة! وعلى أية حال، فقد عاش نيتشه بعد وفاة أبيه في بيئة نسائية خالصة، ولا بُدَّ أن هذه البيئة لم تكن تروق له، إذا حكمنا على الأمر في ضوء حملة نيتشه العنيفة على المرأة فيما بعدُ.

وفي عام ١٨٥٨ التحق نيتشه بمدرسة بفورتا Pforta، ثم غادرها إلى جامعة بون Bonn بعد ست سنوات، وعندما انتقل أستاذه في اللغويات ريتشل Ritschl إلى ليبتسج، تبعه نيتشه إليها. وخلال تلك الفترة بدأ اتجاهه يتبلور في دراسة اللغويات والآداب الكلاسيكية، وأخذ ينصرف عن اللاهوت، بعد أن كان في الأصل ينتوي التخصص فيه. وظل نيتشه في الجامعة أربع سنوات، تخللتها فترة خدمة عسكرية انتهت بحادثة. ومن العجيب أن يُختار نيتشه في نفس العام الذي أنهى فيه دراسته الجامعية أستاذًا لفقه اللغة في جامعة بازل، بعد توصية من أستاذه ريتشل، الذي وصفه لدى المسئولين هناك بأنه عبقري. وهكذا بدأت مرحلة شاذة في حياة نيتشه، هي مرحلة الأستاذية الجامعية.
وفي هذه الفترة اهتدى نيتشه إلى مصدرين أساسيين من المصادر التي استقى منها تفكيره، ودارت فلسفته حولها، إمَّا بالعرض أو بالنقد؛ وأعني بهما شوبنهور Schopenhauer، وفاجنر Wagner. أمَّا شوبنهور فسوف يتسع المجال لبحث مدى تأثيره في نيتشه خلال بحث الآراء الفلسفية لهذا الأخير، وأمَّا فاجنر، فسوف نُفرد له جزءًا خاصًّا من هذا العرض لحياة نيتشه.

وحين نشبت الحرب السبعينية بين ألمانيا وفرنسا، ساهم نيتشه فيها أوَّلًا، فلم يُفِد منها سوى سلسلة من الأمراض التي انتقلت إليه بالعدوى من الجنود المصابين، وظل يقاسي منها طوال حياته. وكان نيتشه في أول الأمر متحمِّسًا لبني وطنه، ولكن حين أدرك أن الألمان هم الذين بدءوا العدوان حمل على هذه الحرب ونتائجها، وعلى نمو روح التعصب القومي للألمان، واحتقارهم للفرنسيين، الذين كان نيتشه دائم الإعجاب بهم.

ولم يكن نيتشه متحمِّسًا حين عاد لمتابعة إلقاء محاضراته في الجامعة؛ ذلك لأن محاضراته لم تلقَ النجاح الكافي، بل إن أبحاثه الفيلولوجية المختلفة في تلك الفترة لم تصادف اهتمامًا كبيرًا، وكذلك الحال في أول كتاب له، وهو «ميلاد المأساة من روح الموسيقى». وبدأت وطأة الأمراض تشتد عليه؛ مما جعله يتوقف في فترات متقطعة عن العمل بالجامعة.

ويبدو أن نيتشه كان في هذه الفترة يُوفِّي دَينًا لأساتذته؛ ففيها كتب عن شوبنهور، وعن فاجنر، وعن بعض معاصريه، في تلك المجموعة التي أطلق عليها اسم «خواطر في غير أوانها»، فضلًا عن الكتاب السابق الذي ألَّفه متأثِّرا بفاجنر.

على أنه حين بدأ ينقطع عن الجامعة، ويطوف أرجاء إيطاليا وسويسرا، كان قد تجاوز مرحلة التأثر المباشر بشوبنهور وفاجنر، وبدأت فترة من التأليف العقلي النقدي، ظهر فيها تحرُّره بوضوح، وبدأ فيها يوجِّه نقده إلى كل مقومات العصر، فظهر له كتاب «أمور إنسانية، إنسانية إلى أقصى حد» في جزأين، بدأ الأوَّل في سنة ١٨٧٦، وانتهى من الثاني في سنة ١٨٧٩. وفي العام التالي، وفي جو فينيسيا المتحرر، كتب نيتشه «الفجر»، ثم بدأت فترة من التأليف الخصب، ظهر له فيها «العلم المرح» (١٨٨٢)، و«هكذا تكلم زرادشت» (١٨٨٣–١٨٨٥)، و«بمعزل عن الخير والشر» (١٨٨٥)، و«أصل نشأة الأخلاق» (١٨٨٧). وفي خلال كل ذلك، كان يُعِدُّ مواد كتابه الأكبر الذي كان ينوي فيه تدوين خلاصة فلسفته بطريقة منهجية منظمة، والذي لم تتح له فرصة إتمامه وتنسيقه، فنُشِر كما تركه ضمن مؤلفاته المختلفة؛ وأعني به كتاب «إرادة القوة» (١٨٨٤–١٨٨٨). وحتى العام الأخير من حياته الواعية، ظل نيتشه يؤلف بغزارة، فأخرج رسالتين عن فاجنر، هما قضية فاجنر، ونيتشه ضد فاجنر. وانتهى عهده بالتأليف بكتاب «هُوَ ذا الرجل! Ecce homo» الذي عرج فيه على شخصيته هو، فتناولها هي وكتاباته بالتحليل، وكأنه لم يشأ أن ينتهي من التأليف دون أن يَعرض على الناس رأيه في نفسه.
وعندما وصل تفكيره إلى هذه القمة، وبلغ في نقده أقصى الحدود التي يمكن ذهنه أن يبلغها، لم يقوَ عقله على المضيِّ في طريقه، فإذا بأعراض الجنون الحقيقية تظهر عليه؛ ففي ديسمبر سنة ١٨٨٨١ وصلت منه إلى أصدقائه خطابات بإمضاء «نيتشه – قيصر»، وتلقت كوزيما — زوجة فاجنر — خطابًا منه يقول فيه: «أريان، إنني أحبك. ديونيزوس» (وهو اعتراف سنفسره فيما بعدُ)، وبينما كان يسير في شوارع تورين، شاهد فرسًا يضربه صاحبه ضربًا أليمًا، فألقى بنفسه عليه ليحميه، ثم سقط على الأرض صريع الجنون. وقضى نيتشه ما يقرب من اثني عشر عامًا في فيمار Weimar بعيدًا كل البعد عن عالم العقلاء، إلى أن مات في ٢٥ أغسطس سنة ١٩٠٠.

ومن الظواهر المؤسفة أن جنون نيتشه الأخير قد استُغل أسوأ استغلال، فذهب بعض الكتاب إلى أن مؤلفاته كلها تتسم بطابع الجنون، وأن اللوثة العقلية تظهر فيها كلها — بدرجات مختلفة — منذ البداية. وليس هناك أدنى شك في أن حياة نيتشه لو لم تكن قد انتهت على هذا النحو؛ أعني لو كانت قد انتهت مثلًا بحادثة وقعت له في عام ١٨٨٨، لَمَا خطر هذا الاتهام على بال أحد؛ ذلك لأن البحث الموضوعي الدقيق لكتابات نيتشه لا يؤدي إلى أي تأييد لهذا الادعاء الباطل. وكل ما في الأمر هو أن خصائصه النفسية، التي كانت تنعكس بوضوح على كتاباته، كانت ذات طابع فريد؛ ومَنْ من كبار الكُتَّاب أو الفنانين لم يكن له طابع نفسي فريد؟ إنَّ العزلة القاتلة التي عاش فيها نيتشه قد صبغت أسلوبه بصبغة خاصة، وشعوره بالوحدة قد أضفى على كتاباته نوعًا من الترفُّع والتعالي؛ غير أن هذا كله ليس جنونًا على الإطلاق، وما هو إلا تعبير عن النمط النفسي الخاص الذي ينتمي إليه نيتشه، وهو نمط مألوف بين العقلاء، بل بين الكثيرين من أعمق العقلاء تفكيرًا.

والحقُّ أن المرض بوجه عام كان يؤثِّر دائمًا في نيتشه تأثيرًا عكسيًّا؛ أعني أنه كلما اشتدت عليه وطأة المرض، كان يدعو إلى إنسانية سليمة صحيحة، وكانت نغمة الصحة والقوة تزداد وضوحًا في كتاباته. قد يكون هذا تعويضًا، ولكنه لا يؤثِّر مطلقًا في قوة الدعوة وروعة الهدف ذاته.

بل لقد كان نيتشه يحاول أن يُدخل أمراضه، حتى أكثرها ارتباطًا بالناحية العضوية، في عداد الظواهر الواعية، ويُدرِجها ضمن عناصر حياته الشعورية، فلا يرى المرض «سببًا» لاتجاهات معيَّنة يتبعها في كتاباته، بل «نتيجة» لهذه الاتجاهات.٢ ومع اعترافنا بمبالغته في هذا الحكم المطلق، فإننا نستطيع أن نجد له مع ذلك مبرِّرًا فيما قلناه من قبلُ، من أن حياة نيتشه كلها كانت تدور حول فكره، وأن مشاكله الفكرية هي عناصر هذه الحياة، وهي أشخاصها، وهي التي كان في وسعها أن تعلو أو تهبط بها؛ فمثل هذا الشخص الذي كانت مشاكله قادرة على أن تُثير فيه مختلف الانفعالات التي تثيرها فينا المواقف الحية، لا يستبعد أن تؤدي به هذه المشاكل ذاتها — في بعض الأحيان — إلى المرض أو الصحة، وفي هذه الحالة يكون المرض نتيجةً لفكره الواعي، لا سببًا في توجيه ذلك الفكر في اتجاهٍ معيَّن. ولنضرب لذلك مثلًا: ففي الفترة التي دعاه فيها فاجنر إلى حضور أعياد بايرويت Bayreuth،٣ والتي كان نيتشه فيها قد بدأ يفكر بفن فاجنر، كان يشعر دائمًا بغثيان وصداع أليم، وكثيرًا ما كان يعتذر عن الحضور لمرضه. وليس من المستبعد أن تكون هذه الأعراض ذاتها — في مثل هذه القضية النفسية الحساسة الشفافة — «نتيجة» لتقزز عقلي بدأ يشعر به نحو أعمال فاجنر، لا سببًا له؛ بل إن في وسع المرء أن يمضي إلى ما هو أبعد من ذلك فيرى في جنونه الأخير تعبيرًا آخر عن هذه الظاهرة؛ ذلك لأن الحياة التي تتخذ كل عناصرها من مشاكل فكرية صرف، لا بُدَّ أن تعجز عن المضي في طريقها إذا وصلت هذه المشاكل إلى الحد الذي لا يمكنها أن تتجاوزه. والحق أن نيتشه في نهاية فترة تفكيره الواعي كان قد وصل في تفكيره إلى حد لا يستطيع أن يمضي بعده خطوة واحدة؛ فهو قد حلل نفسه وحياته تحليلًا عميقًا، ولخصها كلها في كتبه الأخيرة. وهو قد وصل في تفكيره إلى النقطة التي لا يكاد المرء يتصور بعدها مزيدًا بالنسبة إليه؛ فهو يقف الآن ضد المسيح، وهو يمثِّل الدعوة الإيجابية إلى الحياة في مقابل الدعوة السلبية إلى التخلي عن الحياة. وحين تصل المشاكل الفكرية — أعني عناصر حياته — إلى نقطة التوتر هذه، يكون الانفجار أمرًا محتومًا. وهكذا كان الجنون.

وعلى هذا النحو يبدو الجنون «نتيجة» منطقية لتطورٍ لا بُدَّ منه.

ولسنا ندَّعي أن هذا التفسير هو وحده الصحيح، أو أنه يعلل كل الوقائع، ولكنه لا يبدو مستحيلًا إذا فُهمت حياة نيتشه على النحو الصحيح؛ حياة لا قوام فيها إلا للمشاكل الفكرية، ولا يستطيع أن يرتفع بها شيء أو يهبط بها شيء ما عدا الأفكار.

وفي ضوء هذه الفكرة ذاتها سوف ندرس بشيء من التفصيل ما نعتقد أنه الواقعة الأساسية في حياة نيتشه — وهي بطبيعة الحال واقعة فكرية بدورها — وأعني بها علاقته بفاجنر؛ ففي هذه العلاقة سوف نجد تأييدًا آخر لما نذهب إليه من تركُّز حياة نيتشه حول مشاكله العقلية وحدها؛ إذ إن تقلبات هذه العلاقة، وما نجم عنها من سعادة أو شقاء أحس بهما نيتشه خلال حياته، إنما كانت تخضع لنظرة «عقلية» خاصة عند نيتشه، بحيث لا تبدو تلك الواقعة الرئيسية في حياته إلا على صورة مشكلة فكرية فحسب.

١  أُصيب نيتشه في عام ١٨٨٩ بنوبة حادة من الشلل الجنوني العام general paralysis of the insane ومن أعراض هذا المرض هذيان العظَمة.
٢  «هو ذا الرجل»: القسم الأوَّل والثاني من الفصل الأوَّل «لِمَ كنت حكيمًا إلى هذا الحد؟» (انظر قائمة مؤلفات نيتشه في بداية القسم الخاص بالنصوص المختارة).
٣  مدينة في ولاية بافاريا حيث شيَّدَ لودفج الثاني ملك بافاريا مسرحًا خاصًّا لأداء مسرحيات ريشارد فاجنر الغنائية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤