الفصل الثاني

انقلاب القيم

إذا شئنا أن نلخص ما يميز العقلية العلمية الحديثة من العقلية الخرافية الغابرة في عبارة واحدة، لقلنا إنه تخلُّص العقلية العلمية من صفة التشبيه بالإنسان anthropomorphisme التي غلبت على العقلية الخرافية؛ ذلك لأن أوضح مظهر من مظاهر التأخر في التفكير البدائي، هو طبع الصور الإنسانية على العالم الخارجي، بحيث يبدو ظواهر ذلك العالم كأن لها معنًى إنسانيًّا، وكأنها قد استهدفت غايات بشرية معيَّنة. وهكذا رأينا العالم، في التفكير الخرافي، يحتشد بالآلهة والقوى الخفية، التي هي وسيلة طبع الصورة الإنسانية على العالم. فظاهرة المطر مثلًا تحدث بفعل إله المطر، الذي ينبغي إرضاؤه على نحو إنساني تمامًا، حتى يجود على الأرض بالغيث. ويظل هذا التشبيه للطبيعة الخارجية بالإنسان يمتد بالتدريج، حتى يتسع لكل الظواهر، فلا يغدو الكون كله إلا مجالًا مكبرًا لغايات الإنسان وأمانيه.

وقد يبدو للبعض أن هذه النظرة التشبيهية بالإنسان قد انقضت بانقضاء عهد الخرافة الأولى، وحلول عهد التفكير العقلي المنظم، في الفلسفة اليونانية على الأقل. ولكن الحقيقة بخلاف ذلك؛ ذلك لأنه إذا كانت الطريقة البدائية في التفكير، وفي ملء الكون بالآلهة والأشباح والقوى غير المنظورة؛ إذا كانت طريقة التفكير هذه قد اختفت في ذلك الحين، وحل محلها تفسير عقلي للعالم، فقد ظلت مع ذلك قائمة، ولكن في صورة مستترة يدق فهمها. أمَّا هذه الصورة الجديدة، فهي الاعتقاد بالقيم الموضوعية المطلقة.

فلنتأمل مثلًا طريقة تفكير أفلاطون، حين يضع مثال الخير فوق قمة المُثُل، ويؤكد أن الخير ليس أرفع القيم فحسب، بل لا يقتصر على كونه قيمة من القيم، وإنما هو أيضًا «خالق الكون»؛ أعني حين يُضفي على الخير معنًى أنتولوجيًّا، ويجعل له قوامًا كونيًّا، لا معنويًّا فحسب. في هذا التفكير تتردد الصورة القديمة، التشبيهية بالإنسان، وإن تكن مغلفة بإطار من الجدل المنظم الدقيق، ومصوغة في قالب منطقي مُحْكَم؛ ذلك لأنه إذا لم يَعُدِ الخير مجرد معنًى إنساني، وإنما قوة موجِّهة للكون، فالنتيجة المباشرة لذلك هي أن الكون قد اصطبغ بصبغة إنسانية. فلتبحث إذن عن معنًى إنساني في كل ظاهرة كونية، وسوف تجده حتمًا؛ إذ إن الكون قد خُلق «من وجهة نظر الخير»؛ أعني أن له معنى ملائمًا للإنسان، وفي وسع الإنسان أن يهتدي إلى ذلك المعنى إذا تعمق في تأمُّله. وهكذا يتبين لنا أن آثار العقلية الغابرة قد ظلت عالقة في الذهن الإنساني خلال مراحل طويلة من تاريخه، واتخذت صورًا ظاهرها رائع حقًّا، أوضحها تلك الصورة التي تجعل للكون قوة خالقة هي في نفس الوقت قوة خيِّرة، وهي صورة لم تقف عند حد أفلاطون، بل ظلت ملازمة للإنسانية طويلًا في مظاهر مختلفة، ولا تستطيع أن تقول إنها قد تخلصت منها حتى اليوم.

ولكن ما الذي يضيرنا في هذه الصورة الإنسانية التي تُطبع على الكون؟ أليست على الأقل تبعث أملًا باسمًا في الإنسان؟ ألا تجعل بينه وبين الكون نوعًا من الألفة هو أحوج ما يكون إليه؟ أليست خيرًا من شعوره بأن القوى المحيطة به في الكون قوًى غريبة عنه، لا تعبأ به ولا تعمل من أجله؟ الحق أننا نُسلم بأن الأصل في طبع القيم الإنسانية على العالم هو الرغبة في الشعور بالألفة وسط عالم غريب، وهو شعور قد يبدو مفيدًا للإنسان مُطَمْئِنًا لنفسه؛ ولكن لنتأمل نتائج هذا الشعور بالألفة بين الإنسان وبين العالم عن كثب، لكي نتبين آخر الأمر إن كان قد أفاد الإنسان بالفعل أم ألحق به الضرر.

أوَّل ما نلاحظه أن إضفاء معنًى إنساني على الكون هو في واقع الأمر سلاح ذو حدين، فهو يلحق بالإنسان من الضرر بقدر ما يجلب له من النفع؛ ذلك لأنه إذا مرت الأحداث كما يشتهي الإنسان، فسوف يعزو ذلك إلى ما هنالك من تجاوب بين المسار العام للكون وبين رغباته، نظرًا إلى أن القوة الموجهة للكون هي في نفس الوقت قوة خيرة. أمَّا إذا حدث ما يسيء إليه أو يجلب له الأذى، فسوف يعجز عن التفسير، ويقف حائرًا وقد أحس بالجزع أمام ذلك العالم الذي لم يعُد يفهمه. فكيف يفسر أفلاطون — في حدود قوله بالهوية بين الخير وبين القوة الخالقة للعالم — كارثة طبيعية، كزلزال يروح الألوف ضحيته؟ لا شك أن أي تفسير لهذه الظاهرة من خلال القول بخيرية العالم سيكون متعسفًا، مهما كانت الوسائل التي تتبع في التوفيق بين هذين الجانبين المتعارضين. وهكذا لا يستطيع المرء أن يفهم كل ظاهرة لا توافق غاياته طالما كان يفهم العالم فهمًا غائيًّا. أمَّا إذا لم يكن قد طبع ذلك المعنى الإنساني على الكون، فعندئذٍ سيكون الأمر هيِّنًا؛ إذ إن تفسير مثل هذه الظاهرة هو أنه ليس لها تفسير؛ أي إنها تحدث كما تحدث فحسب، دون أن يكون قد قصد منها موافقة غايات الإنسان أو معاندتها.

وفضلًا عن ذلك، فإن من شأن تلك النظرة التي تدَّعي أن للكون في الأصل معنًى إنسانيًّا، وأننا «نهتدي» إلى ذلك المعنى فحسب، أن تُقعِد الإنسان عن العمل المتواصل من أجل إخضاع ذلك الكون لحاجاته؛ ذلك لأن الطريق الذي يسير فيه الكون يتفق أصلًا وغايات الإنسان، فما عليه إلا أن ينتظر، وسيحدث كل شيء كما ينبغي. وتلك هي فلسفة التواكل التي ترجع في نهاية الأمر إلى هذا الاعتقاد الخرافي بأن مسار الحوادث يستهدف معنًى إنسانيًّا، وأن غايات البشر هي القطب الذي تنجذب إليه كل الظواهر. أمَّا إذا أدركنا أن الكون قد خلا من كل معنًى إنساني، فعندئذٍ يتسع أمامنا المجال لكي نحاول نحن إضفاء ذلك المعنى عليه، لا بطريقة تخيلية تصورية كما فعلها الأقدمون، ولكن بالعمل الدائب الذي يرمي إلى إخضاع الكون وتسخيره لغايات البشر.

وهنا نعود مرة أخرى إلى ما قلناه في مستهل هذا الفصل، من أن الفارق الأساسي بين العقلية الخرافية والعقلية العلمية هو اعتقاد الأولى بأن الكون يسير بالفعل وفق غايات الإنسان. وما نهضت الروح العلمية إلا منذ اللحظة التي نفض فيها العقل عن نفسه هذا الاعتقاد الواهم، ووضع فيها الإنسان لنفسه شعارًا جديدًا هو: إذ لم يكن العالم يسير وفقًا لغاياتي، فلأجعله يسير وفقًا لها، بالعمل والجهد، لا بالأسطورة والخيال! في هذه اللحظة وحدها نستطيع أن نقول إن العلم الحقيقي قد بدأ؛ فما العلم إلا محاولة منظمة لتسخير الكون لخدمة الإنسان، وللتحكم في تلك الظواهر التي كانت تبدو من قبلُ مستقلةً تمامًا عن سيطرته.

وإذا كان التقدم العلمي الحديث قد عبَّر ضمنيًّا عن هذه النظرة الجديدة إلى العالم، فإن الفلسفة قد تأخرت في المجاهرة بها، وفي التعبير الواعي عنها. فإذا أدركنا مدى خطورة هذه النظرة الجديدة إلى القيم، وكيف أنها هي التي تميز العقلية المتحضرة من العقلية البدائية بوجه عام، فعندئذٍ يتضح لنا إلى أي حد كان التنبيه إليها عملًا جليل الشأن، وإلى أي مدى يُعَدُّ ذلك انقلابًا حقيقيًّا في التفكير الإنساني. ونستطيع أن نقول إن أول محاولة فلسفية جدِّية في هذا الشأن كانت هي محاولة نيتشه؛ فالفضل الأكبر لنيتشه — في رأينا — ليس في السبق إلى هذا المبحث الفلسفي الجديد، مبحث القيم (ولو أن هذا وحده فضل لا يمكن الحط من قيمته)، بقدر ما هو في التصريح بما كانت تنطوي عليه النهضة العلمية الحديثة ضمنًا، وفي التعبير عن الفلسفة الكامنة في كل تقدُّم أحرزه العقل البشري؛ أعني في تأكيده خلو العالم من القيم، التي لا يخلقها إلا الإنسان ذاته، ولا تضفيها على العالم إلا مطالبه وحاجاته.

بمعزل عن التفاؤل والتشاؤم

ومن الناس من يفهم فكرة خلو العالم من كل معنًى إنساني فهمًا متحيِّزًا، فيظن أن معناها هو أن العالم يسير في اتجاه مضاد لغايات الإنسان. أولئك هم المتشائمون، الذين يتوهمون أن العالم إمَّا أن يكون له معنًى إنساني، وإمَّا أن يكون له معنًى غير إنساني، فينتهي بهم الأمر، حين لا يجدون المعنى الأوَّل، إلى القول بأن في الكون قوة مضادة للإنسان، تعمل على إلحاق الضرر به، ويصورون الحياة في صورة قاتمة، ما دامت الوجهة التي يتخذها العالم مخالفة لتلك التي يريده الإنسان أن يسير فيها. ومن هنا كانت دعوتهم تتجه إلى إنكار الحياة والعزوف عنها، وأقصى غاياتهم أن يحلُّوا روابطهم بهذا العالم بقدر ما في مُكنتهم. ودعاة التشاؤم هؤلاء ليسوا أقل وهمًا من إخوانهم دعاة التفاؤل، فهم يعتقدون بأنه كان يجب أن يكون للعالم في الأصل معنًى إنساني، ولكنه غير موجود، وإنما الذي يوجد معنًى يمكن أن يُفهَم بدوره من خلال مقولات الإنسان؛ أعني أن العالم يتركز هنا أيضًا حول الإنسان، وإن يكن ذلك على نحو عكسي لا طردي. والموقف الصحيح، الذي يدعو إليه نيتشه في هذا الصدد، هو أن يُنظَر إلى القيم على أنها بمعزل تمامًا عن طبيعة الأشياء؛ فمكانها الحقيقي في ذهن الإنسان الذي خلقها. أمَّا العالم، فليس موافقًا أو مخالفًا لها، وإنما هو مستقل عنها فحسب. وهكذا نرى القيم لا تؤثِّر في الواقع الطبيعي أي تأثير، ولا الواقع يؤثر في القيم. وبعبارة أخرى، فلن يزيده الشيء صفة جديدة إذا اكتسب قيمة، وستظل جميع صفاته العقلية في صلة ببقية الأشياء وبالنظام العام للكون كما هي دون أدنى تغيير، وكل تغير يحدث في هذه الحالة إنما يطرأ على الذهن؛ أعني على «المعنى» الذي يُضفيه العقل البشري على الشيء. والحقُّ أن كَنْت Kant قد عبَّر عن هذه الفكرة ذاتها تعبيرًا ضمنيًّا في نقده المشهور للحجة الأنتولوجية في إثبات وجود الله؛ إذ قال إن قرشًا في الخيال لا يختلف عن قرش في الواقع على الإطلاق؛ أعني أن واقعية الشيء لا تزيد من قيمته. والنتيجة المباشرة لفكرة كَنْت هذه هي أن القيمة مستقلة تمامًا عن التحقق الواقعي. وليست مرتبطة بالبناء الفعلي للعالم، ما دام تحقق القيمة في الوجود لا يرفع مرتبتها فوق ما لم يتحقق بالفعل.

الإنسان خالق القيم

فمن أين أتت القيم إذن؟ إن خالق القيم هو الإنسان. وليس لها خارج الفاعلية الإنسانية أي كيان واقعي؛ فالإنسان هو الذي أضفى على الكون كل ما فيه من معنى، ويظن مع ذلك أنه قد «اهتدى» إلى ذلك المعنى فحسب: «الحق أن الناس قد أَعطوا أنفسهم كل خيرهم وشرهم. والحقُّ أنهم لم يتلقوه، ولم يجدوه، ولم يهبط إليهم من السماء!»١

ولو أدرك الإنسان عن وعي أنه هو خالق هذا البناء الشامخ من القيم، لعمل على تحقيق هذه الغايات التي يريدها لنفسه تحقيقًا واقعيًّا، ولازدادت ثقته بنفسه، وبقدرته المبدعة … ولكنه في واقع الأمر ينكر ذلك، ويوهم نفسه أنه قد «وجد» هذه القيم فحسب، وأنها هناك، مفروضة على الأشياء بالرغم عنه. فإذا ما أحس بأنها في وجودها مستقلة عنه، فلن يحاول أن يغير منها شيئًا، بل سيبقيها على حالها، وسيقبل الأمور على ما هي عليه.

وهكذا يتبين لنا أن إرجاع القيم إلى الإنسان عند نيتشه لا يعبِّر عن نزعة ذاتيَّة أو صوفيَّة، بل هو في واقع الأمر دعوة صريحة للإنسان كي يمارس فاعليته على أوسع نطاق ممكن. فلن يقف في وجه هذه الفاعلية شيء إذا تبين أن العالم لا يحمل معنًى ثابتًا، وأن في وسع الإنسان أن يُضفي عليه بمجهوده الخاص من المعاني ما يشاء، مثلما أضفى عليه من قبلُ معناه القديم، دون وعي منه، ثم ثبَّته وقدَّسه.

والقوة التي تدفع الإنسان إلى إضفاء قيم معيَّنة على الأشياء، هي الحياة، فكل تقويم إنساني إنما يستهدف نفع الحياة في آخر الأمر. ولن يستطيع المرء أن يستقر في آخر الأمر على معنًى معيَّن لكلمة «الحياة» عند نيتشه، وهل يعني بها النفع الحيوي للنوع، أم امتلاء الحياة الفردية، والحق أن لكلٍّ من الرأيين أنصاره الذين يمكنهم أن يجدوا لرأيهم شواهد تؤيده من نصوص نيتشه في كلتا الحالتين. وعلى أية حال فليس يعنينا هنا أن تُفهم آراء نيتشه في هذا الصدد بمعنًى تطوري أو بمعنًى وجودي، وحسبنا أنه أرجع القيم إلى الأرض، وإلى الإنسان، وإلى القوة الفعالة في الإنسان؛ أعني الحياة.

وارتباط القيم بالحياة هي أوضح شاهد على نسبيتها؛ ذلك لأن للحياة مطالب متجددة، وهي لا تخضع لصيغ منطقية جامدة حتى يُقال إنها تَثبت على اتجاه واحد، وإنما هي تلقائية في سيرها، تتخذ لنفسها من القيم ما تشاء حتى يمكنها أن تعلو على ذاتها دوامًا. والحق أن نيتشه في تأكيده نسبية القيم وارتباطها بالنفع الحيوي، يبرهن على رأيه أحيانًا بشواهد تشبه إلى حد بعيد تلك التي ظهرت فيما بعدُ عند أصحاب الاتجاهات الأنثروبولوجية والاجتماعية بوجه عام. فهو مثلهم يحرص على أن يربط القيم السائدة في كل عصر وبيئة بنوع الظروف التي تسود هذا العصر والبيئة، وكثيرًا ما تتخذ لهجته شكل نزعة علمية واضحة، استبق بها بعض الاتجاهات العلمية التالية له. وليس معنى ذلك أنه هو الآخر قد اتبع المنهج العلمي في إثباته نسبية القيم؛ فمن المسلَّم به أنه لم يدرس مثل هذه الموضوعات أية دراسة تجريبية كتلك التي قامت بها المدارس العلمية التالية، وكل ما يمكن أن يُقال عنه هنا إنه قد اهتدى نظريًّا إلى نتائج تأيدت فيما بعدُ تأييدًا تجريبيًّا لا سبيل إلى الشك فيه.

والحقُّ أن هذا التأرجح بين الفهم العلمي والفهم الفردي من أخصِّ الصفات التي يتميز بها تفكير نيتشه؛ فهو أحيانًا يبني نسبية القيم على أسس بيولوجية واضحة، فيقول: «إن التمييز بين ما هو رفيع وما هو وضيع في جسمنا وفي أعضائه ليس من خصائص الروح العلمية في شيء؛ فنحن نجعل لأحد الأعضاء مكانة رفيعة طالما أننا لا نرى فعله وأثره، أو لا نحس بهما (عن طريق الأنف أو حاسة اللمس)! فالتقزز، لا «القيمة» هو الذي يتحكم في التمييز بين الرفيع والوضيع، وهذه إحدى نقط بداية ما تضعه المذاهب الأخلاقية من تفرقات.» وفي نفس الوقت الذي يصرح فيه بمثل هذه التفسيرات العضوية لما هو رفيع ووضيع في الإنسان، نراه يلجأ إلى بناء القيم على أسس نفسية فردية خالصة، ويجعل من إرادة الفرد مصدرًا خالقًا لكل المعايير، ولا يعترف بأمر عام يسن قاعدة شاملة، وإنما يؤمن بالأوامر الفردية التي توجهها الذات إلى نفسها فحسب. وليس يكفي لتعليل هذا الازدواج في تفكيره أن ننسب كلًّا من الفكرتين إلى فترة معيَّنة، فنقول إن الفهم الطبيعي والعضوي كان يسود الفترة الوضعية الثانية، والفهم الفردي كان يسود الفترة الصوفية الأخيرة؛ إذ إن النظرتين كانتا قائمتين معًا في الفترة الثالثة مثلًا، بل وفي كتاب واحد ينتمي إليها، مثل كتاب إرادة القوة. وفي هذا ما يشهد بأن نيتشه لم يعترف بالحدود الفاصلة بين أنواع التفسير المختلفة، ولم يجد تعارضًا بين التعليل الطبيعي أو العضوي، وبين التعليل الفردي أو الصوفي لظاهرة ما، وأيًّا ما كان حكمنا على هذا التوفيق، فهو على أية حال مظهر من مظاهر اتساع الأفق. وفي وسعنا أن نهتدي إلى سبيلٍ لإدماج التعليلين، العضوي والفردي، أو العلمي والصوفي عند نيتشه، إذا أدركنا أنه ينظر إلى القيم نظرة واقعية تمامًا. فهي ليست مُثُلًا عليا بعيدة، وإنما هي كامنة في الواقع، وفي الحياة ذاتها؛ ومن هنا كانت نظرته إلى القيم فردية، وبيولوجية في نفس الآن.

فما هو الهدف الذي كان نيتشه يرمي إليه من دعوته إلى انقلاب شامل في القيم Umwertung aller Werte؟ نستطيع أن نقول إن دعوته هذه كانت هي الخطوة الأساسية الأولى، التي لا يمكن أن تقوم ثورة عقلية أو علمية بدونها؛ فالقول بنسبية القيم يفتح أمامنا السبيل إلى محاولة تغييرها، ولا يجعل هذا التغيير أمرًا مستحيلًا، كما كان الحال في النظرة القديمة المطلقة، وأن أي سعي إلى تغيير الأوضاع التي يحيا عليها الناس، سواء في المجال الفكري وفي المجال الاجتماعي، إنما يفترض مقدَّمًا إيمانهم بأن المعايير التي يقيسون بها الأمور ليست معايير أزلية ثابتة، فرضت عليهم بقوةٍ لا سلطان لهم عليها، وإنما هي معايير صنعها الإنسان لهدف معيَّن، وفي وسعه أن يُبدلها إذا شاء أن يضع لنفسه هدفًا آخر.

وهذه الدلالة السلبية لنظرية نيتشه في القيم هي في رأينا أقوى من أية دلالة إيجابية؛ ذلك لأنه حين ينتقل إلى الجانب الإيجابي، وحين يوضح الهدف الذي يرمي إلى تحقيقه من انقلابه في القيم، يُنادي بآراء يرفضها اليوم كثيرٌ من الناس، ولا يستطيع باحث منصف أن يقبلها على علاتها. ومع ذلك، فإذا كان نيتشه قد أخطأ طريق الإصلاح، فحسبه أنه مهَّد هذا الطريق من قبلُ، ووضع الأسس التي لا يكون الإصلاح بدونها ممكنًا؛ أعني أنه نبهنا إلى أن معاييرنا إنسانية. فلنرفض معاييره الجديدة إذا شئنا، ولكن لنذكر له دائمًا هذا الفضل، وهو أنه فتح أمامنا سبل التجديد في فهمنا العقلي للعالم وسلوكنا الفعلي فيه، وذلك حين مجَّد قدرتنا الإنسانية على الخلق والإبداع، وأزاح كل ما كان يقف أمام فاعلية الإنسان من عقبات.

١  هكذا تكلم زرادشت: عن الألف غاية وغاية Von Tausend und einem Ziele.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤