الباب الثاني عشر

البحث عن الجزة الذهبية

كيف بحث جاسون عن مملكته

يُحكى أنه كان في أيولكوس بتساليا، ملك يُدعى أيسون سئم الحكم، غير أن ابنه جاسون كان لا يزال صغيرًا، ولا يمكن أن يلبس التاج، وعلى ذلك عَيَّن أيسون أخاه غير الشقيق بيلياس نائبًا للملك، على شرط أن يسلم مقاليد الحكم إلى جاسون عندما يبلغ هذا الغلام سن الرشد. وفي تلك الأثناء عهد أيسون بتعليم ابنه جاسون إلى القنطور خيرون، وانسحب هو إلى قريةٍ بعيدة.

مرت الأيام وتعاقبت السنون، ونمت سلطة بيلياس، ولم يعبأ بوعده لأخيه أيسون ولا بالصبي جاسون، واعتبر نفسه ملك أيولكس، وكذلك اعتبره جيش أتباعه. لم يحسن بيلياس سياسة الحكم، فانتابته الشكوك في بعض الأوقات، ولكي يطمئن على حكمه، ويريح باله مما يساوره من قلق، عزم على أن يستشير وحيًا، فتلقى هذا الرد الغريب:

«لا تخش إلا رجلًا يلبس فردة حذاء واحدة!»

حار بيلياس في تفسير هذا الرد، ولكنه قرَّر أن ينتظر، ويرى ما سوف يتمخض عنه المستقبل. وتصادف في أحد الأعياد العظمى لنبتيون، أن أرسل بيلياس الدعوة إلى كل فرد في جميع أنحاء البلاد؛ ليشترك في ذلك العيد. وفي نفس الوقت الذي كانت تقوم فيه الاستعدادات لهذا العيد، كان جاسون قد صار شابًّا يافعًا عظيم القوة والمهارة، فعزم عن أن يطالب عمه بالعرش الذي هو من حقه. فسار إليه مرتحلًا عدة أيام، وقبل أن يصل على أيولكوس، أبصر أمامه مجرى ماء يتدفق تيار الماء فيه بسرعة خطرة.

لم يتطرق الخوف إلى نفس جاسون، بل أخذ يعبر ذلك المجرى. وعندما قارب الوصول إلى الضفة الأخرى، اصطدمت قدمه بصخرة نانئة في قاع المجرى، فحاول تخليصَ قدمه منها، ولكنه عندما وصل إلى اليابسة وجد أنه فقد فردةَ حذاء تحت الماء. فهز كتفيه واستمر في سيره إلى المدينة دون أن يتوقف؛ ليحصل على فردة حذاء أخرى.

وهكذا وصل جاسون إلى عمه الملك بيلياس، وكان جالسًا فوق عرشه في الساحة العامة وسط حاشيته. فاتجه إليه جاسون مباشرة، وانحنى له في احترامٍ بالغ.

صاح جاسون يقول: «أهلا أيها الملك!» ومد يد اليمنى ليصافح بيلياس، فتألق في إحدى أصابعه خاتم من الياقوت عظيم القيمة. كان أيسون قد خبأه عند خيرون، وأوصاه بأن يعطيه ابنه عندما يبلغ هذا أشده، ليكون دليلًا على سلطته الملكية.

أحدق بيلياس نظره إلى الجوهر الملكي فتعرَّف عليه، غير أن ما أقلقه وبلبل أفكاره، وغرس الخوف في قلبه، هو أنه عندما اتجه ببصره إلى الأرض ألفى جاسون يلبس فردة حذاء واحدة، فتذكر تحذير الوحي، ولكنه أخفى مخاوفه وتظاهر بالترحيب بابن أخيه في ابتسام زائف. ومر يوم بعد يوم، ولم يحاول بيلياس أن يسلم التاج إلى جاسون. وأخيرًا ذكره جاسون في جرأة بحق الميراث، وبأنه أصبح الحاكم الشرعي لأيولكوس، وليس بيلياس.

فسأل جاسون عمه بقوله: «متى ستتنازل عن السلطة يا عماه؟»

صمت بيلياس بعض الوقت، يفكر في وسيلة يتخلص بها من هذا الشاب الخطر. لم يجرؤ على أن يقتله؛ لأن مواطني المدينة قد رحبوا بفكرة أن يكون ملكهم ابن أيسون الطيب، بدلًا من بيلياس الظالم.

وأخيرًا أجاب بيلياس يقول: «يبدو لي، يا ابن أخي أنه لا يليق أن يتحمل شاب عديم التمرين، وغير محنَّك في أساليب الدنيا وخداعاتها، عبءَ مثل هذا الحكم العظيم. ألا تعتقد أنه من الأفضل أن تتلمذ أولًا على الأخطار والمشاق؟ وبعد ذلك يمكنك أن تصير بحق ملكًا حكيمًا ونبيلًا.»

كان جاسون أكثر من متلهِّفٍ إلى الرحيل للقيام ببعض المغامرات قبل الاضطلاع بأعباء الحكم، فوافقته هذه الفكرة كثيرًا، وصاح يقول في لهفة: «حدِّد لي عملًا يبرهن على مقدرتي! سأنجز أي عمل تأمرني به، مهما يكن شاقًّا!»

ابتسم بيلياديس في نفسه؛ إذ رأى جاسون يسلم إليه نفسه في حماس الشباب الوثاب، فأجاب في رفق: «لا يليق بشابٍّ جريءٍ مثلك إلا عمل واحد: البحث عن الجزة الذهبية. أحضر لي هذا التذكار البراق، وعندئذٍ أعلم يقينًا أنك جدير بأن تحكم على أيولكوس بدلًا مني.»

خُيل إلى بيلياس أنه سيتخلص من جاسون إلى الأبد بإرساله في هذه المهمة العسيرة. كانت الجزة الذهبية فراءَ كبشٍ عجيبٍ أهداه ميركوري إلى الملكة نيفالي قبل ذلك بعدة سنوات؛ ليحمل طفليها فريكسوس وهيلي إلى برِّ الأمان عندما هددهما الموت.

ما إن ركب الطفلان الصغيران ذلك الكبش، حتى ارتفع بهما على الفور في الجو، وأخذ يحلِّق خلال الهواء بقوة السحر متجهًا نحو الشرق. غير أنه حدث وهو طائر فوق المضيق الفاصل بين أوروبا وآسيا أنِ اختلَّ توازن هيلي، فوقع وسُمِّي ذلك المضيق هيليسبونت (ويُسمى الآن الدردنيل)، وأنزل الكبش فريكسوس بسلامٍ في كولخيس، حيث استقبله ملكها بالترحاب. وبعد ذلك قدم هذا الغلام ذلك الكبش ذبيحة لجوبيتر، وأعطى الملك جزته الذهبية، فوضعها هذا في مغارة مقدسة، ويقوم بحراستها تنين دائم اليقظة لا يعرف النوم.

هذا هو الكنز الذي خرج جاسون ليفوز به، فسار قُدمًا وهو مبتهج ومتلهف إلى القيام بمغامرته العُظمى. فطلب من أرجوس، الذي هو أمهر بنَّائي السفن في ذلك الوقت، أن تُبنى له سفينة بها مقاعد لخمسين مجذفًا. وأرسلت مينيرفا إلى جاسون كتلة خشبية من شجرة بلوط مقدسة؛ ليصنع منها حيزوم السفينة على صورةِ رأس سيدة لها القدرة على الكلام. فلما تم بناء السفينة سُميت الأرجو، وسُمي طاقمها ملاحي سفينة الأرجو. لم يصحب جاسون معه أي بحار عادي في رحلته هذه، وإنما أرسل الدعوة إلى جميع أبطال بلاد الإغريق؛ كي ينضموا إليه، فلما علموا بالأخطار التي كان عليه أن يواجهها جاءوا إليه بصدرٍ رحب.

وهكذا صحبه في هذه الرحلة كاستور وبولوكيس التوءمان اللذان صارا بعد ذلك إلهي الملاكمة والمصارعة، وأورفيوس الشاعر المنشد الإلهي الذي لم ينزل إلى هاديس حتى ذلك الوقت، وزيتيس وكالايس العداءان السريعا الأقدام، وهرقل والصياد أركاس. والصيادة أتالانتا، ونستور ذو الرأي السديد في المجالس، وبيليوس وتيلامون الشابَّان المحاربان، وأدميتوس الذي صار فيما بعد ملكًا وسيدًا لأبولو، وثيسيوس، وكثير غير هؤلاء.

رحلة الأرجو

أقلع جاسون من أيولكوس في يوم طاب هواؤه، وقامت جموع غفيرة على الشاطئ لتودعه وتدعو له بالتوفيق والحظ الحسن. فأسرعت السفينة تمخر عباب اليم، كأنها طائر يشق طريقه عبر الهواء، فوصلت بعد عدة أيام إلى لمنوس التي جميع سكانها من النساء اللواتي يقمن بكافة الأعمال. ولما غادروا هذا البلد ذهبوا إلى أمة الدوليونيس، الذين استقبلوهم أولًا بالحيطة والشك، ثم عاملوهم كأصدقاء.

يقال إنهم فقدوا هرقل وبحارًا آخر في منطقة البحر الأسود؛ بسبب حادث غريب. فقد انكسر بعض مجاذيف السفينة، فنزل هرقل إلى البر؛ ليبحث عن أخشاب ليصنع منها مجاذيف جديدة. ونزل معه غلام يُدعى هولاس كان خادمه، وكان هرقل يحبه كما لو كان ابنه. ولما أحس هرقل بالظمأ أمر غلامه بأن يذهب إلى أقرب مجرى ماء، ويأتيه منه ببعض الماء.

ذهب هولاس إلى بركة ماء عذب صغيرة وسط غابة، تظلِّلها الأشجار الباسقة، وتحيط بها الأزهار الرقيقة العطرة. فلما انحنى ليملأ جرته بالماء أبصرته الحوريات اللائي يعشن في تلك البركة، وعلى الفور سحرهن جماله، فلم يكن في العالم كله من يبذ هولاس جمالًا. فأسرعن صاعدات من البركة، وأمسكن بيده في رفق ودعونه إلى كهوفهن القائمة تحت الماء. وبأصواتهن الشبيهة بخرير الماء وحفيف أوراق الأشجار، أدخلن النوم إلى رأسه، فأغمض أجفانه رغمًا منه، وعندئذٍ جذبنه ببطءٍ إلى أسفل وسط الأمواج المعانقة التي لم تخرجه بعد ذلك إطلاقًا.

لما طال انتظار هرقل، ولم يرجع هولاس، ذهب يبحثُ عنه وسط الغابة مذعورًا، ولم يكف عن البحث رغم اعتراض الأبطال الآخرين. وبعد مدة اضطروا إلى ترك هرقل على الشاطئ، وأبحروا بسفينتهم، فظل هرقل عدة أيام يبحث عنه في كل مكان دون جدوى، وأخيرًا عاد حزينًا إلى بلاد الإغريق.

بعد بضعة أيام، وصل الأبطال إلى دولة أخرى كان ملكها يفخر كثيرًا بمهارته في الملاكمة، فكان يشترط على كل غريب يطأ أرض بلاده أن يُنازله في شوط ملاكمة. وعادةً كان الشوط ينتهي بموت الغريب؛ إذ كان هذا الملك موفور القوة، عظيم المهارة في الملاكمة. وهكذا فرض هذا الشرط على طاقم الأرجو، وأمرهم بأن يختاروا من بينهم بطلًا ينازله.

أخذ الملك يزهو ويتمشدق بقوته وبراعته، فقال: «ربما احتَجْتم بعد قليل إلى اختيار بطل آخر.»

لم يتنافس الأبطال في اختيار البطل الذي سينازل ذلك الملك؛ فقد كان بولوكس ماهرًا في الملاكمة تلقى دروسه فيها عن الآلهة أنفسهم، فلم يستغرق الشوط بينه وبين الملك وقتًا طويلًا. فبعد فترةٍ قصيرةٍ لقِي الملك نفس المصير الذي لقِيَه كل من لاكمه قبل ذلك، ومع هذا فلم تعجب نتيجة المباراة هذه أهل وطنه، فقاموا في الحال يهاجمون بحارة الأرجو الذين اضطروا إلى قتل الكثير منهم قبل العودة إلى سفينتهم.

سرعان ما وصلت الأرجو إلى منطقة يقيم بها عراف اسمه فينيوس، اتصف بمنتهى القسوة على أهل بيته هو نفسه، فعاقبته الآلهة بالعمَى، ونقلته إلى أرضٍ يسكنها وحشان من جنس يطلق عليه اسم الهاربيات، أجسامهن ورءوسهن لنساء وأقدامهن وأجنحتهن لطيور جارحة. واسم هذين الوحشين «ذات الأقدام العاصفة» و«السريعة الأجنحة». كانت هاتان الهاربيتان تنتظران؛ حتى تضع أيدٍ غير مرئية وجبةَ الطعام أمام فينيوس، فتخطفان خير جزء منها وتلتهمانه. وهكذا كان فينيوس يعيش في جوعٍ دائم. وعد فينيوس هذا أبطال الأرجو بأن يزوِّدَهم بالنصائح الغالية اللازمة لرحلتهم، والتي تجنبهم كثيرًا من المشاقِّ والأخطار إن هم خلصوه من هاتين الهاربيتين الضاريتين.

كان زيتيس وكالايس ابني بورياس (الريح الشمالية)، ويستطيعان الحركة في سرعة الريح؛ إذ كانت لهما أجنحة الرياح. فوعداه بمساعدتهما إن هو أقسم لهما بأن يعامل أهله برفق طول حياته. فأقسم لهما بأغلظ الأيمان. وعلى ذلك، فعندما جاءت الهاربيتان هاجماها من الجو، وبعد معركة طويلة طرداهما، ولكي يجازيهما فينيوس على هذا الصنيع أخبر الأبطال بأنهم سرعان ما سيصلون إلى صخرتين خطرتين يُطلق عليهما اسم سومبليجاديس أو الجزيرتين المتصادمتين، وأخبرهم بكيفية المرور بينهما، كما زوَّدهما بنصائح قيمة أخرى.

وبعد نصف يوم وصل الأبطال إلى الصخرتين اللتين حذرهم فينيوس منهما. وكانتا بحق عجيبتين وخطرتين، فلم تكونا مثبتتين إلى قاع البحر، وإنما كانتا دائمتي التحرك والاصطدام إحداهما بالأخرى. ولا يعرف أي إنسان متى سيحدث التقاؤهما المخيف، ولكن جاسون عمل بنصيحة فينيوس، فأطلق حمامة عندما بدأت الصخرتان تقتربان، فاستطاعت الحمامة أن تمرق من بينهما في نفس اللحظة التي اصطدمَتَا فيها. وعندما افترقت الصخرتان بسرعة، أسرع الأبطال بالتحذيف، فانطلقت الأرجو في سرعة الحمامة، ومرقت من بين الصخرتين بسلام. ولما نظر الأبطال خلفهم رأوا الصخرتين ثابتتين لا تتحركان. وما عادتا طافيتَيْن على سطح المحيط، إذ كانت هناك نبوءة تقول بأنه إذا مرَّت أية سفينة بسلام من بين هاتين الصخرتين التصقت الصخرتان في قاع البحر.

الفوز بالجزة الذهبية

وصلت الأرجو إلى كولخيس بعد ذلك بوقتٍ غير طويل. فألقى مراسي السفينة، ونزل إلى البر وسط الجموع المدهوشة فوق الشاطئ، الذين لم يسبق لهم أن شاهدوا سفينة بمثل هذا الحجم الضخم. فطلب من الأهلين أن يذهبوا به إلى الملك أييتيس، الذي رحب به، وأمره بأن يوضح له الغرض من مجيئه إلى أرض كولخيس.

فقال جاسون في صراحةٍ تامة: «جئت من أجل الجزة الذهبية؛ إذ بدونها لن أكون ملكًا على بلدي.» وشرح للملك كيف أن بيلياس اشترط عليه ألا يسلمه المملكة إلا إذا جاءه بالجزة الذهبية.

كان أييتيس داهية، ولم يشأ أن يجرَّ على شعبه هجوم أبطال الأرجو، إذا ما صرح برفضه تسليم ما جاء جاسون يطلبه. ولم يعتزم بحالٍ ما أن يعطيه تلك الجزة الذهبية، ورد على جاسون بقوله: «لا تحسبن، أيها الشاب، أن الجزة الذهبية تُعطى لأي فردٍ بمجرد أن يطلبها. ولا شك في أنك تعلم يقينًا أن تذكار الآلهة هذا محفوف بكثيرٍ من الأخطار. إذن فأصغِ إلى الشروط التي يمكنك بها أن تفوز بالجزة الذهبية، غدًا يجب أن تأخذ الثورين اللذين يحتفظ بهما مارس في معبده، فتربطهما إلى المحراث، وتزرع أنياب التنين.»

وافق جاسون على تنفيذ هذين الأمرين، وهو يعلم في قرارة نفسِه أنه من المحتمل أن يصحبهما خطر قاتل، وبينما هو ساهر في تلك الليلة فوق ظهر الأرجو؛ إذ انتابه السهاد، فلم تذق عيناه طعم النوم. ظهرت أمامه فجأة فتاة نحيلة الجسم تضع على وجهها خمارًا أسود، فظنها الربةَ مينيرفا أو غيرها من الربات ساكنات أوليمبوس تقف أمامه، ولكن سرعان ما طمأنه صوت رقيق.

قالت الفتاة المقنعة: «أنا ميديا ابنة الملك أييتيس، رأيت اليوم، وكلي إشفاق عليك، كيف أن والدي قد جرك بمكرٍ إلى شرَكٍ قاتل، فلن تستطيع أبدًا، بغير مساعدة، أن تسيطر على الثورين، ولا أن تزرع أنياب التنين. ومع ذلك فسأعاونك إن قبلت مساعدتي.»

فصاح جاسون متلهفًا يقول: «ساعديني، ثم اهربي معي إلى مملكتي، حيث تصبحين ملكتي.»

والحقيقة أن هذا هو عين ما كانت تفكر فيه ميديا عندما ذهبت إليه، وعندئذٍ وافقت على اقتراحه وهي مسرورة.

همست إليه تقول: «هاك مرهمًا سحريًّا يجب أن تدهن به جسمك قبل أن تذهب إلى الثورين، وبذا تكتسب مناعة لمدة يوم واحد ضدَّ النار وضد الجروح. وهكذا لن يتمكن ثورا مارس من حرقك بالنار التي ينفثانها من خياشيمهما، ولن تؤذيك حوافرهما البرنزية. أما أنياب التنين، فاعلم أنه سيخرج منها رجال مسلحون يتحرَّقون شوقًا إلى القتال، وعلى هذا يجب أن تستعمل معهم هذه الخطة.»

وهنا انحنت على جاسون، وأخبرته بصوتٍ خفيض ماذا يفعل؛ ليتجنب خطر المحاربين الخارجين من أنياب التنين.

وفي اليوم التالي خرج الملك إلى الساحة العامة، وقد تجمع فيها حشد كبير من الشعب لمشاهدة جاسون، وهو يقوم بهذين العملين. ولشدَّ ما كانت دهشة أييتيس عظيمة عندما ذهب البطل الإغريقي الشاب إلى مغارة مارس، وكله ثقة، وأمسك بالثورين المخيفين، دون صعوبة وربطهما إلى المحراث، وبدا أنه لم يهتم بالنيران المنبعثة من خياشيمهما على جسمه، وقادهما إلى الساحة.

تناول جاسون، من يد الملك المرتعشة، خوذة مليئة بأنياب التنين، وشرع يسير جيئةً وذهابًا يزرع أنياب التنين في الأخاديد التي يشقُّها المحراث. فإذا ما تغلغلت جذورها في الأرض خرج منها خمسون محاربًا قويًّا، كل منهم كامل التسلح بالفولاذ ويشهر سيفًا. وجعلت صيحاتهم العنيفة المدوية السماء ترتجف وجموع المشاهدين ترتعد.

وعلى حين غِرَّة، دون أن يلاحظ المحاربون ولا أييتيس، قذف جاسون حجرًا وسطهم، فسقط محدثًا صوتًا فوق درع أطول محارب فيهم. فثارت ثائرته من شدَّة الغضب، وانبرى إلى جاره. وقبل أن ينطق أيهما بكلمةٍ واحدة، انقضَّ عليه بسيفه فشطره. وإذ كان سائر الباقين يتلهفون إلى القتال، اتخذت المعركة جانبين. وفي بضعِ لحظات زلزلت الأرض من الضربات النازلة على كلا الجانبين. وكلما وجد جاسون فرصته اشترك في القتال بسيفه، ولم يمض وقت طويل حتى سقط جميع المحاربين على الأرض صرعى، فساد السكون فجأة.

رأى الملك أن جاسون قد هزمه في أول جولة، متحاشيًا بواسطة شيءٍ غامض، ذلك الفخ القاتل الذي أزمع إيقاعه فيه، ولكنه فضَّل أن يقتل جاسون وأتباعه على أن يعطيه الجزة الذهبية، فوضع خطة محكمة لهجوم عنيف يقوم به على الأرجو عند الفجر الباكر.

أدركت ميديا، بطريقةٍ ما، ما ينوي أبوها فعله، فوضعت خطتها لتهزمه في الجولة الثانية أيضًا. فلما أرخى الليل سدوله، تسللت تحت جنح الظلام إلى جاسون، وصحبته إلى الكهف المعلقة به الجزة الذهبية فوق شجرة يرقد تحتها تنين مريع، ولكن رغم سيرهما في هدوءٍ وصمت، فإن وقع أقدامهما على الحشائش أيقظ التنين، وفي لحظةٍ هبَّ منتصبًا متيقظًا، ومد رأسه الشامخ إلى الأمام، وبرزت صفوف أنيابه، ولكنه عندما سمع صوت ميديا المهدئ، وهي التي تعودت أن تضع له الطعام أرهف أذنيه يُصغي.

فقالت له: «هاك وجبة شهية.» وألقَتْ إليه ببعض من الطعام الذي اعتاد تناوله، فالتهمه بجشع، وكانت قد مزجت ذلك الطعام بعقارٍ منوم، فما كاد يبتلعه، حتى ارتمى على الأرض يغط في سباتٍ عميق.

فأسرع جاسون فخطف الجزة الذهبية الثمينة، وهرب بها مع ميديا إلى السفينة، حيث كان الأبطال ينتظرونه ممسكين بالمجاذيف. فانطلقت بهم السفينة فوق الأمواج تشقُّ طريقها إلى خارج الميناء، وبجهدٍ بالغٍ أفلتت من مطاردة أييتيس.

ويُحكى عن جاسون وطاقم الأرجو، أنهم التقوا في طريق عودتهم بمغامراتٍ أخرى. وفي إحدى هذه المغامرات لم ينقذهم من سحر السيرينيات إلا أنغام أورفيوس.

لما عاد جاسون إلى أيولكوس وعرض الجزة الذهبية على بيلياس، تذرَّع هذا الأخير بحجةٍ ما أو بأخرى مماطلًا في تسليم العرش لابن أخيه. وكانت بنات بيلياس يعرفن أن ميديا ساحرة، ولها السيطرة على الموت والحياة، فتوسلن إليها أن تحضر لهن جرعة سحرية تعيد إلى أبيهن شبابه من جديد، فتظاهرت بالموافقة، ولكنها أعطتهن سمًّا زعافًا قضى على بيلياس بمجرد تناوله، وهكذا صار جاسون ملكًا، فقدم الأرجو قربانًا إلى نبتيون. أما الجزة الذهبية فعلقها في معبد مينيرفا كي يأتي الشبَّان في كل عصر، ويشاهدُوها فتوحي إليهم بحب المغامرات والشجاعة مقتدين بجاسون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤