الفصل السادس

الدين والعَوْد الأبدي

لم يكن نيتشه يعترف بعقيدة من العقائد الشائعة، لا صراحةً ولا ضمنًا. وكل محاولة لكشف نوع من التأثر الخفي بالدين في تفكيره، كتلك التي قام بها ياسبرز في كتابه عن «نيتشه والمسيحية» هي محاولة باطلة من أساسها. وليس لنا أن نتقيد بما يقوله البعض من وجود روح دينية كامنة لدى نيتشه، مبعثها ذلك الأصل الديني القديم الذي ترجع إليه أسرته من طرفيها. فكل تأثير لهذا الأصل كان تأثيرًا سلبيًّا، بمعنى أنه مكَّنه من أن يتعمق فهم الروح الدينية ليوجِّه إليها أعنف النقد فيما بعدُ. فآراؤه في هذا المجال صريحة كل الصراحة، ومن أكبر الأخطاء أن نشبِّه نقده الديني بنقد آخر مبعثه الرغبة في العلو بالعقيدة الشائعة وتنقيتها من الشوائب، مثل نقد كيركجورد؛ فالإيمان هو القوة المحرِّكة للذهن الناقد في حالة كيركجورد، أمَّا في حالة نيتشه فلا مجال للتوفيق بين ذهنه وبين الروح الدينية على الإطلاق.

ونقْد نيتشه ينصبُّ أوَّلًا على فكرة العقيدة بوجه عام؛ فالروح الدينية في رأيه تفتقر إلى كل فهم للقوانين الطبيعية، وما هي إلا امتداد للتفسير البدائي، الذي كان يفهم كل شيء من خلال السحر والخرافة؛ فلا شيء في نظر هذه الروح يحدث «طبيعيًّا»،١ وإنما تتحكم إرادة واعية في كل الحوادث، وتصبغها بصبغة الخير والشر، وكلما عجزت عن فهم ظاهرة ما، أرجعتها إلى فعل هذه الإرادة الواعية. وكما كانت العقلية البدائية تملأ الكون بالقوى الخفية التي تتسبب في خلق الحوادث بطريقة إرادية، فكذلك تفسر العقلية الدينية حوادث الكون تفسيرًا مماثلًا، سواء تعددت في نظرها تلك القوى الخفية أم توحدت. وإذا حدث ما يناقض فعل القوى الخيرة التي تتحكم في الكون نُسب ذلك إلى قوى أخرى، هي «الشيطان»، وأغفل كل تعليل طبيعي للبشر. وهنا يسارع نيتشه فيؤكد «أن قطرة من الدم تزيد أو تنقص في المخ قد تسبب لحياتنا من الشقاء والألم ما يجعلنا نقاسي أكثر مما قاسى بروميثيوس من عقابه؛ غير أن أخطر ما في الأمر هو ألا ندرك أن تلك القطرة هي السبب، بل نعزو ذلك إلى الشيطان، أو الخطيئة.»٢

وهكذا يفهم نيتشه العقلية الدينية على أنها نقيض العقلية العلمية؛ فالأولى تفسِّر كل شيء «طبيعيًّا»؛ أي على نحو مستمَدٍّ من منطق الحوادث ذاتها، لا من تشبيه حوادث الطبيعة بما يجري داخل الذات الإنسانية الواعية.

وبجانب ذلك التعليل الموضوعي لطبيعة العقلية الدينية، نصادف عند نيتشه تعليلًا نفسيًّا لها؛ فالمتدين يؤمن بالوحي؛ أعني بأن ثمت أفكارًا تهبط إليه من مصدر يعلو عليه، بحيث لا يكون ذهنه إلا أداة تتلقى هذه الأفكار سلبيًّا فحسب، ويرى نيتشه أن تلك هي المشكلة النفسية الكبرى في الدين، «فكيف يتسنى للمرء أن ينظر إلى آرائه هو عن الأشياء، على أنها وحي؟ تلك هي مشكلة أصل الأديان.»٣ ففي كل حالة سادت فيها عقيدة ما، كان يوجد رجل يؤمن بالوحي، بحيث إنه عندما كوَّن فرضًا شاملًا عن العالم، لم يستطع أن يتصور أن يكون كل هذا النظام والجمال الكوني من صنع ذهنه هو، فينسبه إلى قوة عليا؛ إلى الوحي. ولا شك أن المرء، بجانب ذلك، يُضفي على رأيه مزيدًا من القوة إذا عزاه إلى الوحي، ويجعله بمنأى عن النقد والشك؛ أعني يجعله مقدَّسًا، «حقًّا إن مكانة المرء ستهبط عندئذٍ، فيصبح مجرد أداة، ولكن رأيه سينتصر في آخر الأمر، حين يغدو فكرة إلهية.»٤ ففي الدين إذن يحطُّ المرء من قدر ذاته عامدًا، حتى يضمن لرأيه الانتصار؛ ومن هنا يستنتج نيتشه أن الدين «قد حط من قدر تصوُّر الإنسان، فنتيجته النهائية هي أن كل ما هو خير، وعظيم، وحقيقي، هو فوق الإنسان، وما وُهب له إلا تفضُّلًا.»٥
والظاهرة النفسية الكامنة من وراء هذا النمط الديني الخاص، هي ظاهرة «تبدُّل الشخصية alteration de la personnalité».٦ فنفسية رجل الدين من ذلك النوع الذي يُرجع مشاعره الخاصة إلى قوًى خارجية، ويراها غريبة عنه، كالمريض عندما يشعر بثقل أحد أطرافه، فيظن أن شخصًا آخر قد ارتكز عليه. وعلى ذلك ففي الدين يخاف المرء من ذاته ويهرب منها، ولكنه من جهة أخرى يحس بلذة الانتصار حين ينسب أفكاره المباغتة المفاجئة إلى الألوهية، ويرتفع بها فوق مستوى الشك.

ومن الطَّبيعي أن ينقد نيتشه الأفكار الدينية الرئيسية نقدًا عنيفًا، ما دامت الروح الدينية أصلًا ظاهرة منحرفة في رأيه، وما دام يدعو إلى استبدال نظرة طبيعية بالنظرة الدينية «غير العلمية». فإذا كان يعيب على العقيدة أنها تحط من قدر الإنسان، إذ تنسب نواتج الذهن الإنساني إلى مصادر أخرى تعلو على هذا الذهن، فلا شك في أن مهمته، كما يحددها بوضوح، هي أن يعيد إلى الإنسان ثقته بنفسه، ويرد إليه حقه المسلوب، وهنا يجد نيتشه لزامًا عليه أن يحمل على فكرة الألوهية بوجه عام؛ فالألوهية في نظره عقبةٌ تحُول دون تأكيد الإنسان لذاته، وطالما أن فوق البشر آلهة يؤمنون بها، فسوف يكون هذا الإيمان على حساب تقدير البشر لأنفسهم وثقتهم بها. وعلى ذلك فهو يدعو إلى إزاحة هذه العقبة من أجل رفع شأن الإنسان، الذي يصبح عندئذٍ أعلى الكائنات شأنًا، وصحيح أن تلك المهمة الهائلة تقابل بالجزع من جانب الإنسان، ولكن عليه أن يستجمع في نفسه من الشجاعة ما يمكِّنه من القيام بتلك الخطوة الحاسمة، التي يصبح بعدها السيد الأوحد للعالم.

والحقُّ أن نقد نيتشه لفكرة الألوهية لا يُعد مجالًا للشك في أنه قد تخلَّى تمامًا عن هذه الفكرة، ولم يعُد لها في ذهنه أي دور تؤديه. ويتخذ نقده في كثير من الأحيان طابع السخرية، فيقول مثلًا: «إن وجود الله ذاته كان يغدو مستحيلًا لو لم يكن يوجد أناس حكماء؛ هذا ما قاله لوثر، وله الحق فيما قال. ولكن، إن وجود الله كان يغدو أكثر استحالة لو لم يكن يوجد أناس بلهاء، هذا ما لم يقله صاحبنا لوثر!»٧ وفي أحيان أخرى يتخذ هذا النقد طابع الثورة الساخطة، فيتساءل: «أيكون إلهًا خيِّرًا ذلك الذي يعلم كل شيء، ويقدر على كل شيء، ولا يعبأ مع ذلك بأن تكون مقاصده مفهومة لمخلوقاته … ألا يكون إلهًا شريرًا ذلك الذي يملك الحقيقة، ويرى ذلك العذاب الأليم الذي تعانيه البشرية من أجل الوصول إليها؟»٨
على أنه يؤكد بعد ذلك أن كل هذه الأنواع من النقد ليست حاسمة. «فمن قبلُ كان المرء يسعى إلى أن يبرهن على أنه ليس ثمت إله، واليوم يبين المرء كيف أمكن أن «ينشأ» الاعتقاد بوجود إله، وإلى أي شيء ترتد أهمية هذا الاعتقاد وقوة تأثيره. وفي هذه الحالة يكون البرهان الآخر على أنه ليس ثمت إله؛ يكون هذا البرهان سطحيًّا؛ ذلك لأنه عندما كان المرء من قبلُ يفند البراهين القديمة على وجود الله، كان يظل هناك شك دائم في احتمال كشف براهين أفضل من تلك التي فُنِّدت.»٩ فالتفنيد التاريخي إذن هو التفنيد الحاسم. وإذا استطاع الفيلسوف أن يُثبت أن هذه الفكرة قد «نشأت»؛ أعني أن لها أصلًا تاريخيًّا أو نفسيًّا معيَّنًا، وأنها قد ظهرت لكي تفي بمقتضيات إنسانية خاصة في ظروف معيَّنة، فعندئذٍ يكون في نفس الوقت قد قضى على ما تنطوي عليه الفكرة من ثبات وأزلية، وفي هذا قضاء على الفكرة ذاتها.
ولقد أوضحنا من قبلُ أمثلةً للأحوال النفسية المنحرفة التي تؤدي — في رأي نيتشه — إلى ظهور الروح الدينية والآلهة، وكلها ترمي إلى هدف واحد، هو أن تُثبت أن الفكرة قد «نشأت»، وأن نشأتها راجعة إلى ظروف معيَّنة. وهو من جهة أخرى يبحث في نشأة الفكرة من الوجهة التاريخية، فيُقارن بين تصوُّر الله في مختلف الأديان، وينتهي إلى وجود اختلاف أساسي بين هذه التصورات مما يقضي عليها كلها معًا. وهو يحمل بوجهٍ خاص على تصوُّر الألوهية في المسيحية واليهودية؛ فهذا التصور مرتبط برغبة الإنسان في معاقبة نفسه، ومرتبط بشعوره بالذنب؛ وهذه الرغبة والشعور هي التي تتجسم في فكرة الله ذاتها، فتصوُّره على نحو مضاد للإنسان تمامًا، وتُنسب إليه من الأوامر ما يقف في وجه الطبيعة البشرية ويعوق سيرها التلقائي. ويؤكد نيتشه أن الارتباط بين الأمرين؛ أعني بين تصوُّر الألوهية وبين الحملة على الطبيعة البشرية، ليس ضروريًّا. فهناك شعوب تصوَّرت آلهتها على نحو مخالف تمامًا لفكرة الشعور بالذنب هذه؛ فعند اليونان مثلًا يؤلِّه الإنسان ما هو إنساني — وربما ما هو حيواني — فيه، وتختفي تمامًا فكرة الخطيئة والذنب، ولا يدأب على لوم نفسه والحط من قدرها، كما هو الحال في المسيحية.١٠

والحقُّ أن نظرة نيتشه إلى المسيحية كانت تتأثر دائمًا بعاملَين رئيسيين: أولهما نقده للروح الدينية بوجه عام، وهو النقد الذي امتد ضرورة إلى المسيحية بوصفها الصورة الرئيسية لتلك الروح الدينية في المجتمع المحيط به. وأمَّا العامل الثاني، فهو تعلُّقه بكل ما هو يوناني، حتى يكاد المرء يحس في كتاباته تمجيدًا للعقائد اليونانية ذاتها! وعلى أية حال، فقد كان نمط الحياة اليونانية في رأيه أرفع بكثير من نمط الحياة المسيحية؛ ذلك لأن العقائد اليونانية لم تكن تقف في وجه نمو القوى الطبيعية للإنسان، بينما كانت العقائد المسيحية واليهودية عنده عقبة كبرى تحُول دون نمو هذه القوى.

ومن العجيب حقًّا أن نيتشه يذكر، ضمن أسباب حملته على المسيحية، أنها تعتمد على المشاعر أكثر مما تعتمد على العقل؛ أي إنها كانت ردَّ فعل على النزعات الفلسفية العقلية السابقة عليها، والتي سادت العصر اليوناني؛ فالفضائل المسيحية ليست انتصارًا للعقل على المشاعر، كما قال الفلاسفة الإغريق، بل إنَّها كلها تنبع من مشاعر أو انفعالات معيَّنة، مثل «حب» الله، و«خشية» الله، و«الإيمان» بالله، و«الأمل» في الله.١١ ومردُّ العجب في هذا إلى ما يعرفه الجميع عن نيتشه من تعلُّقٍ بالنزعة إلى اللامعقول، ومن نقد للاتجاهات العقلية الخالصة، وإيثار للمشاعر على العقل في كل تفسيراته، ولكن تعلُّقه بكل ما هو يوناني هو الذي يجعله يأخذ على المبادئ المسيحية (المضادة للمبادئ اليونانية) صفات كانت أخصَّ ما يميز فلسفته هو ذاته.

وهو يحمل بوجهٍ خاص على فكرة الخطيئة في المسيحية؛ فالإنسان والطبيعة أبرياء، والخطيئة وهمٌ ناشئ عن انحراف نفسي، ورغبة شاذة في معاقبة الذات وتأنيبها، والحس هو المجال الطبيعي لممارسة القوى الإنسانية. وليس فيه ما يحط من قدر الإنسان في شيء.

والذي لا شك فيه هو أن نقد المسيحية كان عند نيتشه مقدمة عقلية أساسية لا يُفهَم تفكيره بدونها، بل كان هو الهدف الرئيسي الذي تتجه إليه فلسفته بأسرها.١٢ ولسنا نودُّ أن نطيل الحديث في علاقته الخاصة بشخصية المسيح، فقد كان في كثير من الأحيان يحمل على تلك الشخصية حملة شديدة، ينتهي فيها إلى أن المسيح لم يَسِرْ في الطريق الذي اتخذه لنفسه إلا لأنه قد أساء فهم دوافعه النفسية، وذلك هو ما أدى به إلى الشعور بالحاجة إلى الخلاص، ولو أحسن فهْم تلك الدوافع، وتخلَّص من أخطائه الذهنية والنفسية، لمَا كان مسيحًا على الإطلاق.١٣ على أن نيتشه يخفف في بعض الأحيان من حدَّة لهجته، ويبدو مدافعًا عن المسيحية في صورتها الأصلية كما أتى بها يسوع المسيح، مؤكِّدًا أن النظام الذي سارت عليه الكنيسة فيما بعدُ، بما فيه من قساوسة، ولاهوت، وطقوس، هو ما كان يحاربه يسوع بوجه خاص،١٤ وهو الذي صبغ المسيحية بالصبغة الحالية التي كانت هدفًا لحملاته، وينسب كل هذه التغييرات إلى أصول أخرى تالية، من أهمها القديس بولس.
وسواء كان الأمر متعلِّقًا بطبيعة المسيحية الأولى، أم بالمسيحية التالية، فإن عقل الإنسان الحديث، في رأي نيتشه، لم يعُد يتحمل مثل هذه التعاليم. «فلم تعد أذهاننا هي التي تُدين المسيحية الآن، بل ذوقنا»!١٥ وهو يرى في المسيحية أفكارًا لا يكاد العقل الحديث يتصورها إذا تأمَّلها بشيء من الموضوعية فيقول: «عندما نستمع في صباح الأحد إلى دقات الأجراس القديمة، فعندئذٍ نتساءل: أهذا ممكن! إن ذلك كله من أجل يهودي صُلب منذ ألفَي عام، كان يقول إنه ابن الله، وهو زعم يفتقر إلى البرهان؛ فلا جدال في أن العقيدة المسيحية هي بالنسبة إلى عصرنا أثر قديم نابع من الماضي السحيق. وربما كان إيماننا بهذا الزعم، في الوقت الذي نحرص فيه على الإتيان ببراهين دقيقة لكل رأي آخر، هو أقدم ما في هذا التراث. فلنتصور إلهًا ينجب أطفالًا من زوجة فانية … وخطايا ترجع إلى إله، ويحاسب عليها نفس الإله، وخوفًا من عالم آخر يكون الموت هو المدخل إليه … لكم يبدو لنا كل ذلك مخيفًا، وكأنه شبح بُعث من الماضي السحيق، أيصدِّق أحد أن شيئًا كهذا لا يزال يُصدَّق؟»١٦

ولعلنا قد أوضحنا الآن تلك الحقيقة التي لا سبيل إلى الشك فيها، وهي أن العقائد، في كل صورها الشائعة، لا تلائم تفكير نيتشه على الإطلاق؛ غير أنه لم يقف عند حد الإنكار السلبي للعقائد دائمًا، بل أتى في الفترة الأخيرة من تفكيره الفلسفي، بما يمكننا أن نسميه عقيدته الخاصة؛ أعني فكرة العَوْد الأبدي. ولسنا نودُّ أن نحكم على هذه الفكرة مُقدَّمًا، بل يكفينا أن نشير إلى أنها تفي بكل الشروط التي افتقرت إليها العقائد الشائعة في رأي نيتشه؛ فهي عبادة للأرض، وللإنسان في هذا العالم؛ وأهم من هذا كله أنها ترتكز على التصور اليوناني للعالم، وترجع في كثير من تفصيلاتها إلى تعاليم فلاسفة اليونان.

فكرة العَوْد الأبدي١٧

لفكرة العَوْد الأبدي تاريخ طويل في الفلسفة، بل قبل الفلسفة، فأصولها ترجع إلى عهد الأديان القديمة التي قامت بها على أساس أسطوري لا يمتُّ إلى العلم أو المنطق العقلي بصلة. واحتلت الفكرة أهمية كبيرة في الفلسفة اليونانية، فقد ظهرت لها بوادر في فلسفة أنكسمندر، حين قال بعدد لا متناهٍ من العوالم، وإن كنا لا ندري إن كانت هذه العوالم تتعاقب أو تتواجد معًا، غير أن مما يعزز الرأي القائل بأنها تتعاقب، اعتقاد أنكسمندر بالفناء الكوني؛ ومن هنا يمكن القول إنه قد عرف نوعًا من التعاقب بين أحوال مختلفة للعالم، يقرب مما تقول به نظرية العَوْد الأبدي، وإن لم نكن على ثقة من أن كل عالم ستتكرر فيه بدقة نفس حوادث العالم السابق كما تقول النظرية.

وازدادت الفكرة وضوحًا عند هرقليطس؛ فالنار في رأيه، وهي عنصر الكون الأساسي، تلتهم العالم بين فترة وأخرى، فيعود العالم بعد ذلك عودًا مماثلًا لصورته السابقة، وذلك خلال «دورات معيَّنة من الزمان».

كذلك قال أنبادقليس بتتابع أبدي لعوالم متتالية تكون ثم تفسد، وشهد له أفلاطون وأرسطو بأنه رأى العالم في حالة تغيُّر دائم، يتم خلاله تبادل السيطرة بين قوَّتي الحب والكراهية، بحيث يُكمل الكون دورته كلما عاد أحد هذين العنصرين إلى السيطرة الكاملة.

وإذا كنا في كل هذه الآراء لم نصادف بعدُ عودًا أبديًّا تتماثل فيه كل التفاصيل الدقيقة للعالم، فلا شك في أن الفكرة قد ظهرت بحذافيرها لأول مرة لدى الفيثاغوريين. فهناك شواهد تقطع بأنهم رأوا الزمان يعود كما سار من قبلُ، فتتكرر كل حوادث العالم مثلما تتكرر فصول السنة بعد أن تتم دورتها.

ومن العجيب أن نيتشه، وهو دارس متعمق لتاريخ الفلسفة، وبخاصة فلسفة اليونان، قد نسب إلى نفسه أنه كان أول القائلين بهذه الفكرة؛ أعني أول من نادى بالعَوْد الأبدي، فهل كان نيتشه كاذبًا في هذا الزعم الذي صرح به في كتابه «هُوَ ذا الرجل»؟ إنه كان يعلم ولا شك أن من المفكرين اليونانيين من قالوا بالعَوْد الأبدي، وقد صرَّح في رسالته عن «نفع التاريخ ومضارِّه للحياة»١٨ أن الفيثاغوريين قالوا بفكرة العَوْد الأبدي. فكيف نوفِّق بين هذين الأمرين؟ في وسعنا أن نجد لهذه الظاهرة الغريبة تعليلات مختلفة، تُبنى كلها على استبعاد فكرة الكذب أو الافتقار إلى الأمانة العلمية عن نيتشه:
  • (١)

    ففي هذه الظاهرة دليل آخر على مدى تأثره بالتفكير اليوناني، إلى حد أن أصبحت مبادئ هذا التفكير في هوية مع مبادئ تفكيره هو، حتى استحال عليه في آخر الأمر أن يميز بين ما يأتي هو به، وما يتلقاه عن اليونان من أفكار، ومرة أخرى يظهر تداخُل المحتوى الفكري لذهن نيتشه في حياته، حتى يبدو التراث العقلي الذي استوعبه إنتاجًا خاصًّا لذهنه، يفخر به ويَعُدُّه أعظم ما «أبدعه» عقله!

  • (٢)

    وقد يكون لتوسُّع نيتشه في بحث الفكرة أثره في اعتقاده بأنه هو أول من كشفها، فقد كشف عن نتائج هامة للقول بالعَوْد الأيدي، واحتلت الفكرة من فلسفته الأخيرة موقع الصدارة، بينما اقتصرت الفلسفات اليونانية التي قالت بها على وجوه محدودة منها، ولم تستخلص منها أية نتيجة أخلاقية ذات شأن، أو تجعل منها نقطة بداية لعقيدة جديدة؛ فالعَوْد الأبدي لم يكن عند فلاسفة اليونان إلا نظرية ميتافيزيقية فحسب، ولم يحاول أحد منهم أن يستخلص دلالته العميقة، أو يجعل منه مركزًا لفهمٍ شامل للعالم، من الناحيتين الأخلاقية والدينية في آن واحد.

  • (٣)

    كذلك كان لطريقة ظهور هذه الفكرة عند نيتشه أثرها الكبير في اعتقاده بأنه أول من قال بها، فقد عرفها من قبلُ فكرةً معتادةً من الأفكار التي يحفل بها تاريخ الفلسفة، ولم تترك لديه عندئذٍ اهتمامًا كبيرًا، ولكنه اهتدى إليها فجأة في وقت متأخر، وقد اكتسبت صفات جديدة كل الجدة. وفي هذا الشكل الجديد لم يكن من الغريب أن يقول إنه أول من توصَّل إليها؛ فقد هبطت عليه الفكرة في لحظة مباغتة، فطغت على كل ما في ذهنه، وكل ذلك خلال نزهة جبلية له في إيطاليا، على بُعد ستة آلاف قدم «من الناس والزمان»، في أغسطس عام ١٨٨١؛ أي في المرحلة الناضجة من مراحل فلسفته، «في ذلك اليوم كنت أجتاز الغابة على طول بحيرة سلفابلانا، وبالقرب من كتلة صخرية هائلة برزت على شكل هرمي، وعلى مقربة من سورلي، وقفت، وهناك خطرت لي الفكرة»؛ فالصورة التي يرسمها نيتشه لظهور فكرة العَوْد الأبدي لديه لا تدَع مجالًا للشك في أن دلالة الفكرة عنده كانت تختلف تمامًا عن ذلك الصدى الذي تركته في نفسه دراساته لمظاهرها السابقة عند اليونانيين.

ومنذ ذلك الحين توَّجت فكرة العَوْد الأبدي فلسفته، واحتلَّت المكانة الرئيسية فيها، وأخذ يربط بينها وبين نظرياته في الأخلاق ونقده الديني، واستلهمها كثيرًا من قصائده الغنائية في كتابه «زرادشت». بل إن الثعبان الذي كان يصاحب زرادشت أينما حل، كان يرمز إلى الأبدية في دورانها والتفافها وعَوْدها إلى حيث بدأت (بينما كان النسر يرمز إلى الفكرة الرئيسية الأخرى، فكرة إرادة القوة) … «سأعود مع هذه الشمس، وهذه الأرض، وهذا النسر، وهذا الثعبان؛ لا إلى حياة جديدة، أو حياة أفضل، أو حياة تقرُب من هذه، سأعود أبدًا إلى نفس هذه الحياة، في كل صغيرة وكبيرة منها، لكي أدعو مرة أخرى إلى العَوْد الأبدي لكل الأشياء.»١٩

ولقد كان في ذهن نيتشه مشروع ضخم يرمي إلى أن يكرِّس عشر سنوات من حياته لدراسة العلوم الطبيعية، لا لشيء إلا ليُثبت فكرة العَوْد الأبدي إثباتًا علميًّا متينًا؛ غير أن اعتلال صحته لم يمكِّنه من تحقيق ذلك المشروع. ومع ذلك فقد عمل جاهدًا على أن يجد لفكرته هذه دعامة علمية، فلا تعود مجرد فرض ميتافيزيقي كما كانت عند اليونان.

وأولى القواعد العلمية التي ترتكز عليها فكرة العَوْد الأبدي في رأي نيتشه، هي القول بأن مدى القوة الكونية متناهٍ ومحدود. ومعنى ذلك أن عدد مواقع هذه القوة وتغيراتها وتركيباتها محدود بدوره، وإن يكن هائلًا. ففكرة استمرار التحول إلا ما لا نهاية تنطوي في ذاتها على تناقض، إذ تفترض وجود قوة تتزايد إلى ما لا نهاية. ولكن من أين لها هذا التزايد؟ ومن أين تتغذى بهذا القدر الهائل؟ إن تصوُّر العالم على أنه قوة محدودة هو الذي يميز الروح العلمية من الروح الدينية في رأي نيتشه؛ فنحن نعتقد اليوم أن القوة هي هي دائمًا، وأنها لا ينبغي أن تكون لا متناهية بالضرورة. هي حقًّا فعالة فعلًا أبديًّا، ولكن طاقتها محدودة، فلا تستطيع أن تستمر في خلق حالات جديدة إلى ما لا نهاية له.

فإذا كان الشرط العلمي الأوَّل لتحقُّق العَوْد الأبدي هو أن تكون القوى الكونية متناهية، فالشرط الثاني هو أن يكون الزمان لا متناهيًا؛ أي أن تظل هذه القوة تمارس فعلها بلا انقطاع. فإذا توافرت اللانهائية للزمان، فلا بُدَّ أن تُستنفد الإمكانيات التي تُتاح لهذه القوة المحدودة، وبهذا تأتي حالة تماثل تمامًا حالة أخرى تكررت من قبلُ، وعندئذٍ تتلو عنها كل الحوادث كما وقعت من قبلُ تمامًا، ويكون الكون قد أتم دورة من دوراته، وتظل هذه الدورات تتكرر إلى الأبد خلال الزمن اللامتناهي، كلٌّ منها مماثلة للأخرى في كل صغيرة وكبيرة.

ولنا أن نعدَّ فكرة العَوْد الأبدي من النتائج الرئيسية للمذهب الآلي، بل هي نتيجته الفلسفية الكبرى، كما يقول ريي Rey،٢٠ فالعالم في رأي ذلك المذهب آلة عمياء، من شأنها أن تمر بنفس الحالات مرات لا متناهية. بل إن تعريف الآلة هو أنها ما يؤدي وظيفته بشكل دوري منتظم، بحيث يعود دائمًا إلى نفس الحالات التي مرَّ بها دون أي تغير.

والواقع أن لفكرة العَوْد الأبدي، من وجهة نظر المذهب الآلي، مزايا عديدة؛ فهي تفُوق في بساطتها كل نظام يصور العالم على أنه يسير في خط واحد نحو غاية معلومة؛ أي إن له بداية ونهاية. وفيها قدر كبير من الاستقرار والثبات؛ فهي تضمن سيادة القانون العلمي، ولا تجعله عرضة للتحوُّل والتغير، كما أنها لا تهيب بأي مبدأ يخرج عن الطبيعة ذاتها، ويدفع العالم إلى البداية أو النهاية، فمبدأ الاقتصاد في الفكر هو الذي يجعل المذهب الآلي يفضِّل فكرة العَوْد الأبدي على كل فكرة تُصوِّر العالم الطبيعي تصويرًا غائيًّا.

وإذا كنا قد تحدَّثنا عن الأساس العلمي لفكرة العَوْد الأبدي، فليس لنا أن نُغفل الأوجه الفلسفية والأخلاقية التي كانت، بالنسبة إلى نيتشه، من الدعامات الأساسية للفكرة.

أمَّا عن الوجه الفلسفي لفكرة العَوْد الأبدي، فقد رأى نيتشه فيها خير وسيلة للتوفيق بين التفسيرَين القديمَين للعالم على أساس التحول من جهة، وعلى أساس الوجود الثابت من جهة أخرى.

والحقُّ أن جهود الميتافيزيقا قد تركزت، منذ نشب الصراع الفكري القديم بين هرقليطس والإيليين، فناصَرَ الأوَّل فكرة التحول الدائم، وناصَر الآخرون فكرة الوجود الثابت؛ نقول: إن جهود الميتافيزيقا قد تركزت منذ ذلك الحين في بحث مشكلة الوجود والصيرورة، فلم تكن الفلسفة اليونانية بأَسْرها — من جهة نظر معيَّنة — إلا سردًا لتاريخ محاولات الجمع أو التوفيق بين ثبات الوجود من جهة والصيرورة والتغير من جهة أخرى؛ فالثبات والتحول هما أوسع التعبيرات عن الثنائية الأساسية التي تتنازع ماهية الإنسان والكون، وما كان لكل فلسفة جديدة من هدف سوى أن تأتي برأي جديد في العلاقة بين هاتين الفكرتين.

والجديد الذي أتى به نيتشه في نظريته عن العَوْد الأبدي، هو أنه أكسب التحول صفة الوجود، بحيث لم يعُد يقول بتحول دائم يسري دون أن تكون له أية هوية مع ذاته، بل أصبح التغير يرجع إلى ذاته على الدوام. فهو تحوُّلٌ خالدٌ تصطبغ كل مراحله بصبغة الأبدية؛ فلكل مرحلة من مراحل التغير الدائم ثباتٌ أزلي، وإن كان مخالفًا لذلك الثبات الذي قال به أنصار الوجود المطلق. وهكذا جمع نيتشه في فكرة العَوْد الأبدي بين نزعتَين متعارضتَين: الحاجة إلى المتناهي والمتحدد عينيًّا، والحاجة إلى اللامتناهي، وإلى العلو؛ ذلك لأن الفكرة تتضمن محتوًى متناهيًا، وظواهر محددةً في صورها وأشكالها، هي ظواهر هذا العالم العيني الذي نعيش فيه، ثم تُكسبها صفة التكرار الأبدي إلى ما لا نهاية، فتجعل لها نوعًا من الحدود والأبدية، وتعلو بها على مجال الفناء، مع أنها هي ذاتها صورة فانية؛ ومن هنا كان قول نيتشه: «إن عودة كل شيء هي أكبر تقريب ممكن لعالم الصيرورة من عالم الوجود.»

وأمَّا عن النتائج الأخلاقية والنفسية لفكرة العَوْد الأبدي، فإنها في واقع الأمر أهم ما كان يبرر هذه الفكرة في نظر نيتشه:
  • (١)

    فنيتشه يؤكد أن كل مدنية حاربت هذا العالم الأرضي أو ركزت آمالها على عالم آخر أعلى منه مآلها إلى الزوال. فلزام علينا اليوم أن نتعلق بالعالم الذي نحيا فيه، وأن نوجه أفكارنا نحو هذه الحياة. وإذا كانت النزعة إلى التقديس ضرورية بالنسبة إلى البشر، فإن فلسفة نيتشه تحاول أن تُرضي هذه النزعة بدورها، حين تمجِّد هذا العالم الذي نعيش فيه، وتُضفي عليه صفة الأبدية والخلود.

    فالعَوْد الأبدي هو إذن خيرُ تعبير عن خلود هذه الحياة، وخلود كل لحظة من لحظاتها. فهو قمة الإيجاب Bejahung في نظرتنا للحياة، بينما كانت دعوات الخلود السابقة ترتبط دائمًا بالنزعة الزاهدة إلى إنكار الحياة.
  • (٢)

    ولكن قد يعترض المرء قائلًا إن هذا الخلود لا يُطمئن الفرد كل الاطمئنان، ما دام المدى بين هذه الحياة والحياة التي تليها عظيم البُعد، وما دامت حياة الفرد لن تعود إلى الظهور إلا بعد دورة كاملة من دورات الكون. ولكن نيتشه يؤكد أن الفترة الواقعة بين خمود الوعي وعودة ظهوره لا تُقاس بزمن، بل هي كوميض البرق، ما دام الوعي الذي يحس بالزمن ويقيسه مختفيًا خلالها. ومعنى ذلك أن الميلاد الجديد، بالنسبة إلينا، يتلو الممات مباشرة، دون أن تفصلهما أية ثغرة.

    وإذن ففكرة العَوْد الأبدي تخلِّص الإنسان من خشية الموت، الذي هو أخطر ما يتهدد الإنسان خلال حياته، بل إن من شأن العَوْد الأبدي أن ينفي الموت أصلًا؛ فكل موت نسبي، وعقب كل موت حياة، بل إن الموت لا يعود إلا مرحلة معيَّنة من مراحل حياة أبدية تتكرر على الدوام. وليس للخلود هنا درجات أو مراتب، وإنما تدوم نفس الحياة للجميع.

  • (٣)
    والفضيلة الجديدة التي تدعو إليها فكرة العَوْد الأبدي هي «حب المصير amor foti»؛ ففيها قبول للحياة، لا عن استسلام وإنما عن حب لكل أحوالها وتقلباتها، وإقبال على كل ما في الحياة من آلام ومتاعب؛ إذ إنها خالدة بدورها. وفي هذه الصفة خير معيار للتفرقة بين نفوس الأبطال ونفوس الخائرين؛ فسوف تبعث نظرية نيتشه هذه فيمن يحتقر الحياة وينصرف عنها يأسًا قاتلًا؛ لأن تلك الحياة — ومعها احتقاره لها — هي التي ستعود أبدًا. أمَّا من يتمسك بالحياة ويُقبل عليها فسوف يزداد بها تعلُّقًا؛ إذ إن الحياة بكل عناصرها المحببة إلى نفسه ستتكرر دوامًا. وبهذا يرد نيتشه على النقد القائل إن فكرة العَوْد الأبدي تبعث اليأس في النفوس، والاستسلام العاجز؛ إذ إن هذا الشعور لن ينتاب إلا ضعاف النفوس فحسب. فمن يخشى الحياة ستبلغ خشيته لها أقصى مداها. أمَّا من ينظر إليها نظرة إيجابية فسوف يبلغ حبه لها غايته.
  • (٤)
    وللعَوْد الأبدي قيمة نفسية كبرى؛ فبه تتم سيطرة النفس على الزمان، وتشعر بأكبر قدر من الحرية، على الرغم مما تتسم به الفكرة من تحكم تام للضرورة فيها، فأثقل قيد للنفس هو الزمان الذي انقضى؛ أي الماضي، الذي تحس إزاءه بأنها مغلولة عاجزة: «إن الإرادة لعاجزة عن أن تريد ما مضى. وفي عجزها عن تحطيم الزمان وجشع الزمان أساها الأوحد …»٢١ فإذا أدركت الإرادة سر العَوْد الأبدي، أمكنها أن تحيل الماضي — سجانها الخالد — عبدًا خاضعًا لها؛ إذ يصبح مجرى الزمان دائرة مقفلة، ويتلو الماضي الحاضر كما تلا الحاضر الماضي. وبهذا الحل يعتقد نيتشه أنه قضى على فكرة الماضي المطلق نهائيًّا، وقضى بالتالي على سلطته المتحكمة في الإرادة، وهذا هو الخلاص بحق.
  • (٥)

    والقاعدة الأخلاقية الأساسية التي يتَّبعها من يؤمن بالعَوْد الأبدي هي «عِش بحيث ترغب في الحياة الثانية»، وهي التي استبدلها نيتشه بقاعدة كَنْت المعروفة، القائلة: «افعل بحيث تصلُح قاعدة سلوكك لتكون قانونًا عامًّا يسري على الجميع.» ولكلٍّ من القاعدتين نفس الهدف، وهو إشعار الفرد بالمسئولية؛ غير أن كَنْت يبعث في نفس الفرد الشعور بالمسئولية بأن يجعله يتصور أن سلوكه قد غدا قاعدة عامة للبشر أجمعين، وعندئذٍ يحذر الخطأ في سلوكه. أمَّا نيتشه، فيحقق هذا الهدف ذاته على نحوٍ مخالف؛ إذ يدعو الفرد إلى أن يسلك على أفضل نحو ممكن، لأنه سيظل يسلك على هذا النحو مراتٍ لا متناهية. والحق أن قاعدة كَنْت الأخلاقية إنما كانت تهدف إلى إبراز طبيعة كل فعل على أوضح نحو ممكن، وذلك حين يُعمَّم هذا الفعل ويسري على الجميع، بينما لا تتضح طبيعة هذا الفعل إذا نُظِر إليه في حدود الفرد وحده؛ أي إن هدف كَنْت هو أن يُتصور الفعل من خلال منظار مكبر، يجسَّم ما فيه من خير أو شر، وهذا هو عين ما يفعله نيتشه؛ غير أنه بدلًا من أن يكرر الفعل «عرضيًّا» بين أشخاص مختلفين، يكرره «طوليًّا» خلال الزمان في الفرد الواحد مرات لا متناهية. فكلتا الطريقتين في تكرار الفعل ترمي إلى نفس الهدف، وهو أن تزيل عنصر العرضية في الفعل، وهو العنصر الذي يلازمه إذا اقتصر على اللحظة الحاضرة أو الفرد الواحد فحسب.

وعلى ذلك، فأقوى تبرير لفكرة العَوْد الأبدي في نظر نيتشه هو نتائجها الأخلاقية الهامة، وتأكيدها للمسئولية الفردية؛ غير أن النتائج الأخلاقية وحدها لا تكفي لتبرير الفكرة إلا إذا كانت الفكرة ذاتها «صحيحة»، وخاصة لأن نيتشه أصرَّ على أن يجعل لها دلالة كونية، وأكَّد أنها هي التي تعبِّر عن الطبيعة الحقيقية للعالم. ومن المحال أن يؤمِن المرء بما تدعو إليه فكرة معيَّنة، ويوجِّه سلوكه على النحو الذي تقضي به، إلا إذا كان مقتنعًا من بداية الأمر بصوابها؛ أي إن مصير النظرية بأسرها، وبكل ما لها من نتائج أخلاقية، يتوقف على اختيارنا العقلي لها، وهذا هو ما سنعرض له في نقدنا النهائي.

نقد

ترتبط فكرة العَوْد الأبدي ضرورةً بالإيمان بالآلية، فلا محلَّ لها إلا في مذهب يؤكد أن الضرورة المطلقة تتحكم في الحوادث، وأن وقوع الحادثة يستتبع وقوع سائر الحوادث منها على نحوٍ آليٍّ تمامًا. على أن نيتشه لم يكن من أنصار المذهب الآلي، وهو ينقد فكرة العِلِّيَّة ويراها وهمًا عقليًّا ننظِّم به الكون الذي يسوده الاتفاق المحض، على نحو ملائم لأذهاننا فحسب. والحقُّ أن فكرة الاتفاق، واللهو البريء الذي لا هدف وراءه ولا خطة مرسومة توجهه، كانت هي الفكرة التي يفسر بها الكون دائمًا في فلسفة نيتشه. فكيف جاز له، وهذا رأيه، أن يقول بالعَوْد الأبدي؟ إن القول بأن القوى الكونية متناهية، وبأن الزمان لا نهائي، قد يكون صحيحًا، ولكننا حتى لو افترضناه جدلًا، فلن نستنتج منه سوى أن من الممكن أن تطرأ على الكون حالة طرأت عليه من قبلُ. أمَّا أن يسير الكون كله على نفس النحو الذي سار فيه من قبلُ تمامًا، فهذا يقتضي تحكُّم الآلية في مساره، وسيادة العِلِّيَّة الدقيقة في كل تطوراته. وهكذا يكون على المرء أن يختار بين فكرة الاتفاق التي سادت تفكير نيتشه، وبين فكرة العَوْد الأبدي، ويستحيل عليه أن يهتدي إلى وسيلة للتوفيق بينهما.

ولنمضِ في النقد خطوة أخرى، فنفترض أن العَوْد الأبدي قد تحقَّق بالفعل؛ أي إن العالم الذي نعيش فيه قد تكرر من قبلُ، وسيتكرر فيما بعدُ، بكل تفاصيله، عددًا لا متناهيًا من المرات؛ فهل يكون له مع ذلك تأثير نفسي أو أخلاقي على الفرد؟ إن العَوْد الأبدي لن يكون له هذا التأثير إلا إذا كان يكون «مركَّبًا» مع الحالة الحاضرة. فليس للتجربة المتكررة قيمة في حياة الفرد إلا إذا تذكَّرها فيما بعدُ، واستفاد منها في وقت مشابه. ومعنى ذلك أن العَوْد الأبدي لا يكون له على السلوك الإنساني أي تأثير إلا إذا كان نفس «الأنا» هو الذي يحيا في كلتا الحالتين؛ غير أنه من المحال أن يكون في أية دورة من دورات العَوْد الأبدي ما يذكرني بما حدث لي من دورة سابقة، وما يمكنني أن أستغله في سلوكي الحالي؛ إذ لو كان في تلك الحالة الثانية أي عنصر يذكِّرني بأن مشكلتي الحالية قد صادفتني من قبلُ في دورة سابقة، لما كان التماثل بين الدورتين تامًّا، بل لتميزت الثانية عن الأولى بوجود عنصر التذكر هذا. ومعنى ذلك أن الإصرار على وجود هوية تامة بين دورات العَوْد الأبدي يُفقد الفكرة كل تأثير عملي لها على سلوك الفرد. ولنعلم أن «الأنا» الذي يمارس تجربته خلال إحدى هذه الدورات لا يظل موجودًا في الدورة التالية، بحيث يستفيد في الثانية من تجارب الأولى، وإنما يبدأ التجربة نفسها من جديد، مثلما حدث في المرة السابقة تمامًا، ودون أن يتذكر منها شيئًا؛ فالفكرة إذن لا تزيد عن أن تكون خيالًا شعريًّا لا تأثير له على السلوك، ما دام ينهار أمام التحليل المنطقي الدقيق. وفي هذه الحالة ينعدم تأثيرها النفسي والأخلاقي على الفرد الذي يُخضعها لمثل هذا التحليل، ولا يعود لها من أثرٍ إلا على النفوس التي تطغى قوَّتها التخيُّلية على منطقها العقلي؛ ولا جدال في أن نيتشه كان من هذا النوع الأخير. وهكذا تُخفق العقيدة الجديدة التي حاول نيتشه أن يدعو البشر إليها في توجيه السلوك الإنساني على النحو الذي أراد، وتنهار كل نتائجها الأخلاقية بانهيار أساسها العقلي.

فإذا تذكَّرنا مدى تأثير فكرة العَوْد الأبدي في نيتشه، والآمال التي علَّقها عليها في خلق بشرية جديدة تؤمِن بالأرض وتكافح فيها كفاح الأبطال. وإذا أدركنا أن هذا كله يُبنى على أسس لا يدعهما العقل، فسوف نجد هنا مثلًا آخر يوضح لنا ذلك النمط النفسي الخاص الذي ينتمي إليه نيتشه، بما فيه من افتقار إلى المعقولية، ومن ذاتية متطرفة تُسارع بتعميم الأفكار واستخلاص النتائج منها قبل أن تنضج تلك الأفكار أو يُثبت الذهن إمكان تحقيقها أصلًا.

١  أمور إنسانية … فقرة ١١١.
٢  الفجر، فقرة ٨٣.
٣  المرجع نفسه، فقرة ٦٢.
٤  المرجع نفسه، الفقرة نفسها.
٥  إرادة القوة، فقرة ١٣٦.
٦  يُلاحَظ أن المصطلح مكتوب في المرجع الألماني السابق بالفرنسية.
٧  «العلم والمرح»، فقرة ١٢٩.
٨  «الفجر»، فقرة ٩١.
٩  المرجع نفسه، فقرة ٩٥.
١٠  «أصل نشأة الأخلاق»، القسم الثاني، فقرة ٢٣.
١١  «الفجر»، فقرة ٥٨.
١٢  انظر النص رقم «٦».
١٣  «أمور إنسانية …» الجزء الأوَّل، فقرة ١٣٥.
١٤  «إرادة القوة»، فقرة ١٩٦.
١٥  «العلم المرح»، فقرة ١٣٢.
١٦  أمور إنسانية … الجزء الأوَّل، فقرة ١١٣.
١٧  نُقل هذا الفصل، مع بعض التعديل، من رسالة للمؤلف بعنوان: «النزعة الطبيعية عند نيتشه»، والرسالة مخطوطة لم تُنشر.
١٨  وهو جزء من كتاب «خواطر في غير أوانها».
١٩  هكذا تكلم زرادشت: الناقة Der Genesende.
٢٠  Abel Rey: Le retour éternal et la philosophie de la physique, Paris 1927, p. 14.
٢١  هكذا تكلم زرادشت: في الخلاص Von der Erlosung.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤