الشيطان المزيف

في أقل من ربع ساعة وصل «أحمد» إلى مصدر الضوء … ولكن الكشاف الصغير انطفأ فجأةً وغَرِق المكان في الظلام … وتطلَّع «أحمد» حولَه في دهشةٍ وشكٍّ … كان الماءُ حوله باردًا … وقد ظهرَت أضواء الشاطئ بعيدة شاحبة، وقد أحاط به الماء من كل جانب … واختفى مصدر الضوء العجيب بطريقة مدهشة.

وفجأةً، ظهر على البُعد زَوْرقٌ بخاريٌّ صغير، أخذ يتهادَى بلا صوتٍ فوق صفحة الماء، ثم استقر على مسافة عشرة أمتار من «أحمد» … فكاد أن يسبح مُتجهًا نحوه، لولا أن أوقفَه صوتٌ يقول: فلتبقَ في مكانك.

توقَّف «أحمد» مندهشًا … كان الصوتُ يبدو مألوفًا لديه بطريقة غير عادية … وأطلَّ وجهٌ من داخل الزورق في قلب الظلام بملامح غير واضحة ونظارة سوداء كبيرة. وهتف «أحمد» غيرَ مصدق: رقم «صفر»؟

وأجابه الصوت المألوف الدافئ: لم تكن هناك وسيلةٌ أخرى للاتصال بك وحدك غير تلك الطريقة … كان من المهم استدعاؤك بدون أن يشعر زملاؤك بذلك.

قال «أحمد» في حيرة: ولكن يا سيدي، إنني لا أفهم شيئًا مما يدور حولنا منذ وصولنا إلى هذا المكان.

رقم «صفر»: سأشرح لك كلَّ شيء يا «أحمد» … فهذا ما استدعيتُكَ لأجله … إنها مهمة خاصة … خاصة جدًّا، وقد يتوقف عليها مصيرُ الشياطين اﻟ «۱۳» بأكملهم … بل لعلها مهمةٌ يتوقَّف عليها بقاءُ منظمة الشياطين بأكملها.

وصمتَ لحظة ثم أضاف: وهي مهمة خاصة بك وحدك … فالأمور … كلُّها في يدك الآن … ونجاحُكَ في مهمتك القادمة يعني بقاءَ المنظمة وتغلُّبَها على الخطر الذي يتهدَّدها … أما فشلُكَ فسوف يكون له نتائج سيئة … ورهيبة … هل تسمعني؟

– إنني مُنصِتٌ لك تمامًا يا سيدي.

– كما تعلم، فإن آخر رسائلي إليكم كانت تنصُّ على عدم اتصالكم بي، بل وعلى عدم التحدث فيما بينكم عن أسرار عملكم الخاصة، ولا بد أن تلك التعليمات قد أدهشَتكم! … ولكنك عندما ستعرف الحقيقة ستُدرك غرضي تمامًا … إن هناك شيطانًا مزيفًا وسطكم.

– ماذا؟! هتف «أحمد» في ذهولٍ طاغٍ.

– هذه هي الحقيقة يا «أحمد» … وهي حقيقة مذهلة كما ترى، ومن أجلها منعتُكم من الاتصال بالمقر السري؛ حتى لا يكتشفَ ذلك الشيطان موجاتِ الإرسال التي نتراسل بها والشفرة الخاصة بنا … ومن أجل ذلك أمرتكم أيضًا بمنعِ التحدُّثِ مع بعضكم حول أسرار المقر السري والمنظمة.

قال «أحمد» بدهشة عظيمة: ولكن لماذا لم تُخبرنا يا سيدي عن هذا الشيطان المزيف فنقبض عليه؟!

– لا … لا أستطيع؛ ذلك لسبب بسيط … وهو أنني أجهل مَن يكون مِن الشياطين قد تمَّ تزييفُه وتبديله … إن كل ما أثق به، هو أنك الوحيد الذي لا يمكن أن يكون الشيطان المزيف … فعندما أنهيتم مغامرتكم السابقة بنجاح وأثناء نومكم استعدادًا للسفر في اليوم التالي، فقد قامت منظمة معادية مجهولة لنا حتى الآن، هذه المنظمة قامت باختطاف أحد زملائك أثناء نومه، ثم بدَّلَته بشخص آخر يُشبهه تمامًا في كل التفاصيل؛ الطول، والوزن، والملامح … وحتى بصمات الأصابع تم تطابقها بعملية جراحية كما حدث لملامح الوجه … لقد تم إبدال الشيطان المخطوف بآخر يُطابقه في كلِّ شيء تمامًا، وهو السبب الذي جعلكم لا تفطنون إلى حقيقة ذلك الشيطان المزيف الذي يعرف أشياء كثيرة عنكم وعن مهماتكم وعملياتكم السابقة … ولقد عرفنا تلك المعلومات بسرية شديدة، وفي آخر لحظة قبل عودتكم إلى المقر السري ومعكم الشيطان المزيف … ومن أجل هذا كانت أوامري لكم بالاتجاه إلى هذا الشاطئ لتمضيةِ بعضِ الوقت.

أحمد: ولكن من السهل يا سيدي اكتشاف ذلك الشيطان المزيف بأشياء عديدة كثيرة؛ منها تحليل الدم، وأجهزة كشف الكذب، وغيرها من الوسائل.

رقم «صفر»: هذا صحيح، وإن كان معناه أن زملاءك جميعًا سيخضعون إلى هذا الكشف لاكتشافِ الشيطان المزيف بينهم، وسوف يكون لذلك أثرٌ سيِّئ عليهم جميعًا … بالإضافة إلى أن تركَ الشيطان المزيف طليقًا بدون أن يشكَّ في أننا نعرف حقيقتَه … هذا العمل هو جزءٌ من خطَّتِنا للإيقاع به … وبمَن دسَّه على الشياطين … ولا تنسَ أننا لو قمنا بالقبض على الشيطان المزيف بعد اكتشاف حقيقته، فإن ذلك قد يعني موتَ الشيطان الحقيقي … لأنه في يد أعدائنا المجهولين، وهم لن يتوانَوا عن قتله في حالة اكتشافنا شخصية الشيطان المزيف والقبض عليه.

مرَّت لحظاتُ صمت، ثم قال «أحمد»: وما العمل يا سيدي؟

رقم «صفر»: ليست أمامي غيرُ خطة واحدة، ولن يستطيع القيامَ بها أحدٌ غيرك … إن مهمتك القادمة هي اكتشافُ مَن مِن الشياطين … هو الشيطان المزيف.

قال «أحمد» بدهشة: ولكن كيف أعرفه يا سيدي؟

– بالخبرة … بالإحساس … بالمشاعر … إن الأجهزة الإلكترونية وأجهزة كشف الكذب يمكن خداعها … ولكن مشاعر الإنسان وأحاسيسه تدلُّ على الشيء الصحيح تمامًا، وأنا واثق في أنك ستكتشف الشيطان المزيف بإحساسك … فهناك آلاف الخبرات والذكريات المشتركة بينك وبين بقية الشياطين. ولا بد أن الشيطان المزيف سيأتي بأفعال وأقوال لا تتفق مع صاحب الشخصية الأصلي … ومن هنا سيمكنك اكتشافُ حقيقته … فمهما كان هؤلاء الأعداء المجهولون على علمٍ بتفاصيل حياة وتصرُّفات الشيطان الذي تمكَّنوا من خطفه؛ فمن المؤكد أن هناك أشياءَ يجهلونها عنه … ومن هنا يمكن أن يُخطئَ الشيطان المزيف فيها.

وصمتَ رقم «صفر» لحظة ثم قال: سوف تبقَون فوق الشاطئ إلى أن تتمَّ مهمتُك … وكما أخبرتُك فهي مهمة على أكبر قَدْر من السرية، وتتوقَّف عليك وحدك … وغير مسموح لك أن تطمئنَّ إلى أيٍّ من بقية الشياطين أو تُخبرهم بطبيعة مهمَّتِك مهما كانت درجة ثقتك في أيٍّ من الشياطين في أنه ليس الشيطانَ المزيف … هل فهمتَ؟

تمامًا يا سيدي … ولكن هل هناك احتمال بأن ذلك الشيطان المزيف قد يكون … قاطعه رقم «صفر»: تمامًا يا «أحمد» … إنه قد يكون «إلهام».

تجَّهم وجهُ «أحمد» وعلاه شعورٌ من الحزن والكآبة … وقال رقم «صفر» بعد لحظة: هل هناك أية أسئلة؟

– ماذا سأفعل بالشيطان المزيف إذا اكتشفتُ حقيقته؟

من الأفضل الاحتيال عليه لنقبضَ عليه حيًّا، حتى يمكنَنا المساومة لإنقاذ الشيطان الحقيقي … وإن كان من الأفضل كثيرًا مراقبته لعلك تكتشف مَن يقف خلفه، وبذلك نستطيع إنقاذ الشيطان الحقيقي والقبض على الشيطان المزيف في وقت واحد … أما قتل الشيطان المزيف فهو لا يعني غير شيء واحد … أن يُقتل الشيطان الحقيقي المخطوف أيضًا.

وصمت رقم «صفر» ثانيةً ثم أضاف محذرًا: إنك ستراقب بقية الشياطين لاكتشاف مَن يكون الشيطان المزيف من بينهم … وتأكَّدْ أن الشيطانَ المزيف سيراقبُكَ أيضًا … وإذا شكَّ أنك عرفتَ الحقيقة فسيبادر بالهرب … وهذا معناه أيضًا موت الشيطان المخطوف.

أحمد: لا تخشَ شيئًا يا سيدي … لن يشعر أحد الشياطين بما أقوم به من عمل.

رقم «صفر»: إنها مهمة لن تستخدم فيها القنابل أو الرصاص، بل سيكون سلاحُك هو عقلَك ومشاعرَك وأحاسيسك … ولكنها برغم ذلك قد تكون أخطرَ مهمة قام بها أحد الشياطين في حياته.

– إنني أُدرك ذلك تمامًا يا سيدي.

– لن يكون هناك أيُّ اتصال بيننا … وعندما تكتشف حقيقةَ الشيطان المزيف، وتتأكد تمامًا؛ فعليك بالوقوف في نفس المكان الذي تلقيتَ فيه الإشارات الضوئية، على أن تقوم أنت بتوجيهها وإرسالها إلى قلب البحر، وتأكد أنها ستصلني … وحذارِ من استخدام جهاز اللاسلكي؛ فقد يكون أعداؤنا يعلمون موجاتِ اتصالنا ويلتقطون رسالتَك فينكشف الأمر، وفقك الله!

وأدار رقم «صفر» محرِّكَ زورقِه البخاري وانطلق به إلى قلب البحر … وبعد لحظات تبدَّد صوتُ الزورق، وعاد الهدوء يشمل المكان … ولكنه كان هدوءًا قاتلًا. وأحسَّ «أحمد» بأن رأسَه يكاد ينفجر … لم يكن يصدِّق ما سَمِعه حتى تلك اللحظة … وكيف أمكن تبديل أحد الشياطين بمثل تلك الصورة وزرع شيطان آخر مزيف مكانه؟! وكيف عاش ذلك الشيطان المزيف وسطهم بدون أن يكتشفوا حقيقته؟! وكيف خدعَتْهم مشاعرُهم وخبرتُهم السابقة إلى ذلك الحد؟!

وإذا كان هذا قد حدث في الأيام السابقة … فمَن يضمن أنه لن يحدث مرة أخرى … وأنه قد يفشل في الاهتداء إلى الشيطان المزيف وأن تخدعَه أحاسيسُه؟

بل وما الذي يضمن له أنه قد يشكُّ في أحد الشياطين … ولا يكون هو الشيطان المزيف.

وبدأ «أحمد» السباحة، وهو يضرب الماءَ ضرباتٍ محروقةً … كان يحسُّ بالنار متقدة في جسده كلِّه … وكان هناك سؤال رهيب لا يزال يدوِّي في رأسه، كان يحاول الهرب منه بلا فائدة … ماذا لو كانت «إلهام» هي الشيطان المخطوف؟! وأن تلك الأخرى الموجودة الآن على الشاطئ ليست هي «إلهام» الحقيقية … وإذا كان ذلك هو ما حدث حقيقة، فكيف خدعَته مشاعرُه فلم يكتشف الحقيقةَ خلال الأيام السابقة؟! وطاف سؤالٌ آخر بذهنه، ترى ماذا سيحدث لو فشل في اكتشاف الشيطان المزيف … وأي الأخطار سيتعرَّض لها الشياطين جميعًا؟

ووصل أخيرًا إلى الشاطئ، والصداع يدقُّ في رأسه بمطارقَ عنيفةٍ … وما كاد يخرج من الماء حتى وجد شبحًا واقفًا في الظلام ويحدِّق فيه في دهشةٍ وشكٍّ … وسألَته «إلهام» بعينَين ضيقتَين: ما الذي كنت تفعله في قلب البحر في منتصف الليل يا «أحمد»؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤