شبح جديون وايز

كان الأب براون يعتبر هذه القضية أغربَ مثال على نظرية حجة الغياب، وهي النظرية التي تقول بأنه من المستحيل أن يوجد شخصٌ ما في مكانين مختلفين في الوقت نفسه، وذلك في تحدٍّ لأسطورة الطائر الأيرلندي. بادئَ بدءٍ، ربما كان جيمس بايرن وهو صحفيٌّ أيرلندي، هو أقرب من يمكن تشبيهُهم بذلك الطائر الأيرلندي الأسطوري؛ فقد اقترب أكثر من أيِّ شخص آخر من الوجود في مكانين مختلفين في الوقت نفسه تقريبًا؛ ذلك أنه كان في مكانين يقعان على طرفَي النقيض من حيث الخصائص الاجتماعية والسياسية لكلٍّ منهما، وذلك في غضون عشرين دقيقة فقط. كان المكان الأول الذي وُجِد به هو إحدى قاعات فندق بابيلون الكبير، التي كانت مكان لقاءِ ثلاثةٍ من أباطرة المال والأعمال المَعنيِّين بترتيب إغلاقٍ لمناجم الفحم ثم شجبه باعتباره إضرابًا لعمال المناجم، أما المكان الثاني الذي وُجِد به الصحفي فكان حانة غريبة لها واجهةُ متجرِ بقالة، حيث التقى بثلاثة أشخاصٍ ذوي نشاط سرِّيٍّ من أولئك الذين سيتحمسون كثيرًا لتحويل الإغلاق إلى إضراب — ثم تحويل الإضراب إلى ثورة. وهكذا أخذ المراسلُ الصحفي في التنقُّل ذهابًا وإيابًا بين المليونيرات الثلاثة والقادة البلشفيين الثلاثة بحصانة الرسول أو السفير الجديد بينهما.

كان أباطرة المناجم الثلاثة قد وُجدوا مختبئين في تلك القاعة التي تُشبه الغابة لكثرة ما بها من النباتات المزهرة، والأعمدة المزينة المبهرجة بالجِصِّ المذهَّب، وأقفاص الطيور المذهَّبة المعلَّقة عاليًا تحت القباب المطلية المزينة وسط أعالي سَعَف النخيل؛ وفي تلك الأقفاص طيورٌ متعددة الألوان متنوعة الأصوات. لم يكن هناك في البرية طيورٌ تغنِّي ولا يستمع لها أحدٌ بذلك الشكل، ولم يكن هناك ورودٌ ضيعت جمالها في القِفار كما ضاع جمالُ أزهار تلك النباتات الطويلة على أولئك الرجال الثلاثة المنشغلين اللاهثين الذين هم في الغالب أمريكيون، بينما يتحدثون ويجولون في المكان ذهابًا وإيابًا. ووسط تلك الزخارف المفرطة التي تتبع طرازَ وأسلوب روكوكو والتي لم يلتفت لها أحدٌ، وثرثرة طيور مستوردة بأثمانٍ باهظة لم يُلقِ لها أحدٌ بالًا، وبين الكثير من الأثاث الرائع ووسط تلك المتاهة من العمارة الفاخرة، جلس الرجالُ الثلاثة وتحدثوا كيف أن النجاح يقوم على الفكر والتوفير وتوخِّي الحذر على الجانب الاقتصادي وكذلك على ضبط النفس.

كان أحدهم في الواقع أقلَّ كلامًا بكثير من الآخرين؛ لكنه كان يراقب بعينَين لامعتَين نادرًا ما ترمشان، كما تبدوان وكأنهما مضغوطتان معًا؛ ذلك أنه كان يرتدي نظارة من دون إطار، وكانت تلك الابتسامة الدائمة على شفتيه تحت ذلك الشاربِ الأسود الصغير تبدو وكأنها تنمُّ عن سخرية دائمة من جانبه. كان هذا هو جيكوب بي ستاين الشهير، وهو لا يتحدث إلا إذا كان لديه شيءٌ ليقولَه. أما رفيقه جالوب العجوز من بنسلفانيا، فكان رجلًا بدينًا ضخمَ الجثة له شعرٌ أبيض يمنحه الوقارَ ووجهٌ يُشبه الملاكمين، يتحدث ويُثرثر على الدوام. كما كان في حالة مزاجية مرحة، بينما يستنهض ويستحثُّ المليونير الثالث؛ جديون وايز وهو رجل يابسٌ جافٌّ؛ عجوزٌ حادُّ الملامح ذو صفات خاصة؛ حيث يشتهر هو وأبناء بلدته بأنهم يُشبهون أشجارَ الجوز الصُّلبة، كما أن له ذقنًا أشيبَ خشِنًا، ويُشبه في ملبسه وأسلوبه فلاحًا عجوزًا من السهول الوسطى. كان هناك جدالٌ أزليٌّ بين وايز وجالوب حول الدمج والمنافسة. ونظرًا لأن وايز العجوز، بسلوكياته كرجلٍ ريفيٍّ، كان لا يزال يتمسك ببعض آرائه التي تنتمي للطريقة القديمة لإدارة الأعمال بشكل فردي؛ والتي جعلته يُصنَّف، كما نقول في إنجلترا، ضمن مَن يفضلون مدرسة مانشستر في إدارة الأعمال؛ وكان جالوب دائمًا ما يحاول إقناعَه بأن يوقف المنافسةَ وأن يستفيدَ من اتحاد موارد شركاتهم معًا.

وحين دخل بايرن كان جالوب يقول بنبرةٍ لطيفةٍ: «سيتعيَّنُ عليك أن تنضمَّ لنا يا صديقي القديم، عاجلًا أو آجلًا. تلك هي الطريقة التي يسير بها العالم، ولا يمكننا الآن أن نعودَ لحقبة الرجل الواحد الذي يدير عملًا تجاريًّا. لا بد وأن نقفَ جميعًا متكاتفين.»

قال ستاين بطريقته الهادئة: «هل لي بأن أقول كلمة، هناك شيءٌ أكثر إلحاحًا حتى من التكاتف معًا على مستوى الأعمال؛ إذ يتحتَّمُ علينا أن نتكاتفَ معًا على المستوى السياسي بأيِّ شكل من الأشكال؛ وهذا هو السبب في طلبي من السيد بايرن أن يلتقيَ بنا هنا اليوم. إننا لا بد وأن نتحدَ بشأن المسألة السياسية؛ وذلك لسببٍ بسيط وهو أن أكثرَ أعدائنا خطورةً متحدون بالفعل.»

غمغم جديون وايز: «أوه، إنني أوافق تمامًا على الاتحاد على المستوى السياسي.»

قال ستاين للصحفي: «اسمع، أنا أعلم أنك ترتادُ تلك الأماكن الغريبة أيها السيد بايرن، وأنا أريد منك أن تصنع لنا معروفًا على المستوى غير الرسمي. أنت تعلم أين يلتقي أولئك الرجال؛ وهناك اثنان أو ثلاثة منهم فقط على قدرٍ كبير من الأهمية، وهم جون إلياس وجيك هالكيت، الذي يُلقي الخُطب، وربما كان معهما ذلك الشاعر الذي يُدعَى هوم.»

قال السيد جالوب الساخر: «لماذا توجد علاقةُ صداقة بين هوم وجديون، أكانَا معًا في مدرسة دينية أو شيء من هذا القبيل؟»

قال جديون العجوز بنبرة جادة: «كان يدين بالمسيحية حينها، ولكن حين يحتكُّ المرءُ بالملحدين، فلا يمكنك أن تعرفَ إلى أين يمكن أن يصلَ. لا زلتُ ألتقي به بين الحين والآخر. لقد كنتُ مستعدًّا تمامًا لأنْ أساندَه ضد الحرب والتجنيد الإلزامي وما إلى ذلك بالطبع، ولكن حين يئول الأمرُ إلى التعامل مع أولئك البلشفيين الملاعين الآخذين في التزايد …»

قاطعه ستاين قائلًا: «عذرًا، الأمر مُلحٌّ بصورة كبيرة؛ لذا أستميحك عذرًا في أن أكشفَه أمام السيد بايرن في الحال. سيد بايرن، يمكنني أن أقول وكلِّي ثقة إن لديَّ معلومات، بل وربما أدلة، من شأنها أن تزجَّ باثنين من أولئك الرجال في السجن لفترةٍ طويلةٍ من الوقت، على خلفية تدبير مؤامراتٍ أثناء الحرب الأخيرة. وأنا لا أريدُ أن أستخدمَ هذا الدليل، ولكن أريد منك أن تذهبَ إليهم وتخبرَهم في هدوء بأنني سأستخدمه، وقد أستخدمُه غدًا، ما لم يُغيِّروا من موقفهم.»

قال بايرن: «حسنًا، إن اقتراحك هذا ما هو إلا تلفيقُ جناية، وربما نُطلق عليه ابتزازًا، ألَا تعتقد أن هذا الأمر خطيرٌ للغاية؟»

قال ستاين في سخرية: «أعتقدُ أن في هذا الأمر خطورةً عليهم، وأريدك أن تذهب وتخبرهم بذلك.»

نهض بايرن من مكانه وأطلق تنهيدةً تنمُّ عن شيءٍ من سخرية، وقال: «أوه، حسنًا، سأفعل ذلك على الرغم من صعوبته، ولكن إذا ما وقعتُ في مأزق، فإني أحذرك أنني سأحاول أن أجرَّك معي.»

قال العجوز جالوب وهو يُطلق ضحكة قوية: «ستحاول ذلك أيها الفتى.»

لفترةٍ طويلةٍ من الوقت كان الحلم العظيم لجيفرسون لا يزالُ باقيًا، وذلك الشيء الذي أطلق عليه الناس اسم الديموقراطية في بلده، فبينما كان الأغنياءُ يحكمون كالطغاة، كان الفقراء لا يتحدثون كالعبيد؛ لكن كان هناك شيءٌ من الصراحة بين المضطهِد والمقهور.

كان مكانُ التقاء الثائرين غريبًا وخاليًا وله جدرانٌ مطلية باللون الأبيض، وعلى تلك الجدران كانت هناك لوحتان غريبتان ومشوَّهتان مرسومتان باللونَين الأبيض والأسود، على طرازٍ كان من المفترض أن ينتميَ لفنِّ الطبقة العاملة، ولم يكن هناك ولو شخصًا واحدًا في المليون ممَّن ينتمون لتلك الطبقة يمكنه أن يفهمَ من تلكما اللوحتين شيئًا. ربما كانت النقطة المشتركة الوحيدة بين غرفتَي التشاور هي أن كلتيهما كانت تنتهك الدستور الأمريكي بشأن وجود مشروباتٍ كحوليةٍ قوية التأثير؛ فقد كان هناك الكثيرُ من المشروبات الكحولية ذات ألوان مختلفة أمام المليونيرات الثلاثة. كان هالكيت، وهو أكثر البلشفيين اتباعًا للعنف، يعتقد أنه من المناسب فقط تناولُ مشروب الفودكا. وقد كان رجلًا طويلًا ضخمَ الجثة محدَّب الظهر على نحوٍ يُشعر بالخوف، وكان وجهُه ينمُّ عن عدائية كبيرة كما لو كان يُشبه الكلبَ؛ حيث تبرزُ أنفُه وشفتاه بروزًا كبيرًا، وكانت شفتاه تحملان شاربًا أشعثَ أحمرَ اللون وهما ملتويتان للخارج فيما يوحي على ما يبدو بحالةٍ دائمة من الازدراء من جانبه. أما جون إلياس فكان رجلًا يقظًا داكنَ البشرة يرتدي نظارة، وله ذقنٌ أسود مدبَّب؛ وكان قد اعتاد على شراب الأفسنتين في الكثير من المقاهي الأوروبية. كان كلُّ ما تَملَّك الصحفي، بعد كل ذلك، هو شعورٌ بمدى التشابه الكبير بين كلٍّ من جون إلياس وجيكوب بي ستاين. حيث كانت تجمعهما نقاطٌ متشابهة كثيرة في الشكل والتفكير والأسلوب، بحيث بدا له وكأن المليونير قد عبَر بابًا خفيًّا في فندق بابيلون ليخرجَ من طرفه الآخر في معقل البلشفيين.

كان للرجل الثالث أيضًا ذوقٌ غريب في المشروبات، وكان مشروبه وكأنه رمزٌ يعبِّر عنه. ذلك أن المشروب الذي كان موضوعًا أمام الشاعر هوم كان كوبًا من الحليب، وقد كان اعتداله الشديد في مثل هذا الاجتماع يوحي بوجود شيء من الخطر والشر بخصوصه، كما لو أن انعدام شفافية الحليب وبياض لونه كانَا يُشبهان معجون علاج البرَص الذي هو أكثرُ سمِّيَّة من مشروب الأفسنتين ذي اللون الأخضر الشاحب، لكن في الواقع كان الاعتدال حقيقيًّا بالقدر الكافي ليُوحي بوجود الصفة نفسها في هنري هوم؛ ذلك أنه شقَّ طريقًا مختلفًا تمامًا كي ينضمَّ لمعسكر الثوار وأتى من أصول مختلفة كذلك عن كلٍّ من جيك — الغوغائي والسوقي — وإلياس — المثقَّف والسياسي الدولي المحنَّك. حيث حظيَ هوم بما يمكن أن نُطلقَ عليها تنشئةً مُحافِظة؛ فقد ذهب إلى كنيسةٍ صغيرةٍ في طفولته، وتمسَّك طوال حياته بالامتناع عن تناول المشروبات الكحولية، وهو الأمر الذي ظل متمسكًا به حتى حين نبذ بعض الأشياء التي يراها غيرَ مهمة مثل الديانة المسيحية والزواج. كان له شعرٌ أشقر ووجهٌ مليحٌ يكاد يقترب في ملامحه من الشاعر الإنجليزي شيلي، إذا لم يُطلق شعيراتِ لحيته الغريبة. وبطريقةٍ ما، جعلتْه اللحيةُ يبدو في مظهره كالمرأة؛ كما لو أن إطلاقَ تلك الشعيرات الذهبية هو كلُّ ما أمكنه فعلُه.

حين دخل الصحفي، كان جيك السيئُ السمعة يتحدَّث، كما كان يفعل في الغالب. حيث تلفَّظ هوم بعبارات عرضية وتقليدية من قبيل «حرَّم الرب» هذا الشيء أو ذاك، وكان ذلك كفيلًا لأن ينطلق لسانُ جيك بسيل من الألفاظ النابية.

قال جيك: «حرَّم الرب ذلك! هذا هو كلُّ ما يفعله، إن الربَّ لا يفعل أيَّ شيء سوى أن يحرِّم هذا وذاك؛ يحرِّم الإضراب، ويحرِّم القتال، ويحرِّم إطلاق النار على أولئك المرابين الملاعين ومصاصي الدماء حيثما كانوا. لمَ لا يحرِّم الربُّ عليهم هم شيئًا؟ لمَ لا ينهضُ القساوسة والكهنة الملاعين ويقولون الحقيقة بشأن أولئك الحيوانات على سبيل التغيير؟ لماذا لا يقوم إلههم العظيم …»

تنهَّد إلياس تنهيدةً خفيفة، كما لو كان ينفث فيها شيئًا من تعبٍ خفيف.

وقال: «إن القساوسة ينتمون كما وضَّح ماركس إلى المرحلة الإقطاعية من عملية تطور الاقتصاد؛ ومن ثَم فإنهم لا يمثلون حقًّا أيَّ جزء من المشكلة. إن الدور الذي كان يلعبه القَسُّ يلعبه الآن الخبيرُ الرأسمالي و…»

قاطعه الصحفيُّ بعناده الشرس والساخر قائلًا: «أجلْ، وقد حان الوقت المناسب لتعلمَ أن بعضَهم ماهرٌ للغاية في لعب ذلك الدور.» ثم ومن دون أن يُشيحَ بعينَيه عن عينَي إلياس الجامدتَين اللامعتين، أخبرَه بتهديد ستاين.

قال إلياس وهو مبتسِم من دون أن يتحرَّك: «كنتُ مستعدًّا لشيء مثل هذا، ربما يمكنني القولُ إنني كنتُ مستعدًّا تمامًا.»

انفجر جيك قائلًا: «تلك الكلاب القذرة! إذا قال أحدُ الفقراء هذا الكلام فسيُحكم عليه بالأشغال الشاقَّة، ولكنني أظن أنهم سيذهبون إلى مكان أسوأ من السجن دون أن يشعروا. فإذا لم يذهبوا إلى الجحيم، فلا أعرفُ بحقِّ الجحيم إلى أين سيذهبون؟!»

أتى هوم بحركةٍ يعبِّر بها عن احتجاجه، ربما لم يكن احتجاجًا على ما يقوله الرجل بقدر ما هو احتجاجٌ على ما كان سيقوله، وقطع إلياس الحديث بدقةٍ بالغةٍ.

قال وهو ينظر إلى بايرن بنظراتٍ ثابتةٍ من خلال نظَّارته: «ليس من الضروري تمامًا بالنسبة لنا أن نتبادلَ التهديدات مع الجانب الآخر. ويكفي تمامًا أن نقول إن تهديداتِهم غير مؤثرة علينا على الإطلاق. لقد اتخذنا أيضًا جميع الترتيبات، ولن نُظهرَها إلا بعد أن يُظهروا هم التهديدات على أرض الواقع. ومن وجهة نظري، فإن استعراض القوة المفرط وقطْع العلاقات الفوري سيكون وفقَ خطتنا تمامًا.»

وفيما كان يتحدث بنبرة هادئة تمامًا ومفخَّمة، كان هناك أمرٌ ما بشأن وجهه الأصفر الجامد ونظارته الكبيرة يُثير شيئًا من الخوف في جسد الصحفي. فربما كان الوجه الوحشي لهالكيت ينمُّ عن زمجرة منه حين تنظر إليه من الجانب في إضاءة خافتة، ولكن حين تنظر إلى وجهه مباشرةً، تجدُ أن الغضبَ في عينَيه يخالجُه أيضًا شيءٌ من قلق، كما لو أن المعضلة الأخلاقية والاقتصادية في نهاية المطاف أكثر مما يمكنه تحمُّله؛ وربما بدا على هوم أنه يتعلق بأحبال القلق والنقد الذاتي. لكن بشأن ذلك الرجل الثالث الذي يرتدي النظارة، والذي تحدَّث بمنطقٍ وبساطة بالغَينِ، كان هناك شيءٌ غامض؛ كما لو أن رجلًا ميتًا يجلس إلى الطاولة ويتحدَّث.

وبينما خرج بايرن ومعه رسالةُ التحدي تلك، وقطَع ذلك الممرَّ الضيق بجوار متجر البقالة، وجد نهايتَه مسدودةً بجسد شخصٍ غريبٍ لكنه بدَا له مألوفًا على نحوٍ غريب أيضًا؛ كان قصيرًا وقويَّ البنية، وبدا طريفًا للغاية عند رؤية حدودِ جسده الخارجية بدون إضاءة توضِّح تفاصيله؛ خاصة مع رأسه الكروي الشكل وقبعته العريضة.

صاح الصحفي المذهول: «الأب براون! لا بد أنك وصلت إلى الباب الخطأ. فليس من المرجح أنك جزءٌ من تلك المؤامرة الصغيرة.»

أجابه الأب براون وهو يبتسم: «مؤامرتي أقدمُ كثيرًا، لكنها واسعة الانتشار تمامًا.»

قال بايرن: «حسنًا، لا يمكنُك أن تتخيل أن أيًّا من أولئك الموجودين بالداخل يقترب ولو عن بُعدِ ألف ميل من دائرة اهتماماتك.»

ردَّ القَسُّ بهدوء واتزان: «ليس من السهل دومًا معرفةُ ذلك، ولكن في الواقع، هناك شخص واحد فقط يبعد بمقدار بوصة واحدة عن اهتماماتي.»

واختفى في المدخل المظلم، وأكمل الصحفيُّ طريقَه وهو في حيرة شديدة. وزادته حيرةً على حيرته تلك الحادثةُ الصغيرة التي حدثت له حين دخل الفندق ليقدم تقريرَه لعملائه الرأسماليين. كانت التعريشة التي تتكوَّن من الأزهار وأقفاص الطيور التي يتحصَّن فيها أولئك العُجُز‎ الغاضبون متصلةً بدرجات سلَّم رخامية، ويحيط بها تماثيلُ حوريات وتريتونات مذهَّبة. وعند أسفل تلك الدرجات، كان هناك شابٌّ متعجلٌ يجري، له شعرٌ أسود وأنفٌ أفطس ويضع زهرةً في عروة السترة، وقد أمسك الشابُّ ببايرن ودفعه جانبًا قبل أن يتمكَّن من صعود تلك الدرجات.

همس في أذنه قائلًا: «دعْني أخبرْك أمرًا، أنا بوتر — سكرتير جديون العجوز، هناك صاعقة يجري التحضيرُ لها، أليس لديك علمٌ بهذا الأمر؟»

أجابه بايرن بحذر: «لقد توصلتُ إلى نتيجة مفادها أن أولئك المسوخ السايكلوب يُحضِّرون لشيء ما على السندان، ولكن تذكَّرْ دومًا رغم أن السايكلوب عملاقٌ، لكنه لا يمتلك سوى عينٍ واحدة. أعتقد أن البلشفية …»

وبينما كان يتحدث، كان السكرتير يستمع إليه وقد بدتْ على وجهه تقريبًا كلُّ أمارات الجمود المنغولي، على الرغم من الحيوية في ساقَيه وملبسه، ولكن حين قال بايرن كلمة «البلشفية»، تحولت عينَا الشابِّ الحادَّتان وقال مسرعًا:

«ما علاقةُ ذلك — أوه، أجل، ذلك النوع من الصواعق؛ آسف للغاية، هذا خطئي. من السهل جدًّا أن تقول سندان وأنت تعني صندوق الثلج.»

وبتلك الكلمات، اختفى الشابُّ الغريب عند أسفل الدرجات واستمر بايرن في صعودها، وما زالت سحائبُ الغموض تتكثَّف في ذهنه.

وجد الرجال الثلاثة قد زادوا إلى أربعة بحضور شخص له وجهٌ نحيل وملامحُ حادَّة وشعر غثٌّ بُنِّيُّ اللون ويرتدي نظارةً بعين واحدة، والذي بدا وكأنه مستشارٌ لجالوب العجوز، وربما كان محاميه، رغم أنه لم يُدعَ بهذا اللقب على الإطلاق. كان اسمه ناريس، وكانت الأسئلة التي وجَّهها لبايرن تُشير في الأغلب، لسبب أو لآخر، إلى عدد أولئك المشاركين في التنظيم الثوري. ومن هذا المنطلق، ولأن بايرن لم يكن يعرف الكثيرَ من المعلومات عن تلك النقطة، فلم يتكلم كثيرًا؛ وفي النهاية قام الرجال الأربعة من مقاعدهم، وجاءت آخرُ الكلمات من الرجل الذي كان كثيرَ الصمت.

قال ستاين وهو يطوي نظارتَه: «شكرًا لك سيد بايرن، لم يبقَ سوى أن أقول إن كلَّ شيء جاهز؛ إنني أتفق مع السيد إلياس في تلك النقطة. غدًا وقبل الظهيرة، ستكون الشرطةُ قد ألقت القبض على السيد إلياس بناءً على دليل سأقدِّمه لهم، وسيكون أولئك الرجال الثلاثة على الأقل في السجن بحلول المساء. وكما تعلم، لقد حاولتُ أن أتجنَّب هذا المسار. أعتقد أن هذا هو كلُّ شيء، أيها السادة.»

لكن السيد جيكوب بي ستاين لم يقدِّم دليلَه في اليوم التالي؛ وذلك لسببٍ غالبًا ما يعوق أنشطةَ مثل أولئك الرجال المواظبين على أعمالهم. لم يقدِّم دليلَه لأنه قد مات؛ ولم يتمَّ تنفيذُ أيِّ شيءٍ من الخطة، لسبب وجده بايرن مكتوبًا بخطوطٍ عريضةٍ حين فتح جريدته الصباحية: «جريمة قتل ثلاثية مرعبة: مقتل ثلاثة مليونيرات في ليلة واحدة.» توالت بعد هذه الجملة عباراتُ تعجُّب مكتوبة بخط أصغر، لكنها كانت أكبرَ من الخط العادي بأربعة أضعاف، الأمر الذي أكَّد على الملامح المميزة لذلك اللغز: وهي حقيقة أن أولئك الرجال الثلاثة لم يُقتَلوا فقط في الوقت نفسه، وإنما في ثلاثة أماكنَ منفصلة بعضها عن بعض للغاية؛ فقد قُتل ستاين في مقرِّه الريفي الفاخر على بُعدِ مائة ميل في داخل البلاد، وقُتل وايز خارج الشاليه الصغير على الشاطئ حيث كان يعيش مُستمتعًا بنسمات البحر وبالحياة البسيطة، وقُتل جالوب العجوز في غابة صغيرة، بالقرب من بيت الحرس الخاص بمنزله الكبير في الجهة الأخرى من البلاد. وفي الحالات الثلاث كلِّها، لم يكن هناك شكٌّ بشأن العنف الذي تعرَّضوا له قبل مقتلهم مباشرة، على الرغم من أن جثة جالوب لم تُكتشَف إلا في اليوم التالي، حيث وُجدت جثتُه الضخمة والمُفزعة معلقةً بين أفرُع وأغصان تلك الشجيرات الصغيرة التي سحَقها وزنُه الثقيل، مثل ثَور بَيسون مندفعًا نحو أسنَّة الرماح، فيما كان من الواضح للغاية أن وايز قد دُفع من على حافة الجُرف إلى البحر، بعد مقاومةٍ منه؛ ذلك أن آثار احتكاكه وانزلاقه عن الجُرف ما زالت بارزةً على الحافة، لكن الإشارة الأولى لاكتشاف تلك المأساة كانت رؤيةَ قبَّعته الكبيرة المصنوعة من القشِّ وهي تطفو على بُعدٍ على الأمواج التي كان بالإمكان رؤيتُها بوضوحٍ من على الجُرف. ولم يكن من السهل أيضًا في البداية اكتشافُ جثة ستاين حتى مع البحث، حتى أرشد أثرٌ ضعيف من الدماء المحقِّقين إلى حمَّام على الطراز الروماني القديم كان يَبنيه في حديقته؛ ذلك أنه كان رجلًا يتمتَّع بعقلية محبَّة للتجربة ولدَيْهِ ميل إلى التحف والآثار القديمة.

وأيًّا كان ما قد يفكر فيه، فإن بايرن لا يملك سوى الاعتراف بعدم وجود دليل قانوني ضد أيِّ شخص في الوضع الراهن. حيث لم يكن وجودُ دافع لارتكاب هذه الجرائم دليلًا كافيًا، وكذلك الاستعداد الأخلاقي لارتكابها، ولم يكن بإمكانه تخيُّل هنري هوم، ذلك اليافع الشاحب المسالم، وهو يقتل رجلًا آخر بعنف ووحشية، على الرغم من أنه كان بإمكانه أن يتخيَّل أن كلًّا من جيك الكافر وحتى ذلك اليهودي الساخر كان باستطاعتهما فعلُ أيِّ شيء. أما عن الشرطة وذلك الرجل الذي بدا أنه يساعدهم (والذي لم يكن سوى ذلك الرجل الغامض صاحب نظارة العين الواحدة، الذي تعرَّف عليه باسم السيد ناريس)، فقد أدركَا الوضع الراهن بوضوح تام كما كان الصحفي يراه.

لقد كانوا على علْم أنه من غير الممكن تقديمُ المتآمرين البلشفيين للمحاكمة والإدانة في ظل الموقف الحالي، وأنه سيكون إخفاقًا يُثير الرأي العام؛ إن تمَّ تقديمُهم للمحاكمة ثم حصولهم على البراءة. بدأ ناريس بأن دعاهم بتعقُّل وسلامة نية ماكرة إلى المجلس، فطلب منهم الحضورَ إلى اجتماع خاص وطلب منهم أن يُبدوا آراءهم بحرية، لصالح الإنسانية. كان ناريس قد بدأ تحرِّياتِه عند أقرب مسرح لتلك المأساة، وهو الشاليه الصغير الواقع عند البحر؛ وسُمح لبايرن أن يكون حاضرًا في مشهد غريب، والذي كان مؤتمرَ محادثات سلمية بين الدبلوماسيين وفي الوقت نفسه استقصاءً سريًّا أو تحقيقًا مع المشتبه بهم. ومما أثار دهشةَ بايرن أن تلك الصحبة المتنافرة، التي تجلس حول المنضدة داخل الشاليه، كانت تتضمن وجودَ الأب براون بجسده القصير البدين ورأسه الشبيه برأس البومة؛ رغم أن صِلته بالمسألة لم تتضح إلا في وقت لاحق. أما عن حضور الشاب بوتر، وهو سكرتير القتيل، فربما كان طبيعيًّا أكثر؛ لكنَّ تصرفاتِه لم تكن طبيعية على الإطلاق. وكان هو الوحيد الذي يألف مكانَ اجتماعهم، بل وكان يمكن اعتبارُه مضيفَهم ولو بشكل استثنائي؛ إلا أنه لم يقدِّم إلا القليل من المساعدة أو المعلومات. كان وجهه ذو الأنف الأفطس يحمل ملامح الاستياء والعبوس أكثر مما حمل ملامح الحزن.

وكالعادة، تحدث جيك هالكيت كثيرًا؛ ولم يكن من المتوقع من رجل مثله أن يجاريَ سيناريو عدم اتهامه هو وأصدقائه. وقد حاول الشاب هوم بأسلوبه اللبق أن يصدَّه عن الخوض في سبِّ الرجال الذين قُتلوا؛ لكن جيك كان على استعداد لأن يسبَّ أصدقاءه بالقدر نفسه كما يفعل مع أعدائه. وقد نعى جديون وايز الراحل بصورة غير رسمية من خلال مجموعة من الكلمات التي تُشير إلى أنه كان كافرًا. هذا وقد جلس إلياس ساكنًا وبدت نظراتُه من خلف النظارة التي تغطِّي عينَيه وكأنه غيرُ مبالٍ.

قال ناريس بفتور: «أعتقد بأنه من غير المجدي أن أقول لك إن ملاحظاتِك عن القتيل غير لائقة، وقد يزيد تأثيرُ الأمر عليك إذا أخبرتك أنها طائشة ومتهورة. إنك تعترف تقريبًا بأنك كنت تكرهه.»

قال الغوغائي ساخرًا: «وستزجُّون بي في السجن من أجل هذا، أليس كذلك؟ حسنًا، ولكن سيتحتم عليكم أن تشيِّدوا سجنًا كبيرًا بحيث يتسع لأكثر من مليون شخص من الفقراء ممن لديهم أسبابُهم التي تدفعهم لكره جديون وايز. وأنتم تعرفون أن هذا حقيقيٌّ بقدر ما أعرفه أنا.»

كان ناريس صامتًا، ولم يتحدث أحدٌ حتى تدخَّل إلياس وتحدث بنبرة بطيئة لكن متلعثمة.

قال: «يبدو لي أن هذه المحادثة عديمةُ الجدوى لكلا الطرفين. لقد استدعيتمونا هنا إما للحصول على معلومات منا، وإما لإخضاعنا لاستجواب مباشر. وإذا كنتم تثقون بنا، فإننا نقول لكم بأننا لا نملك أيَّ معلومات. وإذا كنتم لا تثقون بنا، فلا بد وأن تخبرونا بالتهمة الموجهة إلينا؟ أو تتمتعوا بالكياسة لتُبقوا تلك الحقيقة لأنفسكم. فليس هناك منكم من يمتلك ولو دليلًا ضعيفًا يربط أيًّا منا بتلك الجرائم التي وقعت، تمامًا كما أنه ليس هناك أدلة تربط بيننا وبين مقتل يوليوس قيصر. أنتم لا تجرءون على إلقاء القبض علينا، ولن تصدقونا. فما الجدوى إذن من بقائنا هنا؟»

وانتصب واقفًا، وأغلق زِرَّ معطفِه في هدوء، وتبِعه أصدقاؤه في ذلك. وفيما كانوا يتوجهون نحو الباب، استدار الشابُّ هوم وواجه المحققين للحظة بوجهه المتعصب الشاحب.

ثم قال: «أريد أن أقول إنني دخلت أحد السجون القذرة أثناء فترة الحرب لأنني رفضتُ أن يُقتل رجلٌ.»

وبهذه الجملة، خرجوا جميعًا، ونظر بقية أفراد المجموعة بعضهم إلى بعض في تجهُّم.

قال الأب براون: «لا أعتقد أننا نظلُّ في موقف المنتصر، حتى بعد الانسحاب.»

قال ناريس: «لا أمانعُ شيئًا سوى أن نُهان على لسان ذلك الحقير الكافر الذي يُدعى هالكيت. كان هوم نبيلًا على كل حال، ولكن أيًّا كان ما يقولونه، فإنني على يقين تامٍّ بأنهم يعرفون شيئًا؛ إنهم مشاركون في تلك الجرائم، أو إن معظمهم كذلك. لقد اعترفوا بذلك تقريبًا. لقد سخروا منا واستهزءوا بنا؛ لأننا لسنا قادرين على إثبات أننا على حقٍّ، أكثر مما استهزءوا بنا لأننا مخطئون. ماذا تعتقد أيها الأب براون؟»

وبشكل يكاد يُثير القلق، نظر الشخص الذي وُجِّه إليه الحديث إلى ناريس نظرةً دمثة تنمُّ عن تفكير عميق.

وقال: «صحيح تمامًا أنني قد كوَّنتُ فكرة تقول بأن شخصًا واحدًا بعينه يعرف معلوماتٍ أكثر مما أخبرنا بها، ولكنني أعتقد أنه من الأفضل ألَّا أذكرَ اسمه الآن، ليس بعد.»

وقعت نظارةُ ناريس من عينه، ورفع نظره إلى الأعلى وقال: «الأمر ليس رسميًّا حتى الآن. وأعتقد أنك تعرفُ أن موقفك سيكون خطيرًا إذا ما كتمتَ معلوماتٍ في مراحلَ متقدمة من الأحداث.»

ردَّ القَسُّ: «موقفي بسيط، إنني هنا لكي أرعى المصالح الشرعية لصديقي هالكيت، وأعتقد أن من مصلحته في ظل هذه الظروف، أن أُخبرَكم أنه سيقطع علاقته بالتنظيم، وبذا سيتوقف عن كونه اشتراكيًّا. ولديَّ أسبابٌ كثيرة تدفعني لأن أعتقد بأنه سينتهي به المطافُ تابعًا للمذهب الكاثوليكي.»

انفجر الآخر في نبرة تنمُّ عن عدم تصديقٍ من جانبه: «هالكيت! إنه يسبُّ القساوسة طوال اليوم!»

قال الأب براون بنبرة معتدلة: «لا أعتقدُ أنك تفهم هذا الرجل فهمًا صحيحًا. إنه يسبُّ القساوسة؛ لأنهم فشلوا (من وجهة نظره) في الدفاع عن العدالة أمام العالم كلِّه. لماذا إذن يتوقَّع من القساوسة أن يدافعوا عن العدالة أمام العالم كلِّه، إلا إذا كان قد بدأ يعتقد أنهم كانوا — ما هم عليه بالفعل؟ ولكننا لم نلتقِ هنا لنتناقش في سيكولوجية تحوُّلِه. إنني أذكر هذه النقطة فقط لأنها من شأنها أن تُسهِّل من مهمتك — وربما تُضيِّق نطاق البحث الذي ستجريه.»

قال في نبرة تنمُّ عن غضب: «إذا كان ما تقول صحيحًا، فإن نطاق البحث سيُضيَّق ويشمل ذلك الوغد النحيل الوجه الذي يُدعى إلياس — ولا ينبغي أن أعجب من ذلك؛ لأنه رجل مخيفٌ وقاسٍ وساخر، إنه شيطان لم أعهدْ له مثيلًا من قبل.»

تنهَّد الأب براون وقال: «كان دومًا يذكِّرني بستاين المسكين. في الواقع أعتقد أنه كان بينهما صلة قرابة.»

قال ناريس: «أوه، أعتقد أن» ولكن قاطَع اعتراضَه شخصٌ فتَح الباب بعنف، والذي لم يكن سوى الشابِّ هوم ذي الوجه الشاحب؛ لكن بدا وجهُه وكأنه مكسوٌّ بملامح شحوب جديدة عليه وغير طبيعية.

صاح ناريس وهو يضع نظارته ذات العين الواحدة: «مرحبًا، لماذا عدتَ مجددًا؟»

سار هوم في الغرفة وهو يرتعش دون أن ينطق بكلمة واحدة، ورمى ثقلَ جسده على كرسي. ثم قال في ذهول: «لقد فقدتُ أثرَ الآخرين … كنتُ تائهًا. ففكرت أنه من الأفضل أن أعود.»

كانت بقايا المشروبات لا تزالُ على الطاولة، وقام هنري هوم، ذلك الرجل الذي حرَّم على نفسه شرْبَ الخمر طوال حياته، بصبِّ كأسٍ ممتلئة عن آخرها من شراب البراندي، وابتلعه مرة واحدة. فقال الأب براون: «تبدو منزعجًا.»

كان هوم قد وضع يدَه على جبهته، وتحدث ويدُه تغطِّي وجهَه، بدا وكأنه يتحدث إلى القَسِّ وحده، وبنبرة خفيضة قال:

«يمكن أيضًا أن أقول إنني رأيت شبحًا.»

كرَّر ناريس جملته في ذهول فقال: «رأيت شبحًا! شبحَ مَن؟»

ردَّ هوم في ثبات أكثر: «شبح جديون وايز، مالك هذا البيت. كان يقف عند حافة الهاوية التي سقط منها.»

قال ناريس: «أوه، هذا هُراء! لا يمكن لأي شخص عاقل أن يصدق بوجود أشباح.»

قال الأب براون وهو يبتسم ابتسامة خافتة: «كلامك قد لا يكون دقيقًا، فهناك أدلة دامغة على وجود الأشباح، تمامًا كما توجد أدلة دامغة على معظم الجرائم التي تُرتكب.»

قال ناريس بنبرة حادة: «حسنًا، عملي يقتضي تعقب المجرمين؛ لذا سأترك بقية الناس تخاف من الأشباح. وإذا ما كان اختيار أحدهم أن يشعر بالخوف من رؤية شبح في مثل هذه الساعة، فهذا شأنه الخاص.»

قال الأب براون: «لم أقل إنني أخاف من الأشباح، رغم أني قد أشعر بالخوف منهم. لا أحدَ يعلم ذلك حتى يمرَّ بالتجربة. لقد قلت إنني أومن بوجودهم على أيِّ حال بما يكفي لأن أرغب في سماع المزيد عن هذا الشبح. ماذا رأيتَ تحديدًا يا سيد هوم؟»

«كنت هناك عند حافة تلك الجروف المتداعية؛ أنت تعلم أن هناك فجوةً أو شقًّا بالقرب من المكان الذي أُلقيَ عنه. كان الآخرون قد سبقوني، وكنتُ أسير نحو الممرِّ على طول المنحدر. عادة ما كنتُ أسير في تلك المنطقة، ذلك أنني أحب رؤية الأمواج وهي ترتطم بالصخور. لم أنتبهْ كثيرًا إلى أن البحر كان هائجًا في مثل هذه الليلة المقمرة الصافية. كنت أرى رذاذ الأمواج الباهت يظهر ويختفي عند ارتطامها بالصخور. وقد رأيتُ رغوتها وهي تظهر وتختفي تحت ضوء القمر ثلاث مرات، ثم رأيتُ شيئًا غامضًا. لقد بدت رغوةُ الأمواج ذات اللون الفضي في المرة الرابعة وكأنها معلقةٌ في الجو، لم تسقط تلك الرغوة؛ حدَّقتُ إليها كثيرًا وانتظرتُ أن تسقط. ظننتُ أنني قد جُننت، وشعرتُ بطريقة غامضة بأن الزمن قد توقف، أو أنه قد طال كثيرًا. ثم اقتربتُ، وبعدها أظن أنني صرختُ صرخةً مدوية. ذلك أن تلك الرغوة المعلقة التي تُشبه رقائقَ الثلج الثابتة في الجو قد تجمَّعت في شكل وجه وجسد إنسان، كان الجسد ذا لون أبيض وكأنه إنسانٌ مصاب بالبرص في إحدى الأساطير، وكان مُفزعًا أيضًا وكأنه شعاع برق ثابت.»

«وتقول إنه كان جديون وايز؟»

أومأَ هوم من دون أن يتكلم. ثم ساد صمتٌ كسره فجأةً صوتُ ناريس وهو يهبُّ واقفًا على قدميه حتى إنه قد أسقط الكرسي على الأرض فعلًا.

قال ناريس: «أوه، هذا الكلام كلُّه هُراء، لكن من الأفضل أن نذهب هناك وننظر بأنفسنا.»

قال هوم بعنف مفاجئ: «لن أذهب. لن تخطو قدماي بالقرب من هذا المسار أبدًا.»

قال القَسُّ بنبرة جادة: «أعتقد أنه يتحتم علينا أن نسلكَ الليلة ذلك المسار، رغم أنني لن أُنكرَ أنه مسارٌ محفوف بالمخاطر … لأكثر من مجرد شخص واحد.»

صاح هوم وقد بدأت عيناه تدوران في مقلتيه على نحو غريب: «لن … يا إلهي، إنكم تستدرجونني.» كان قد هبَّ واقفًا هو الآخر، لكنه لم يتَّجه نحو الباب.

قال ناريس بنبرة حازمة: «سيد هوم، إنني ضابط شرطة، وهذا المنزل محاطٌ برجال الشرطة، رغم أنك قد لا تكون على علم بذلك. كنتُ أحاول أن أحقق في الجرائم بصورة غير رسمية، لكن ينبغي عليَّ أن أحقق في كلِّ شيء، حتى ولو كان شيئًا سخيفًا كالأشباح. يتحتم عليَّ أن أطلب منك أن تصحبني لذلك المكان الذي تحدثتَ عنه.»

سادت لحظةُ صمت أخرى بينما كان هوم يرتجف ويلهث، كما لو كانت تنتابه مشاعرُ خوف لا يمكن وصفُها. ثم جلس فجأةً على كرسيه مرة أخرى وقال في نبرة جديدة وهادئة تمامًا:

«لا أستطيعُ فعلَ ذلك. ربما ينبغي أن تعرفوا السبب أيضًا، فستكتشفونه عاجلًا أو آجلًا. لقد قتلتُه.»

أطبق صمتٌ رهيب على المنزل، وكأنما ضُرب بصاعقة من السماء فأصبح كلُّ من فيه جثثًا هامدة. ثم صدَر صوتُ الأب براون في أثناء ذلك الصمت وقد كان غريبًا للغاية فكان ضعيفًا وكأنه صرير فأر.

سأله الأب براون: «هل قتلتَه عمدًا؟»

أجابه الرجل الجالس على الكرسي وهو ينخر بإصبعه على الطاولة في تعبير عن حالته المزاجية: «كيف يمكن لأي أحد أن يجيبَ على هذا السؤال؟ أعتقد أنني كنت غاضبًا، وأعلم أن أسلوبه كان وقحًا بصورة لا تُحتمل. كنت في موقف ضعيف وأعتقد بأنه تطاول عليَّ بيده، على أي حال، تشاجرنا ووقع هو من الحافة. وحين ابتعدتُ كثيرًا عن المكان، فكَّرتُ في أنني قد ارتكبتُ جريمةً سلبتْني إنسانيتي؛ كانت وصمة قابيل قد طُبعتْ على جبيني واستحوذتْ على تفكيري؛ أدركتُ للمرة الأولى أنني قتلتُ رجلًا بالفعل. كنت أعرف أنني سأعترف بجريمتي عاجلًا أو آجلًا.» ثم انتصب في جلسته فجأةً وقال: «لكنني لن أقول شيئًا ضد أي شخص آخر. لن يكون من المجدي أن تسألني عن مؤامرات أو شركاء — فلن أنطق بكلمة واحدة.»

قال ناريس: «وفي ضوء الجرائم الأخرى، فمن الصعب أن نعتقدَ بأن الشجار كان غيرَ مخطط له سابقًا. من المؤكد أن هناك من أرسلك؟»

قال هوم بكل فخر: «لن أنطقَ بكلمة واحدة ضد أيِّ شخص تواطأتُ معه. إنني قاتل، لكنني لن أكونَ خائنًا أبدًا.»

خطا ناريس نحو الباب بالقرب من الرجل، ونادى بنبرة ذات طابع رسمي على شخصٍ ما بالخارج.

ثم قال في صوت خفيض للسكرتير: «سنذهب جميعًا إلى ذلك المكان على أيِّ حال، لكن هذا الرجل سيكون قيدَ الاحتجاز.»

كان الشعور العام لدى الجميع أن الذهاب لصيد الأشباح عند جرف بحري هو أمر محبط بعضَ الشيء بشكل غاية في السخافة وذلك بعد اعتراف القاتل بجريمته، لكن ناريس — وعلى الرغم من أنه الشخص الأكثر ارتيابًا وازدراءً من بينهم جميعًا — كان يظنُّ أن واجبه يدفعه لأن يفتش في كل شيء ويتحقق منه؛ أو كما يقول البعض، ألَّا يدخر جهدًا. ونظرًا لأن حافة ذلك الجرف هي آخر موضع وطئه المسكين جديون وايز قبل أن يقع في مقبرته البحرية؛ فإن على ناريس أن يستكمل التحقيق هناك. أوصد ناريس البابَ، حيث كان آخرَ من غادر المنزل، وتبِع البقية عبر الممر متجهًا نحو الجرف، حين فوجئ بالسكرتير بوتر، وهو يُهرع عائدًا نحوه، وكان وجهُه شاحبًا كضوء القمر.

وقد كانت هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها بوتر في تلك الليلة حيث قال: «أُقسم يا سيدي أن هناك شيئًا في ذلك المكان. إنه … إنه يشبهُه تمامًا.»

قال المحقق لاهثًا: «لماذا تهذي؟ لماذا يهذي الجميع؟»

صاح السكرتير في حدَّة غريبة: «أتعتقد أنني لن أعرفه إذا رأيته؟ إن لديَّ أسبابي لقَول ذلك.»

قال المحقق بنبرة حادة: «ربما أنت أحد أولئك الذين لديهم أسباب تدفعك لكرهه، كما قال هالكيت.»

قال السكرتير: «ربما، على أي حال، أنا أعرفه، وأؤكد لك أني أراه وهو يقف هناك بكامل هيئته محدِّقًا تحت ضوء ذلك القمر اللعين.»

وأشار نحو الصدع في الجُرف، حيث كان بإمكانهم رؤيةُ شيء يمكن أن يكون شعاعَ ضوء القمر أو هي رغوة الأمواج، لكن ذلك الشيء بدأ يجتمع حول بعضه ليتخذ هيئةَ إنسان. كانوا قد تسلَّلوا ما يقرب من مائة ياردة نحوه، ولم يزلْ ذلك الشيءُ بلا حَراك، لكنه بدا وكأنه تمثال فضي.

بدا ناريس شاحبًا بعضَ الشيء، وبدا وكأنه يفكر فيما يمكن أن يفعله. أما بوتر فقد كان الخوف يتملَّكه كما حدث مع هوم؛ وحتى بايرن ذلك الصحفي المخضرم، كان متردِّدًا لا يريد أن يقترب نحوه أكثر؛ إن كان باستطاعته أن يمنع حدوثَ ذلك. أما الأب براون فقد ظن أن الأمر ينطوي على قدرٍ من الغرابة؛ لذا، كان الرجلَ الوحيد الذي لم يبدُ عليه الخوف، رغم أنه قد صرح قبل قليل أنه قد يحمل في نفسه خوفًا من الأشباح. كان الأب براون يتقدَّم في ثبات بخطواته الثقيلة، كما لو كان ذاهبًا ليطلعَ على لوحة إعلانات.

قال بايرن للقَسِّ: «لا يبدو عليك أنك خائفٌ كثيرًا، رغم أنك أنت الوحيد الذي يؤمن بوجود الأشباح.»

رد عليه الأب براون قائلًا: «فيما يتعلق بهذا الأمر، أعتقد أنك أنت مَن قلت إنك لا تعتقد في وجود الأشباح، لكن الاعتقاد في وجود الأشباح شيء، والاعتقاد في وجود شبح شخص بعينه شيء آخر.»

بدا على بايرن أنه خجلان من نفسه، ونظر خفيةً نحو الصخور التي تتلاطم عليها الأمواجُ في تلك الليلة المقمرة الباردة، تلك الصخور التي هي محلُّ رؤية ذلك الطَّيف، أو الوهم، وقال: «لم أعتقدْ بوجود الأشباح حتى رأيتها.»

قال الأب براون: «وأنا كنت أومن بوجودها حتى رأيتها.» حدَّق إليه الصحفي بينما كان القَسُّ يسير بخطوات متثاقلة على تلك الأرض القفر التي برزت بين الصخور المهشمة وكأنها منحدرُ تلٍّ شُقَّ إلى نصفين. وتحت ضوء القمر الفضي، بدا العشب الأخضر كشعر رمادي طويل مشَّطته الريح باتجاه واحد، وبدا وكأنه يشير إلى المكان الذي أظهر فيه الجُرفُ المتداعي بريقًا ضعيفًا أبيض اللون على الحشائش الخضراء الضاربة إلى اللون الرمادي، والذي تقف فيه أيضًا تلك الهيئة الغامضة أو ذلك الظلُّ اللامع الذي لم يكن بمقدور أحدٍ فهْم ماهيته. وحتى هذه اللحظة، ظلت تلك الهيئة الغامضة مسيطرةً على ذلك المشهد الكئيب المقفر الذي خلا من أي شيء سوى هيئة القَسِّ السوداء المربعة الشكل، وهو يتحرَّك نحوه وحده. ثم فرَّ هوم السجين من آسريه فجأةً ودوتْ صيحةٌ أطلقها في الأجواء، وجرى حتى سبق القسَّ، ثم سقط على ركبتيه أمام الشبح.

سمعوه وهو يصرخ قائلًا: «لقد اعترفتُ، لماذا جئتَ لتخبرهم بأنني قتلتك؟»

قال الشبح، وقد مدَّ يده نحوه: «لقد جئتُ لأخبرَهم أنك لم تقتلْني.» ثم همَّ الرجل الجاثي على ركبتيه بالوقوف وقد أطلق صرخةً أخرى مختلفة عن سابقتها، فعرفوا أن الشبح ما هو إلا بشر.

قال المحقق ذو الخبرة والصحفي الذي لا يقل عنه خبرة إن ما حدث كان أبرز المحاولات المعروفة للهروب من الموت. لكن، وبطريقة ما، كان ذلك أمرًا في غاية البساطة. كانت الهاوية تتكسر وتتهاوى بصورة مستمرة، وقد تجمَّع بعضُها في صدع كبير لتكوِّن ما كان في واقع الأمر حافةً أو تجويفًا لما كان من المفترض أن يكون سقوطًا حادًّا في ظلمة حالكة إلى البحر. كان الرجل العجوز — الذي يتسم بالصلابة والقوة — قد سقط على تلك الحافة الصخرية السفلية وأمضى أربعًا وعشرين ساعة عسيرة في محاولة التسلُّق مستعينًا بالصخور التي كانت تنهار باستمرار أسفل منه، لكن وبعد فترة من الوقت، شكَّلت تلك الصخورُ المتهاوية سلَّمَ نجاة له. قد يكون هذا هو تفسير الأوهام البصرية التي رآها هوم عن أمواجٍ تختفي وتظهر، ثم استقرت أخيرًا. لكن على أيِّ حال، عاد جديون وايز، بشحمه ولحمه، وشعره الأبيض وثيابه الريفية البيضاء المغبرة وملامحه القاسية، والتي كانت على الرغم من ذلك أقل قسوة بكثير عما هو معتاد منه. ربما كان من مصلحة أصحاب الملايين أن يقضوا أربعًا وعشرين ساعة على حافة صخرية وعلى بُعد خطوة واحدة من الموت المحتوم. على كلٍّ، لم يقتصر الأمرُ على أنه أنكر كلَّ اتهامات إلحاق الأذى الموجَّهة للمجرم، وإنما سرد أحداثَ تلك الليلة التي غيَّرت من وجه الجريمة بصورة كبيرة. لقد صرَّح بأن هوم لم يُلقه من الحافة على الإطلاق؛ وإنما قال بأنه انزلق على الأرض التي كانت تنهار باستمرار تحت قدمه، وأن هوم حاول حتى أن يُقدِّم له يدَ العون لينقذَه.

قال بنبرة جادة: «على تلك الصخرة التي كانت تمثِّل العناية الإلهية بالنسبة لي، قطعت عهدًا على نفسي أمام الرب أن أسامح كلَّ أعدائي، وسيظن الرب أنني خسيس ودنيء إذا لم أغفر حادثةً بسيطة كهذه.»

غادر هوم تحت إشراف الشرطة بالطبع، لكن المحقق لم يُخفِ عنه أن فترة احتجازه ستكون قصيرة، وأن عقوبته ستكون ضئيلة للغاية هذا إن وُجدت. فليس بمقدور كلِّ قاتل أن يستعين بشهادة القتيل لتبرئة ساحته.

وفيما كان المحقق والآخرون يسارعون في النزول عن ذلك المنحدر متوجهين نحو المدينة قال بايرن: «إنها قضية ذات طابع غريب.»

قال الأب براون: «بالفعل، ولكن هذا ليس من شأننا؛ إلا أنني أتمنى أن تتوقف معي لنتحدث بشأنها.»

ساد الصمتُ لحظة ثم أذعن بايرن لطلب القَسِّ وقال فجأةً: «أعتقد أنك كنتَ تقصد هوم حين قلت إن هناك شخصًا لا يُدلي بكل ما يعرفه.»

أجابه صديقه: «حين قلت ذلك، كنت أفكر في السيد بوتر المفرط في الصمت، سكرتير السيد جديون وايز الذي لم يَعُد راحلًا، أو الذي لم يَعُد مأسوفًا عليه (إذا صح القول).»

قال بايرن وهو يحدِّق إليه: «في الواقع، كنتُ أظن أن بوتر مختلٌّ في المرة الوحيدة التي تحدث فيها معي، لكنني لم أعتقد قطُّ أنه يمكن أن يكون مجرمًا. لقد قال شيئًا حول أن صندوق الثلج مرتبطٌ بكل شيء.»

قال الأب براون وهو مستغرق في التفكير: «أجل، كنت أعتقد أنه يعرف شيئًا عما يحدث. ولم أقل قط إن له صلةً بالأمر … أعتقد أن السيد وايز قويٌّ بما يكفي لكي يتمكن من تسلُّق تلك الهوة.»

سأله الصحفي متعجبًا: «ماذا تقصد؟ بالطبع لقد تمكن من تسلُّق تلك الهُوَّة، ذلك أنه أصبح موجودًا معنا بالفعل.»

لم يردَّ القَسُّ على تعجُّبِ صديقه، لكنه طرح عليه سؤالًا مفاجئًا: «ما رأيك في هوم؟»

أجابه بايرن: «لا يمكن لأي شخص أن يُطلقَ عليه لقبَ مجرم على وجه التحديد؛ فهو لم يكن شبيهًا لأي مجرم قابلتُه من قبل، ولي باعٌ طويل في ذلك، ويتمتع ناريس بالطبع بخبرة أكبر في ذلك. لا أعتقد أننا صدَّقنا أنه كان مجرمًا أبدًا.»

قال القَسُّ في هدوء: «وأنا لم أفكر فيه أبدًا بصورة أخرى. ربما تعلم الكثير عن المجرمين، لكن هناك فئة من الناس أعلم أنا عنها أكثر مما تعلم أنت أو حتى ناريس في هذا الشأن. كنت أعرف الكثيرين منهم، وأعرف ألاعيبَهم الصغيرة.»

كرر بايرن حديثَ القَسِّ متحيِّرًا: «فئة أخرى من الناس؟ ما هذه الفئة التي تعرفها؟»

قال الأب براون: «التائبون.»

ردَّ بايرن معترضًا: «لا أفهم تمامًا. أتقصد أنك لا تصدِّق تلك الجريمة التي ارتكبها؟»

قال الأب براون: «لا أصدِّق اعترافَه. لقد سمعتُ الكثير والكثير من الاعترافات، ولم أصادف قط اعترافًا صادقًا كهذا. كان اعترافه شاعريًّا؛ كان مستوحًى من الكتب. تذكَّر كيف تحدَّث عن وصمة قابيل، هذا مستوحًى من الكتب. لم يكن شعوره هذا هو ما سيشعر به أيُّ شخص قد ارتكب جريمةً شنعاء كهذه في حقِّ نفسه. هبْ أنك موظف أمين أو عامل في متجر وتشعر بالصدمة لأنك قد سرقت أموالًا للمرة الأولى في حياتك. أكنتَ لتفكر في الحال أن ما فعلت هو نفس ما فعله باراباس؟ هبْ أنك قتلت طفلًا في فورة عنيفة من الغضب، أكنتَ لتفتش في التاريخ لتجد أن ما فعلت مشابهٌ لما فعله أحدُ ملوك مملكة إدوم ويُدعى هيرود؟ صدِّقني، إن مشاعرنا بشأن الجرائم التي نرتكبها لا تكون بمثل هذه الخصوصية والتقليدية المفزعة بحيث تكون أول فكرة تخطر ببالنا أن نبحث عن أوجه الشبه التاريخية معها، مهما كان ينمُّ ذلك عن ذكاء وفطنة. ولماذا خرج عن مسار حديثه ليقول بأنه لن يشيَ بأحد من رفاقه؟ إنه حتى بقوله ذلك، كان يشي عنهم بالفعل. لم يكن أحد قد طلب منه أن يشيَ بأيِّ شيء أو أن يقول شيئًا عن أي أحد. لا؛ لا أظن أنه كان صادقًا، ولن أُبرِّئَ ساحته. يا له من موقف لطيف، ذلك الذي يحصل فيه الناس على الغفران على شيء لم يرتكبوه.» وثبَّت الأب براون نظرَه نحو البحر بعد أن أشاح برأسه.

صاح بايرن: «لكنني لا أفهمُ ما ترمي إليه. ما جدوى أن تُثيرَ الشكوك حوله إذا كان قد حصل على العفو؟ إنه خارج القضية. إنه في مأمن.»

استدار الأب براون استدارةً سريعة وأمسك صديقه من معطفه في انفعال غير متوقع ولا يمكن تفسيرُه.

وصاح بصورة قاطعة: «هذه هي. توقَّفْ عند هذه الكلمات! إنه في مأمن. إنه خارج القضية. هذا هو السبب في أنه هو مفتاح اللغز كلِّه.»

قال بايرن بنبرة ضعيفة: «أوه، ليساعدني أحدٌ على الفهم.»

واصل القَسُّ الضئيل الحجم كلامَه وقال: «أقصد أنه هو لبُّ القضية لأنه خارجها. هذا هو التفسير الكامل.»

قال الصحفي في سخرية: «وهو في غاية الوضوح أيضًا.»

وقف الرجلان يحدِّقان إلى البحر في صمت لبرهة من الوقت، ثم قال الأب براون بنبرة مرحة: «وبذا نعود إلى صندوق الثلج. إن النقطة التي أخطأتُ فيها من البداية في هذا الشأن هي النقطة التي يُخطئ بشأنها الكثيرُ من الشخصيات العامة والصحف. هذا لأنك افترضت أنه لا يوجد شيءٌ في العالم الحديث أيًّا كان شكلُه يستحقُّ القتال ضده سوى البلشفية. إن هذه القصة لا صلةَ لها بالبلشفية على الإطلاق؛ إلا إذا اتخِذت كستار.»

احتجَّ بايرن قائلًا: «لا أفهم كيف هذا، نحن أمام ثلاثة مليونيرات قُتلوا في هذا الشأن!»

قال القَسُّ بنبرة حادة رنانة: «لا! غير صحيح. هذا هو لبُّ القضية. نحن لسنا أمام ثلاثة مليونيرات مقتولين، إنهم اثنان فقط؛ أما الثالث فهو حيٌّ يُرزق. وهذا المليونير الثالث متحرِّر تمامًا وللأبد من التهديد الذي تعرَّض له، بأسلوب مهذب ماكر، وتشهد أنت عليه في تلك المحادثة التي تقول بأنها حدثت في الفندق. لقد هدَّد كلٌّ من جالوب وستاين ذلك التاجرَ العجوز المستقلَّ بأنه إذا لم ينضمَّ إليهما فسيجمدانه، وهذا يفسر ذكْرَ صندوق الثلج بالطبع.»

وبعد أن توقَّف عن الحديث للحظة، استطرد قائلًا: «لا شك أن هناك حركةً بلشفية تبرز في العالم الحديث، ولا شك في وجوب مقاومتها، رغم أنني لا أوافقُ كثيرًا على طريقتكم في فعل ذلك، ولكن ما لا يلاحظه أحدٌ هو أن هناك حركةً أخرى مساوية لها في الحداثة والانتشار: وهي التوجه الهائل نحو الاحتكار، أو تحويل كلِّ أنواع التجارة إلى اتحاد احتكاري. يُعدُّ هذا أيضًا ثورة من نوع آخر، وينتج عنه كل ما تنتجه الثورات الأخرى. إن الناس مستعدون لارتكاب جرائم القتل دفاعًا عن ذلك وفي سبيل مقاومته أيضًا، تمامًا كما هو الحال مع الحركة البلشفية. هذه الحركة لها إنذاراتها الأخيرة ومحاولات الاجتياح وكذلك عمليات القتل الخاصة بها. إن أباطرة الاحتكار هؤلاء كالملوك؛ فهم لديهم حرَّاسُهم الشخصيون وقتلَتُهم المُستأجَرون؛ وكذلك لديهم جواسيسُهم في معسكرات الأعداء. وقد كان هوم أحدَ جواسيس جديون العجوز في معسكرات الأعداء، لكن تمَّ استخدامُه هنا ضد عدو آخر؛ وهم المنافسون الذين يقوِّضون محاولاتِه في الصمود.»

قال بايرن: «ما زلتُ لا أستطيع أن أرى كيف تمَّ استخدامُه، أو جدوى ذلك.»

صاح الأب براون بنبرة حادة: «ألم تفهم بعد أن كلًّا منهما كان بمثابة حجة غياب للآخر؟»

ظلت نظرةُ الارتياب على وجه بايرن، رغم أن ملامح الفهم قد بدأت تحلُّ على وجهه.

استطرد الآخر قائلًا: «هذا هو ما أقصده حين قلتُ إنهما كانَا في لبِّ هذه القضية لأنهما كانَا خارجَها. سيقول معظمُ الناس إنه ينبغي صرفُ النظر عنهما فيما يخصُّ القضيتَين الأخريَين؛ لأنهما كانَا معًا في هذه القضية، لكن وفي واقع الأمر، هما مرتبطان بالقضيتَين الأخريَين لأنهما لم يكونَا معًا في هذه القضية؛ لأن هذه القضية لم تقع قطُّ. بالطبع يمثل هذا حجةَ غياب غريبة وبعيدة الاحتمال؛ إن حجة الغياب هذه بعيدة الاحتمال؛ لذا فلا يمكن إنكارُها. وسيقول معظمُ الناس إن من يعترف بجريمة ارتكبها لا بد وأن يكون صادقًا؛ وإن من يُسامح قاتله ويغفر له لا بد وأنه صادق في ذلك، ولكن لن يفكر أحد في فكرة أن هذا الأمر لم يحدث أصلًا؛ لذا فنحن أمام رجل لم يحدث له شيءٌ ليصفح عنه، وأمام آخر لم يرتكب شيئًا يخاف منه. لقد برَّأ كلٌّ منهما ساحتَه عما حدث في تلك الليلة عن طريق سرد قصة ليست في صالحهما، لكنهما لم يكونَا هنا في تلك الليلة؛ ذلك أن هوم كان يقتل جالوب العجوز في الغابة الصغيرة، بينما كان وايز يقتل ذلك اليهوديَّ الضئيل الحجم في حمَّامه الرومانيِّ خنقًا؛ لذا سألت إن كان وايز قويًّا بما يكفي لينجوَ من مغامرة التسلُّق تلك.»

قال بايرن بنبرة تنمُّ عن ندم: «كانت مغامرة مثيرة تمامًا، فقد كانت ملائمةً للمشهد، وكانت في غاية الإقناع حقًّا.»

قال الأب براون وهو يهزُّ رأسَه نافيًا: «في غاية الإقناع لدرجة أنها لم تُقنع. فتلك الرغوة التي سقط عليها ضوءُ القمر وتحوَّلت إلى شبح، كم كانت مفعمةً بالحياة. وكم هو شاعري! إن هوم مخادعٌ وواشٍ وبغيض، ولكن لا تنسَ أنه شاعر أيضًا، مثل الكثيرين من المخادعين والوشاة والبغيضين الذين يعجُّ بهم التاريخ.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤