الفصل الأول

نيتشه الفيلسوف

هل كان نيتشه فيلسوفًا بالمعنى المألوف لهذه الكلمة؟ إن الفلاسفة عادةً يأتون بمذاهب شاملة، تقدم حلولًا متحدة الهدف لمختلف المشاكل التي تواجه العقل البشري. فإذا كنا نعني بالفيلسوف أنه صاحب مذهب، فعندئذٍ سوف نلقى معارضةً شديدةً من جانب نيتشه، ومن معظم من كتبوا عنه، في أن يُعد فيلسوفًا بهذا المعنى؛ ذلك لأن المذهب في هذه الحالة إنما هو تعبير عن نظرة جامدة متحجرة إلى العالم، وفهم ثابت لا يريد أن يتحرك عن الموضع الذي وقف فيه؛ لأن في الحركة عناءً للذهن، وفيها مسئولية وخطورة لا تقوى عليها تلك العقول التي تنشد الراحة والهدوء. وهكذا وجَّه نيتشه حملته إلى أصحاب المذاهب، وكان أخشى ما يخشاه أن يُعَدَّ واحدًا منهم، وسايره في ذلك من كتبوا عنه، فتفنن كلٌّ منهم في كشف مواقف متناقضة له، وأكَّدوا أنهم إنما يُعْلون بذلك من قدره، ويُنزهونه عن كل تحجُّر وجمود.

ومن الرائع حقًّا أن يدعو مفكرٌ إلى الابتعاد عن الجمود الفكري، وأن يترك المجال متسعًا دائمًا لمزيد من التطور والتجديد الذي يساير الحياة في نموها الدائم. ولكن ما صفة هذه الحياة النامية عند نيتشه؟ لقد بيَّنَّا أنها كانت فكرية صرف، خلت من التجارب الواقعية المثيرة، وإنما المثير فيها أفكار فحسب. وعلى ذلك. فإذا قلنا إن فلسفة نيتشه تخضع لحياته، فمعنى هذا القول في حقيقة الأمر تحصيل حاصل؛ إذ لن تخضع هذه الفلسفة في نهاية الأمر إلا لمنطقها الداخلي فحسب، ما دام عالم الأفكار لديه متماسكًا، لا ينفذ إليه من الخارج ما يؤثر فيه.

ولنتساءل بعد ذلك عن المعنى الحقيقي لهذه «الفلسفة النامية مع الحياة»، أيعني هذا النمو والحركة تناقضها بالضرورة؟ إنَّ الباحثين عادةً يجدون في هذا الخضوع للحياة مُبرِّرًا لتناقض أفكار الفيلسوف. ولكن مهما تقلبت هذه الأفكار وتنوعت، ألن تظل دائمًا «خاضعة للحياة»؟ ألن تكون هذه صفة مشتركة لكل هذه الأفكار، وهلا تكون هذه هي البادرة الأولى التي يمكننا منها أن نصل إلى خيط واحد ينتظم تفكير الفيلسوف في كل تطوراته؟

الحق إننا لا نستطيع أن نستسيغ تلك الصورة التي يُصوِّر بها نيتشه، والتي يتمثل فيها مفكِّرًا لا يخضع لمنطقٍ أو نظام، ويظل تفكيره يلهو بين المتناقضات دون مبالاة، ثم يُقال لنا بعد ذلك إن نيتشه في هذه الصورة يسمو على الفلاسفة «التجريديين»! فنحن لا نكاد نتصور أن يتصف مفكر عميق — ولا جدال في أن نيتشه كان عميقًا — بمثل هذه الصفات التي يأبى أي إنسان عاقل أن تُنسَب إليه. وإن أبسط فهمٍ للنفس البشرية لَيؤدي بنا إلى القول بضرورة وجود وحدة للشخصية الإنسانية، مهما تباينت الأحوال التي تمر بها. وليس معنى ذلك أن لهذه الشخصية طابعًا جامدًا؛ فالتطور والنمو حقيقة لا شك فيها، ولكنه لا يمكن أن يتم في فراغ مطلق، وأن يشكِّل الشخصية تشكيلًا كاملًا بحيث تتباين طبيعتها تمامًا تبعًا لتقلبات هذا التطور. وإن تحليل التشبيه الذي يقدمه أولئك المفكرون؛ أعني تشبيه النمو العضوي، ليُثبت ما نريد نحن أن نبرهن عليه؛ ذلك لأن النمو العضوي ليس إضافةً من الخارج. وليس زيادةً تطرأ على أصلٍ معيَّن دون أن تؤثِّر فيه أو تتأثر به، بل إن النمو العضوي هو قبل كلِّ شيء نموٌّ من الداخل، وكل زيادة فيه إنما تتم عن طريق «الأصل» الباطن، الذي يؤثِّر في كل ما يُضاف إليه. وإن مجرد وجود نمو، أو تطور، ليستلزم وجود نوع من الثبات، وإلا لكان كثرةً وتغايرًا، لا نموًّا وتطوُّرًا. وما كان من طبيعة العقل البشري أن يتخذ مواقف متضادة على النحو الذي ينسبونه إلى نيتشه؛ إذ إن الوحدة هي أبرز صفات الشخصية الإنسانية، والاتساق في المسلك هو أول ما يميزها عن الحيوان، فلا بُدَّ إذن من نوعٍ من الثبات حتى يسمو الإنسان على المرتبة الحيوانية، ولكن هذا الثبات لا ينبغي أن يصل إلى حد التحجر، وإلا وقع فيما هو شر من الحيوانية؛ أعني في الجمادية!

وعلى ذلك. فإذا كان المقصود بكلمة «المذهب» هو الجمود المطلق، والتوقف التام عن النمو والحياة، فلا شك أن نيتشه لم يكن من أصحاب المذاهب، ولا جدال عندي في أن هذا هو المعنى الذي كان في ذهن نيتشه حين نقد المذهبية وأصحابها من الفلاسفة، ولكن إذا فهمت كلمة المذهب بمعناها الواسع، من حيث إنها هي اللون الغالب على الشخصية، وهي مظهر وحدتها واتساقها مع ذاتها، فلا شك في أن نيتشه — في الفترة العاقلة من حياته على الأقل — كان ذا مذهب، شأنه شأن أي عاقل آخر! ومهما قرأت له من عبارات تدعوك إلى نبذ النظرة الموحدة إلى العالم، وإلى تغيير المنظور الذي تتأمل من خلاله كل مشكلة، فلتعلم أن هذه الدعوة إلى التجديد وتغيير المنظور هي ذاتها مذهبه، وهي الوحدة الجامعة بين أطراف شخصيته.

ولكن، أيصلُح مذهب من المذاهب المعروفة في تاريخ الفلسفة للتعبير عن هذا العنصر المشترك بين مختلف اتجاهات نيتشه في تفكيره؟ علينا إذا شئنا أن نجيب عن هذا السؤال، أن نقارن بين تفكير نيتشه وبين مختلف المذاهب التي قد تقترب منه، لنرى مدى صلاحية كلٍّ منها للتعبير عن أطراف هذا التفكير.

الواقعية

الواقعية، بوجه عام، مذهب يرى أن الوجود مستقل عن المعرفة الحالية التي تعرفه بها الذوات المدرِكة؛ فهو لا يستمد من هذا الإدراك، ولا يعبِّر عنه تعبيرًا شاملًا بالفكر؛ لأن فيه شيئًا يتجاوز الفكر. فإذا استخلصت من هذا الرأي الذي ينطبق أصلًا على مجال المعرفة، نتائجه الأخلاقية، فلا شك أن الأخلاق الواقعية ستكون متعلقة بهذه الأرض، وسوف تتخلى عن كل تطرف مثالي يربط الأخلاق بعالم آخر، بالمعنى اللاهوتي أو المثالي لهذه الكلمة. وتلك هي أبرز صفات الأخلاق عند نيتشه. ولكن إذا كانت الواقعية تقترب من تفكير نيتشه في ميدان الأخلاق، فقد كانت بعيدة عنه كل البعد في ميدان المعرفة. فهو ينقد الواقعيين لاعتقادهم بأن العالم كما يظهر لنا هو العالم الحقيقي، وأن العالم في ذاته لا يختلف عما نراه.١ وفي نظرية المعرفة عنده — كما سنرى فيما بعدُ — عناصر مثالية لا تُنكَر؛ وذلك حين يؤكد أن العالم كما نتصوره هو العالم كما يصلح لوجودنا فحسب، لا كما هو في ذاته. ولا شك أن هذا الرأي في المعرفة يباعد بينه وبين الواقعيين، ويجعل فلسفته تختلف عن مذهبهم اختلافًا أساسيًّا.

الوضعية

يرتبط لفظ الوضعية في نشأته باسم أوجست كونت، ولكنه استُخدِم بعد ذلك ليعبِّر عن آراء طائفة خاصة من المفكرين، تأثروا بالتقدم الكبير الذي أحرزه المنطق والرياضة في نصف القرن الماضي، فحاولوا أن يوحِّدوا بين أسس المنطق والرياضة، ويجعلوا منها دعامة لتحليل فلسفي يقضي على المشاكل الميتافيزيقية من جذورها؛ فالوضعية الحالية؛ أعني الوضعية المنطقية، تشترك مع وضعية أوجست كونت في أنها تستلهم العلم في كل مراحلها، وتتأثر في نقطة بدايتها بالتقدم الذي تحرزه علوم معيَّنة، فتحاول اصطناع مناهجها وتعميمها على التفكير الفلسفي ذاته.

ولقد تأثر نيتشه ذاته بالتقدم العلمي تأثُّرًا كبيرًا، بل إن إحدى فترات تفكيره الفلسفي يُطلَق عليها عادةً اسم «الفترة الوضعية».٢ والذي نلاحظه أن إعجابه بالمنهج العلمي التجريبي لم يكن يقتصر على المرحلة الوسطى من مراحل تفكيره، بدليل أنه حاول في الفترة الأخيرة أن يضع لفكرة العَوْد الأبدي — وهي في أصلها فكرة ذات طابع صوفي — أساسًا علميًّا، وكان ينوي أن يكرِّس عشر سنوات من حياته لدراسة العلم الطبيعي والرياضي، حتى يمكنه أن يبرر الفكرة علميًّا، ولكن صحته لم تساعده على ذلك. وهو على أية حال لا يكفُّ عن إبداء إعجابه بالمنهج العلمي التجريبي، فيقول: «إنني لأعجب بذلك الشك الذي يجعلني أجيب عنه بقولي؛ فلنجرب ذلك! ولست أريد أن أسمع شيئًا عن كل الأمور والمشاكل التي لا تسمح بإجراء التجربة عليها، تلك هي حدود معنى الحقيقة في نظري، وهنا تفقد الشجاعة كل مبرر لها.»٣ وهكذا يعترف نيتشه بمبدأ التحقيق التجريبي Vérification الذي أصبح فيما بعدُ أساسًا للوضعية، ولا يرى للشجاعة التي تحاول تعدِّي نطاق التجربة أي مبرر.

وسوف تُتاح لنا في خلال هذا الكتاب فرص مختلفة لإبداء أوجه الشبه بين آراء نيتشه وبين الآراء الوضعية الحديثة في مشاكل عديدة، وخاصةً في أصل القيم والنسبية الأخلاقية، ولكن الوضعية السائدة في عصر نيتشه لم تكن لترضيه على الإطلاق؛ فمبدأ «الغيرية» الذي وضعه «كونت» قد تعرَّض لنقد شديد من جانب نيتشه. ويمكن أن يُقال إن تلك الوضعية كانت تحاول أن تعطي صورة علمية للمبادئ الأخلاقية العامة الشائعة، التي كرَّس نيتشه حياته للحملة عليها. وفضلًا عن ذلك، فإن تفكير نيتشه لا يمكن أن تستوعبه كلمة الوضعية؛ إذ إن النزعة الصوفية الواضحة فيه تتجاوز نطاق الوضعية تمامًا. وإن الجانب الشعري والفني، الذي سيطر على أروع كتب نيتشه؛ أعني كتاب زرادشت، ليبعُد تمامًا عن كل ما هو وضعي؛ فأقصى ما يمكننا أن نقوله هو أن نيتشه قد اعترف للوضعية بالفضل، ولكن في مجالها الخاص الذي تعدَّاه هو في أهم أفكاره ومؤلفاته.

البرجماتية

رأى بعض الباحثين في فلسفة نيتشه استباقًا للبرجماتية؛ إذ هما يشتركان في الحملة على العقل الخالص وردِّه إلى المقتضيات الحيوية للإنسان، ويعبِّر «مارسيل بول» M. Boll عن هذا التقارب فيقول: «في نهاية القرن الماضي، نادى فلاسفة معيَّنون من القارَّتين بأن العقل خاضع لحاجاتنا النفعية، وبأن عليه أن يُخلي مكانه لمشاعرنا الباطنة، ولمُثلنا الأخلاقية، أو لعقائدنا الدينية، ولقد كانت ألمانيا — وهي لم تزل عندئذٍ واقعة تحت تأثير شلنج وشوبنهور — هي البادئة بهذه الحركة، وذلك بظهور فلسفة نيتشه، ثم ظهر بعده مذهب البرجماتية في أمريكا عند بيرس أوَّلًا، وعند وليم جيمس من بعده.»٤ والواقع أن الوجه السلبي للبرجماتية؛ وأعني به نقد الأسس الميتافيزيقية القديمة، يكاد في كثير من الأحيان يكون ترديدًا مباشرًا لآراء سبق ظهورها عند نيتشه؛ فالاتجاه نحو العينية، ونقد فكرة الجوهر القديمة، وإخضاع القيم للوجود، كل هذا يمثل عاملًا مشتركًا بين الطرفين. بل إن التشابه ليمتد أيضًا إلى الوجه الإيجابي في تفكير البرجماتية؛ فنظرية الحقيقة عند نيتشه تحمل شبهًا واضحًا للنظرية البرجماتية. وقد لخص «جان فال» هذه النظرية بقوله: «إن المرء يحكم على الشيء بأنه حقيقي، ويكون في مسلكه سائرًا في الاتجاه الصحيح، حينما يقول أو يفعل — بإزاء موقف خارجي ما — شيئًا لا يتعارض مع ذلك الموقف، ويكون بينه وبين الموقف صلة معيَّنة. فغياب البطلان والزيف، ووجود علاقة معيَّنة مع الشيء، قوام الحقيقة.»٥ فالحقائق من خلق الإنسان، ومقياس صحة الأفكار هو نفعها أو صلاحيتها للعمل، ومن هنا تغيرت الحقائق بتغير المواقف وما يصلح لكلٍّ منها، واختفت الحقيقة الثابتة. فإذا أدركنا مدى تحمس نيتشه في الدفاع عن الحقيقة النسبية، وتأكيده أن الحقيقة هي ما ينفع الحياة، بل هي خطأ وبطلان ثبت نفعه، وبأن الحياة هي أساس الحقيقة ومصدرها الوحيد، فعندئذٍ يتبين لنا مدى التشابه بين آراء نيتشه وبين المذهب الذي عُرف من بعده باسم البرجماتية.

ومع ذلك، فقد تطرَّف كثير من فلاسفة البرجماتية في النزعة اللاعقلية، إلى حد مهاجمة العلم واتخاذ منهج غير علمي تمامًا. وفي هذا ما يُباعد بينهم وبين نيتشه، الذي ظل على احترامه للعلم — بالصورة التي كانت سائدة في عصره — إلى النهاية. بل لقد كان نقده للنزعة العقلية التجريدية راجعًا، في رأيه، إلى تمسُّكه بالروح العلمية الصحيحة، التي تأبى أن تجعل من المجردات الخالصة أساسًا لفهم الواقع الحي المتغير، ولنُضِف إلى ذلك ما لاحظناه عن بعض المذاهب الأخرى، فالبرجماتية بدورها لا تستنفد كل الميادين التي تناولها تفكير نيتشه، الذي كان أوسع من أن ينحصر في الحدود التي اقتصر عليها هذا المذهب.

الوجودية

يحرص كثير من الفلاسفة الوجوديين على أن ينسبوا تفكير نيتشه إلى مذهبهم، ويَعُدُّوه واحدًا منهم. ولا شك في أن المرونة الكبيرة التي كانت يتصف بها أسلوب نيتشه، تُعِين هؤلاء في دعواهم إلى حد بعيد؛ إذ تَقبل كتابات نيتشه تفسيرات عدة، وتستطيع كثير من المذاهب — كما رأينا من قبلُ — أن تجتذبه إلى فلكها الخاص. وربما كانت الوجودية أكثر من غيرها نجاحًا في هذا الصدد. ومن هنا، فسوف نتحدث عن العلاقة بين تفكير نيتشه وبين الوجودية بمزيد من الإسهاب لنتبين في آخر الأمر إلى أي مدى يمكن أن يُعَد نيتشه فيلسوفًا وجوديًّا.

لا شك في أن الارتباط بين حياة نيتشه وبين تفكيره، على النحو الذي عرضناه في الفصل الأوَّل، يُقرب بينه وبين كثير من الوجوديين. وإذا كنا قد لاحظنا أن هذا الارتباط إنما يتم عن طريق إثراء الفكر وبعث الحياة فيه، لا عن طريق امتلاء الحياة واستخلاص الفكر منها، فإننا سوف نجد له في ذلك بين الوجوديين نظيرًا؛ وأعني به كيركجورد Kierkegoard، الذي كانت تجاربه الحية هو الآخر هزيلة شحيحة، وكان ما في هذه التجارب من عنف راجعًا إلى أنها هي وحدها — على قلتها — مدار حياته، وإلى أنه قد وجه إليها وركز عليها من باطن ذاته شحنات عاطفية وانفعالية جعلتها تبدو مليئة بحق.
وفي فهم نيتشه للإنسان ما يُقربه من الوجودية كثيرًا؛ فمن أهم صفات التفكير الوجودي، تأكيده تجدد الوجود الإنساني؛ فليس للإنسان ماهية ثابتة، بل إن وجوده سابق على ماهيته، أو هو الذي يكوِّن ماهيته؛ فمن خلال وجود الإنسان تتحقق ماهيته. وليست له أية ماهية ثابتة تتحدد مُقدَّمًا. ويكاد نيتشه يعبِّر عن هذه الفكرة ذاتها حين يصرح بأن الإنسان في محاولة دائمة لا تعرف الاستقرار؛ فهو لا يرضى بشيء، ولا يقف عند حد. والإنسان، على حد تعبيره، هو الحيوان الذي لم يثبت بعدُ، وهو الحيوان الذي لم يصنَّف أو يحدَّد نوعه؛ «ففي الإنسان شيء أساسي ناقص.» وبرغم ذلك، فإن هذا النقص هو ما يُعلي من قدر الإنسان؛ فعدم تحدُّد ماهيته هو الذي مكَّنه من أن يجدد وجوده على الدوام. ومن هنا عُرِّف الإنسان في كتاب زرادشت بأنه «خالق ذاته Selbstschaffender»؛ أي إن هذا النقص الأساسي هو مصدر حريته، وهو الذي يمكِّنه من تجديد ذاته وخلقها على الدوام. وفي وسعنا أن نفسر فكرة أساسية من أفكار نيتشه؛ أعني فكرة إرادة القوة، على نحوٍ يجعل منها مظهرًا من مظاهر هذا المبدأ العام الذي تميزت الوجودية بالتنبيه إليه؛ أعني أن الإنسان كائن يتجاوز ماهيته على الدوام، ولا يقف بها عند حد.

وللإنسان في كل فلسفة وجودية موقف أساسي، يعبِّر عما تتميز به أهم اللحظات التي تتبدى فيها إنسانيته. في هذا الموقف يتخلى الإنسان عن كل ثبات، ويقف في مفترق الطرق، بين الثبات الذي تركه وتجاوزه، وبين الطرق المتشعبة التي ترتسم لحريته. هذا الموقف الأساسي هو عند كيركجورد، القلق، الذي يراه خير تعبير عن عدم تحدد ماهية الإنسان؛ لأنه الحالة التي تتفتح فيها أمانة آفاق عديدة قبل أن يستقر على واحد منها. وقد حاول بعض الوجوديين أن يجدوا عند نيتشه موقفًا مشابهًا، فأشاروا إلى فكرة «الخطر» عنده، والخطر هو «السير في الطريق»؛ فالإنسان الحقيقي هو الذي يسير في الطريق؛ أي هو الذي يحاول دائمًا أن يترك حالته السابقة ليتوجه إلى حالة تعلو عليها؛ أمَّا الذي يقف حيث هو، ولا يسير في الطريق، ولا يمارس الشعور بالخطر، فلم تتحقق إنسانيته بعدُ، وهو الذي يسميه نيتشه «بالإنسان الأخير»، وهنا يكون أوان الكلام عن فكرة أخرى من أفكار نيتشه، يمكن أن تخضع بدورها لهذا التفسير الوجودي؛ أعني فكرة «الإنسان الأرقى» التي يمكن أن تفسر على أنها تعبير عن تلك الدعوة إلى تجاوز الماهية الثابتة، وحشد القوى الخالقة للإنسان حتى يعلو بها على ذاته دوامًا.

ومن قبيل ذلك التقريب أيضًا، تفسير خاص لفكرة العَوْد الأبدي،٦ على نحو يجعل منها تعبيرًا عن رغبة النفس في السيطرة على الزمان؛ فحين يعود كل ما مضى عددًا لا متناهيًا من المرات، يستوي عند النفس الماضي والمستقبل، ويصبح كل ماضٍ قمت به، مستقبلًا سأقوم به فيما بعدُ. وهكذا تتحرر النفس من قيد الماضي بإحالته إلى مستقبل، وتسيطر الإرادة الخالقة على الزمان في كل مظاهره، لا في مستقبله فحسب. وفي هذا الفهم لفكرة العَوْد الأبدي يبدو نيتشه وجوديًّا أكثر من الوجوديين، الذين اقتصروا على تأكيد سيطرة النفس على المستقبل وتحكُّمها فيه.
وأخيرًا، فأمامنا فكرة أساسية أخرى يمكن أن نتوسل بها في التقريب بين نيتشه وبين الوجوديين؛ تلك هي فكرة «موت الإله» عند نيتشه؛ ﻓهيدجر Heidegger يفسر هذه الفكرة، في وجهها السلبي، بأنها لا تنصبُّ على الإله المسيحي، ولا على آلهة الأديان بوجه عام، بل إن المقصود بها هو «عالم ما فوق المحسوس»، وعالم الميتافيزيقا والمُثُل بوجه عام.٧ فهو في عبارته المشهورة «إن الله قد مات» لا يعبِّر عن موقفه الشخصي في الإلحاد فحسب، بل يعبِّر عن اعتقاده بأن العالم الآخر، بكل صوره الفلسفية، قد فقد دعامته وانهار من أساسه؛ فتلك الفكرة إذن مرتبطة بموقفه من الفلسفات التقليدية الارتباط، وهي تمهد تمهيدًا مباشرًا لرفض الميتافيزيقا القديمة، بحيث لا يتبقى أمام الفكر إلا البحث في القيم، وتنتقل الفلسفة إلى البحث في الذات، وفيما له قيمة بالنسبة إليها، وتلك ولا شك هي ذاتها نقطة بداية كل فلسفة وجودية.
بل لقد فُهمت هذه الفكرة على نحو يُقرب بين نيتشه وبين الوجودية تقريبًا «إيجابيًّا»، لا سلبيًّا فحسب، فقيل إنها تعبِّر — رغم ما يبدو في ظاهرها من نفيٍ لكلِّ حقيقةٍ عليا — عن سعي نيتشه إلى «التعالي» Transcendance، وبينما تبحث الأديان عن التعالي فيما يتجاوز الإنسان، ويبحث عنه كيركجورد في شخصية «المصلوب»، فإن نيتشه يريد أن يحقق هذا التعالي ذاته، ولكن عن طريق الإنسان، فلم يكن نيتشه بهدف من فكرة «موت الإله» إلا إلى إفساح الطريق أمام الإنسان، حتى يمكنه أن يحقق كل ما تتسع له جهوده. أمَّا التجاء كيركجورد إلى الدين، فهو أمر يستطيع نيتشه تفسيره؛ فمن الناس من يلجأ إلى الدين لأنه سئم غيره من الناس، ورأى حياته عاجزة، فسعى إلى ما هو أعلى منه. وهو في هذا يقول: «إن العنصر الديني من أخطاء الطبائع العليا التي تعذِّبها صورة الإنسان المنفِّرة.» ونيتشه، وإن كان ينفر بدوره من الصورة الحالية للإنسان، فإنه لا يريد أن يكون ذلك النفور من أجل أية حقيقة عليا، بل يريد أن يتجاوز الإنسان ذاته بذاته فحسب. فهو ينظر إلى فكرة الله على أنها تمثِّل الحد النهائي الذي لا تستطيع قدرة الإنسان الخالقة أن تتعداه؛ فهي إذن عقبة ينبغي إزالتها، وذلك هو معنى كلمته المشهورة «لو كان هناك إله، فكيف كنت أطيق ألا أكون إلهًا.» ففي رأيه أن بين الله والإنسان في الخلق تعارضًا، ولا بُدَّ لكي يتسع الطريق أمام قوة الإنسان الخالقة من أن تزاح كل العقبات من طريقه.

في كل هذا رأينا تفكير نيتشه يقترب — إذا فُهم على نحو معيَّن — من بعض المبادئ العامة للفلسفة الوجودية. على أن هذا التقارب إذا كان يرتبط بتفسير خاص لتفكير نيتشه الذي يقبل عديدًا من التفسيرات. فليس من شك في أنه لن يكون حاسمًا.

ولعلنا قد لاحظنا أن المبادئ التي يشترك فيها نيتشه مع الفلسفة الوجودية «عامة» إلى أقصى حد؛ فهي أوسع نطاقًا من أن تكون صفات مميزة للفلسفة الوجودية على التخصيص؛ ففكرة تجدد الوجود الإنساني وعدم ثبات ماهيته، وما يرتبط بها من دعوة إلى علاء الإنسان بنفسه وتجاوزه لذاته على الدوام، هذه الفكرة ليست على الإطلاق وفقًا على فلاسفة الوجودية، بل إنها حظ مشترك بين كل الفلسفات الدينامية التي تدعو إلى الحركة وتنبذ الثبات. ونستطيع أن نقول إن عدم ثبات الماهية الإنسانية هو المقدمة الأولى التي تفترضها مقدَّمًا كل فلسفة تعتقد بالتطور، وكل مذهب يؤمن بفاعلية التاريخ. حقًّا إن المسالك تتشعب بهذه الفلسفات والمذاهب فيما بعدُ تشعُّبًا كبيرًا، غير أنها كلها لا تستطيع أن تخطو خطوة واحدة إلى الأمام لو لم تكن تفترض مُقدَّمًا قابلية الماهية الإنسانية للتحول والتغير. فتلك إذن فكرة لا تختص بها الفلسفة الوجودية وحدها، بل إن الوجودية ليست إلا مظهرًا متأخرًا، متميزًا بطابع فردي خاص، لهذا الاتجاه العام نحو الحركية والتاريخية في الفلسفة.

ولقد كان لنيتشه من العلم موقف لا شك في أنه يميزه عن مختلف التيارات الوجودية تمييزًا أساسيًّا. فمن الواضح أنه كان يتحمس للعلم ويؤمن به إيمانًا عميقًا. حقًّا إن فهمه لمنهج العلم ورسالته كان متأثِّرًا بالحالة العلمية السائدة في عصره، بل بالحدود الضيقة التي أمكنه هو ذاته أن يستوعب فيها علوم عصره، ولكنه على أية حال كان يحمل في نفسه للعلم تقديرًا حقيقيًّا، وتلك صفة لا تجد لها في الفلسفة الوجودية نظيرًا؛ فالفيلسوف الوجودي قد يتخذ مظهر العطف على العلم، والتقدير له، ولكنه في واقع الأمر يعمل — عن وعي أو دون قصد — على زعزعة الثقة في العلم، وعلى إثبات قصوره عن استيعاب أهم مجالات الحياة البشرية؛ ذلك لأن الوجودي يؤكد دائمًا أن للعلم حدودًا لا يتعداها، وهذه حقيقة معترَف بها من الجميع؛ غير أن الفارق بين المؤمن بالعلم وغير المؤمن به، أن الأوَّل يعترف بهذه الحقيقة ويعبِّر في الوقت نفسه عن أمله في أن تضيق هذه الحدود رويدًا رويدًا. أمَّا الثاني فيعترف بها على أنها حقيقة ثابتة؛ إذ إن المجال الذي يحيا فيه هو ذاته هذه الحدود التي يقول إن العلم لا يتعداها. فموقف الوجودي إزاء العلم هو موقف الحارس الذي يدافع عن أرضه الخاصة ضد عدو يخشى أن يسلبه إياها. ومن هنا كنا نرى نقطة البداية الأولى للتفكير الوجودي عامةً هي تأكيد قصور العلم ووقوفه عاجزًا في ميادين معيَّنة، وفي هذه الميادين ذاتها تبدأ الفلسفة الوجودية نشاطها. ونيتشه في هذا يخالف الوجوديين تمامًا؛ فقد كان في فترة غير قصيرة من حياته يتحمس للعلم ويؤمن به إيمانًا مباشرًا، ولم يتخلَّ عن إيمانه هذا في بقية الفترات، ولم يحاول أن يجعل مصير تفكيره مرتبطًا بوجود حدود معيَّنة للعلم، بل لم يكن يجعل من إيضاح هذه الحدود هدفًا أصليًّا لتفكيره كما فعل كثير من الوجوديين، وعلى رأسهم كارل ياسبرز K. Jaspers.

وعلى ذلك، فانتساب نيتشه إلى الوجودية أمرٌ لا يمكن التسليم به من جميع الوجوه. وإذا كان المرء يجد لديه أفكارًا تذكِّره بأفكار وجودية معيَّنة، فإن التقارب بينهما لا يمكن أن يتم إلا من خلال تفسير خاص لآرائه، وقد يكون هذا التفسير متعسِّفًا في كثير من الأحيان.

•••

وهكذا تبيَّن لنا أن تفكير نيتشه وإن كان يقترب من بعض المذاهب الفلسفية المعروفة، فإنه أيضًا لا يخضع لواحد من هذه المذاهب خضوعًا تامًّا، ولن تستطيع أن تجد بينهما اسمًا شاملًا ينتظم كل نواحي تفكيره، بحيث تندرج تحته فلسفة نيتشه مع غيرها من الفلسفات.

ومع ذلك، فصعوبة الاهتداء إلى مذهب معيَّن ينتسب إليه تفكير نيتشه، لا يعني كما قلنا من قبل أن هذا التفكير يفتقر إلى كل وحدةٍ وتماسك؛ إذ إن وحدة الشخصية لا بُدَّ أن تَبعث في أعمالها — أيًّا كان تشعُّبها — نوعًا من الوحدة.

وإن نفس الروح التي سيطرت على بعض الباحثين، فأوهمتهم أنهم يمجدون نيتشه حين يصورون تفكيره بصورة التلقائية الوحشية التي لا تخضع للمنطق ولا تحرص على الاتساق، نفس هذه الروح هي ذاتها التي تحاول؛ إذ ما تبين لها استحالة اتصاف الشخصية الواحدة يمثل هذا التضارب الجنوني، أن تقسم تفكير نيتشه الفلسفي إلى فترات متميزة، لكلٍّ منها خصائصه التي تنفرد عن خصائص الفترات الأخرى، وكأنها بذلك تلجأ إلى آخر سهم في جعبتها؛ بحيث تقسم تفكيره إلى مراحل رئيسية منفصلة، بعد أن عجزت عن أن تؤكد الانفصال بين كل لحظات هذا التفكير. فلنختبر إذن هذا الزعم الأخير، ومن خلال نقدنا له سيتضح لنا العنصر المشترك في تفكير نيتشه، فإن لم يكن من الممكن إخضاع هذا العنصر لواحد من المذاهب السابقة، فسوف يظل في وسعنا مع ذلك أن نضمن لفلسفة نيتشه وحدتها، بل أن نضمن لشخصيته تماسكها واتساقها.

العنصر المشترك بين مراحل تفكيره

الشائع أن يقسم تفكير نيتشه إلى مراحل ثلاث:
  • (١)

    مرحلة فنية رومانتيكية، تمتد من ١٨٦٩ إلى ١٨٧٦، وهي المرحلة التي كان نيتشه فيها واقعًا تحت تأثير شوبنهور وفاجنر، وتنتهي بتخلصه منهما.

  • (٢)

    مرحلة وضعية نقدية، وتمتد من ١٨٧٦ إلى ١٨٨٢، وفيها تميَّز تفكير نيتشه بالتأثر بالمنهج العلمي، بعد أن تخلص من المؤثرات الرومانتيكية السابقة، وتلك هي المرحلة التي حرص فيها نيتشه على أن يوجِّه أعنف نقد إلى مقومات الحياة الإنسانية في العصر الحديث.

  • (٣)

    مرحلة صوفية خالصة، تبدأ من كتاب زرادشت في ١٨٨٣، وتستمر حتى ١٨٨٨، وفيها يتميز تفكير نيتشه بالاستقلال التام، ويسير في طريقه الخاص، ويتخذ أسلوبه شكل التدفق الصوفي، لا التحليل النقدي.

فلنحلل إذن العناصر الرئيسية لكل فترة من هذه الفترات، حتى نصل إلى العنصر المشترك بينها.

فالفترة الأولى تتميز، كما قلنا، بتأثره بشوبنهور وفاجنر. أمَّا التأثر بشوبنهور فلم يكن كاملًا، إذا شئنا الدقة؛ ذلك لأن فلسفة شوبنهور كانت تدور حول فكرة الألم؛ فالعالم هو في أساسه مصدر للألم، ووسيلة الخلاص إمَّا أخلاقية؛ أعني القداسة والزهد والانصراف عن ممارسة الإرادة بقدر الإمكان، وإمَّا فنية؛ أعني الإغراق في الإنتاج والتأمل الفني الذي يُنسي المرء ما في إرادته من قلق واضطراب. ولم يأخذ نيتشه من شوبنهور اتجاهه الأوَّل، فلم يعترف في تلك الفترة بالزهد الأخلاقي وإماتة الإرادة وسيلةً للخلاص من الألم، وإنما اعترف بالوسيلة الثانية؛ أعني بالفن الذي أراد عندئذٍ أن يفسر كل ما في العالم على أساسه. وإذن، فقد كان هناك شيء خفي يمنع نيتشه من الاقتداء بشوبنهور في دعوته إلى كبت إرادة الحياة، وماذا يكون هذا الشيء، إن لم يكن حب الحياة؟

وتزداد هذه الفكرة اتضاحًا إذا تأملنا العنصر الرئيسي الآخر من عناصر تفكير نيتشه في ذلك الحين، فقد أدَّى به إعجابه بفاجنر إلى أن يقوِّم الحياة القديمة والحديثة تقويمًا جديدًا، ويتأملها من خلال فكرة الأبولونية والديونيزية؛ فقد تنازعت العالَمَ فتراتٌ سادتها الروح الأبولونية؛ أعني روح النظام والوضوح والتحدد، وأخرى سادتها الروح الديونيزية؛ أعني روح الاندماج بالطبيعة والخضوع للغريزة التلقائية. وتنازعت كلٌّ من هذين الروحين حياة الإغريق القدماء، حتى أتى سقراط، فسجَّل انتصار الروح الأبولونية، وظل هذا الانتصار سائدًا إلى يومنا هذا. ولكن نيتشه يدعو إلى أن تعود الروح الديونيزية مرة أخرى إلى السيطرة، ويأمل في أن يكون فن فاجنر عاملًا أساسيًّا من عوامل هذه العودة الناهضة، وهذا التقسيم إلى ما هو أبولوني وديونيزي يناظر — إلى حد ما — التقسيم الحديث إلى المعقول واللامعقول.

وعلى ذلك، فعند نيتشه في هذه الفترة ميل واضح إلى النزعة اللاعقلية، واتجاه إلى الاندماج المباشر بالطبيعة التلقائية في صورتها الأولى، قبل أن يشوهها العقل الخالص ويبعث فيها الثبات والجمود، وهو اتجاه يتَّصف كما هو واضح بالإقبال على الحياة في تلقائيتها المباشرة، والحملة على كل ما من شأنه الوقوف في وجه هذه التلقائية.

فلنتأمل إذن موقفه في الفترات التالية، وهل تغيَّر هذا الاتجاه الأساسي نحو إثبات الحياة والاندماج المباشر في الطبيعة اللاعقلية أم ظل يتردد خلالها في صور مختلفة.

في المرحلة الوضعية الثانية، يبدأ نيتشه حملة قوية من النقد، فيحمل على الميتافيزيقا التقليدية، ويراها أقرب إلى الشعر والخيال، وينقد الأخلاق الشائعة، ويدعو إلى قلب كل القيم السائدة، ويحاول في بعض الأحيان — تأثُّرًا منه بالاتجاهات العلمية السائدة في عصره — أن يرد القيم الأخلاقية إلى أصول حيوية عضوية، بل أن يرى الحقيقة ذاتها قيمة متغيرة خاضعة للنفع الحيوي. ولا شك أن النزعة إلى تمجيد الحياة تبدو هنا بوضوح؛ فالحياة هي القوة الدافعة لكل نشاط خلَّاق في الإنسان، وهي الأصل الأوَّل الذي ترتد إليه كل معرفة وتقويم، وفضلًا عن ذلك، فالاتجاه إلى نقد العقل التجريدي الخالص، يتمثل في الحملة القوية على الميتافيزيقا القديمة، وفي الدعوة إلى مراجعة الأسس الأولى للفلسفة.

ومما ينبغي أن ننبه إليه الأذهان، أن الأسلوب العقلي الهادئ الذي تميزت به كتاباته في هذه الفترة، واتخاذه المنهج العلمي مثلًا أعلى خلالها، لم يمنعاه من أن يواصل اتجاهه الناقد للعقل، ومن أن يكون هنا أيضًا من أنصار اللامعقول. ومن الغريب حقًّا أن ينقد فيلسوف النزعة إلى المعقولية، إخلاصًا منه للعقل والعلم، ولكننا قد بَيَّنَّا في موضع آخر٨ أن هذين الاتجاهين لا يتعارضان، وبالتالي فإن المعقولية واللامعقولية يمكن أن تجتمعا في مركب واحد، إذا فُهمت كلمة العقل في كل حالة فهمًا خاصًّا.

أمَّا المرحلة الصوفية الثالثة، فلا شك في أن انتقال نيتشه إليها لم يكن مفاجئًا على الإطلاق، بل لقد انتقل إليها ومعه كل ذخيرته النقدية التي تسلح بها في المرحلة السابقة؛ فهو هنا لا يزال يحمل على أصحاب المذاهب الميتافيزيقية الخالصة، وعلى المؤمنين بالعقل التجريدي، وبوجود معايير أخلاقية مطلقة تعلو على مقتضيات الحياة المتغيرة. أمَّا الناحية الصوفية الخلاقة، فهي أوَّلًا قد ظهرت في كتاب «زرادشت» وحده، وكانت كل الكتب الأخرى التي ظهرت في هذه المرحلة تحمل نفس الطابع النقدي الذي اتصفت به المرحلة السابقة، وتواصل حملتها في خط مستقيم. وحتى لو تأملنا كتاب زرادشت ذاته، فلن تجد فيه تصوُّفًا من ذلك النوع الزاهد الذي ينكر الحياة ويعزف عنها، بل هو تصوف يظل على تعلُّقه بالأرض، ويمجد هذه الحياة وهذا العالم، ويتغنى بالطبيعة التلقائية. فزرادشت يقول في المقدمة: «أناشدكم أيها الأصدقاء أن تظلوا مخلصين للأرض، وألا تصدِّقوا من يحدثكم عن آمالٍ تعلو على الأرض؛ ففي أحاديثهم هذه سموم، سواء أعلموا ذلك أم لم يعلموه.»

ففي هذه الفترة الأخيرة بدورها يظل المبدأ العام الذي يسير عليه نيتشه هو تمجيد الحياة الأرضية، وإضفاء المعنى الإنساني — لا الإلهي أو الميتافيزيقي — على هذا العالم. أمَّا النزعة اللاعقلية، فتفترضها ضمنًا فكرة التصوف، وتعبِّر عنها صراحة دعوته إلى الإنسان الأرقى، الذي تسود حياته «الغرائز»؛ أي القوى الحيوية التلقائية، لا العقل المجرد.

وهكذا نلاحظ في كل هذه الفترات اتجاهًا عامًّا واحدًا، هو الاتجاه إلى نقد المعقولية التجريدية، وتمجيد الحياة وإعلائها، والتعلق بالطبيعة والحياة الأرضية. في هذا الاتجاه تتمثل وحدة شخصية نيتشه، التي لازمته طوال مراحل تفكيره. وليس معنى ذلك أنه قد تعلَّق بهذه المبادئ تعلقًا متحجِّرًا، بل إنها قد اتخذت — كما لاحظنا — أشكالًا متباينة، وعبَّرت عن نفسها بأساليب مختلفة، مما ينفي عن نيتشه تمامًا صفة «المذهبية» بمعناها التقليدي الجامد، ولكنها في نفس الوقت تظل كامنة من وراء ما اتخذته من مظاهر مختلفة، فتؤكد بذلك أن الذهن الذي يفكر واحد، وأن لشخصيته عناصرها الأساسية، وتنفي عنه تلك المزاعم التي أراد أن يلصقها به هواة التفكير الشعري الخيالي، مزاعم التناقض الصريح، والجموح الدائم، والانتقال المتواصل بين الأضداد.

١  «العلم المرح»، فقرة ٥٧.
٢  انظر [الباب الثاني: فلسفة نيتشه – الفصل الأول: نيتشه الفيلسوف – العنصر المشترك بين مراحل تفكيره].
٣  «العلم المرح»، فقرة ٥١.
٤  M. Boll: Les tendences actuelles de la philosophie française. 5e édition. P. 7. Paris.
٥  Jean Wahl: Vers le concret. Paris 1932. p. III.
٦  انظر [الباب الثاني: فلسفة نيتشه – الفصل السادس: الدين والعَوْد الأبدي – فكرة العَوْد الأبدي].
٧  Holzwege: Nietzsches Wort: “Gott ist tot”.
٨  انظر مقدمة الطبعة الأولى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤